القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

قانون

لا يجوز خرق الإجماع المركّب عندنا (١) ، سواء كان مركّبا عن قولين أو أكثر (٢). فلا يجوز القول الزّائد على ما أجمعوا عليه ، وذلك قد يحصل بملاحظة توارد حكمين أو أحكام متعدّدة من الأحكام الشرعية على موضوع واحد بحسب أقوال الأمّة ، ثمّ حكم آخر من آخر.

وقد يحصل بملاحظة توارد حكمين من فريقين منها على موضوع كلّي ، ثمّ حكم موافق لأحدهما في بعض أفراد ذلك الموضوع ، وحكم آخر موافق لآخر في البعض الآخر من تلك الأفراد من فريق آخر.

مثال الأوّل : أنّ القول من الشيعة منحصر في استحباب الجهر بالقراءة في ظهر الجمعة مثلا والقول بحرمته ، فالقول بوجوبه خرق للإجماع المركّب.

ومثل : أنّ المشتري إذا وطئ الجارية الباكرة ثمّ وجد بها عيبا ، فقيل : لا يجوز الردّ. وقيل : يجوز الردّ مع الأرش ـ وهو تفاوت ما بين الثيبوبة والبكارة ـ فالقول بردّها مجّانا خرق للإجماع المركّب.

__________________

(١) في «الزبدة» ص ٩٨ : وخرق المركب باطل عندنا مطلقا ؛ لمخالفته المعصوم قطعا.

وكذا عند العامّة وإن خالفونا في الاستدلال عليه ، هذا والمخالف في هذه المسألة الأقلّون ، منهم ذهب إلى ذلك بعض الحنفية وبعض الظاهرية كما في «روضة الناظر» ٢ / ١٢٥٠.

(٢) هذا إشارة الى أنّ الكلام لا ينحصر في اختلافهم على قولين فيكون خرقه بإحداث قول ثالث ، بل يمكن اختلافهم على ثلاثة أقوال أو أكثر ويكون خرقه حينئذ بأن يحدث قول رابع أو خامس وهكذا ، هذا كما في الحاشية.

٢٨١

ومثال الثاني : أنّ الشيعة مختلفة في وجوب الغسل بوطء الدّبر ، فمن قال : بوجوبه في المرأة ، قال به في الغلام ، ومن لم يقل به ، لم يقل به في شيء منهما ، فالقول بوجوبه في بعض أفراد الدّبر وهو دبر المرأة دون الرّجل ، خرق للإجماع المركّب.

وكذلك مسألة الفسخ بالعيوب ، فإنّ الأمّة مختلفة فيه ، فقيل : يفسخ بها كلّها (١) ، وقيل : لا يفسخ بها كلّها. فالقول بالفسخ في بعض العيوب دون بعض خرق للإجماع المركّب ، وقد يسمّى هذا قولا بالفصل.

ويقال : لا يجوز القول بالفصل ، ويتمسّكون بعدم القول بالفصل في تعميم الحكم في كلّ واحد من القولين بالنسبة إلى أفراد الموضوع. وقد يقولون : إذا لم يفصل الأمّة بين مسألتين في حكم ، فلا يجوز القول بالفصل بينهما ، وذلك إذا لم يكن هناك كلّيّ جامع لموضوع المسألتين مثل الدّبر والعيب.

ومن أمثلته أنّ بعضهم قال : بأنّ المسلم لا يقتل بالذمّي ، ولا يصحّ بيع الغائب ، وبعضهم يقتل المسلم بالذمّي ويصحّ بيع الغائب ، فالقول بالقتل وعدم الصحّة قول بالفصل بين المسألتين ، فقد يجتمع خرق الإجماع المركّب مع القول بالفصل ، فقد يتفارقان من الجانبين ، فمادّة الاجتماع هو مسألة وطء الدّبر والفسخ بالعيوب وأمثالهما ، ومادّة الافتراق من جانب خرق الإجماع المركّب هو مسألة الجهر في ظهر الجمعة ، وردّ الجارية الموطوءة وأمثالهما.

__________________

(١) أي يفسخ النكاح بكل واحد من العيوب التي تكون في كل واحد من الزوج والزوجة خمسة ، ومجموعها سبعة ، ثلاثة مشتركات بينهما وهي الجذام والبرص والجنون ، واثنان من الأربعة الباقية مختصات بالزوج وهي الجب والعنّة واثنان منها مختصات بالزوجة وهي الرتق والقرن ، ولم يذكر بعضهم الجذام والبرص هاهنا. فعلى هذا يصير المشترك بينهما واحدا ومجموعها سبعة.

٢٨٢

وأمّا من جانب القول بالفصل ، فأمثلته كثيرة يتّضح في ضمن ما يتلى عليك فاستمع لتحقيق هذا المقام (١) على ما يستفاد من كلماتهم ، وهو أنّه إذا لم يفصل الأمّة بين مسألتين أو أكثر ، فإن نصّوا على عدم الفصل بينهما بأن يعلم من حالهم الاتّفاق على ذلك ، وإن لم نجد التصريح به من كلامهم ، فلا يجوز الفصل ، سواء حكموا بعدمه (٢) في كلّ الأحكام ، أو بعض الأحكام ، وله صور ثلاث :

الاولى : أن يحكم الأمّة بحكم واحد فيهما ، مثل أنّهم يستدلّون لوجوب الاجتناب عن البول بقوله عليه‌السلام : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (٣). فالحكم من الأمّة للبول واحد ، وهو النجاسة ، وهم متّفقون على عدم الفصل بين وجوب غسل الثوب عنه والبدن وتنزيه المأكول والمشروب والمساجد والمصاحف وغير ذلك ، وكذلك سائر أحكام النجاسات ، فاتّفقوا على عدم الفصل بين أحكام المذكورات بالنسبة إلى ملاقاة البول ، مع كون الحكم واحدا أيضا.

