القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

كون المخبرين في الكثرة إلى هذا الحدّ ، إذ ذلك من مقوّمات الماهيّة عندهم ، وإلّا فلا معنى لكون ذلك شرطا لحصول العلم بالمتواتر بعد ما أخذوا إفادة العلم بنفسه في تعريفه ، فإنّ ما يفيد العلم بنفسه لا يتوقّف حصول العلم بسببه على شرط آخر ، كما لا يخفى.

وأيضا قولهم (١) : ويشترط في حصول التواتر كون المخبرين في الكثرة إلى هذا الحدّ ، إمّا أن يراد به اعتبار الكثرة المطلقة باعتبار الجعل والاصطلاح في التواتر ، فما معنى تقييده بكونهم حدّا يمتنع تواطؤهم على الكذب ، وما وجه تخلية التعريف عن لفظ الكثرة ، إذ المراد كثرة الجماعة لا الكثرة مطلقا (٢) حتّى تشتمل الثلاثة ، مع أنّه ممّا يناقش في صدقه في الثلاثة أيضا ، فلا يحسن أن يقال أنّ الثلاثة أيضا كثير.

وإمّا أن يراد به الكثرة المقيّدة بما ذكر ، وحينئذ (٣) فنقول : إن أريد من امتناع تواطؤهم على الكذب عادة من جهة نفس الكثرة مع قطع النظر عن لوازم الخبر وعن كلّ شيء ، فمع أنّهم لا يقولون به ، لا يلائم تخصيصهم الاحتراز بما كان العلم من جهة القرائن الخارجة عن لوازم الخبر ، بل لا بدّ أن يحترزوا من القرائن اللّازمة للمخبر أيضا ، فالمتواتر حينئذ هو ما كان إفادته العلم من جهة الكثرة ؛ لا غير ، مع أنّه ليس لذلك معيار معيّن ، بل يختلف باختلاف لوازم الخبر جزما ، ولذلك لم يعيّن

__________________

(١) وهذا ايراد آخر قالوه.

(٢) هذا الشرط كثرة الجماعة لا الكثرة المطلقة بقرينة المخبرين بذلك ، وما يستفاد من تعريف التواتر الكثرة المطلقة لأنّهم قالوا خبر جماعة ، وبالجملة إنّ التعريف يصدق على الثلاثة بخلاف هذا الشرط.

(٣) أي حين تقييد الكثرة بالقيد المذكور.

٣٨١

الجمهور للمتواتر عددا خاصّا.

وإن اريد امتناع تواطئهم على الكذب بملاحظة خصوصيات المواضع وتفاوت لوازم الخبر ، فيرجع هذا إلى أنّ هذا الشرط لمحض إدراج قيد الكثرة ، إذ امتناع تواطئهم على الكذب بحسب لوازم الخبر ، كان مستفادا من قولهم : يفيد بنفسه العلم ، فيرجع الكلام فيه إلى البحث الأوّل (١) ، وهو أنّ التعريف مختلّ للزوم إدراج قيد الكثرة فيه ، وأنّ قولهم : بنفسه ، لا يغني عنه.

وبالجملة ، كلماتهم هنا في غاية الاختلاف ، فالأولى في التعريف ما ذكرنا سابقا (٢) ، والذي يحضرني من كلام القوم ما يوافق ما اخترته ، التعريف الذي اختاره السيّد عميد الدين رحمه‌الله في «شرح التهذيب» حيث قال : هو في الاصطلاح عبارة عن خبر أقوام (٣) بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم.

وأمّا الثاني (٤) : فهو كون السّامع غير عالم بما أخبر به لاستحالة تحصيل الحاصل ، وأن لا يكون قد سبق بشبهة أو تقليد إلى اعتقاد نفي موجب الخبر.

وهذا الشرط ممّا اختصّ به سيّدنا المرتضى ، ووافقه المحقّقون ممّن تأخّر عنه (٥) ، وهو شرط وجيه (٦). وبذلك يجاب عن كلّ من خالف الإسلام ومذهب الإماميّة في إنكارهم حصول العلم بما تواتر من معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والنصّ على

__________________

(١) حيث الإيراد الأوّل.

(٢) من أخذ الكثرة في الحد.

(٣) وتفهم الكثرة من قيد أقوام أيضا فضلا عن قيد حصول العلم بقولهم.

(٤) أي الشرط الثاني وهو ما يتعلّق بالسّامع.

(٥) كما في «الذريعة» ٢ / ٤٩١.

(٦) وجيّد في موضعه ، كما ذهب الشهيد في «الرعاية» ص ٦٤.

٣٨٢

الوصيّ ، وكذلك كلّ من أشرب قلبه حبّ خلاف ما اقتضاه المتواتر ، لا يمكن حصول العلم له إلّا (١) مع تخليته عمّا شغله عن ذلك إلّا نادرا.

الثالث :

اختلفوا في أقل عدد التواتر (٢).

والحقّ : أنّه لا يشترط فيه عدد ، وهو مختار الأكثرين. فالمعيار هو ما حصل العلم بسبب كثرتهم ، وهو يختلف باختلاف الموارد ، فربّ عدد يوجب القطع في موضع دون الآخر.

وقيل : أقلّه الخمسة (٣) ، وقيل : اثني عشر (٤) ، وقيل : عشرون (٥) ، وقيل : أربعون(٦).

__________________

(١) وهكذا يكون الشرط المذكور غالبا وليس بدائم.

(٢) حتّى منهم من قال : يحصل باثنين اعتمادا على نصاب الشهادة ، وقياسا على البيّنة المالية.

