القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

عن المعصوم عليه‌السلام ، فإمّا يتّكل على عدالة الأصل ، أو التثبّت الحاصل له المفيد لصدقه.

ودعوى أنّ الإسناد لا بدّ أن يكون من جهة حصول العلم به في غاية البعد كما هو الغالب في الأخبار ، فالإنصاف أنّ ذلك لا يخلو عن قوّة ، سيّما في غير المواعظ والمندوبات والمقامات الخطابية ، فإنّ العدل لا ينسب إلى المعصوم عليه‌السلام في مقام بيان الأحكام إلّا ما حصل له الظنّ بالصدق ، إمّا من جهة العدالة أو التثبّت وكلاهما يفيد الظنّ.

واحتجّ النافي مطلقا : بما مرّت الإشارة إليه ، من أنّ شرط قبول الرّواية معرفة عدالة الرّاوي ، ولم يثبت لعدم دلالة رواية العدل عليه كما مرّ ، وإن كان مثل ابن أبي عمير أيضا. فإنّ عدالة الواسطة إن ثبت بإخباره ، فهو شهادة منه على عدالة مجهول العين ، وإن علم ذلك من استقراء مراسيله والاطّلاع عن خارج على أنّه لا يروي إلّا عن ثقة ، فهو في معنى الإسناد ، ولا نزاع فيه ، ويظهر الجواب عنه ممّا مرّ (١).

واحتجّ الشيخ لما ذكره (٢) أخيرا : بعمل الطائفة على المراسيل مطلقا إذا لم يعارضها من المسانيد الصحيحة ، فإن أراد الإجماع ، فلم يثبت ، وإلّا فلا حجّة فيه على الإطلاق(٣).

__________________

(١) من أنّ المقصود ليس ثبوت العدالة بل حصول خبر معتمد يعمل به وهو حاصل هنا لكونه من باب التثبت الإجمالي كما مرّ. هذا كما في الحاشية.

(٢) فيما لم يكن الرّاوي ممّن لا يروي إلّا عن ثقة كما عرفت من قبل.

(٣) على عملهم بالمراسيل مطلقا. راجع «العدة» ص ١٥٤.

٥٢١

قانون

لا خلاف بين أصحابنا ظاهرا في جواز نقل الحديث بالمعنى، وذهب بعض العامّة إلى المنع عنه مطلقا (١) ، وبعضهم في غير المرادف.

وشرط الجواز هو كون الناقل عارفا بمعاني الألفاظ بوضعها ، وبالقرائن الدالّة على خلافه ، وأن لا يقصر الترجمة عن إفادة المراد ، وإن اقتصر على نقل بعضه فلا يضرّ إذا لم يكن مخلّا بما ذكر (٢). وأن يكون مساويا له في الخفاء والجلاء.

وعلّله بعضهم (٣) بأنّ الخطاب الشرعيّ تارة يكون بالمحكم ، وتارة بالمتشابه ، لحكم وأسرار لا يصل إليها عقول البشر وهو (٤) غير واضح ، إذ المتشابه إذا اقترن بقرينة تدلّ السامع على المراد ، فلا يضرّ نقله بالمعنى ، فإنّه ليس بمتشابه عند السامع ، بل هو كأحد الظواهر ، فلا يضرّ تغييره.

وإن لم يقترن بقرينة فحمله على أحد المعاني المحتملة من دون علم من جانب الشارع ، باطل ، ولا معنى لاشتراط المساواة في الخفاء والجلاء حينئذ ، بل

__________________

(١) وحتى بالمرادف وغير المرادف ، قال الغزالي في «المستصفى» ص ١٦٦ : نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ ، أمّا العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والأظهر والعام والأعم فقد جوّز له الشافعي ومالك وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء ان ينقله على المعنى إذا فهمه ، وقال فريق : لا يجوز له إلّا إبدال اللفظ بما يرادفه ويساويه في المعنى ، كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة ...

(٢) من افادة المراد أو بما نقله من نفس اللّفظ.

(٣) وهو العميدي حيث علّل الشرط الأخير.

(٤) اي هذا التعليل وهذا الشرط هذا كما أفاد في الحاشية.

٥٢٢

الشّرطان السّابقان يكفيان مئونة ذلك.

نعم ، لو أريد مثل ما لو نقل غير السّامع من الرّواة الوسائط وأدّاه ، بمعنى أدّى إليه اجتهاده بملاحظة سائر الأخبار والأدلّة ، فهو كذلك (١) ، إذ ربّما كانت الرّواية في الأصل متشابهة بالنسبة إلى السّامع أيضا ، والحكمة اقتضت ذلك أو الحكمة اقتضت أن يوصل إلى المراد بالاجتهاد والفحص ، فحينئذ فلا بدّ للناقل من ذكر اللّفظ المتشابه وتعقيبه بالتفسير الذي فهمه.