فهذا في الحقيقة إجماعان بسيطان وليس لنا هنا إجماع مركّب.

وموارد هذه الصّورة في الأحكام الشرعية فوق حدّ الإحصاء.

الثانية : أن يحكم بعض الأمّة في المسألتين (٤) بحكم ، وبعض آخر بحكم آخر ، مثل أنّ بعضهم يقول بنجاسة الماء القليل الذي في الإناء بولوغ الكلب ، وكذلك بنجاسة القليل الذي دخل فيه الدّجاجة التي وطأت العذرة ، وكذلك غيرهما من أفراد الماء القليل وأقسام النجاسة.

__________________

(١) أي مقام القول بالفصل.

(٢) بعدم جواز الفصل.

(٣) «الكافي» : ٣ / ٥٧ ح ٣ ، «التهذيب» : ١ / ٢٦٤ ح ٧٧٠ ، «الوسائل» : ٣ / ٤٠٥ ح ٣٩٨٨.

(٤) اي حكم الموردين.

٢٨٣

والآخر يقول بعدم تنجّسه بشيء منها (١) في شيء من أفرادها (٢). وهذا أيضا ممّا اجتمع فيه الإجماع المركّب مع الاتّفاق على عدم الفصل.

فهناك إجماع بسيط ومركّب ، وذلك أيضا في الأحكام الشرعية في غاية الكثرة.

الثالثة : أن لا يعلم حكم منهم فيهما بخصوصه ، وإن اتّفقوا على الحكم بعدم الفرق بينهما ، وذلك في الأحكام الاجتهادية التي لم يتعيّن فيها حكم ، بحيث ينعقد عليه إجماع بسيط أو مركّب ، سواء كان في أوّل الاطّلاع على المسألة وابتداء البحث في خصوص حكمها ، أو بعد الاطّلاع والفحص وقبل استقرار الأمر على حكم (٣) أو حكمين ، مثل : إنّا إذا لم نعلم حكم تذكية المسوخ (٤) ، فإذا ثبت جواز تذكية الذئب من جملتها من أجل ما دلّ على جواز تذكية السّباع ، فنحكم بجواز التذكية في الباقي إن ثبت الاتّفاق على عدم القول بالفصل. وهكذا في الحشرات بعد إثبات حكم المسوخ بما ذكرنا ، نقول بجواز التذكية في الفأرة لكونها منها ، وقد أثبتنا جوازها فيها (٥) وهكذا ، وأمثال ذلك أيضا كثيرة ، وإن لم ينصّوا على عدم الفصل ولم يعلم اتّفاقهم على ذلك ، ولكن لم يكن فيهم من فرّق بينهما أيضا ، فإن علم اتّحاد طريق الحكم فيهما ، فهو في معنى اتّفاقهم على عدم الفرق.

__________________

(١) من النجاسات.

(٢) أي من أفراد المياه أو أفراد الظروف.

(٣) فإن كان بعد استقرار صار من القسمين الأوّلين ، الأوّل من الأوّل والثاني من الثاني.

(٤) وهي كما جاءت في الرواية : القرد والخنزير والكلب والفيل والذئب والضبّ والفأرة والأرنب والطاوس والدعموص والجري والسرطان والسّلحفاة والوطواط والعنقاء والثعلب والدبّ واليربوع والقنفذ كذا في المجمع ، وهي تسعة عشر.

(٥) أي جواز التذكية في المسوخ.

٢٨٤

مثاله : من ورّث العمّة ورّث الخالة ، ومن منع إحداهما منع الاخرى لاتّحادهما في الطريقة ، وهي قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.)(١) ومثله : زوج وأبوان ، وامرأة وأبوان ، فمن قال : للأمّ ثلث أصل التركة كابن عبّاس ، قال به في الموضعين. ومن قال : لها ثلث الباقي بعد فرضهما ، قال في الموضعين ، إلّا ابن سيرين فقال في الزّوج بمثل قول ابن عبّاس دون الزّوجة ، وعكس آخر (٢).

وإن لم يعلم اتّحاد الطريقة فقال العلّامة رحمه‌الله : الحقّ جواز الفرق لمن بعدهم ، عملا بالأصل السّالم عن معارضة مخالفة حكم مجمع عليه ، أو مثله (٣) ، ولأنّ منع المخالفة يستلزم أنّ من قلّد مجتهدا في حكم أن يوافقه في كلّ حكم ذهب إليه (٤) ، وهو ظاهر البطلان.

وقال في «المعالم» رحمه‌الله (٥) : والذي يأتي على مذهبنا عدم الجواز ، لأنّ الإمام مع إحدى الطائفتين قطعا.

أقول : وهذا لا يتمّ إلّا مع العلم بعدم خروج قول الإمام عن القولين ، والمفروض عدم ثبوت الإجماع. ويمكن التكلّف في إرجاع كلامه إلى صورة الإجماع ، ولكنّه بعيد ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، ونقول : لا يجوز خرق الإجماع المركّب ، يعني ما علم أنّ قول الإمام عليه‌السلام ليس بخارج عن أحد الأقوال ، فإنّ الخروج عن الكلّ واختيار غيره ، يوجب ترك قول الإمام يقينا.

__________________

(١) الانفال : ٧٥.

(٢) أي على عكس قول ابن سيرين.

(٣) أي مثل حكم مجمع عليه وهو اتحاد طريق الحكم فيها ، هذا كما في الحاشية.