(٣) قيل أنّه للقاضي واستفيد هذا القول وحجته انّ ما دونه الأربعة لا يفيد العلم وإلّا لحصل بقول شهود الزنا ولم يحتاج الى التزكية وهو باطل بالاجماع ، نسب ابن السمعاني هذا القول إلى أكثر أصحاب الشافعي ، ونسبه ابن السبكي في «جمع الجوامع» الى جميع الشافعية.

(٤) على عدد نقباء بني اسرائيل لقوله تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) المائدة ١٢.

وقد خصهم بذلك لحصول العلم بخبرهم.

(٥) لقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) الانفال ٦٥ ، وإنّما خصّهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به. ونسب الرازي في «المحصول» ٣ / ٩٢٥ ، والزركشي في «البحر المحيط» هذا القول الى أبي الهذيل المعتزلي ، وبعض المعتزلة.

(٦) لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الانفال : ٦٤ ، فهذه الآية نزلت في أربعين كما في الحاشية. أو لعدد الجمعة عند العامة.

٣٨٣

وقيل : سبعون (١) ، وقيل غير ذلك (٢).

وحججهم ركيكة واهية (٣) لا يليق بالذكر ، فلا نطيل بذكرها وذكر ما فيها (٤).

وقد اشترط بعض الناس هنا شروطا أخر لا دليل عليها ، وفسادها أوضح من أن يحتاج إلى الذّكر. فمنهم من شرط الإسلام والعدالة (٥) ، ومنهم من اشتراط أن لا يحويهم بلد (٦) ليمتنع تواطئهم ، ومنهم من اشترط اختلاف النسب ، ومنهم من اشترط غير ذلك (٧) والكلّ باطل.

ونسب بعضهم (٨) إلى الشيعة اشتراط دخول المعصوم عليه‌السلام فيهم ، وهو افتراء أو اشتباه بالإجماع.

__________________

(١) لقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) الأعراف : ١٥٥.

(٢) مذهب جماعة الى أنّه ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أهل بدر ، وهناك أقوال اخرى في هذه المسألة غير ما ذكر ، منها : أنّه لا يحصل التواتر إلّا بخبر عشرة ، فلا يحصل العلم إذا كان المخبرون عشرة فصاعدا ، ونسب هذا القول الى الإصطخري وهناك من قال : لا يحصل إلّا بخبر عدد بيعة الرضوان ، وقد بلغ من بايع بيعة الرضوان ألف وخمسمائة وقيل : ألف وأربعمائة.

(٣) وهذه الأقوال للعامة ووجوبها مذكور في شرح العضدي.

(٤) ما فيها من الايرادات.

(٥) ونسب هذا المذهب إلى عبد الله بن عبدان الشافعي قاله في كتابه «الشرائط».

(٦) لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد ذهب إلى ذلك البزودي في «أصوله مع الكشف» ونقل ابن مفلح الحنبلي عن بعض الفقهاء كما عن «روضة الناظر» ٢ / ٩٠٨.

(٧) اختلاف أوطانهم وأديانهم حتّى يحصل العلم بخبرهم لتندفع التهمة بصورة آكد ، وشرط قوم أن يكونوا أولياء مؤمنين ، وشرط قوم أن لا يكونوا محمولين بالسيف على الإخبار.

(٨) كالغزالي في «المستصفى» ١ / ١٣٨ ، ولكن عبر عنهم بالروافض ، وفي «المعارج» ص ١٤٠ : حكى بعض الأشعرية والمعتزلة ان الإمامية تعتبر قول المعصوم عليه‌السلام في التواتر وهو فرية عليهم أو غلط في حقّهم وإنّما يعتبرون ذلك في الاجماع.

٣٨٤

تتميم : إذا تكثّرت الأخبار في الوقائع واختلفت ، لكن اشتمل كلّ منها على معنى مشترك بينها بالتضمّن أو الالتزام ، وحصل العلم بذلك القدر المشترك بسبب كثرة الأخبار ، فيسمّى ذلك متواترا بالمعنى (١) ، وقد مثّلوا بذلك بشجاعة عليّ عليه الصلاة والسلام ، وجود حاتم ، فقد روي عنه عليه‌السلام : أنّه فعل في غزوة بدر كذا ، وفي أحد كذا ، وفي خيبر كذا ، وهكذا ، وكذلك عن حاتم أنّه أعطى فلانا كذا وفلانا كذا وهكذا. فإنّ كلّ واحد من الحكايات الأوّل يستلزم شجاعته عليه‌السلام ، وكلّ واحد من الحكايات الأخر يتضمّن جود حاتم ، لأنّ الجود المطلق جزء الجود الخاصّ.

وفيه مسامحة ، لأنّ الجود صفة للنفس وليس من جملة الأفعال حتّى تتضمّنه ، بل هو مبدأها وعلّتها ، فذلك أيضا من باب الاستلزام.

وتحقيق المقام أنّ التواتر يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يتواتر الأخبار باللفظ الواحد ، سواء كان ذلك اللفظ تمام الحديث مثل : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٢) ، على تقدير تواتره كما ادّعوه ، أو بعضه كلفظ : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» (٣) ، ولفظ : «إنّي تارك فيكم الثّقلين» (٤) ، لوجود تفاوت في سائر الألفاظ الواردة في تلك الأخبار.

والثاني : أن يتواتر بلفظين مترادفين أو ألفاظ مترادفة مثل : إنّ الهرّ طاهر ،

__________________

(١) ويقال له المتواتر المعنوي أيضا قبالا للمتواتر اللّفظي.