وهذا ليس من باب النقل بالمعنى ، بل هو مسألة أخرى ذكروها بعنوان آخر وسنشير إليها (٢) ، اللهمّ إلّا أن يكون المراد أنّه لو أدّى المعصوم المطلوب بلفظ متشابه بالذّات ، مبيّن للسامع بانضمام القرائن فيجب على الناقل ذكر هذا اللفظ المتشابه ، وإن عقّبه ببيان ما قارنه بالعرض من القرينة المبيّنة له بانضمام أحوال التحاور والتخاطب بناء على الفرق بين أقسام الدلالات ، مثل ما لو حصل من المشترك مع القرينة أو من اللّفظ الآحادي المعنى.

ويظهر من ذلك أنّه ينبغي مراعاة النصّ والظاهر أيضا ، بل وأقسام الظواهر ، إذ في عدم مراعاة ذلك يحصل الاختلاف في مدلول الأخبار في غاية الكثرة.

فإذا ذكر الإمام عليه‌السلام لفظ القرء في بيان العدّة وفهم الرّاوي بقرينة المقام الطهر مثلا ، فلا يروي الحديث بلفظ الطهر ، إذ ربّما كان فهم الرّاوي خطأ لاشتباه القرينة عليه.

فلو أراد بيان ذلك ، فليذكر لفظ القرء ثمّ يفسّره بما فهمه. وكذا في النصّ والظاهر ، مثلا إذا قال الإمام عليه‌السلام : لو بقي من اليوم بمقدار صلاة العصر ؛ فهو مختصّ

__________________

(١) لا بد من ملاحظة الخفاء والجلاء.

(٢) وذلك في آخر هذا القانون في بيان حال الرّاوي المخاطب إذا ذكر المتشابه ثم فسّره.

٥٢٣

به ، فنقله الرّاوي بقوله : إذا بقي من اليوم بمقدار أربع ركعات العصر ؛ فهو مختصّ به ، مريدا به صلاة العصر أيضا ، إذ يتفاوت الأمر بين اللّفظين بملاحظة شمول صلاة العصر لركعتي المسافر وأقلّ منه كصلاة الخوف وأمثال ذلك ، وكذلك في صلاة العشاء ونصف الليل.

ومن أجل ذلك الفرق أفردت في هذه المسألة من الأصحاب في جواز الإتيان بصلاة المغرب والعشاء كليهما إذا بقي من نصف الليل بمقدار أربع ركعات فإنّهم يخصّونه بالعشاء ، وأنا أجمع بينهما لما استفاض من النقل الصحيح أنّ : «من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت» (١) فيصدق على هذا أنّه يدرك وقت الصلاتين وإن لم يدرك وقت الثلاث والأربع.

وبالجملة ، فلا بدّ لناقل الحديث بالمعنى من ملاحظة العنوانات المتعاورة (٢) على مصداق واحد مع اختلاف الحكم باختلافها ، وملاحظة تفاوت الأحكام بتفاوت العنوانات أهمّ شيء للمجتهد في المسائل الشرعية ، فبأدنى غفلة يختلّ الأمر ويحصل الاشتباه.

هذا ، وأمّا ضبط مراتب الوضوح والخفاء بالنسبة إلى مؤدّى الألفاظ فهو ممّا يصعب إثبات اشتراطه ، إذ الظاهر أنّ المعصوم عليه‌السلام إنّما يقصد من الإخبار غالبا تفهيم المخاطب ورفع حاجته في الموارد الخاصّة المحتاج إليها بحسب اتّفاق الوقائع التي دعتهم إلى السّؤال عنه عليه‌السلام أو علم المعصوم عليه‌السلام احتياجهم إليها ،

__________________

(١) عن محمّد بن مكي الشهيد في «الذكرى» قال : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. كما في «الوسائل» ح ٤٩٦٣ باب ٣٠ ح ٥.

(٢) أي المتداولة.

٥٢٤

فهم عليهم‌السلام يكلّمون أصحابهم بقدر فهمهم لا إنّهم يتكلّمون على معيار خاصّ يكون هو المرجع والمعوّل حتّى يعتبر في نقله للآخر ذلك المقدار ، بل الناقل للغير أيضا لا بدّ أن يلاحظ مقدار فهم مخاطبه لا كلّ مخاطب ، وهكذا ، فنقل المطلوب بعبارة أوجز إذا كان المخاطب ألمعيا فطنا ذكيّا ، لا مانع منه ، وكذلك نقله أبسط وأوضح إذا كان بليدا غبيّا.

وكيف كان ، فالحقّ جواز نقل الحديث بالمعنى مع الشّرائط المذكورة.

لنا : أنّ ذلك هو الطريقة المعهودة في العرف والعادة من لدن آدم عليه‌السلام إلى زماننا هذا ، والشارع عليه‌السلام أيضا بناؤه في المحاورات على طريقة العرف والعادة ، فإنّ المقصود في العرف والعادة ، هو إفهام المراد من دون اعتبار خصوصية لفظ وأنّه مرسل بلسان قومه (١) ، ومن ذلك نقل الرّاوي إلى العجميّ باللّسان العجميّة ، وكذا الناقل من المجتهد إلى أهله وعياله.

والأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام منها : ما رواه محمّد بن مسلم في الصحيح قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص. قال : إن كنت تريد معانيه فلا بأس» (٢).

والظاهر أنّ المراد من الزيادة والنقصان ما لا مدخليّة له في تغيير المراد بقرينة جلالة شأن الرّاوي وجواب الإمام عليه‌السلام.

وقوله عليه‌السلام : إن كنت تريد معانيه ، يعني إن لم تقصد نسبة اللّفظ إلينا ، فإنّه كذب.

__________________

(١) قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ.) سورة إبراهيم ٤.

(٢) كما رواه محمد بن يعقوب في «أصول الكافي» ج ١ باب ١٧ رواية الكتب والحديث ح ٣.

٥٢٥

ولا يخفى أنّ أفراد العامّ كلّها من مدلولات العامّ وكذلك لوازم المفهوم ، فيصدق أنّ الكلّ معاني اللّفظ ، فإذا أراد أن ينقل عن الإمام عليه‌السلام أنّه قال : اتّقوا الله ، مثلا ، فيقول : قال الإمام عليه‌السلام : خافوا من الله واجتنبوا عمّا نهاكم الله عنه من الشّرك والفسق وشرب الخمر والزّنا ، إلى غير ذلك ، وواظبوا على ما أوجبه عليكم من إقامة الصلاة وإيتاء الزّكاة ونحو ذلك ، فيصدق على ذلك أنّه نقل لمعاني كلام الإمام عليه‌السلام ، بل وكذلك أيضا لو كان ممّا دلّ عليه بالإشارة أيضا : مع إشكال فيه لحصول الغفلة ووجود الثمرة بين الخطابات الأصليّة والتبعيّة كما أشرنا سابقا.

ويدلّ على المختار (١) أيضا : أنّه تعالى قصّ القصّة الواحدة بعبارات مختلفة ، ومن المعلوم أنّها وقعت بغير العربيّة أو بعبارة واحدة منها ، بل يمكن أن يقال : لم يقع بإحدى تلك العبارات ، لأنّ هذا الكلام على هذا الطّور الغريب والأسلوب العجيب ، منحصر في القرآن الذي هو منزل على سبيل الإعجاز ، فتأمّل.

ويظهر جواز ذلك لمن تتبّع الآثار والأخبار ، فإنّ تتبّعها يفيد أنّ ذلك كان طريقة أصحاب النبيّ وآله صلوات الله عليهم أجمعين.

واحتجّ المنكر : بأنّ ذلك يوجب اختلال المقصود واستحالة المعنى ، سيّما مع كثرة الطبقات وتطاول الأزمنة وتغيير كلّ منهم اللّفظ لاختلاف أهل اللّسان ، بل العلماء في فهم الألفاظ واستنباط المقصود.

وفيه : أنّ بعد ما ذكرنا من الشروط (٢) ، لا وقع لهذا الاحتجاج ، سيّما وذلك

__________________

(١) وهو جواز النقل بالمعنى.

(٢) الشروط تصبح كفيلة بمراعاتها لعدم الاختلال بالمقصود واستحالة المعنى رغم كثرة الطبقات وتطاول الأزمنة.

٥٢٦

معارض بما مرّ من الأدلّة ، فلو فرض الاشتباه والغفلة مع ذلك ، فهو معفوّ ، مع أنّ اعتبار النقل باللفظ في الجميع يقرب من المحال ، بل هو محال عادة.

نعم يتمّ في مثل الأدعية التي اعتبر فيها الألفاظ المخصوصة ، وطريقتهم في ذلك غالبا أنّهم كانوا يملون على أصحابهم وهم يكتبون ، ولذلك ندر الاختلاف فيها ، بخلاف الأخبار ، وبقوله عليه‌السلام : «نصر الله من سمع مقالتي فرعاها [فوعاها] ثمّ أدّاها كما سمعها ، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (١). وأداؤه كما سمعه إنّما يتحقّق بنقل اللّفظ المسموع.

وفيه : منع الصحّة أوّلا ، ومنع الدلالة على الوجوب ثانيا كما لا يخفى ، ومنع الدلالة على وجوب التأدية بلفظه ثالثا ، لصدق التأدية كما سمعه عرفا بمجرّد أداء المعنى كما هو.

مع أنّ الظاهر أنّ هذا الحديث واحد وقد اختلف ألفاظه ، ففي رواية كما ذكر ، وفي أخرى : نضّر الله ، بالضاد المعجمة ، وفي أخرى : رحم الله ، وفي رواية : إلى من لا فقه له. فهذا الحديث لنا (٢) لا علينا ، إلّا أن يمنع الظّهور ويتمسّك بأصالة عدم التغيير ، وهو معارض بأصالة عدم التعدّد.