(٤) راجع «تهذيب الوصول» للعلّامة ص ٢٠٦.

(٥) ص ٣٣٦.

٢٨٥

فهذا هو الوجه فيما اخترناه من المنع مطلقا (١).

وأمّا العامّة فأكثرهم قد وافقنا على ذلك (٢) ، وذهب الأقلّون منهم إلى الجواز. وفصّل ابن الحاجب ومن تبعه بأنّ الثالث إن كان يرفع شيئا متّفقا عليه كمسألة ردّ البكر مجّانا ، فلا يجوز ، وإلّا فيجوز ، كمسألة فسخ النكاح ببعض العيوب ، لأنّه وافق في كلّ مسألة مذهبا فلم يخالف إجماعا.

ويوضّحه مثل قتل الذمّي وبيع الغائب المتقدّم ، فهما مسألتان خالف في إحداهما بعضا ، وفي الاخرى بعضا ، وإنّما الممنوع مخالفة الكلّ فيما اتّفقوا عليه.

واستدلّ المانعون منهم مطلقا : بأنّهم اتّفقوا على عدم التفصيل في مسألة العيوب ومسألتي الأمّ ، فالمفصّل خالف الإجماع.

وردّ : بمنع اتّفاقهم على عدم التفصيل ، فإنّ عدم القول بالفصل ليس قولا بعدم الفصل ، وإنّما الممتنع مخالفة ما قالوا بنفيه ، لا ما لم يقولوا بثبوته ويوضّحه مسألة قتل الذمّي وبيع الغائب.

واعترض (٣) : بأنّ من قال بالإيجاب الكلّي (٤) في مثل مسألة العيوب ، فيستلزم قوله بطلان السّلب الجزئي (٥) الذي هو نقيضه قطعا ، بل بطلان التفرقة. ومن قال بالسّلب الكلّي يستلزم قوله بطلان الإيجاب الجزئي الذي هو نقيضه قطعا ، بل بطلان التفرقة.

__________________

(١) بلا تفصيل.

(٢) فمنعوا من الخرق.

(٣) نقله سلطان العلماء في حاشيته على «المعالم» ص ٣١٨.

(٤) أي جواز الفسخ بها كلّها في مسألة العيوب مثلا ، وهكذا غيرها.

(٥) أي ان الايجاب الكلي يستلزم سلب بطلان السلب الجزئي.

٢٨٦

والقول بالتفصيل مركّب من الجزئيتين ، فالمركّب منهما باطل على القولين باعتبار أحد جزءيه قطعا (١).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ دلالة القول بالقضيّة الكلّية وإن سلّمت من باب الالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ ، كما في دلالة الأمر بالشيء على النّهي عن الترك كما مرّ ، لكن بطلان أحد جزءي المركّب إنّما يستلزم بطلان المركّب من حيث إنّه مركّب ، لا من حيث سائر الأجزاء أيضا ، مع أنّه لا تركيب هنا حقيقيّا ، بل الجزئيتان كلّ منهما مسألة برأسها اتّفق للقائل القول بهما مطلقا لا بشرط اجتماع كلّ منهما مع الآخر ، ولا بشرط التركيب ، فلا دلالة في أحد من القولين (٢) إلّا على بطلان أحد من الجزئيتين ، فلم يثبت اجتماع الفريقين على بطلان كلّ واحد منهما.

وأمّا ما قيل (٣) من أنّ اتّحاد الحكم في كلّ الأفراد لازم لقول كلّ الأمّة ، وإن لم يقولوا به صريحا ، والتفصيل ينافيه.

ففيه : أنّ اللّازم لقولهم إنّما هو نفس اتّحاد الحكم في كلّ الأفراد بلزوم تبعيّ ، لا القول باتّحاد الحكم في كلّ الأفراد ، وما يفيد في تحقّق الإجماع هو الثاني لا الأوّل.

__________________

(١) والكلام هو أيضا لسلطان العلماء في حاشيته.

(٢) أي لا دلالة في قول من يقول بالايجاب في جميع المسائل إلّا على بطلان القول بالسّلب في بعض المسائل فقط ، لا على بطلان القول بالايجاب في البعض أيضا ، وكذا لا دلالة في قول من يقول بالسّلب في جميع المسائل إلّا على بطلان القول بالايجاب في بعض المسائل ، لا على البطلان بالسّلب في البعض أيضا ، فلم يثبت اجتماع الفريقين على بطلان كل واحد من الجزئيّتين. هذا كما في الحاشية.

(٣) ذكره سلطان العلماء في حاشيته على «المعالم» ص ٣١٨. أيضا إلا أنّه عقبه بقوله : والموضع محل تأمل ، إذا ربما يقال أمثال هذه المعاني للاعتبارية لا تعد قولا عرفا ، كما ذكر السيد علي القزويني في حاشيته.

٢٨٧

سلّمنا لزوم الثاني أيضا ، لكن لا يلزم من القول باتّحاد الكلّي في الحكم ، القول ببطلان القول بالحكم الموافق في البعض (١) ، إذ ليس في القول باتّحاد الكلّ في الحكم لزوم انضمام كلّ منهما بالآخر ، لأنّ الحكم إنّما يتعلّق بكلّ واحد من الأفراد لا بالأفراد بشرط تركيبها واجتماعها.

سلّمنا جميع ذلك ، لكنّ المسلّم من العقاب على مخالفة الإجماع والقدر الثابت الحجّية من الإجماع ، هو ما علم اتّفاقهم على شيء بدلالتهم المقصودة لا التبعيّات ، وأدلّتهم التي أقيمت على ذلك إنّما تنصرف إلى ذلك.

