القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

عدم ظهور المخالفة يعلم أنّه عليه‌السلام راض بما اتّفقوا عليه ، وإلّا لوجب عليه الظهور بنفسه أو بغيره وردعهم عن ذلك (١).

وكذلك لو كان بينهم قولان لم يظهر لهم مخالف ولم يعلم موافقته عليه‌السلام لهم ، فقال : إنّ هذا يدلّ على أنّ الإمام عليه‌السلام خيّرهم بين القولين وإلّا لظهر وأقامهم على الحقّ (٢). فمتى ذكر الشيخ أنّ الأصحاب أجمعوا على كذا أو اتّفقوا على كذا (٣) ، وهو أغلب ما يذكرونه في هذا المقام ، فهو دالّ على الإجماع المصطلح عند جمهورهم ولا غبار عليه ، فإنّ اتّفاق الكلّ واجتماعهم ، كاشف عن رأي رئيسهم بلا إشكال. مع أنّ الشيخ إذا اختلف اصطلاحه في الإجماع ، فالظاهر من حاله أنّه إذا أراد حكاية الإجماع على غير الطريقة المستمرّة بين العلماء ، أن يبيّن ذلك ، فإنّ نقلهم الإجماع في كتبهم لأجل أن يعتمد عليه من بعدهم ، فإخفاء ذلك مع تعدّد اصطلاحه ، تدليس منه (٤). فالظاهر منه حيث يطلق الإجماع إرادة المعنى المعهود كما ذكروا ، نظير ذلك في الجواب عن الشّبهة في التعديل ، فإنّ ظاهر حال المزكّي أنّه يذكر في كتابه ليكون معتمدا لكلّ من سيجيء بعده ، فإنّه إذا قال : فلان عدل ، لا بدّ أن يريد منه العدالة التي تكون كافية عند الكلّ ، مع أنّ الغالب الشّائع (٥) في

__________________

(١) راجع «العدة» ٢ / ٦٤٢.

(٢) راجع «العدة» ٢ / ٦٣٧.

(٣) ولصاحب «الفصول» ص ٢٦١ كلام على هذا الإشكال.

(٤) وحاشاه من ذلك.

(٥) يعني انّ الغالبة بالقرائن أو بظهور لفظ الاجماع والاتفاق كما مرّ وهو المصطلح ، فإذا قال الشيخ : لا خلاف بين العلماء مثلا أو ما نشك في إرادته كلا المعنيين ، فالظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب.

٣٠١

الإجماعات هو ما كان على طبق مصطلح المشهور ، فالمطلق في كلامهم ينصرف إلى الأفراد الغالبة ، مع أنّ حصول مقام لم يعرف في الإمامية مخالف في الحكم ولم يبق احتمال ظاهر لوجود المخالف ، قلّما ينفكّ عن حصول العلم بموافقة الإمام من جهة اتّفاقهم ، ولا يحتاج إلى إثبات الموافقة من جهة الدّليل الذي ذكره الشيخ.

ومع هذا كلّه ، فلا يخفى أنّ ما ذكره الشيخ أيضا لو لم يصر إجماعا ، فلا ريب أنّه يفيد ظنّا قويّا قد يمكن الاعتماد عليه ، فليجعل الإجماعات المنقولة على قسمين ، وذلك لا يوجب نفي حجّية الإجماع المنقول رأسا.

وهاهنا إشكال آخر أيضا ، وهو أنّ بعضهم يعتمد على الإجماع الظنّي ، بمعنى أنّه يدّعي الإجماع بمظنّة حصوله ، وآخرون لا يعتمدون إلّا على القطعي ، فكيف يجوز الاعتماد على مطلق الإجماعات المنقولة مع عدم العلم بأنّها من قبيل الأوّل أو الثاني.

وفيه أيضا : أنّا لو سلّمنا أنّهم يعتبرون ذلك ، فلا يخفى أنّهم يتكلّمون على ما هو مصطلحهم ، ومصطلحهم في كتبهم الاصولية والفقهية هو القسم الثاني ، فيحمل إطلاقها عليه ، وكلّ ما كان من قبيل الأوّل ، فيصرّحون بما يدلّ على ظنّيته ، مثل أنّهم يقولون : الظاهر أنّه إجماعيّ أو لعلّه إجماعيّ ، وأمثال ذلك.

وأمّا قولهم : أجمع العلماء على كذا ، واتّفقوا ، أو أنّه كذلك عند علمائنا ، ونحو ذلك ، فلا ريب أنّها صريحة في دعوى العلم ، والعلم بمثل هذه الألفاظ وإرادة الظنّ بالاجتماع تدليس ينافي عدالتهم حاشاهم من ذلك ، مع أنّه لا يبعد القول بحجّية الإجماع المظنون كالإجماع المنقول نظير الشّهرة بالنسبة إلى الإجماع على ما

٣٠٢

وجّهه الشهيد رحمه‌الله كما مرّ (١). ولكن لا بدّ من البيان لتفاوت المذاهب في الاحتجاج وتفاوت المذكورات في القوّة والضعف.

ثمّ إنّ الإجماع المنقول ، مثل الخبر المنقول يجري فيه أقسامه وأحكامه من الردّ والقبول والتعادل والترجيح ، فينقسم بالمنقول بخبر الواحد والمتواتر والصحيح والضعيف والمسند والمرسل وغيرها. وكذلك اعتبار المرجّحات من علوّ الإسناد وكثرة الواسطة والأفقهيّة والأعدليّة وغير ذلك من المرجّحات ، والصحّة والضعف ، يحصل بسبب عدالة الناقل وعدمها ، والإسناد والإرسال يحصل باتّصال السّند إلى الناقل وعدمه ، وحذف بعض السّلسلة وعدمه مثل أنّ الشيخ سمع عن شيخه المفيد أنّ المسألة اجماعية ، فقال هو أجمع الأصحاب من دون رواية عن شيخه فهذا موقوف ، أو روى ابن إدريس عن المفيد بواسطة الشيخ بحذف الواسطة.