__________________

(١) كما في «الكافي» في أكثر من مرّة مع فرق باللّفظ وجيز ، وأورد هذا الحديث الثاني في «الرّعاية» وجاء في كثير من مصادر العامة ك «سنن ابن ماجة» ١ / ٨٤ و «الترمذي» ٥ / ٣٤ و «أبي داود» ٣ / ٣٢٢ و ٣ / ٤٣٨ ، غير أنّ الشيخ الممقاني ردّه بمنع صحة السّند وباضطراب المتن كما ذكر المصنّف. وأيضا لمعارضتها مما هو أقوى منها سندا ودلالة راجع «مقباس الهداية» ص ١٩٣ ـ ١٩٤ ، وكتاب «توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار» للصنعاني ٢ / ٤٠١ ، مع تعليقات محي الدين عبد الحميد.

(٢) لأنّه يدل على النقل بالمعنى.

٥٢٧

وأمّا المفصّل : فيظهر ضعف قوله ممّا تقدّم.

بقي الكلام فيما وعدنا ذكره (١) ، وهو أنّ الرّاوي الثقة إذا روى مجملا وفسّره بأحد محامله ، فالأكثر على لزوم حمله عليه ، بخلاف ما لو روى ظاهرا وحمله على خلاف الظّاهر ، لأنّ فهم الرّاوي الثقة قرينة وليس له معارض من جهة اللّفظ لعدم دلالة المجمل على شيء ، بخلاف الثاني ، فإنّ فهمه معارض بالظاهر الذي هو حجّة.

أقول : وكما أنّ مقتضى الظّاهر العمل عليه ، فمقتضى المجمل السّكوت عنه ولا يتفاوت الحال ، مع أنّ الظّاهر إنّما يعتبر ، لأنّ الظّاهر أنّه هو الظّاهر عند المخاطب بالحديث ، لا لظهوره عندنا ، لأنّ الخطاب مختصّ بالمشافهين كما بيّناه في محلّه ، فإذا ذكر المخاطب به أنّ مراده هو ما هو خلاف الظّاهر ، فالظّاهر اعتباره (٢) غاية الأمر التوقّف.

وأمّا تقديم الظّاهر ، فلا.

وبالجملة ، فالمعيار هو حصول الظنّ.

__________________

(١) عند الاشكال على اشتراط المساواة في الخفاء والجلاء كما ذكر عند النقل بالمعنى من أن ذكر اللفظ المجمل المتشابه وتعقيبه بالتفسير الذي فهمه الرّاوي ، يسمى نقلا بالمعنى ، وانّ ذلك عنوان مسألة اخرى وسنشير الى ما ذكر.

(٢) اعتبار قوله.

٥٢٨

خاتمة :

فيها مباحث :

الأوّل :

اصطلح المتأخّرون من أصحابنا بتنويع خبر الواحد باعتبار اختلاف أحوال رواته

في الاتّصاف بالإيمان والعدالة والضبط وعدمها (١) ، بأنواع أربعة :

الأوّل : الصحيح ، وهو ما كان جميع سلسلة سنده إماميّين ممدوحين بالتوثيق مع الاتّصال (٢) ، ولا يضرّه الشذوذ وإن سقط عن الحجّية ، خلافا لبعض العامّة حيث اعتبر في وصفه بالصحّة عدم الشذوذ وعدم كونه معلّلا (٣) ، يعني مشتملا على علّة خفيّة في متنه أو سنده لا يطّلع عليها إلّا الماهر ، كالإرسال فيما ظاهره الاتّصال أو مخالفته لصريح العقل (٤) أو الحسّ.

واعتبار عدم كونه معلّلا أيضا مستغنى عنه ، إذ ما ظهر كونه منقطعا أو ما شكّ فيه ، فلا يصحّ الحكم بأنّه متّصل السند إلى المعصوم عليهم‌السلام بالإمامي العدل الثقة ، فإنّ ظاهر هذا التعريف هو ما حصل اليقين بذلك أو ما ترجّح في النظر كونه كذلك.

فالمعلّل أعني ما حصل الشكّ في ذلك ، خارج عن التعريف ، فوصف بعضهم مثل ذلك بالصحّة مع ظهور كونه معلّلا عند آخر مبنيّ على غفلة الواصف وخطأه

__________________

(١) بعدم هذه الأمور المتصفة.

(٢) وذلك بعدم سقوط شيء من السند مع الاتصال بالمعصوم عليهم‌السلام.

(٣) فقد عرّفوا الحديث الصحيح كما في «اختصار علوم الحديث» لابن كثير بأنّه : الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط حتى ينتهي الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله او الى منتهاه من صحابي أو من دونه ولا يكون شاذا ولا معلّلا.

(٤) وكذلك نقل في «الفصول» ص ٣٠٩.

٥٢٩

في اجتهاده ، وترجيحه انّه غير معلّل.

وأمّا عيب المتن فلا مدخليّة له بهذا الاصطلاح.

الثاني : الحسن ، وهو ما كانوا إماميّين ممدوحين بغير التوثيق ، كلّا أو بعضا ، مع توثيق الباقي.

الثالث : الموثّق ، وهو ما كان كلّهم أو بعضهم غير إماميّ مع توثيق الكلّ ، وقد يسمّى بالقويّ أيضا.