فاستدلّ المانعون أيضا : بأنّ فيه تخطئة كلّ فريق في مسألة.

وفيه : تخطئة كلّ الأمّة ، والأدلّة السّمعية تنفيها.

وردّ : بأنّ المنفيّ تخطئة كلّ الأمّة فيما اتّفقوا عليه ، وأمّا فيما لم يتّفقوا عليه بأن يخطّئ كلّ بعض في مسألة غير ما خطّأ فيه الآخر ، فلا ينفى.

أقول : وقد مرّ منّا ما يخدش في هذا الكلام (٢) وما يصلحه في خصوص الاستدلال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» (٣) ، بجعل اللّام للجنس أو للعهد ، ولكن الأظهر على مذهبهم (٤) في هذا المقام هو قول المانع كما بيّنا (٥).

__________________

(١) لأنّ اثبات الشيء لا ينفي ما عداه.

(٢) في القانون السّابق في الردّ بأنّ اللام حقيقة في الجنس ، ومقتضاه عدم جواز اجتماعهم على جنس الخطاء.

(٣) «شرح النهج» : ٨ / ١٢٣ و ٢٠ / ٣٤ وفي «معارج الأصول» مبحث الاجماع.

(٤) وجه الأظهرية عدم ملائمة وجه الخدشة من اللّام حقيقة في الجنس كما صرّح به هناك على مذهبهم ، لاقتضائه عدم خلو الزمان عن معصوم لا يخطئ أصلا.

(٥) وقول المانع ليس المراد منه المانع فيما نحن فيه مقابل المجوّزين ، بل المانع من الاستدلال وهو الرّاد كما لا يخفى.

٢٨٨

احتجّ المجوّزون (١) : بأنّ اختلافهم دليل على أنّ المسألة اجتهاديّة ، يعمل فيها بما اقتضاه الاجتهاد وأدّى إليه ، فيجوز إحداث الثالث.

واجيب : بأنّ الاختلاف إنّما يدلّ على جواز الاجتهاد إذا لم يكن هناك إجماع مانع ، فإذا اختلفوا على قولين ولم يستقرّ خلافهم ، كانت المسألة اجتهاديّة ، وهنا استقرّ خلافهم على قولين ، فلا يجوز الثالث.

واحتجّوا أيضا (٢) : بمسألة الأمّ ، ومخالفة ابن سيرين وتابعيّ آخر وعدم إنكارهم عليهما.

واجيب : بأنّه كان قسما من الجائز (٣) ممّا لم يكن فيه مخالفة الإجماع كالفسخ بالعيوب.

ويشكل هذا الجواب : بأنّ الظاهر أنّه ممّا اتّحد فيه طريق المسألتين إلّا أن يمنع عن ذلك ، وأمّا عندنا ؛ فلا إشكال ، لعدم الثبوت (٤).

ثمّ إنّ الكلام في تحقّق الإجماع المركّب وحجّيته وأقسامه من القطعيّ والظنّيّ وغير ذلك ، نظير ما مرّ في الإجماع البسيط ، فلا حاجة إلى الإعادة.

__________________

(١) راجع «اتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر» ٢ / ١٢٥٠.

(٢) راجع «اتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر» ٢ / ١٢٥٠.

(٣) الظاهر انّ هذا الجواب للحاجبي ومن تبعه إذ إنّه يناسب لمذهبهم من التفصيل في المسألة.

(٤) أي لعدم ثبوت الاجماع في هذه المسألة حتى ينافيه مخالفة ابن سيرين وتابعي آخر ، ويمكن أن يراد عدم ثبوت إنكارهم عليهما ، أو لعدم ثبوت مخالفة ابن سيرين عندنا هذا كما في الحاشية فالدقة والمراجعة موكولة هنا إليك.

٢٨٩

قانون

إذا اختلفت (١) الأمّة على قولين ولم يدلّ على أحدهما دليل قطعيّ أو ظنّيّ يرجّحه على الآخر ، فمقتضى طريقة العامّة الرّجوع إلى مقتضى الأصل إن لم يكن موجبا لخرق المتّفق عليه ، وإلّا فالتخيير.

وأمّا على مذهب الإماميّة ، ففيه : قولان نقلهما الشيخ في «العدّة» (٢).

أحدهما : إسقاط القولين والتمسّك بمقتضى العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم.

وثانيهما : التخيير ، وإنّه يجري مجرى خبرين تعارضا ولم يكن مرجّح لأحدهما.

وردّ الشيخ القول الأوّل : بأنّه يوجب طرح قول الإمام عليه‌السلام (٣) ، واختار الثاني.

واعترضه المحقّق رحمه‌الله (٤) : بأنّ في التخيير أيضا إبطالا لقول الإمام عليه‌السلام ، لأنّ كلّا من الطائفتين يوجب العمل بقوله ويمنع من العمل بالقول الآخر ، فلو خيّرنا لاستبحنا ما حظره المعصوم عليه‌السلام.

__________________

(١) كما في نصّ الكتاب ، وفي الحاشية : قد يستشكل في جعل هذه المسألة عنوانا غير عنوان الإجماع المركّب لعدم ظهور المغايرة بينهما ، فهو ليس إلّا التكرار ، ويمكن دفعه : بأن الأوّل موضوع لبيان حكم القولين والزيادة عليهما اجتهادا ، وهذا موضوع لبيان حكمهما والزيادة عليهما فقاهة. ثمّ إنّ المراد من الأمّة هو مجموعهم ، ممّن يعتبر في الاجماع وإن كان حكم اختلاف بعضهم إذا علمنا بكون الامام عليه‌السلام فيهم حكم اختلاف جميعهم.