(٢) «إنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لامرئ ما نوى» ، «التهذيب» ج ١ ص ٨٣ ب ٤ ح ٦٧ ، و «الوافي» ج ٣ ص ٧١ ب ٤٧ ح ٢.

(٣) اخرجه الطبراني الهيثمي في «المعجم الكبير» ، وفي «بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد» بسند مجمع على صحته.

(٤) أخرجه الحاكم والذهبي في «المستدرك» و «التلخيص».

٣٨٥

والسنّور طاهر ، أو الهرّ نظيف والسنّور طاهر ، وهكذا ، فيكون اختلاف الأخبار باختلاف الألفاظ المترادفة.

والثالث : أن يتواتر الأخبار بدلالتها على معنى مستقلّ وإن كان دلالة بعضها بالمفهوم والأخرى بالمنطوق ، وإن اختلف ألفاظها أيضا مثل : نجاسة الماء القليل بملاقاة النجاسة الحاصلة من مثل أن يرد في بعض الأخبار أنّ الماء القليل ينجس بالملاقاة. وفي آخر : الماء الأنقص من الكرّ يتنجّس بالملاقاة. وفي آخر : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» (١) ، بل ويتمّ ذلك على وجه فيما كان النجاسة في تلك الأخبار مختلفة كما في قوله عليه‌السلام : «ولا تشرب سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستسقى منه الماء» (٢). وقوله عليه‌السلام حين سئل عن التوضّي في ماء دخله الدّجاجة التي وطأت العذرة : «لا إلّا أن يكون الماء كثيرا قدر كرّ» (٣) ، وهكذا. فإنّ المطلوب بالنسبة إلى الماء القليل وهو انفعاله أمر مستقلّ مقصود بالذّات ، لا أنّه قدر مشترك منتزع من أمور ، فإنّ الحكم لمفهوم الماء القليل لا لخصوصيات أفراده التي يشترك فيها هذا المفهوم ، وذلك أيضا أعمّ من أن يكون الأخبار منحصرة في بيان هذا المطلب المستقلّ أو مشتملة على بيان مطلب آخر أيضا.

والرابع : أن يتواتر الأخبار بدلالة تضمّنية على شيء مع اختلافها ، بأن يكون ذلك المدلول التضمّني قدرا مشتركا بين تلك الآحاد ، مثل أن يخبر أحد أنّ زيدا

__________________

(١) «الكافي» ج ٣ ص ٢ ب ٢ ح ١ و «التهذيب» ج ١ ص ٣٩ ب ٣ ح ٤٦ و «الاستبصار» ج ١ ص ٦ ب ١ ح ٢.

(٢) «الاستبصار» : ١ / ٢٠ ح ١٤٤ ، «التهذيب» : ١ / ٢٢٦ ح ٦٥٠.

(٣) «الاستبصار» : ١ / ٢١ ح ١٤٩ ، «التهذيب» : ١ / ٤١٩ ح ١٣٢٦.

٣٨٦

اليوم ضرب عمروا ، وآخر أنّه ضرب بكرا ، وآخر أنّه ضرب خالدا ، وهكذا إلى أن يحصل حدّ التواتر مع فرض الواقعة واحدا ، فإنّه يحصل العلم بوقوع الضرب من زيد وإن لم يحصل العلم بالمضروب. وكذلك لو اختلفوا في كيفيّات الضّروب (١). ومن ذلك ورود الأخبار فيما تحرم عنه الزّوجة من الميراث ، بأن يقال : إنّ حرمانها في الجملة يقينيّ لكن الخلاف فيما تحرم عنه ، فالقدر المشترك هو مطلق الحرمان الموجود في ضمن كلّ واحد من الحرمانات.

والخامس : أن يتواتر الأخبار بدلالة التزامية بكون ذلك المدلول الالتزامي قدرا مشتركا بينهما ، مثل أن ينهينا [ينهانا] الشّارع عن التوضّي عن مطلق الماء القليل إذا لاقاه العذرة ، وعن الشرب عنه إذا ولغ فيه الكلب ، وعن الاغتسال عنه إذا لاقاه الميتة ، وهكذا ، فإنّ النّهي عن الوضوء في عرف الشارع يدلّ بالالتزام على النجاسة ، وهكذا الشرب والاغتسال ، فإنّه يحصل العلم بنجاسة الماء القليل بذلك.

والسادس : أن يتكاثر الأخبار بذكر أشياء تكون ملزومات للازم ، يكون ذلك اللّازم منشأ لظهور تلك الأشياء (٢) ، مثل الأخبار الواردة في غزوات عليّ عليه‌السلام ،

__________________

(١) كيفيّاتها من ناحية الشدّة والضعف أو بالسّوط أو بغيره فيثبت الضرب ولا يثبت نفس كيفيّته.

(٢) قال السيّد علي القزويني في الحاشية : فيه من المسامحة في التعبير ما لا يخفى ضرورة انّ الأشياء المذكورة في الأخبار المتكاثرة التي هي عبارة عن الوقائع المرويّة لوازم لملزوم واحد لا أنّها ملزومات للازم واحد ، خصوصا مع فرض كون ذلك الواحد منشأ لتلك الأشياء ، فإنّ المنشأ عبارة عن العلّة ، والعلّة ملزوم والمعلول لازم ، والأشياء المذكورة معلولات لا أنّها علل.