وأمّا كونه بخبر الواحد أو متواترا ، فقد أورد المحقّق البهائي رحمه‌الله سؤالا فيه (٢) على القوم (٣) بأنّهم مطبقون على اشتراط الحسّ في التواتر ، وأنّه لا يثبت بالتواتر إلّا ما كان محسوسا ، والإجماع هو تطابق آراء رؤساء الدّين على حكم ، والذي ينقل بالتواتر هو قولهم ، وقولهم بشيء لا يستلزم إذعانهم به في نفس الأمر ، وإن قال كلّ منهم : أنا مذعن بذلك لاحتمال التقيّة أو الكذب من بعضهم.

نعم ، يفيد الظنّ بذلك لأصالة عدمهما ، وسيّما الثاني لمصادمته للعدالة.

فظهر بذلك ، أنّ تقسيم الأصوليين الإجماع إلى قطعيّ ثابت بالتواتر ، وظنّيّ

__________________

(١) في التنبيه الرابع من التنبيهات الخمسة المذكورة قبل القانون الذي قبل هذا القانون.

(٢) اشكالا فيه.

(٣) حيث قال في حاشية «الزبدة» ص ١٠٤ في مبحث الإجماع المنقول : ولي في هذا المقام مع القوم بحث وهو انّهم مطبقون ... الخ.

٣٠٣

ثابت بغيره ، بعيد عن السّداد ، وكذا قول بعض المتكلّمين أنّ القطع بحدوث العالم حاصل من الإجماع المتواتر على حدوثه.

أقول : وفرض تواتر الإجماع وإن كان قلّما ينفكّ عن الضّروري وفرضه بدونه نادر ، سيّما مع كثرة الوسائط ، ولكن يمكن أن يقال في جواب الإشكال.

أمّا أوّلا : فيمنع انحصار التواتر في المحسوسات ، بل يمكن به إثبات غيره (١) أيضا ، فيمكن حصول العلم بمسألة علمية باجتماع كثير من العقلاء الأزكياء ، سيّما مع عدم قيام دليل على بطلان قولهم ، كما استدلّ بعضهم على إثبات الصّانع ووحدته باتّفاق الأنبياء والأوصياء والعلماء قاطبة على ذلك (٢) ، فإنّ العقل يستحيل اجتماع أمثال ذلك على الخطأ.

فكذلك فيما نحن فيه ، إذا نقل جماعة كثيرة يؤمن تواطؤهم على الخطأ ، أقوال المجمعين ، مع دعواهم بمعرفتهم من حالهم ، إذعانهم بما قالوا (٣) ، وانّهم صادقون في ذلك ، فيمكن حصول العلم بصدقهم في نقل القول ، وإصابتهم في إدراك مطابقة قولهم لرأيهم سيّما مع ملاحظة تطابقهم في ذلك (٤) واعتراف كلّ منهم بأنّي مذعن بما قلت. فثبت ممّا ذكرنا أنّه يمكن حصول القطع بالإجماع بنقل هذه الجماعة الكثيرة.

والحاصل ، أنّ ذلك نظير ما يعلم به اتّفاق كلّ العلماء إجمالا في أصل انعقاد الإجماع ، فإنّه كما يمكن حصول العلم باتّفاق الكلّ بسبب العلم برأي أكثرهم وعامّتهم وإن كان ذلك بسبب انضمام القرائن ، فيمكن حصول العلم بتحقّق

__________________

(١) أي يمكن بالتواتر إثبات غير المحسوس كما يمكن به إثبات المحسوس.

(٢) أي على إثبات الصّانع ووحدته.

(٣) دفع لما احتمله من التقيّة ، وقولهم : وانّهم صادقون ، دفع لما احتمله من الكذب.

(٤) أي تطابق المجمعين في إظهار الإذعان وعدم اكتفائهم بمجرّد ذكر الفتوى.

٣٠٤

الإجماع بدعوى جماعة كثيرة تحقّق الإجماع ، وإن كان بسبب انضمام بعض القرائن ، فمراد القوم بالإجماع الثابت بالتواتر هو ذلك ، مع أنّه يكفي ثبوت أقوالهم بالتواتر ، فنفهم نحن تحقّق الإجماع بسبب اجتماع أقوالهم ، فالتواتر إنّما هو في ملزوم الإجماع لا في نفسه ، كما سنذكره في المتواتر بالمعنى.

وقال بعض الأفاضل (١) في مقام الجواب (٢) : إنّه يمكن تحقّق التواتر على طريقة العامّة الّذين يقولون بحجّية الإجماع من حيث إنّه إجماع واتّفاق ، بأن يقال : إنّ الرؤساء إذا اتّفقوا على قول ، مثل أنّ الماء الكثير لا ينجس بالملاقاة ، لا بدّ أن يكون كذلك في الواقع ، وليس علينا أن نبحث عن مطابقته لآرائهم ، لأنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» (٣) ، كما يدلّ على عدم اجتماعهم على الرأي الخطأ ، يدلّ على عدم اجتماعهم على القول الخطأ أيضا ، فلو اجتمعت على هذا القول الكاذب ، لزم كذبه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) وهو محال.