(٢) راجع ٢ / ٦٢٨ ـ ٦٣٠.

(٣) راجع «العدة» ٢ / ٦٢٨.

(٤) في «المعارج» ص ١٣٣.

٢٩٠

ولا يخفى ضعف هذا الاعتراض ، فإنّ التخيير طريق في العمل للجاهل بالحكم ، لا قول في المسألة يوجب طرح كلّ واحد من القولين كالتخيير في العمل بالخبرين المتعارضين.

وحكم كلّ واحد منهما (١) ببطلان القول الآخر ، وعدم صحّته في نفس الأمر ، لا ينافي تجويزه العمل به للجاهل ، كما أنّه لا يجوز للمجتهد منع مقلّد مجتهد آخر عن تقليده وإن علم خطأه في المسألة ، بل له أن يجوّز تقليده إذا كان أهلا للاجتهاد ، ويرخّصه فيه ، فإنّ الترخيص في التقليد غير إمضاء نفس الحكم وإظهار الرضا به بالخصوص.

ثمّ إن فرض اتّفاق الفريقين بعد الاختلاف على أحد القولين ، فقال الشيخ بجواز ذلك على القول بالرّجوع بمقتضى العقل ، وإسقاط القولين لانعقاد الإجماع حينئذ على ما أجمعوا عليه.

وأمّا على مختاره من التخيير ، فمنعه ، لأنّه يوجب بطلان القول الآخر ، والمفروض كان التخيير بينهما ، وهو ينافي البطلان ، وهو ضعيف ، لأنّ التخيير إنّما كان في العمل لجهالة قول الإمام بخصوصه ، وبعد انعقاد الإجماع يتعيّن قول الامام ويظهر بطلان القول الآخر.

ولا منافاة بين عدم ظهور البطلان وجواز العمل به في وقت ، وظهور البطلان وعدم جواز العمل به في وقت آخر. ولا يجوز تعاكس الفريقين (٢) عند أصحابنا ،

__________________

(١) أي الفريقين.

(٢) قال في «المنية» كما عن الحاشية : هل يجوز تعاكس الطائفتين اللّتين انقسم جميع المؤمنين إليهما في القول في المسألة الواحدة بأن يقول الأولى منهما بقول الثانية ، ـ

٢٩١

للزوم رجوع المعصوم عليه‌السلام عن قوله ، اللهمّ إلّا إذا كان القولان منه ، وكان أحدهما من باب التقيّة ، وهو خلاف الأصل ، لا يصار إليه إلّا مع الثبوت.

وربّما يستدلّ على عدم جواز التعاكس بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» ، بناء على كون اللّام للجنس للزوم الاجتماع على جنس الخطأ حينئذ ، فإنّ من عدل عن الخطأ فيلزمه الخطأ أوّلا ، ويلزم الفرقة الاخرى بعدولها عن الصّواب إلى ذلك الخطأ ، فصدر عن كلّ منهما جنس الخطأ وإن كان في وقتين.

وربّما يستدلّ بذلك على هذا ، على لزوم عدم خلوّ الزّمان عن المعصوم عليه‌السلام ، لأنّ إتيان كلّ واحد من الأمّة خطأ وإن كان خطأ كلّ منهم غير خطأ الآخر ، يوجب اجتماعهم على جنس الخطأ ، فلا بدّ من معصوم حتّى يصدق عدم الاجتماع على الخطأ ، ويؤيّده قوله عليه‌السلام : «لا يزال طائفة من امّتي على الحقّ» (١). بناء على كون اسم كلمة «لا يزال» كلمة «طائفة» ، لا ضمير الشأن.

__________________

ـ والثانية بقول الاوّل انتهى. يعني يرجع كلّ عن قوله ويقول بما قد قال به الآخر ، وهذا جائز عند بعض أهل الخلاف ، وبعضهم وافقنا على عدم جوازه.

(١) حتى تقوم الساعة. كما في «فتح الباري» ١٣ / ١٩ وقد مرّ معك الكلام فيها.

٢٩٢

قانون :

الأقرب حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد (١) لأنّه خبر ، وخبر الواحد حجّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ قول العدل : أجمع العلماء على كذا ، يدلّ بالالتزام على نقل قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره الكاشفات عن اعتقاده على طريقة المشهور أو على رأيه واعتقاده على الطريقة التي اخترنا ، فكأنّه أخبر عن اعتقاد المعصوم عليه‌السلام إخبارا ناشئا عن علم ، فهو نبأ وخبر.

وأمّا الثاني : فلما يجيء في مبحث الأخبار (٢) ، والفرق بين الطريقين (٣) ، أنّ الأوّل يفيد كونه حديثا مصطلحا ، والثاني أنّه خبر لغة وعرفا.

وممّا ذكرنا (٤) ظهر وجه الاستدلال بآية النبأ (٥).

__________________

(١) وهو الذي نقله واحد أو أكثر من الفقهاء ولم يصل إلى حد التواتر ولم يكن محفوفا بالقرائن التي تفيد القطع والمخالف في المسألة من العامة الغزالي في «المستصفى» وبعض الحنفية ، ونسبه الشوكاني في «إرشاد الفحول» إلى الجمهور ، ونفى صحّة ذلك في «اتحاف ذوي البصائر» ٢ / ١٢٨٠ ، ومن جملة المستشكلين في الحجّية منّا الشهيد الثاني ، فإنّه قد ألّف رسالة جمع فيها الاجماعات المتناقضة تأييدا لذلك. وتوقّف فيه الفاضل التوني في «الوافية» ص ١٥٥ ، وهذا على غير ما ذهب إليه البهائي في «الزبدة» ص ١٠٣ ، والشيخ حسن في «المعالم» ص ٣٣٧ ، وابن الحاجب كما في «المنتهى ص ٦٤ ، والبيضاوي في «مناهج الوصول» ص ١٣٦ ، وكذا الرازي في «المحصول» ٣ / ٨٥٥ الذي قال : الإجماع المروي بطريق الآحاد حجّة خلافا لأكثر الناس.