٣٨٧

وما ورد في عطايا حاتم ، وذلك يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يذكر تلك الوقائع بحيث تدلّ بالالتزام على الشجاعة والسّخاوة مثل أن يذكر غزوة خيبر بالتفصيل الذي وقع ، فإنّه لا يمكن صدورها بهذا التفصيل والتطويل والمقام الطويل والكرّارية من دون الفرار [الفرارية] ، إلّا عن شجاع بطل قوي بالغ أعلى درجة الشّجاعة ، وهكذا غزوته عليه‌السلام في أحد وفي الأحزاب وغيرها ، فباجتماع هذه الدّلالات يحصل العلم بثبوت أصل الشجاعة التي هي منشأ لهذه الآثار ، وهكذا عطايا حاتم.

والفرق بين هذا وسابقه أنّ الدلالة في الأوّل مقصودة جزما ، والأخبار مسوقة لبيان ذلك الحكم الالتزامي ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه قد لا يكون بيان الشّجاعة مقصودا أصلا ؛ وإن دلّ عليها تبعا ، فحصول العلم فيما نحن فيه ، من ملاحظة كلّ واحد من الأخبار ثمّ تلاحق كلّ منها بالآخر.

والثاني : أن يذكر تلك الوقائع لا بحيث تدلّ على الشّجاعة ، مثل أن يقال : أنّ فلانا قتل في حرب كذا رجلا ، وقال آخر : أنّه قتل في حرب آخر رجلا ، وهكذا ، فبعد ملاحظة المجموع ؛ يحصل العلم بأنّ مثل ذلك الاجتماع ناشئ عن ملكة نفسانية هي الشّجاعة ، وليس ذلك بمحض الاتّفاق ، أو مع الجبن أو لأجل القصاص ونحو ذلك.

وكذلك في قصّة الجود والقدر المشترك الحاصل من تلك الوقائع على النهج السّابق (١) هو كلّي القتل والإعطاء وهو لا يفيد الشّجاعة ولا الجود ، ولكنّ الحاصل من ملاحظة المجموع من حيث المجموع هو الملكتان ، ولعلّ من جعل

__________________

(١) أي أوّل الوجهين كما في حاشية ، وفي اخرى عبّر بالمذكور في طيّ الوجه الرابع الكافل لبيان التضمنيّة فتأمّل.

٣٨٨

الجود من باب الدلالة التضمّنية ، غفل عن هذا واختلط عليه الفرق بين الجود والعطاء ، ولعلّ كلام العضدي ناظر إلى هذا الوجه (١) ، حيث قال : واعلم أنّ الواقعة الواحدة لا تتضمّن السّخاوة ولا الشّجاعة (٢) ، بل القدر المشترك الحاصل من الجزئيّات (٣) ذلك وهو المتواتر ، لا لأنّ آحادها صدق قطعا ، بل بالعادة. انتهى.

والظاهر أنّه فرض المقام خاليا عن وجه يدلّ على الشجاعة بالالتزام ، ومع هذا الفرض فالأمر كما ذكره من عدم دلالة كلّ واحد من الوقائع على الشّجاعة

__________________

(١) أي الوجه الثاني من القسم السادس ، وهو كون الدلالة على القدر المشترك بالالتزام.

قال في الحاشية اعلم أنّ المصنف استظهر من كلامه إرادة الوجه الثاني من وجهي السادس ولكن الظاهر عندي أنّ مراده اوّل وجهي السادس او انّ مراده هو الوجه الخامس ، وان مراده كونه من باب الاستلزام بأحد الوجهين واطلاقه التضمن حينئذ مسامحة ، ومراده الاستلزام فنفاه من أحاد الوقائع واثبته في المجموع. ويمكن أن يكون مراده من السّخاوة والشّجاعة الفعل الدال عليهما لا الملكتين ، فحينئذ يكون من الوجه الرابع ولفظ التضمن المنفي على ظاهره. فعلى ما ذكرناه من حمله على أحد الوجوه الثلاثة فمعنى كلامه انّ كل واحدة من الوقائع لا تدل على الشجاعة مثلا أي تحققها بل القدر المشترك الحاصل من الجزئيّات هو ذلك أي الشجاعة المحقّقة ، والشجاعة المحققة هو المتواتر لا لأن آحادها صدق قطعا أي ليس بحيث يكون كل واقعة صدقا وإنّما يثبت الصدق وقطعيّته ذلك الخبر المتواتر بسبب العادة من حيث ملاحظة المجموع.

وهذا لا تكلف فيه كما ترى ؛ بخلاف ما استظهره المصنّف. كما ذكره في «حديقة البساتين في شرح القوانين» لمحمد على بن احمد التبريزي القراجه داغي.

(٢) أي لا تدلّ عليها بالتضمن ولا الالتزام. أراد بالتضمن ما يعمّ الدّلالتين.

(٣) أراد بالجزئيات مجموع الوقائع الخاصة المخبر بها ، ومعنى حصول القدر المشترك منها ، حصول الدلالة عليه من ملاحظة المجموع.

٣٨٩

والسخاوة ، ولذلك قال : بل القدر المشترك الحاصل من الجزئيات ، يعني الحاصل من ملاحظة مجموع الجزئيات ، لا كلّ واحد منها هو الشّجاعة والسّخاوة لإفادتها بكثرتها الملكة النفسانية.

وأمّا قوله : لا لأنّ آحادها صدق. يعني أنّ المتواتر في سائر الأقسام لا ينفكّ عن صدق الآحاد بناء على المشهور في معنى الصّدق بلا شبهة.