وقد يطلق القويّ على ما كان رجاله إماميّين مسكوتا عن مدحهم وذمّهم ، كنوح بن درّاج (١) وأحمد بن عبد الله بن جعفر الحميري (٢) وغيرهما.

وأمّا لو كان رجال السّند منحصرا في الإماميّ الممدوح بدون التوثيق ، وغير الإماميّ الموثّق ، ففي لحوقه بأيّهما خلاف يرجع إلى الترجيح بين الموثّق والحسن ، لأنّ السند يتبع في التوصيف أخسّ رجاله ، كالنتيجة تتبع أخصّ مقدّمتيها. والأظهر كون الموثّق أقوى ، فيتّصف بالحسن.

نعم قد يصير الحسن أقوى بسبب خصوص المدح في خصوص الرّجل ، وهو لا يوجب ترجيح ماهيّته.

ثمّ إنّه قد يطلق الصحيح مضافا إلى راو معيّن على خبر كان سنده إلى هذا الرجل متّصفا بصفات رجال الصحيح وإن لحقه بعد ذلك ضعف وإرسال ، مثل أن

__________________

(١) أخو جميل بن درّاج كان قاضيا في الكوفة نقل السيّد الخوئي في «رجاله» بأنّ الرّجل شيعي صحيح الاعتقاد وكان يفتي ويقضي بالحق ولكنّه مع ذلك فقد عده الشيخ في «عدته» من العامة. ولكن الطائفة عملت بروايته ان لم تعارضها رواية اخرى من طرقنا.

(٢) كان له مكاتبة كما ذكره النجاشي في ترجمة محمّد بن عبد الله بن جعفر حيث قال : وكان له أخوة جعفر والحسين وأحمد كلّهم كان له مكاتبة.

٥٣٠

يقال : يدلّ على ذلك صحيحة ابن أبي عمير عن رجل عن الصادق عليه‌السلام. ولا ريب أنّ ذلك ليس من الصحيح المصطلح الذي هو حجّة بنفسه ، بل هو غفلة أو اصطلاح لإعلام تصحيح السّند إلى الرجل المعيّن.

وأمّا قولهم : أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن عبد الله بن بكير مثلا (١) ، فهو ليس من هذا القبيل ، كما توهّم (٢) ، من وجهين :

__________________

(١) وقد نقل هذا الاجماع محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشي. نقله في ثمانية عشر رجلا وقيل : أنّه في ستة منهم نقل الاجماع على تصديق ما يصح عنهم ، ومنهم من لم يفرّق بين التصديق والتصحيح فحكي عنه في الجميع إجماع العصابة. وأما هؤلاء الثمانية عشر فهم : زرارة بن أعين وبريد العجلي ومحمد بن مسلم وابو بصير المرادي ليث بن البختري وفضيل بن يسار ومعروف بن خرّبوذ وجميل بن درّاج وأبان بن عثمان وعبد الله بن مسكان وعبد الله بن المغيرة وحمّاد بن عثمان وحمّاد بن عيسى وصفوان بن يحيى ويونس بن عبد الرحمن والحسن بن محبوب ومحمد بن أبي عمير وعبد الله بن بكير وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي. وفي منظومة السيد بحر العلوم الطباطبائي : قد أجمع الكل على تصحيح ما يصح عن جماعة ، فليعلما وهم أولوا نجابة ورفعة ، أربعة وخمسة وتسعة ، فالستة الأولى من الأمجاد ، أربعة منهم من الأوتاد ، زرارة كذا بريد قد اتى ، ثم محمد وليث يا فتى ، كذا فضيل بعده معروف وهو الذي ما بيننا معروف ، والستة الوسطى أولوا الفضائل ، رتبتهم أدنى من الأوائل ، جميل الجميل مع أبان ، والعبد لان ثم حمّادان ، والستة الاخرى هم صفوان ، ويونس عليهما الرضوان ، ثم ابن محبوب كذا محمد ، كذاك عبد الله ثم أحمد ، وما ذكرناه الأصح عندنا ، وشذّ من به خالفنا. وهذه اشارة الى من خالف فزاد فضالة بن أيوب ليصيروا تسعة عشر. وقيل : إنّهم أحد وعشرون ، وقيل : اثنان وعشرون ، وهناك من ذكر مكان ابي بصير المرادي أبي بصير الأسدي ، ومكان ابن محبوب الحسن بن علي بن فضال أو عثمان بن عيسى مكان فضالة بن ايوب.

(٢) وهو صاحب «الرياض» وبعض فضلا عصره على ما حكي.

٥٣١

أحدهما : أنّه ليس المراد فيه الصحّة المصطلحة.

والثاني : أنّه أريد منه بيان الوثوق بما قبل عبد الله بن بكير أيضا ، وقد يطلق (١) على جملة محذوفة من السند للاختصار ، جامعة لأوصاف رجال صحيح السند ، مثل أن يقال : روى الشيخ في الصحيح عن فلان ، وإن لم يكن الفلان ولا ما قبله متّصفا بها.