(٢) من أنّ العادل إن جاء بنبإ يصدّق وهو حجّة.

(٣) أي طريق المشهور وطريق المختار.

(٤) من أنّه على الطريقة التي اخترنا يكون نبأ وخبرا.

(٥) قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الحجرات : ٦.

٢٩٣

وأمّا آية النفر (١) ، فهي أيضا دالّة عليه كالخبر ، لأنّ تحصيل المعرفة به (٢) تفقّه ، والإخبار به إنذار.

وأمّا الإجماع الذي نقلوه في حجّية خبر الواحد ، فلمّا كان بالنسبة إلينا منقولا فالتمسّك به دوريّ ، ومن ظهر له القطع بذلك الإجماع بحيث يشمل هذا النبأ الذي هو مدلول التزاميّ للإجماع المنقول الذي نحن نتكلّم فيه فهو ، وإلّا فلا وجه للاستدلال به.

وأمّا انسداد باب العلم وانحصار الطريق في الظنّ ، فدلالته عليه (٣) واضحة ، لأنّ مقتضاه حجّية الظنّ من حيث إنّه ظنّ ، لا ظنّ خاصّ.

واستدلّوا أيضا على حجّيته بالأولوية (٤) بالنسبة إلى خبر الواحد ، فإنّ الظنّيّ المنقول بخبر الواحد إذا كان حجّة فالقطعيّ المنقول به أولى (٥) ، وسيجيء الكلام (٦) في توضيح هذا الاستدلال.

وبقوله عليه‌السلام : «نحن نحكم بالظاهر» (٧).

واجيب عن الأوّل (٨) : بأنّ الاطّلاع على الإجماع أمر بعيد ، فالظنّ بوقوعه

__________________

(١) قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة : ١٢٢.

(٢) بالإجماع المنقول.

(٣) أي دلالة انسداد باب العلم وانحصار الطريق في الظنّ على الاجماع المنقول.

(٤) كما هو عن الحاجبي على ما في «الزبدة» ص ١٠٤ والذي قال : وفيه نظر.

(٥) راجع «اتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر» ٢ / ١٢٨٢.

(٦) بعد أسطر قليلة.

(٧) «ايضاح الفوائد» : ٣ / ٤٨٦ ، وح ٤ / ٣٢١ ، «جامع المقاصد» : ٩ / ١٠ ، «مسالك الافهام» :٨ / ٢٩٤ ـ والذي يفيد الظنّ ويدخل فيه الاجماع المنقول لظهوره وافادته الظنّ ـ.

(٨) وهو الاستدلال الأوّل راجع «الزبدة» ص ١٠٤.

٢٩٤

أضعف من الظنّ بوقوع الخبر.

وربّما يمنع من جهته ذلك التساوي أيضا.

وعن الأوّل والثانيّ (١) : بأنّهما لا يفيدان إلّا الظنّ ، وهو غير معتبر في الأصول.

أقول : واحتمال الخطأ في مدّعي الإجماع معارض بكثرة الحوادث اللّاحقة بالأخبار من حيث المتن والسّند والدلالة والتعارض والاختلاف والاضطراب والسّهو والغفلة والنقل بالمعنى ، مع الاشتباه في فهم المقصود ، والإجماع المنقول خال عن أكثر ما ذكر ، فيبقى مزيّة العلم مرجّحا.

ودعوى لزوم القطع في الأصول (٢) خالية عن شاهد ودليل ، وقد مرّ الإشارة إليه (٣) وسيجيء.

والحقّ ، أنّ المقامات تختلف في الترجيح ، فربّ خبر يقدّم على إجماع منقول ، بل وإجماعين منقولين ، وربّ إجماع منقول ، يقدّم على خبر صحيح ، بل وأخبار صحيحة ، فلا بدّ من ملاحظة الخصوصيّات والمرجّحات الخارجية.

واحتجّ المنكر للحجّية (٤) : بأنّ مقتضى الآيات والأخبار حرمة العمل بالظنّ في الفتوى والعمل ، خرج خبر الواحد بالإجماع (٥) والآيتين (٦) وبقي الإجماع المنقول تحت الأصل. يعني إنّا لا نعلم أنّ الإجماع انعقد على حجّية هذا الخبر

__________________

(١) أي الاستدلالين. راجع «اتحاف ذوي البصائر» ٢ / ١٢٨٠ ـ ١٢٨١.

(٢) ردّ للجواب الثاني.

(٣) في مبحث عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصّص.

(٤) كالغزالي وبعض الحنفيّة.

(٥) المحصّل.

(٦) آية النبأ وآية النفر كما عرفت.

٢٩٥

الذي هو المدلول الالتزامي لنقل الإجماع ، أو لا نعلم الإجماع عليه (١) لأنّه ليس بحديث.

أقول : أمّا الآيتان ، فقد ذكرنا أنّهما تشملانه أيضا.