وإن كان من جهة الدلالة الالتزامية الحاصلة مع كلّ منها أو التضمّنية الحاصلة مع كلّ منها كما في الصّورتين السّابقتين (١). وأمّا في ذلك (٢) فلا يستلزم صدق واحد من الوقائع فضلا عن جميعها ، ولكن بالعادة يحصل العلم بالقدر المشترك. يعني ما هو قدر مشترك في كونه لازما لها ، وهو الشّجاعة والسّخاوة من سماع تلك الواقعات ، وإن لم يحكم العقل بصدق واحد من الواقعات بعنوان القطع ، إذ لا مشترك بينها في الدلالة حينئذ ، والقدر المشترك إنّما يحصل من جميعها.

هذا ويظهر من العضدي في هذا المقام أنّه حصر المتواتر المعنوي في الوجه الثاني (٣) من الوجهين.

ومقتضاه انّه يحصل بمجموع الآحاد الدّلالة على القدر المشترك بعنوان القطع ، لا أنّ الدلالة كانت حاصلة في كلّ واحد من الآحاد ولكن القطع حصل بمجموعها ،

__________________

(١) أي الرابعة والخامسة.

(٢) أي الثاني من السادس.

(٣) وجه الظهور انّ الحاجبي وغيره مثّلوا للمتواتر المعنوي بالمثالين ، والعضدي عند شرح عبارة الحاجبي وصفهما بما ذكر من أنّ الدلالة على القدر المشترك إنّما تحصل من ملاحظة المجموع لا من كل واحد ، وهذا في معنى حصر الممثّل في الوجه المذكور.

٣٩٠

وإلّا فكان اللّازم عليه أن ينبّه على أنّ ذلك مناقشة في المثال ، مع أنّ المثال الذي (١) ذكروه قابل لكلا الوجهين كما عرفت ، وإدخال الوجه الأوّل تحت المتواتر اللّفظي وكذا بعض ما تقدّمه من الأقسام مشكل.

على هذا فجميع أقسام المتواتر يجمعها قسمان :

أحدهما : أن يدلّ على آحاد الأخبار على شيء يوجب كثرتها مع دلالتها على ذلك الشيء ، القطع بحصول ذلك الشيء ، وذلك هو ما عدا الوجه الثاني من القسم السّادس من الأقسام.

والثاني : أن يحصل من مجموع آحاد متكثّرة الدلالة على شيء وكانت مقطوعا بها. ويمكن أن يمثّل للوجه الثاني بالأخبار التي وردت في نجاسة الماء القليل بالخصوصيات المعيّنة من جهة النجاسة ومن جهة الماء معا ، فإنّ بملاحظة مجموعها يمكن دعوى القطع بأنّها تدلّ على نجاسة مطلق الماء القليل ، بل الظاهر أنّ الحكم كذلك. ولو كان الحكم بالنجاسات المخصوصة كان واردا (٢) في مطلق الماء القليل كما هو مضمون بعض الأخبار ، فإنّ عموم الموضوع لا ينفع مع خصوص الحكم.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ ما ذكروه في تعريف التواتر من اشتراط كونه منوطا بالحسّ (٣) ، فإن أرادوا إدراج المشترك المعنوي في التعريف ، فلا بدّ أن يقال : انّ المتواتر هو ما يكون نقل المخبرين منوطا بالحسّ (٤) وموجبا بنفسه العلم بذلك

__________________

(١) للوجه الثاني المذكور في كلام العضدي.

(٢) جملة كان هنا خبر كان السّابقة.

(٣) راجع «المعالم» ص ٣٤٠.

(٤) أن يكون مدرك الخبر وهو موجب علم المخبرين بالحكم بالحسّ بصرا أو سمعا أو غيرهما.

٣٩١

المحسوس (١) أو بالقدر المشترك (٢) بين الآحاد الموجود في ضمنها الذي هو غير محسوس في نفسه ، وإن عرض له المحسوسيّة بسبب وجوده في ضمن الفرد أو يلازمه ، سواء كان فهم اللزوم من جهة كلّ واحد من الآحاد أو من مجموعها.

فعلى هذا يندفع الإشكال الذي أورده المحقّق البهائي رحمه‌الله على الإجماع المنقول بالخبر المتواتر كما أشرنا سابقا ، فيكون هذا القسم من الخبر المتواتر ، والإجماع المتواتر من قبيل أصل الإجماع ، وفهم اتّفاق آراء الكلّ ومطابقة آرائهم لأقوالهم.

فكما أنّ هناك الأقوال محسوسة ومطابقة الآراء مدركة بالعقل ، فكذلك في الإجماع المتواتر ، والخبر المتواتر معنى بالمعنى الأخير (٣).

ويمكن أن يقال في الوجه الأوّل من الوجهين (٤) : أنّ العلم بحصول فرد محسوس من الأفراد مع العلم بمقارنتها مع لازمها الذي دلّ عليه كلّ واحد من الآحاد ، يحصل للسّامع وكذلك فيما قبله (٥).

__________________

(١) كما في الاقسام الثلاثة الأول.

(٢) كما في الرابع.

(٣) أي الوجه الثاني من القسم السادس.

(٤) الوجه الأوّل من وجهي القسم السادس.

(٥) من الأقسام.

٣٩٢

قانون

خبر الواحد : ما لم ينته إلى حدّ التواتر ، كثرت رواته أم قلّت.

وقيل : ما أفاد الظنّ ، ويبطل عكسه بخبر لا يفيد الظنّ.

والمستفيض : ما زاد نقلته على ثلاثة ، كذا ذكره ابن الحاجب (١) ، وقرّره العضدي.