فهذا القول المتّفق عليه إن ثبت (٥) بالتواتر فقطعيّ ، وإلّا فظنّيّ لظنّية طريقه لا

__________________

(١) وهو الفاضل السيد صدر الدّين في حاشيته على شرحه على «الوافية» هذا كما في حاشية بهاء الدين القمي ، وفي اخرى للشهشهاني : قد وجدنا في بعض تعليقاته منه انّ المراد السيد ركن الدّين ، ولكن لم أجد فيما عندي من النسخة ذلك لا في الباب ولا في بحث تعارض الأدلّة على ما تفحّصت هذا ، قد نقل صاحب «الفصول» ص ٣٦٢ القول المذكور بعد أن نسبه إلى بعض الأفاضل على طريقة المصنّف. وقد استجيده وإن استبعد تعميم الرواية إلى نفي الاتفاق على القول الخطاء.

(٢) أي في مقام الجواب عن الاشكال الذي أورده المحقّق البهائي.

(٣) «شرح النهج» : ٨ / ١٢٣ و ٢٠ / ٣٤ وفي مبحث الإجماع من «معارج الأصول».

(٤) وحاشاه ذلك.

(٥) هذا ردّ على قول المحقق البهائي في الاشكال حيث قال في حاشية «الزبدة» ص ـ

٣٠٥

لظنّية نفسه ، فهو كالمتن القطعيّ الثابت بالسّند الظنّي.

قال الحاجبي (١) في مقام الاستدلال : دلالة الإجماع قطعيّة ، ودلالة الخبر ظنّية ، وإذا وجب العمل مع نقل الخبر الظنّي ، فوجوبه مع نقل القطعيّ أولى ، وليس غرضه أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد يفيد القطع حتّى يمنع (٢) هذا.

وهذا مثل أن يقول أحد : إنّ العمل بالظاهر المحكيّ عن المعصوم عليه‌السلام مثلا إذا كان واجبا ، فالنصّ المحكيّ أولى ، انتهى.

أقول (٣) : ولا يخفى ما فيه ، فإنّه لا معنى محصّل للإجماع على القول الخطأ ، والاتّفاق على القول الصّواب ، إذا اريد منه محض اللّفظ ، إلّا اتّفاقهم في كيفيّة

__________________

ـ ١٠٤ : فظهر بذلك أي تقسيم الاصوليين الاجماع الى قطعي ثابت بالتواتر وظنّي ثابت بغيره بعيد عن السّداد.

(١) ابن الحاجب : ٥٧٠ ـ ٦٤٦ ه‍ عثمان بن عمر بن أبي بكر ، ابو عمرو جمال الدين ابن الحاجب ، من أئمة المالكية ومن علماء العربية والأصول كردي الأصل ولد في أسنا ـ من صعيد مصر ـ ونشاء في القاهرة ، وسكن دمشق ومات بالاسكندرية. كان ابوه حاجبا فلذا عرف بابن الحاجب. وله تصانيف كثيرة : «الكافية» في النحو و «الشافية» في الصرف و «مختصر الفقه» قيل انّه استخرجه من ستين كتابا في فقه المالكية ويسمى «جامع الأمهات» ، وكتاب «المقصد الجليل» قصيدة في العروض ، و «الأمالي النحوية» و «منتهى السئول والأمل في علمي الاصول والجدل» في اصول الفقه. و «مختصر السئول والأمل» و «الإيضاح» في شرح «المفصّل» للزمخشري ، و «الأمالي المعلّقة عن أبي الحاجب» في الكلام على مواضع من الكتاب العزيز وعلى المقدمة وعلى المفصّل وعلى مسائل وقعت له في القاهرة وعلى أبيات من شعر المتنبي ..

(٢) بصيغة المعلوم لا المجهول.

(٣) وتعرّض لهذا القول في «الفصول» ص ٢٦٢.

٣٠٦

قراءة اللّفظ وإعرابه ، وإلّا فالظاهر من الاجتماع على القول هو الاجتماع على مؤدّاه ومفهومه ، ومع ذلك فأيّ فائدة له في المسائل الفقهية ، إلّا أن يقال : فائدته (١) هو صيرورة المتن قطعيّا ، أو إن كان الدّلالة ظنّية كالخبر المتواتر.

قوله (٢) : إن ثبت بالتواتر فقطعيّ.

يعني أنّ هذا اللّفظ حينئذ موافق للواقع (٣) ونفس الأمر على ما حقّق المقام ، لا إنّه قطعيّ الدلالة على مراد المجمعين ، وحينئذ فلا معنى لقوله (٤) : وإلّا فظنّيّ لظنّيّة طريقه لا لظنّيّة نفسه ، فإنّ مراده بذلك بقرينة المقابلة لا بدّ أن يكون أنّه بدون التواتر لا يعلم كون اللّفظ موافقا للواقع ونفس الأمر ، لكن ذلك بسبب ظنّيّة طريقه لا بسبب ظنّيّة نفسه ، لأنّ نفسه قطعيّ موافق لنفس الأمر ، وهو كما ترى (٥).

وإن أراد من نفي ظنّيّة نفسه كونه قطعيّ الدّلالة.

ففيه (٦) : أنّ المفروض قطع النظر عن الدلالة وعن مراد القائل ، والمفروض عدم القطع بمرادهم أيضا ، فهل هذا إلّا تناقض!