ويثمر ذلك في الأغلب فيما كان الفلان ممّن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم ، ونحو ذلك ممّا يدلّ على اعتبار ذلك الحديث بسبب روايته. والاصطلاحان المذكوران يجريان في القسمين (٢) الآخرين أيضا.

الرابع : الضعيف ، وهو ما لم يجتمع فيه شرائط أحد الثلاثة. وقد عرفت ممّا سبق كون الصحيح والموثّق حجّة ، وكذلك الحسن إذا أفاد مدحه التثبّت الإجمالي.

وأمّا الضعيف فلا حجّة فيه إلّا إذا اشتهر العمل به ، وحينئذ يسمّى مقبولا ، وهو حجّة حينئذ سيّما إذا كان الاشتهار بين قدماء الأصحاب.

نعم ، يجوز الاستدلال به في المندوبات والمكروهات ، للأخبار المستفيضة المعتبرة (٣) ، جملة منها الدالّة على أنّ : «من بلغه ثواب على عمل ففعله التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه». رواها العامّة والخاصّة وغيرها من الأدلّة ، وقد بيّناها وحقّقناها في كتاب «مناهج الأحكام» وغيره.

ثمّ إنّ نسبة هذا الاصطلاح إلى المتأخّرين ، لأنّ قدماء الأصحاب لم يكن ذلك

__________________

(١) اي الصحيح.

(٢) الحسن والموثّق.

(٣) كما في «الكافي» و «الوافي» وقد ذكر في «الوسائل» تسعة احاديث في ذلك كما في كتاب الطهارة باب ١٨ ج ١.

٥٣٢

معروفا بينهم ، بل كانوا يطلقون الصحيح على كلّ حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه ، مثل وجوده في كثير من الأصول الأربعمائة ، أو تكرّره في أصل أو أصلين فصاعدا بطرق متعدّدة ، أو وجوده في أصل أحد من الجماعة الّذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم كصفوان بن يحيى وأحمد بن أبي نصر ويونس بن عبد الرحمن (١) ، أو على تصديقهم كزرارة ومحمّد بن مسلم وفضيل بن يسار ، أو على العمل بروايتهم كعمّار السّاباطي ونظرائه ممّن عدّه الشيخ في كتاب «العدّة» ، أو وقوعه في أحد الكتب المعروضة على الأئمّة عليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ككتاب عبد الله الحلبي (٢) المعروض على الصادق عليه‌السلام وكتاب يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكري عليه‌السلام (٣) أو كونه

__________________

(١) في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ذكر الكشي وقالوا : وافقه الستة زرارة ، وفي تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ذكر قالوا : وزعم ابو اسحاق الفقيه ـ وهو ثعلبة ابن ميمون ـ إنّ أفقه هؤلاء جميل بن درّاج. وفي تسمية الفقهاء من أصحاب أبي ابراهيم وأبي الحسن الرضا عليهما‌السلام وافقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى.

(٢) او عبيد الله كما في ترجمته قال الشيخ : له كتاب مصنّف معمول (معوّل) عليه ، وقيل إنه عرض على الصادق عليه‌السلام ، فلما راه استحسنه وقال : ليس لهؤلاء ـ يعني المخالفين ـ مثله.

(٣) في رواية داود بن القاسم أنّ أبا جعفر الجعفري قال : أدخلت كتاب يوم وليلة الذي الّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري عليه‌السلام فنظر فيه وتصفّحه كلّه ، ثم قال : هذا ديني ودين آبائي وهو الحق كلّه. كما روى الكشي عن الملقب بخورا من أهل نيسابور : أنّ أبا محمد الفضل بن شاذان كان وجّهه الى العراق فذكر انّه دخل على أبي محمد العسكري عليه‌السلام ، فلما أراد أن يخرج سقط عنه كتاب وكان من تصنيف الفضل فتناوله ابو محمد ونظر فيه فترحّم عليه.

٥٣٣

مأخوذا عن أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، ككتاب الصلاة لحريز بن عبد الله السّجستاني ، وكتب بني سعيد (١) ، وعلي بن مهزيار ، وكتاب حفص بن غياث القاضي وأمثالها (٢).

وعلى هذا الاصطلاح جرى ابن بابويه في «من لا يحضره الفقيه» فحكم بصحّة ما أورده فيه مع عدم كون المجموع صحيحا باصطلاح المتأخّرين ، وقد أشار إلى هذه الطريقة القدماء وبيّنها شيخنا البهائي رحمه‌الله في «مشرق الشمسين» (٣) ، ثمّ قال ما حاصله : إنّ الباعث للمتأخّرين على عدولهم عن طريقة القدماء ووضع هذا الاصطلاح ، هو تطاول الأزمنة بينهم وبين صدر السّالف واندراس بعض الأصول المعتمدة (٤) لتسلّط الظلمة والجابرين من أهل الضلال والخوف من إظهارها وانتساخها ، وانضمّ إلى ذلك اجتماع ما وصل إليهم من الأصول في الكتب المشهورة في هذا الزّمان ، فالتبست المأخوذة من الأصول المعتمدة بغيرها ،

__________________

(١) لكل من ابني سعيد الحسن والحسين الأهوازيين ثلاثة وثلاثون كتابا. وكذلك لعلي بن مهزيار الأهوازي ، وله زيادة كتاب حروف القرآن ، كتاب القائم ، كتاب البشارات ، كتاب الأنبياء ، كتاب النوادر ، رسائل علي بن أسباط.