وقال التفتازاني في تفسيره : أيّ خبر لا يفيد العلم بنفسه سواء لم يفد العلم أصلا أو أفاد بالقرائن الزّائدة. قال : وعلى هذا لا واسطة بين الخبر المتواتر وخبر الواحد ، فالمستفيض نوع منه.

أقول : قد عرفت أنّهم عرّفوا المتواتر بأنّه خبر جماعة يفيد بنفسه العلم ، واحترزوا بالتقييد بنفسه عمّا لو حصل العلم من القرائن الخارجة عمّا لا ينفكّ الخبر عنه عادة ؛ كشقّ الثوب والصّراخ والجنازة في المثال الآتي.

فظهر أنّ مدخليّة القرائن الدّاخلة في حصول العلم لا تضرّ بكونه متواترا وإن كان للكثرة أيضا مدخلية في حصول العلم ، فإذا كان خبر الواحد بقرينة المقابلة هو ما لم ينته إلى حدّ التواتر ، يعني لم يكن ممّا حصل العلم به من جهة الكثرة ، فيكون له فردان ، فرد لا يثبت به العلم أصلا ، وفرد لا يثبت به العلم من جهة الكثرة ، وإن حصل من جهة القرائن الدّاخلة أو الخارجة ، إذ لم يقم دليل على امتناع حصول العلم بخبر الواحد بملاحظة القرائن الداخلة كما سنذكره ، أو الخارجة كما هو مختار الأكثر ، فعلى هذا ، فللخبر الواحد أقسام كثيرة :

__________________

(١) من أوّل هذا القانون الى هنا كما رأينا.

٣٩٣

منها : ما يفيد القطع من جهة القرائن الدّاخلة.

ومنها : ما يفيد القطع من جهة القرائن الخارجة.

ومنها : ما يفيد الظنّ.

ومنها : ما لا يفيده أيضا.

وعلى هذا فالمستفيض يمكن دخوله في كلّ من القسمين (١) ؛ فيكون قسما ثالثا ، ولا مانع من تداخل الأقسام وهذا هو ظاهر ابن الحاجب والعضدي. فإذا لم يبلغ الكثرة إلى حيث يكون له في العرف والعادة مدخليّة في الامتناع من التواطؤ على الكذب مثل الثلاثة والأربعة والخمسة وإن حصل العلم من جهة القرائن الدّاخلة ، فهو مستفيض قطعي ، وإن زاد على المذكورات بحيث يمتنع التواطؤ على الكذب بمثل هذا العدد في بعض الأوقات ، ولكن لم يحصل فيما نحن فيه ، فهذا مستفيض ظنّي.

ويمكن إلحاق الأوّل بالمتواتر ، على وجه مرّ الإشارة إليه من القول بكون خبر الثلاثة إن كان قطعيّا متواترا ، وإلحاق الثاني بخبر الواحد.

ويمكن جعلهما قسمين من خبر الواحد على ما بيّنا من جعل خبر الواحد أعمّ من الظنّي.

وبالجملة ، كلام القوم هنا غير محرّر ، ويرجع النزاع إلى أنّ خبر الواحد الخالي عن القرائن الزّائدة هل يفيد العلم أم لا؟ وعلى الأوّل فهل هو مطّرد أم لا؟

وعلى الثاني فهل يفيد العلم مع القرائن الزّائدة أم لا؟ فهناك أقوال أربعة (٢).

__________________

(١) أي المتواتر وخبر الواحد. وهكذا مؤدى العبارة أنّه يمكن دخول بعض أقسامه في المتواتر ، وبعض أقسامه في خبر الواحد.

(٢) يعني يرجع النزاع المستفاد من اختلافهم في تعريف خبر الواحد من جهة انّ بعضهم ـ

٣٩٤

واعلم أنّ القول بإفادة العلم مع قطع النظر عن القرائن الداخلة والخارجة في خبر غير العدل لم يعهد من أحد منهم ، وكذلك اشتراط العدالة في الخبر المحفوف بالقرائن الخارجية.

ومحلّ نزاعهم في غير المحفوف بالقرائن الخارجية مخصوص بخبر العدل ، وفيه أعمّ.

فلنقدّم الكلام في خبر العدل الخالي عن القرائن الخارجية ، فالمشهور عدم إفادته العلم مطلقا.

وذهب أحد من العامّة إلى أنّه يفيد العلم مطّردا.

وذهب قوم إلى أنّه يفيده غير مطّرد ، وهذا أظهر ، لأنّا كثيرا ما نجد بالوجدان حصول العلم من خبر العدل الواحد بملاحظة القرائن اللّازمة للخبر التي لا ينفكّ عنها عادة ، وإن لم يكن هناك قرينة خارجة ، إذ قد عرفت أنّ اعتبار القرائن الدّاخلة لم يخرج عن تعريف الخبر الواحد ، ولكن ذلك لا يطّرد كما هو مشاهد بالوجدان ، بل لا يبعد القول بحصول ذلك في خبر غير العدل أيضا.

وما استدلّ به القائل بالاطّراد في خبر العدل من أنّه لو لم يفد العلم لما وجب

__________________

ـ قالوا هو ما أفاد الظنّ ، فمعناه أنّه لا يفيد العلم أصلا أو أنّه لا يفيد العلم بنفسه ، فمعناه انّه قد يفيده بغيره من القرائن الخارجية. وقد يفهم من تعريف بعضهم بأنّه ما لم ينته الى حدّ التواتر وجعل ما يفيد العلم بنفسه لا من جهة الكثرة ، بل من جهة القرائن الداخلة كما حققناه ، فيرجع النزاع الى الأقوال الأربعة. أحدها : عدم إفادة العلم أصلا لا بالنظر الى القرائن الداخلة ولا الزّائدة. والثاني : إفادته العلم بالنسبة الى الزّائدة دون الداخلة. والثالث : إفادته بالنسبة الى الداخلة أيضا ومطّردا. والرابع : كذلك غير مطّرد. هذا كما في الحاشية.