فإن قلت : لعلّ مراده نظير أن ينقل أحد آية ويذكر أنّه من القرآن لمن يعلم قطعا بأنّ القرآن قطعيّ وموافق لنفس الأمر ومحدود معيّن ، ولكن لا يعلم أنّ هذه الآية

__________________

(١) اي الاتفاق على محض اللّفظ.

(٢) بعض الأفاضل كما مرّ.

(٣) فهو قطعي الصدور.

(٤) هذا البعض من الأفاضل.

(٥) إنّ صاحب «الفصول» ص ٢٦٣ قال معلّقا على قول المجيب : إن ثبت بالتواتر فقطعي وإلّا فظنّي : بظاهره غير مستقيم لورود منع الحصر عليه وهو ظاهر.

(٦) وردّه في «الفصول» ص ٢٦٢.

٣٠٧

هل هي من القرآن أم لا ، فهذا نقل قطعيّ بالظنّيّ.

قلت (١) : ليس ما نحن فيه من هذا القبيل ، بل من قبيل ما روي في الشواذّ زيادة بعض الكلمات أو الآيات ، فالكلام في ذلك أنّا لا نعلم أنّ هذه الآية قرآن أم لا ، لا أنّها من القرآن أم لا ، لأنّ الإجماعيات ليست متعيّنة في الخارج بشخصها لا يتجاوزها حتّى يشكّ في أنّ ذلك هل هو منها أم لا ، بل الشكّ في أنّ هذا إجماعيّ أم لا ، فتأمّل حتّى تفهم الفرق ولا يختلط عليك الأمر.

قوله (٢) : فهو كالمتن القطعيّ الثابت (٣).

لم أفهم معنى هذا التشبيه ، فإن أراد من المتن القطعيّ ، القطعيّ الوقوع ، فلا معنى له مع كون السّند ظنّيا ، وإن أراد قطعيّ الدّلالة فالمفروض عدمه (٤).

قوله (٥) : قال الحاجبي ... الخ.

لا يخفى أنّ الخبر الذي يسمعه الرّاوي عن المعصوم عليه‌السلام بلا واسطة ليس بخبر واحد ولا ظنّي ، بل هو قطعيّ الصّدور.

نعم هذا الخبر لمن يرويه عنه عليه‌السلام إذا لم يحتفّ بقرينة توجب القطع ، ظنّيّ ، ودلالته أيضا ظنّيّة.

ومراد ابن الحاجب وغيره في هذا المقام جواز نقل هذا الخبر عن الرّاوي بطريق الآحاد ، فإذا جاز نقل ما هو ظنّي أنّه من الشارع دلالة وسندا ، فنقل ما هو

__________________

(١) وتعرّض لهذا الجواب في «الفصول» ص ٢٦٢.

(٢) وهو الفاضل المذكور.

(٣) بالسند الظنّي.

(٤) وتعرّض لهذا الردّ في «الفصول» ص ٢٦٢.

(٥) وهو للفاضل المذكور في مقام جوابه الّذي مرّ.

٣٠٨

قطعيّ أولى بالجواز.

ومراده من نقل القطعيّ هو نقل مدّعي الإجماع ، فإنّ من يدّعي الإجماع فهو يحكي لغيره ما هو يقينيّ له أنّه من الشّارع ، بخلاف من يروي عن الرّاوي عن الشارع ، فإنّه يحكي ما هو ظنّيّ له أنّه من الشّارع ، فإن اقتصرت على ظنّيّة الدّلالة فيجوز ذلك المقايسة (١) بالنسبة إلى أوّل صدور الخبر أيضا.

قوله (٢) : وليس غرضه ... الخ.

لا يتوهّم هذا المعنى أحد من كلامه (٣).

قوله (٤) : فالنصّ المحكيّ أولى.

قد عرفت أنّ هذا التشبيه لا يصحّ على ما بني عليه المقام ، وإن كان موافقا لغرض الحاجبي ، كيف وليس موافقا لغرضه كما عرفت.

__________________

(١) أي يصح القياس بين القطعي الاجماعى والظنّي الخبري.

(٢) وقد عرفته.

(٣) يمكن أن يتوهّم بأن الاجماع إذا عارض الرواية رجّح عليها على نحو الاطلاق ، وذلك لتعدّد الوسائط في الرواية وعدمها في نقل الاجماع ، وهو من جملة وجوه الترجيح ، وقد لا يستقيم هذا الكلام لأنّ هذا الوجه قد يكون معارضا كما هو في بعض الأحيان إن لم يكن في الغالب بقلّة الضبط في نقل الإجماع بالنسبة إلى نقل الخبر. وان الاعتماد على بعض وجوه الترجيح مشروط بانتفاء ما يساويه أو يزيد عليه في الجانب الآخر وهو لصاحب «الفصول» ص ٢٦٣.

(٤) وقد مرّ.

٣٠٩

المقصد الثاني

في الكتاب (١)

قانون

الحقّ جواز العمل بمحكمات الكتاب نصّا كان أو ظاهرا ، خلافا للأخباريين حيث قالوا بمنع الاستدلال بكلّه (٢) على ما نسب إليهم [إليه] بعضهم (٣) ، وقال : إنّ مذهبهم أنّ كلّ القرآن متشابه بالنسبة إلينا ، ولا يجوز أخذ حكم منه إلّا من دلالة الأخبار على بيانه ، وهو الأظهر من مذهبهم ، أو بالظّواهر فقط (٤) على ما

__________________

(١) معنى ما يتعلّق من المباحث في كتاب الله العزيز الحكيم والذي يقال له أيضا القرآن وهو في الأصل مصدر كغفران ومعناه الجمع يقال : قرأت الشيء قرآنا أي جمعته جمعا ، وإنّما سمي به الكتاب لجمعه القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسّور ، أي يضمّ بعضها الى بعض. وقيل القرآن ما يقرأ به كالقربان لما يقرب به فيكون اسما ، وسمي به ما بين الدفتين لأنّه يقرأ به من القراءة بمعنى التلاوة يقال قرأت الكتاب أي تلوته.