وأمّا الإجماع على ما إدّعاه الشيخ وغيره ـ كما سيجيء ـ فهو لا يدلّ على حجّية الخبر مطلقا أيضا ، بل غاية ما ثبت (٢) هو أخبار الآحاد مع وصف تداولها بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، ولا ريب أنّ حال زمانهم وزماننا متفاوت غاية التفاوت بسبب قلّة الوسائط (٣) ، وإمكان حصول القرائن على صدوره عن الإمام عليه‌السلام ، وقلّة الاختلال من جهة النقل (٤) والتقطيع (٥) وسائر التصرّفات (٦). وكذلك بسبب تغاير الاصطلاحات وتفاوت القرائن في فهم اللّفظ ، وبسبب علاج التعارض المتفاوت حاله بالنسبة إلى الزّمانين ، فالاعتماد على الإجماع المدّعى الذي لم يعلم دعواه ولا وقوعه إلّا على العمل بأخبار الآحاد في زمان الأئمّة عليهم‌السلام لا يثبت الإجماع على جواز العمل به في زماننا أيضا ، فما تقول في غالب أخبار الآحاد في زماننا نقوله في الإجماع المنقول.

فإن أردت إثبات جواز العمل على الظّنون التي يحتاج إليها في العمل بأخبار

__________________

(١) أي على حجيته.

(٢) من الإجماع.

(٣) وهو علو الإسناد.

(٤) بالمعنى مثلا.

(٥) اي التقطيع سندا أو متنا كما إذا كان الخبر مشتملا على مسائل متعدّدة.

(٦) وذلك كالتصحيف وهو التغيير بما يناسبه وأما التحريف هو التغيير بما لا يناسبه.

وقيل في الفرق بينهما غير ذلك. وقد مرّ تفصيله في قانون عدم جواز العام قبل الفحص عن المخصص.

٢٩٦

الآحاد في زماننا من جهة المتن والسّند والدلالة وغيرها من الوجوه (١) كلّها بالدليل من إجماع أو غيره ، فلا ريب أنّه تمحّل (٢) فاسد ، بل العمل بظواهر الآيات أيضا كذلك (٣) ، إذ لا ريب أنّ القدر الثابت من كون الآية حجّة ، هو متفاهم المشافهين ، وتحصيل متفاهمهم يحتاج إلى استعمال ظنون شتّى لا يمكن دعوى الإجماع على حجّية كلّ واحد واحد منها.

وبالجملة ، من تتبّع الفقه وبلغ إلى حقيقته ، يعلم أنّ دعوى أنّه لا يجوز العمل فيه إلّا بظنّ ثبت حجّيته من إجماع أو دليل قاطع آخر ؛ مجازفة ، فإذا لم يبق فرق بين الظّنون ، فلا ريب أنّ الإجماع المنقول ممّا يفيد الظنّ ، بل ربّما يفيد لنا ظنّا أقوى من ظاهر الخبر ، بل الآية أيضا ، فالآيات والأخبار الدالّة على عدم جواز العمل بالظنّ مخصوصة بصورة إمكان تحصيل العلم أو بأصول الدّين فقط ، كما هو مورد أكثر الآيات.

نعم ، مثل القياس الذي أجمع الشيعة على بطلانه وصار حرمته من باب ضروريّات المذهب ، فهو إنّما خرج بالدّليل ، فاقتضى الدّليل جواز العمل بالظنّ إلّا ما أخرجه الدّليل ، ولذلك ذهبنا سابقا إلى تقوية حجّية الشّهرة والإجماعات الظنّية ، ومن ذلك قاعدة الغلبة وإلحاق الظنّ بالأعمّ الأغلب ، وإن كان ذلك ممّا يستفاد من الأخبار أيضا كما أشرنا في أوائل الكتاب (٤).

__________________

(١) كالظنّ في حجية الصحيح دون الضعيف وفي تعيين معنى العدالة مثلا.

(٢) تمحّل اي احتال فهو متمحّل.

(٣) أي ليس من الظنون الخاصة.

(٤) والمراد هو ما كان قد ذكره في آخر بحث تعارض الأحوال حيث قال ، مع أنّه يظهر من ـ

٢٩٧

ثمّ إنّ الإشكال في الإجماعات المنقولة بسبب وجود المخالف وتعارضها حتّى من مدّعيها كما مرّ الإشارة إليه ، قد ظهر لك الجواب عنه.

ونقول هنا أيضا (١) : إنّ وجود المخالف غير مضرّ في تحقّق الإجماع كما عرفت ، ووقوع الخطأ من المدّعي أيضا في استنباطه أيضا لا ننكره ، وكم من هذا القبيل في أخبار الآحاد ، مع أنّا نقول بحجّيتها ، فكذلك التعارض والاختلاف. فكما يمكن حصول الاختلاف في الأخبار من جهة الغفلة والنسيان وسوء الفهم والنقل بالمعنى وغير ذلك ، وهو لا يقدح في حجّية ماهية خبر الواحد ، فكذلك ما نحن فيه ، فإنّ مبنى الاطّلاع على الإجماع غالبا ، على الحدس وهو ممّا يجري فيه الخطأ ، والخطأ في القطعيّات (٢) في غاية الكثرة ، ألا ترى أنّ بعض أرباب المعقول يدّعي أنّ الجسم بعد الانفصال هو هو بالبديهة ، والآخر يدّعي أنّه غيره بالبديهة ، فتعارض الإجماعات ، ومخالفتها مبتن على ذلك.

ألا ترى أنّ السيّد رحمه‌الله ادّعى الإجماع على عدم حجّية خبر الواحد ، وادّعى الشيخ الإجماع على خلافه (٣).