٣٩٥

العمل به ، بل لم يجز لقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) و : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.)(٢) والتالي باطل للإجماع ، فالمقدّم مثله ، فهو باطل ، لأنّ الإجماع إنّما هو الباعث على العمل بالظنّ وهو قاطع ، ولمنع تعلّق النّهي بالعمل بالظنّ في الفروع ، وإنّما هو في الأصول كما مرّ وسيجيء.

واحتجّ الجمهور بوجوه ثلاثة (٣) :

الأوّل : أنّه لو حصل بلا قرينة ، يعني خارجية ، لكان عاديّا ، إذ لا علّية عندنا (٤) ولا ترتّب إلّا بإجراء الله عادته بخلق شيء عقيب شيء آخر ، ولو كان عاديّا لاطّرد كالخبر المتواتر ، وانتفاء اللّازم بيّن.

الثاني : أنّه لو حصل العلم به لأدّى إلى تناقض المعلومين إذا أخبر عدلان بأمرين متناقضين ، فإنّ ذلك جائز بالضّرورة ، بل واقع ، واللّازم باطل ، لأنّ المعلومين واقعان في الواقع ، وإلّا لكان العلم جهلا ، فيلزم اجتماع النقيضين.

الثالث : لو حصل العلم به ؛ لوجب القطع بتخطئة من يخالفه بالاجتهاد ، وهو خلاف الإجماع.

والجواب عن الأوّل : منع بطلان التالي إن أراد أنّه لا يفيد القطع إذا فرض صورة اخرى مثله ، إذ نحن نقول في الصورة التي فرضنا كون خبر الواحد مفيدا للعلم من جهة القرائن الداخلة ، أنّه إذا فرض مثل هذا الخبر في موضع آخر لم يتفاوت فيه

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.

(٢) الانعام : ١١٦.

(٣) ونقلها صاحب «المعالم» فيه ص ٣٤٢.

(٤) أي لا عليّة بين الأشياء أصلا للقول بالجبر ، وانّ كل ما يحصل إنّما هو فعل الله تعالى كما هو مذهب الأشاعرة.

٣٩٦

القرائن المذكورة أيضا ، يفيد العلم (١).

فإن أراد من عدم الاطّراد عدم الإفادة في مثل ذلك الموضوع أيضا ، فهو ممنوع.

وإن أراد في جميع أفراد خبر الواحد ، فلا يضرّنا كالمتواتر ، فإنّه أيضا يختلف باختلاف الموارد كما صرّحوا به ، فكلّ ما أرادوا من الاطّراد وجريان العادة في المتواتر ، فنريد نظيره فيما نحن فيه.

وقد يورد على هذا الدليل (٢) : بأنّ دعوى الملازمة لغو ، إذ لو كان عقليّا لثبت الاطّراد بالطريق الأولى ، وإرادة نفي كون ذلك على سبيل الاتّفاق من ذلك ، يأباه التعليل بقوله : إذ لا علّيّة ولا ترتّب. انتهى.

وفيه : أنّ هذا الدّليل من الأشاعرة ، وهم لمّا جعلوا عدم العلّية والترتّب العقلي مفروغا عنه ، فغرضهم أنّ الأمر هنا منحصر في كون الترتّب عاديا وكونه بسبب جريان عادة الله به ، ومقتضاه الدّوام ، فلا يكون من باب محض الاتّفاق ، ولا ينافيه التعليل بقوله : إذ لا عليّة ولا ترتّب. انتهى. فإنّ الحصر بالنسبة إلى محض الاتّفاق.

__________________

(١) خبر انّ.

(٢) المورد هو المحقق السلطان في حاشيته ص ٣٢٣ على «المعالم». هذا والمراد من دعوى الملازمة دعوى الحصر في القياس ، وإنّما يكون لغوا لأنّ الاطّراد جهة مشتركة بين العلم العادي والعلم العقلي ، بل الثاني أولى بالاطّراد ، لأنّه عبارة عن كون الترتب بين العلم وخبر العدل عقليّا ، باعتبار كون خبر العدل بنفسه مؤثّرا وعلّة تامة للعلم ، ومن المستحيل عقلا تخلّف المعلول عن العلّة التامة ، بخلاف العادة ، فإنّ التخلّف فيها ممكن عقلا. وقضية الاطراد في العلمين هو إلغاء دعوى الحصر بإسقاط الملازمة الأولى والاقتصار على دعوى الملازمة الثانية ، فيقرّر الدليل حينئذ بأنّه لو حصل به العلم لكان مطّردا سواء في ذلك العادي والعقلي ، هذا كما في الحاشية.

٣٩٧

وعن الثاني : أنّ هذا الدّليل إنّما ينهض على القائل بالاطّراد ، ونحن لا نقول به في كلّ خبر عدل ، فنمنع لزوم حصول العلم بالمتناقضين. وأنّ هذا الفرض غير متحقّق كما مرّ نظيره في شبه السومناتيّة في المتواتر. ولو فرض انّ أحدا ادّعى حصول العلم بخبر بسبب القرائن الداخلة ، وآخر بنقيضه ، ظهر أنّ أحدهما أخطأ في دعوى العلم. وكذلك لو ادّعى أوّلا حصول العلم بخبر ، ثمّ ظهر له العلم بنقيضه بخبر آخر.