(٢) أي بشيء منه بقرينة ما بعد ، وإن كان ظاهر اللّفظ سلب العموم لا عموم السلب ، والمراد بالقرينة التفصيل.

(٣) في الحاشية : الظاهر أنّه السيّد المحدّث الجزائري في «منبع الحياة» على ما حكي عنه.

(٤) عطف على قوله بكله.

٣١٠

يظهر من آخر.

وفصّل بعض الأفاضل (١) فقال : إن أرادوا أنّه لا يجوز العمل بالظواهر التي ادّعيت إفادتها للظنّ المحتملة لمثل التخصيص والتقييد والنسخ وغيرها ، لصيرورة أكثرها متشابها بالنسبة إلينا فلا يفيد الظنّ ، وما أفاد الظنّ منه قد منعنا عن العمل به ، مع قبول أنّ في القرآن محكما بالنسبة إلينا أيضا ، فلا كلام معهم.

وإن أرادوا أنّه لا محكم فيه أصلا ، فهو باطل.

أقول : وهذا التفصيل غفلة عن محلّ النزاع ، فإنّ هذا التشابه على الوجه الذي ذكره لا اختصاص له بالكتاب ، بل هو يجري في الأخبار أيضا ، وقد مرّ بيانه في باب وجوب البحث عن المخصّص في العامّ ، بل النزاع في المقام إنّما هو بالنسبة إلى خصوص الكتاب ، وإنّما نشأ هذا النزاع من جهة بعض الأخبار الذي دلّ على أنّ علم القرآن مختصّ بالمعصومين عليهم‌السلام ، وأنّه لا يجوز تفسيره لغيرهم (٢) ، وذلك لا يختصّ بوقت دون وقت وبزمان دون زمان.

وأمّا ما ذكره المفصّل فهو إنّما يصحّ في زمان عروض الاختلالات ، لا في أوّل زمان النزول.

فنقول : الحقّ ، القول بجواز العمل.

فأمّا في الصّدر الأوّل الذي خوطب به المشافهون فلأنّ الضّرورة قاضية بأنّ الله تعالى بعث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنزل إليه الكتاب بلسان قومه مشتملا على أوامر ونواهي

__________________

(١) وهو الفاضل السيد صدر الدّين على ما أفاده في الدرس كما عن الحاشية.

(٢) وقد أتى على بحثها الكثير من الاصوليين ، وأشبعها بيانا الفاضل الفتوني في «الوافية» ص ١٣٦.

٣١١

ودلائل لمعرفته ، وقصصا عمّن غبر (١) ووعدا ووعيدا وإخبارا بما سيجيء ، وما كان ذلك إلّا لأن يفهم قومه ويعتبروا به ، وقد فهموا وقطعوا بمراده تعالى من دون بيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما جعل القرآن من باب اللّغز والمعمّى بالنسبة إليهم ، مع أنّ اللّغز والمعمّى (٢) أيضا ممّا يظهر للذكيّ المتأمّل من أهل اللّسان والاصطلاح ، بل أصل الدّين ، وإثباته إنّما هو مبنيّ على ذلك ، إذ النبوّة إنّما تثبت بالمعجزة (٣) ، ومن أظهر معجزات نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وأجلّها وأتقنها هو القرآن.

والحقّ ، أنّ إعجاز القرآن هو من وجوه : أجلّها وأقواها بلاغته ، لا مجرّد مخالفة اسلوبه لسائر الكلمات. ولا يخفى أنّ البلاغة هو موافقة الكلام الفصيح لمقتضى المقام وهو لا يعلم إلّا بمعرفة المعاني.

والقول : بأنّ العرب كانت تتوقّف في فهم المعاني على بيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من دون أن يفهموه بأنفسهم ثمّ تعلم البلاغة شطط من الكلام ، مع أنّ الأخبار الدالّة على جواز الاستدلال به ولزوم التمسّك به ، قريب من التواتر أو متواترا.

منها : ما ذكره أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته المذكورة في «نهج البلاغة» قال فيها : «والصلاة على نبيّه الذي أرسله بالفرقان ليكون للعالمين نذيرا وأنزل عليه القرآن ليكون إلى الحقّ هاديا وبرحمته بشيرا ... فالقرآن آمر زاجر ، وصامت ناطق ، حجّة الله على خلقه ، أخذ عليهم ميثاقه» (٤). إلى آخر ما ذكره عليه‌السلام من هذا النمط.

__________________

(١) أي عمن سلف ، والغابر هو الماضي كما في الصّحاح.

(٢) قيل في الفرق بينهما انّه لا إشارة في المعمّى بخلاف اللّغز أو انّ اللّغز ما أورد فيه سؤال بخلاف المعمّى وقيل غير ذلك.

(٣) قال في «المجمع» ٤ / ٢٥ : إنّ المسلمين ذكروا لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألف معجزة منها القرآن وهي أمر خارق للعادة مطابق للدعوى المقرون بالتحدي.

(٤) نهج البلاغة : الخطبة ٣١٨.