(٢) كتاب الحسين بن عبيد الله السعدي وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري.

(٣) في مقدمة الكتاب ص ٣٠.

(٤) بل وكثيرها أو أكثرها قال الشهيد في الذكرى : انّ أبا عبد الله عليه‌السلام كتب في جواب مسائله أربعمائة مصنّف لأربعمائة مصنّف ، ودوّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام ، وكذلك عن مولانا الباقر عليه‌السلام. هذا وذكر اندراس كتب محمد بن أبي عمير وسببه وقصص نصير الملّة والدين وجمعه للأصول وسبب زوالها مشهورة. ومن ذلك يعرف انّ الأحاديث كانت أضعافا كثيرة مما في أيدينا اليوم.

٥٣٤

واشتبهت المتكرّرة فيها بغير المتكرّرة وخفي عليهم كثير من القرائن ، فاحتاجوا إلى قانون يتميّز به الأحاديث المعتبرة عن غيرها فقرّروا هذا الاصطلاح وقال :أوّل من سلك هذا الطريق العلّامة (١).

أقول : ولا يتمّ ذلك إلّا بعد ملاحظة أنّ التوثيق والتعديل أيضا كان أحد القرائن الموجبة للاعتماد عند القدماء أيضا. والظّاهر أنّه كان كذلك ، كما يستفاد من طريقتهم في تعديل الرجال وتوثيقهم وأخبارهم المنقولة في الرجوع إلى الأعدل

__________________

(١) جمال الحق والدين الحسن بن المطهّر الحلي قدس الله روحه. ثم نلاحظ من خلال كتب الحديث كالتي هي للشيخ نجد أن تنويع الحديث الى الصحيح والحسن والموثّق كان شائعا في زمن الشيخ فكيف يكون العلّامة أوّل من سلك هذا الطريق.

فإنّ الشيخ في «الاستبصار» صرّح بأن عمّار الساباطي ضعيف لا يعمل بروايته وكذا صرّح فيه بضعف عبد الله بن بكير ، وقال في «التهذيب» بعد نقل خبري ابن بزيع حيث اشتمل أحدهما على زيادة دون الآخر : هذا الخبر ـ يعني الخالي عن تلك الزيادة ـ ضعيف. وأمثال ذلك في كتبه الاصولية والفروعية كثير. والذي يساعد على القول بأنّ هذا الاصطلاح كان معروفا شائعا بين قدمائنا ما يدلّ عليه ما في «الكافي» أيضا مثلا في باب النص على الأئمة الاثني عشر عليهم الصلاة والسلام في آخر حديث طويل ج ١ ص ٥٢٦. وحدثني محمد بن يحيى عن محمد بن الحسن الصفّار عن احمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبي هاشم مثله. قال محمّد بن يحيى : فقلت لمحمّد بن الحسن : يا أبا جعفر وددت أنّ هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله قال : فقال لقد حدّثني قبل الحيرة بعشر سنين فإنّ عدم قبول محمّد بن يحيى لهذا الخبر لأنّه جاء من جهة أحمد بن أبي عبد الله فهو ضعيف السند لتحيّره في المذهب. وإنّ قول محمد بن الحسن لقد حدثني قبل الحيرة ، كأنّه يريد أنّه صحيح السند لأني أخذته منه قبل تحيّره في المذهب ووقتئذ كان ثقة ، فالخبر صحيح السند.

وحاصل القول ان هذا الخبر ضعيف لضعف راويه وجوابه انّه صحيح لأنّه أخذه عنه حين كونه ثقة. وهذا ما لا ينطبق إلّا على ما عليه المتأخرون رحمهم‌الله.

٥٣٥

والأفقه وغيرهما.

فالظّاهر أنّ القدماء أيضا كانوا يعتبرون ذلك ، كما أنّ المتأخّرين أيضا قد يسلكون مسلك القدماء في التصحيح بسبب الاعتضاد بالقرائن أيضا ، فيطلقون الصحيح على ما ظهر لهم من القرائن الوثوق عليه ، ولكن ذلك نادر. والإطلاق في كلامهم محمول على مصطلحهم ، وذلك تجوّز منهم اعتمادا على القرائن ، أو غفلة.