__________________

ـ تتبع تضاعيف الأحكام الشرعية والأحاديث اعتبار هذا الظنّ ، فلاحظ وتأمل ، وإن شئت أشير الى موضع واحد منها وهو ما يدلّ على حليّة ما يباع في أسواق المسلمين وإن أخذ من يد رجل مجهول الاسلام. فروى إسحاق بن عمّار في الموثّق عن العبد الصالح عليه‌السلام أنّه قال : لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الاسلام. قلت : فإن كان فيها غير أهل الاسلام؟ قال : إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس. انتهى. «الوسائل» باب ٥٥ من أبواب لباس المصلّي حديث ٣ ـ [٥٧٠٨].

(١) تأكيد لما ظهر سابقا.

(٢) فكيف وبالحدسيات أو انّ الحدسيات أيضا قطعيات.

(٣) إنّ أخبار الآحاد المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام وافقوا عليها عندنا كأبي جعفر الطوسي ـ

٢٩٨

ووجهه : أنّ السيّد رحمه‌الله كان ناظرا إلى طريقة المتكلّمين والناظرين في أصول العقائد ، وانضمّ إلى ذلك في نظره قرائن اخرى وغفل عن طريقة أهل الحديث ، وحكم بكون عدم جواز العمل به مطلقا (١) إجماعيّا.

والشيخ إلى طريقة الفقهاء وأهل الحديث ، وغفل عن طريقة المتكلّمين ، وحكم بكون جواز العمل به إجماعيا. وكما أنّ سبب حصول الاختلاف من جانب الشارع ممكن في الأخبار ، كما صرّحوا عليهم‌السلام به ، فكذلك فيما نحن فيه. فربّما انعقد إجماع على مستند صدر قطعا من الإمام عليه‌السلام ، وانعقد إجماع آخر على مستند آخر بعينه صدر عنه عليه‌السلام قطعا ، وهذا ليس بمستبعد ولا مستنكر ، ووجه صدور المتخالفة من الأحكام عنهم عليهم‌السلام ظاهر من جهة التقيّة وغيرها (٢) ، فلا مانع من رجوع المدّعي عن دعواه أيضا من جهة هذه الامور.

نعم ، هاهنا كلام آخر ، وهو انّا بيّنا أنّ الطريقة التي اختارها الشيخ وغيره من الأصحاب الّذين يعتمدون في إثبات موافقة قول الإمام عليه‌السلام للمجمعين ، بأنّه لو كان اجتماعهم على الباطل ؛ لوجب على الإمام عليه‌السلام ردعهم عن الضلالة بنفسه أو بغيره ، ضعيفة (٣) ، ولا يمكن الاعتماد عليها ، فكيف يجوز الاعتماد على إجماعاتهم المنقولة مع أنّكم لا تفرّقون بينها ، فإذا كان الإجماع المنقول من مثلهم (٤) أو

__________________

ـ وغيره ، ولم ينكرها سوى المرتضى وأتباعه ، راجع «الذريعة» ٢ / ٥١٧ ، و «العدة» ١ / ٨٨ ، و «الفوائد المدنية».

(١) في الأصول والفروع.

(٢) من مصلحة أو حكمة اخرى.

(٣) خبر إن.

(٤) خبر كان ، اي مثل الشيخ وأصحابه محققا.

٢٩٩

محتملا لكون مدّعيه قائلا بكونه إجماعا من هذه الجهة ، فكيف يمكن الاعتماد عليه ، وهو نظير الإشكال الذي ذكره المنكرون لعلم الرّجال النافون للاحتياج إليه ، بأنّه كيف يعرف عدالة الرّاوي مع وجود الاختلاف في معنى العدالة ، وعدم المعرفة بحال المزكّى واعتقاده في العدالة ، وسنجيب عنه (١) في محلّه إن شاء الله تعالى.

وأقول في دفع الإشكال هنا : إنّ هذا الإشكال لا يرد على ما إدّعاه غير الشيخ ممّن لم يقل بهذه المقالة ، وهم الأكثرون ، بل لم نقف على مصرّح بهذه الطريقة (٢) من بعد الشيخ ، وقد ردّ هذه الطريقة وزيّفها سيّدنا المرتضى رحمه‌الله (٣).

وأمّا الشيخ ومن يوافقه في هذه المقالة ، فهم لا يقولون بانحصار العلم بثبوت الإجماع في هذه الطريقة المدخولة ، بل يصرّحون بأنّ الاتّفاق كاشف عن قول الإمام عليه‌السلام ، وبأنّ العلم (٤) يحصل من جهة الاتّفاق كغيرهم من الأصحاب ، والإجماع الواقعي عنده أيضا هو ما ذكره القوم فلاحظ كتاب «العدّة» مصرّحا فيها بذلك في مواضع.

نعم ذكر ذلك أيضا في طريق معرفة قول الإمام عليه‌السلام حيث لم يوجد للإماميّة مخالف في الحكم ولم يعلم اتّفاقهم ، ولم يعرف بموافقة إمامهم لهم أيضا. فقال : من

__________________

(١) بل وسيأتي الاشارة الى جواب هذا في القانون هذا.

(٢) لا يخفى ما فيه من التنافي مع ما سبق منه عند بيانه هذه الطريقة حيث قال : ثانيها ما اختاره الشيخ في «عدته» ، الى أن قال : والظاهر أنّ له موافقا من أصحابنا أيضا ممن تقدم عليه وممن تأخّر عنه في هذه الطريقة ، إلّا أن يقال انّ الاثبات هنالك مبني على الظهور ، والنفي هنا على التصريح ، هذا كما في الحاشية.

(٣) وهو ممّن يكون زمانه قبل زمان الشيخ ، فظهر أنّ هذه الطريقة ليس بمختار واحد من قبله ولا من بعده ، بل هي من خواص نفسه ومن يوافقه في زمانه ، هذا كما في الحاشية.

(٤) بقول الامام عليه‌السلام.

٣٠٠