٣١٢

ومنها : خبر الثّقلين (١) الذي ادّعوا تواتره بالخصوص ، فإنّ الأمر بالتمسّك بالكتاب سيّما مع عطف أهل البيت عليهم‌السلام عليه صريح في كون كلّ منهما مستقلّا بالإفادة وعدم افتراقهما كما في بعض رواياته (٢) لا يدلّ على توقّف فهم جميع القرآن (٣) ببيان أهل البيت عليهم‌السلام ، فإنّ ذلك لأجل إفهام المتشابهات ، وما لا يعلم تأويله إلّا الله والرّاسخون في العلم ، فإنّا مذعنون بما قاله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ)(وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الآية (٤). فإنّ المراد بالمتشابه هو مشتبه الدّلالة ، والمحكم في مقابله.

وما قيل : إنّ المراد من المتشابه مشتبه ، فيحتمل أن يكون الظاهر منه لجهالة معناه بالنسبة إلى الواقع ، وكذلك المراد بالمحكم لما يستفاد من بعض الأخبار أنّ المحكم هو ما يرادف النصّ أو المراد به الناسخ.

ففيه ما لا يخفى ، إذ من المعاين الغنيّ عن البيان ، أنّ مجرى عادة الله في بيان

__________________

(١) وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا».

(٢) اشارة الى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

(٣) ويدل على ذلك ما هو مروي عن ابن عباس انّه قسّم وجوه التفسير على أربعة أقسام : قسم لا يقدر أحد إلّا بجهالته ، وقسم يعرفه العرب بكلامها ، وقسم يعرفه العلماء ، وقسم لا يعرفه الّا الله. فالأول : ما فيه من أصول الشرائع والأحكام وحمل دلائل التوحيد.

والثاني : حقائق اللّغة وموضوع كلام العرب ، والثالث : تأويل المتشابه وفروع الأحكام. والرابع : ما يجري مجرى الغيوب وقيام السّاعة.

(٤) آل عمران : ٧.

٣١٣

الأحكام على النطق والكلام ، وأنّ الكلام كلّه لا يفيد اليقين ، بل أكثره مبتن على الظنّ من العمل بأصل الحقيقة في الحقائق ، وبالقرائن في المجازات ، مع احتمال إرادة المجاز واختفاء القرينة على السّامع واحتمال اشتباه القرينة بقرينة اخرى ، ولم يعهد من نبيّ ولا وصي ، ولا متكلّم إنسيّ من حكيم وعاقل أو سفيه وجاهل ، التوقّف في حال التكلّم مع مخاطبه في أنّه هل حصل له اليقين بمرامه أم اكتفى بالظنّ ، بل لو توقّف وكرّر عليه القول واستفسر وبيّن له ثانيا أيضا ، فلا ينفكّ ذلك أيضا غالبا عن لفظ آخر محتمل لتلك الوجوه وهكذا. وسيجيء زيادة توضيح لذلك.

فالمراد من المتشابه هو ما لم يتّضح دلالته بأن يصير السّامع متردّدا لأجل تعدّد الحقائق أو لأجل خفاء القرينة المعيّنة للمجاز ، لتعدّد المجازات وهكذا.

والحاصل ، ما لم يكن له ظاهر اريد منه ، سواء لم يكن له ظاهر (١) أو كان ولم يرد (٢) واشتبه دلالته في غيره ، فما وضح دلالته إمّا للقطع بالمراد (٣) أو للظّهور (٤) المعهود الذي يكتفي العقلاء وأرباب اللّسان به ، فهو المحكم ، ومقابله المتشابه.

فخذ هذا ودع عنك ما استشكله بعضهم في هذا المجال لإطلاق المحكم في كلام بعض العلماء على ما يرادف النصّ أو يدّعى استفادة ذلك من بعض الأخبار أيضا.

وأنّ في بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ المحكم هو الثّابت لا المنسوخ (٥) ، وأنّ المنسوخ من المتشابهات ، فإنّ الظاهر أنّ المراد من كون المنسوخ من المتشابهات

__________________

(١) كما في المجمل.

(٢) كما في المأوّل.

(٣) كما في النص.

(٤) كما في الظواهر.

(٥) ظاهر مراده من المنسوخ هو محتمل النسخ لا محقق النسخ.

٣١٤

أنّه مثلها في عدم جواز العمل ، ومن أنّ الناسخ محكم ، أنّه يجب العمل به ، فهذه الآية محكمة لا تشابه فيها ولا يحتاج في بيان المتشابه إلى كلام الأئمّة عليهم‌السلام.

وممّا ذكرنا ، يندفع (١) ما يورد على الاستدلال برواية الثّقلين أيضا من أنّ الأمر بالتمسّك بكتاب الله لا يدلّ على أنّه يمكنه الفهم بنفسه ، بل الذي لا بدّ منه هو الاستعداد للفهم بعد الإفهام ، فإنّ لفظ : «ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا» (٢) لفظ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا لفظ الكتاب حتّى يكون معركة للنزاع.

ولا ريب أنّ المتبادر منه التمسّك بلا واسطة ، والاحتياج إلى الترجمة للعجميّ مثلا ليس من باب الاحتياج إلى بيان الإمام عليه‌السلام ، فإنّه يشمل العربي القحّ أيضا ، فنحن لا نلتزم وجوب أن يمكنه الفهم بنفسه ، بل يجوز احتياجه إلى المترجم لو كان عجميّا مثلا ، لا البيان ولو كان عربيا أيضا.

وهذا لا ينافي دلالة الحديث على عدم الاحتياج إلى بيان الإمام عليه‌السلام بالمعنى الذي يحتاج إليه العربي أيضا.