فقوله : إنّ ذلك جائز بالضّرورة ، بل واقع إن أراد مجرّد صدور خبر عدلين في طرفي النقيض ، فهو كذلك ، لكنّا لا نقول بحصول العلم منهما (١).

وإن أراد حصول العلم (٢) بشيء لأحد من خبر بسبب القرائن الداخلة ، ولآخر بنقيضه ، فهو جائز الوقوع ، لكنّ ذلك كاشف عن الخطأ في دعوى العلم ، ونظيره في البراهين غير محصور.

وعن الثالث : إن أراد ما لو حصل العلم به (٣) للمخالف بالاجتهاد أيضا ، فلا ريب أنّ المخالف له مخطئ جزما ، ودعوى الإجماع على خلافه باطل قطعا.

وإن أراد ما لو لم يحصل العلم به (٤) للمخالف ، فهو كما ذكره من جواز المخالفة ، ولا غائلة فيه ، إذ ربّما (٥) يحصل لأحد العلم بشيء ولا يحصل لآخر ،

__________________

(١) بحصول العلم المطابق الواقعي من كل منهما.

(٢) المطابق.

(٣) أي بالخبر.

(٤) المطابق من الخبر.

(٥) علّة لكلا الجوابين الشق الأوّل للأوّل والثاني للثاني أو للجواب الثاني باعتبار الشق ـ

٣٩٨

وكلّ مكلّف بما حصل له. والظاهر أنّ الدليلين الأخيرين في مقابل من يقول بالاطّراد.

وأمّا الخبر المحفوف بالقرائن الخارجة ، فالأظهر فيه أنّه قد يفيد القطع ، وذهب قوم إلى المنع (١).

لنا : أنّه لو أخبر ملك بموت ولد له مشرف على الموت ، وانضمّ إليه القرائن من صراخ وجنازة وخروج المخدّرات على حالة منكرة غير معتادة من دون موت مثله ، وكذلك الملك وأكابر مملكته ، فإنّه يحصل بذلك العلم بصحّة الخبر ويعلم به موت الولد وجدانا ضروريا لا يعتريه شكّ وريب ، بل وقد يحصل من دون ذلك.

وأمّا ما أورد عليه من الشّكوك ومنع العلم ، إذ لعلّه غشي عليه فأفاق أو مات ولد آخر له فجأة واعتقده المخبر أنّه المشرف على الموت.

ففيه : أنّها احتمالات عقلية لا تنافي العلوم العادية ، مع أنّا نفرض الواقعة بحيث لا يبقى هذه الاحتمالات. وكذلك ما قيل : إنّ ذلك العلم لعلّه من جهة القرائن من دون مدخليّة الخبر ، كالعلم بخجل ووجل الوجل ، وارتضاع الطفل اللّبن من الثدي ونحوها ، فإنّ القرينة قد تستقلّ بإفادة العلم.

مدفوع : بأنّه حصل بالخبر بضميمة القرائن ، إذ لو لا الخبر لجوّز موت شخص آخر.

__________________

ـ الأخير ، وعلى هذا يكون أصل التعليل هو قوله : ولا يحصل. هذا ما أفاده في الحاشية.

(١) وقوله : وذهب قوم الى المنع ، وكأنّه المشهور بين القدماء من العامة كما يظهر من «النهاية» ، حيث نسبوا القول بنعم الى النظّام والجويني والغزالي ، راجع «المعالم» ص ١٤٠ ، و «المستصفى» ١ / ١٤٢ ، ثم قال : وأنكره الباقون ، وعن الحاجبيين نسبة الإنكار الى الأكثر.

٣٩٩

والحقّ ، أنّ إمكان حصول العلم بديهيّ لا يقبل التشكيك.

واحتجّ المنكرون بالوجوه الثلاثة المتقدّمة (١).

والجواب عنها يظهر ممّا ذكرنا ثمّة ، فلا نعيدها.

ثمّ إنّ بعضهم ذكر أنّ الخبر المحفوف بالقرائن القطعيّة لم يقع في الشرعيّات.

أقول : إمكان حصوله للحاضرين المستمعين من الصّحابة والتابعين والمقاربين عهد الأئمّة عليهم‌السلام ممّا لا يمكن إنكاره ، وكذلك المحفوف بالقرائن الداخلة.

وأمّا في أمثال زماننا ، فلم نقف عليه في أخبارنا ، وما ذكره بعض أصحابنا كالشيخ رحمه‌الله في أوّل «استبصاره» (٢) من القرائن المفيدة للقطع مثل موافقة الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، فهو ليس ممّا يفيد القطع ، إذ غاية الأمر موافقة الخبر لأحد المذكورات ، وهو لا يفيد قطعيّة صدوره ولا دلالته. ولو فرض كون مضمونه قطعيّا بسبب أخذ من تلك القرائن ، فهو الخبر المقرون بالقرينة الدالّة على صحّة مضمون الخبر ، لا صحّة نفس الخبر. وموضوع المسألة إنّما هو الثاني لا الأوّل ، فأخبارنا اليوم كلّها ظنّية إلّا ما ندر ، ومخالفة الأخباريين في ذلك ودعواهم قطعيّتها ممّا لا يصغى إليه. ولعلّنا نتكلّم في ذلك بعض الكلام في باب الاجتهاد والتقليد.

__________________

(١) في خبر العدل الخالي عن القرائن الخارجية.

(٢) في مقدّمته كان قد عقد بحثا في أقسام الحديث ومحامله.

٤٠٠