ومنها : الأخبار الكثيرة التي ادّعوا تواترها في عرض الحديث المشكوك فيه على كتاب الله. والمراد بكتاب الله هو ما يفهمه أهل اللسان منه ، وما يتوهّم أنّ

__________________

(١) من أنّ الآية المذكورة وهو قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ،) الآية مستقلة بالافادة فليست من المتشابهات ، يندفع ما يورد على الاستدلال ، هذا كما في الحاشية.

(٢) أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم وهو الحديث ٨٧٤ من أحاديث «كنز العمال» ، ج ١ ، ص ٤٤. وبتفاوت في بعض الألفاظ وفي كثير من المصادر المهمة ، ك : «مسند أحمد بن حنبل» ٣ / ١٤ ، ١٧ ، ٢٦ ، ٥٩ ، وفي ج ٤ / ٣٦٦ ، ٣٧١ ، وج ٥ / ١٨١ ، ١٨٢ ، ١٨٩ ، و «سنن الترمذي» ٥ / ٦٦٢ ح ٣٧٨٦ و ٣٧٨٨ ، و «سنن الدارمي» ٢ / ٤٣١ ، و «الطبقات الكبرى» ٢ / ١٩٤.

٣١٥

العرض على بيان الأئمّة للكتاب أيضا تمسّك بالكتاب وعرض على الكتاب غلط ، لأنّ الاعتماد حينئذ على البيان لا على الكتاب ، كما لا يخفى.

ومنها : الأخبار الكثيرة التي استدلّ فيها الأئمّة عليهم‌السلام بالكتاب لأصحابه مرشدين إيّاهم لذلك واستدلال بعض الأصحاب ، به على بعضهم وهي كثيرة جدّا متفرّقة في مواضع شتّى لا نطيل بذكرها.

والحاصل ، أنّ هذا المقصود من الواضحات التي لا تحتاج إلى البيان.

وأمّا أدلّة الأخباريين فهي الأخبار التي دلّ بعضها على حصر علم القرآن في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام مثل ما رواه الكليني عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّما يعلم القرآن من خوطب به (١).

ويدفعه : أنّ جميع الحاضرين مجلس الوحي أو الموجودين في زمانه كانوا ممّن خوطب به ، فلا يختصّ به صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وما رواه أيضا في «الرّوضة» (٢) عنه عليه‌السلام : «واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقاييس. قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء وجعل للقرآن ولعلم القرآن أهلا. إلى أن قال : وهم أهل الذّكر الّذين أمر الله هذه الامّة بسؤالهم». الحديث.

وفيه : أنّه ظاهر ، بل صريح في أنّ المراد علم جميعه (٣) وهو مسلّم ، وفي معناهما أخبار أخر ، والجواب عن الكلّ واحد. ولو فرض ورود حديث صحيح

__________________

(١) «روضة الكافي» : ٨ / ٣١٢ ح ٤٨٥.

(٢) «الكافي» : ٨ / ٥ ح ١.

(٣) أي علم جميع القرآن ظاهره وباطنه محكمه ومتشابهه ناسخه ومنسوخه.

٣١٦

صريح ، بل أخبار صحاح أيضا في أنّ العلم منحصر فيهم رأسا وقطعا ولا يفهمه أحد سواهم ولا يجوز العمل إلّا ببيانهم لنؤوّله [لنؤوّله] أو نذره في سنبله ، كيف ولا خبر يدلّ على ذلك صريحا ولا ظاهرا.

ومنها : الأخبار التي دلّت على عدم جواز التفسير بالرأي ، وأفتى بمضمونه المحقّق الطبرسي رحمه‌الله حيث قال في «مجمع البيان» (١) : واعلم أنّ الخبر قد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة القائمين مقامه عليهم‌السلام أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصّحيح والنصّ الصريح. قال : وروى العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحقّ فقد أخطأ (٢).

وفيه : أنّ الظاهر أنّ المراد بالتفسير كما ذكره المحقّق الطبرسي رحمه‌الله أيضا (٣) : كشف المراد عن اللّفظ المشكل.

وقيل : التفسير : كشف الغطاء ، ولا ريب أنّه لا يجوز الحكم بالمراد من الألفاظ المشتركة والمجملة في القرآن بالرأي ومجرّد الاستحسان العقليّ من دون نصّ صريح من الأئمّة عليهم‌السلام أو دليل معتبر ، فلا منافاة بين المنع من التفسير بالرأي وجواز العمل بالظواهر.

ويمكن أن يراد أنّ من ترك متابعة مقتضى وضع اللّغة والتعارف في بيان المعنى ، وأبدع معنى للّفظ (٤) بمجرّد الاشتهار ، فهو ممنوع ، مع أنّا نرى أنّ المحقّق

__________________

(١) في مقدّمة الكتاب ١ / ١١.

(٢) «الوسائل» : ٢٧ / ٢٠٥ ح ٣٣٦١٠.

(٣) في «مجمع البيان» ١ / ١١.

(٤) قال في الحاشية : وذلك مثل أن يكون للانسان ميل الى شيء فأخذ آية من القرآن ـ

٣١٧

الطبرسي كثيرا ما يفسّر الألفاظ ويبيّن المعاني من دون نصّ وأثر.

وأمّا ما ذكره المفصّل (١) : من أنّه يجوز العمل في القطعيّات منه دون الظواهر المحتملة للنسخ والتخصيص وغيره.

ففيه : ما مرّ من أنّ محلّ النزاع إن كان ظاهر الكتاب من حيث إنّه هو ظاهر الكتاب ، فلا يضرّه هذه المحتملات قبل طروّها ، مثل أوائل نزول الكتاب. فإذا نزل آية كان يجوز العمل بها حتّى يثبت لها ناسخ أو مخصّص أو مقيّد.

وأمّا بعد سنوح هذه العوارض فيعمل على مقتضاها إذا علم بها على وجهها ، وإلّا فالحال فيه هو الحال في جميع ما يرد علينا في أمثال زماننا من متعارضات الأدلّة. والمجتهدون أيضا يقولون بأنّه لا يجوز العمل بها حينئذ إلّا بعد ملاحظة المعارض ، ينادي بذلك اتّفاقهم على لزوم الفحص عن المخصّص في العامّ ، ووجوب تحصيل القطع بالعدم (٢) أو الظنّ.

وما يدّعى أنّ الحاصل من تتبّع الأخبار أنّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام كانوا يعملون بالأخبار العامّة بمحض الورود من دون فحص عن المخصّص ، وأنّهم ما كانوا يعملون (٣) بالآيات كذلك ، وإجماعهم المستفاد من طريقتهم هو الدّاعي لإخراج

__________________

ـ وحملها عليه بحيث لولاه لم يفعل كذلك ، كما يوجد في كلام المبدعين. هذا ويمكن أن يكون المراد من تفسير القرآن بالرأي هو عمّن لم يظفر بدقائق القرآن وغرائبها مما يتوقف على النقل والسّماع أو بعض العلوم ، بل فسّره بمجرّد وقوفه على ظاهر العربية.

(١) وهو الفاضل السيد صدر الدّين كما مرّ بأنّه من المفصّل ، راجع الشروح والتعليقات القريبة السّابقة.

(٢) كما ذهب إليه الباقلّاني.

(٣) كلمة ما هنا نافية.

٣١٨

الأخبار عن هذا الحكم ، بخلاف الكتاب ؛ فهو من أغرب الدّعاوي.

فنحن نقول في الكتاب نظير ما قلناه في الأخبار ، وأنّه يجب الفحص عن النّاسخ والمنسوخ والعامّ والخاصّ ، ثمّ يعمل على ما يبقى ظاهرا بعد ذلك ، وهذا لا ينافي جواز العمل بالظواهر على ما هو محلّ النزاع.

وأمّا الاستدلال بما دلّ على حرمة العمل بالظنّ في مثل هذه الظواهر ، فإن كان بالآيات ، ففيه ، وإن كان لا يتمّ إلّا إلزاما (١) ، وإلّا عند هذا المفصّل إن ادّعى أنّ هذا من المحكمات القطعية الدّلالة لا من الظواهر انّ دلالتها ممنوعة ، لظهورها في اصول الدّين. ثمّ قطعيّتها (٢) لأنّها عمومات ، وإطلاقات مخصّصة بالظواهر لما بيّنا من الأدلّة على حجّية الظنّ الحاصل من التخاطب. ثمّ الظنّ الحاصل بعد انقطاع سبيل العلم إلى الأحكام في أمثال زماننا كما سنبيّنه.

ومن جميع ذلك ظهر أنّ حجّية ظواهر القرآن على وجوه ، فبالنسبة إلى بعض الأحوال معلوم الحجّية مثل حال المخاطبين بها ، وبالنسبة إلى غير المشافهين مظنون الحجّية ، وكونها مظنون الحجّية ، إمّا بظنّ آخر علم حجّيته بالخصوص كأن نستنبط من دلالة الأخبار وجوب التمسّك بها لكلّ من يفهم منها شيئا ، وإمّا بظنّ لم يعلم حجّيته بالخصوص ، كأن نعتمد على مجرّد الظنّ الحاصل من تلك الظواهر ولو بضميمة أصالة عدم النقل وعدم التخصيص والتقييد وغير ذلك ، فإنّ ذلك إنّما

__________________

(١) يعني وإن كان استدلال الأخباريين على حرمة العمل بالظّن في مثل هذه الظواهر لا يتمّ لعدم حجّية الكتاب عندهم إلّا أن يكون إلزاما على المجتهدين لأنّهم يقولون بحجّيته ، وإلّا عند هذا المفصّل إن ادعى انّها من المحكمات القطعيّة فإنّه أيضا يقول بحجّية المحكمات القطعيّة. هذا كما في الحاشية.

(٢) أي ثم قطعيّتها ممنوعة.

٣١٩

يثبت حجيّته وقت انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية وانحصار الأمر في الرّجوع إلى الظنّ ، ولمّا كان الأخبار أيضا من باب الخطابات الشّفاهية فكون دلالتها على حجّية الكتاب معلوم الحجّية ، إنّما هو للمشافهين بتلك الأخبار ، وطرد حكمها بالنسبة إلينا أيضا لم يعلم دليل عليه بالخصوص ، فيدخل حينئذ أيضا في القسم الآخر (١) فليكن على ذكر منك ، وانتظر لتتمّة الكلام.

__________________

(١) يعني بعد كون الأخبار أيضا من باب الخطابات الشّفاهية وكون دلالتها على حجّية الكتاب معلوم الحجّية إنّما هو للمشافهين بتلك الأخبار لا مطلقا حتى بالنسبة إلينا أيضا ، فيدخل ما كان مظنون الحجّية بسبب ظنّ آخر علم حجّيته بالخصوص ، في القسم الآخر الذي كان مظنون الحجّية بسبب الظنّ لم يعلم حجّيته بالخصوص ، هذا كما في الحاشية.

٣٢٠