والعمدة أنّهم قد يعتمدون على الحديث مع عدم التصريح بالعدالة وإن كان توصيفهم إيّاه بالصحّة مجازا على مصطلحهم ، فلا بدّ من التفطّن لتلك القرائن وعدم الاقتصار على الصحيح والحسن المصطلحين كما اقتصر بعض المتأخّرين من أصحابنا لحصول التثبّت الموجب لظنّ الصدق بغيرهما أيضا ، فمن أسباب الوثاقة وقرائنها ، ما نقلناه سابقا.

ومنها : قولهم : عين و : وجه.

فقيل : إنّهما يفيدان التوثيق ، وأقوى منهما : وجه من وجوه أصحابنا ، وأوجه منه : أوجه من فلان ، إذا كان المفضّل عليه ثقة.

ومنها : كون الرّاوي من مشايخ الإجازة ، فقيل : أنّه توثيق ، وقيل : أنّه في أعلى درجات الوثاقة ، وقيل : أنّ مشايخ الإجازة لا يحتاجون إلى التنصيص على تزكيتهم ، وربّما نسب كون ذلك توثيقا إلى كثير من المتأخّرين.

ومنها : كونه وكيلا لأحد من الأئمّة عليهم‌السلام لما قيل : انّهم لا يجعلون الفاسق وكيلا.

ومنها : رواية الأجلّاء عنه ، سيّما الّذين يردّون رواية الضعفاء والمراسيل كأحمد بن محمّد بن عيسى.

ومنها : أن يروي عنه الّذين قيل فيهم أنّهم لا يروون إلّا عن ثقة ، مثل صفوان بن يحيى والبزنطي وابن أبي عمير ، وذهب جماعة من المتأخّرين إلى أنّ ذلك من

٥٣٦

أمارات الوثاقة وقبول الرّواية ، ويقرب منهم عليّ بن الحسن الطاطري ، ومحمّد بن إسماعيل بن ميمون ، وجعفر بن بشير.

ومنها : اعتماد القمّيين عليه.

ومنها : وقوعه في سند حصل القدح فيه من غير جهة (١).

ومنها : وجود الرّواية في «الكافي» و «الفقيه» لما ذكرا في أوّلهما (٢) ، وما وجد في كليهما فأقوى ، وإذا انضمّ إليهما «التهذيب» و «الإستبصار» فأقوى ، وأقوى ، وهكذا.

ومنها : إكثار الكليني الرّواية عن رجل أو الفقيه.

ومنها : كونه معمولا به عند مثل السيّد وابن إدريس ، ممّن لا يجوّز العمل بخبر الواحد.

ومنها : قولهم : معتمد الكتاب ، وقولهم : ثقة في الحديث ، و : صحيح الحكايات.

ومنها : قولهم : سليم الجبنة ، إن أريد سليم الأحاديث ، وقيل : سليم الطريقة.

ومنها : قولهم فقيه من فقهائنا (٣) ، أو : فاضل ديّن ، أو : أصدق من فلان ، إذا كان

__________________

(١) وذلك مثل عبد الله بن حمّاد فإنّ المحقق في «المعتبر» نقل رواية يعقوب بن شعيب الحدّاد في كتاب الزّكاة في مسألة جواز إعطائه الزّكاة بغير المؤمنين وقال : إنّها نادرة وفي طريقها أبان بن عثمان وفيه ضعف ، مع ان في طريقها عبد الله بن حمّاد ولم يتعرّض له ، وكذلك ابراهيم بن اسحاق ولم يقدح في صحته أيضا ، وفي ذلك دلالة على حسنهما بل وثاقتهما سيما مع كون أبان جليلا من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، منه كما في الحاشية.

(٢) ففي «الكافي» : كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلّم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم‌السلام والسنن القائمة التي عليها العمل.

(٣) وفي كون هذه الصفة توثيقا اشكال.

٥٣٧

المفضّل عليه جليلا.

ومنها : توثيق ابن فضّال وابن عقدة (١) ، وربّما يعتمد على توثيق ابن نمير (٢) ومن ضارعه (٣) أيضا.

ومنها : رواية الثقة عن رهط ، أو عن غير واحد أو عن أشياخه.

ومنها : أن يذكره واحد من الأجلّاء مترحّما عليه أو مترضّيا.

ومنها : أن يقول الثقة : حدّثني الثقة.

ومنها : أن يروي محمّد بن أحمد بن يحيى عنه ، ولم يكن من جملة ما استثناه القمّيون ، وعن جماعة من المحقّقين أنّ فيه شهادة على العدالة والصحّة.

وكذلك استثناء محمّد بن عيسى عن رواة يونس بن عبد الرحمن ، ففيه شهادة على وثاقة غيره.

ومنها : قولهم : أسند عنه ، يعني سمع منه الحديث على وجه الإسناد ، إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه التوثيق أو الحسن ممّا هو مذكور في كتب الرّجال وغيرها في المواضع المتفرّقة ، ويمكن استنباطها للفقيه الماهر بالتتبّع في الموارد الخاصّة ، فاجعل المعيار حصول الظنّ ، وإن اكتفي بالتعديل الصريح في العمل بالأخبار يلزم خلوّ أكثر الأحكام عن الدليل ، ويلزم مخالفة طريقة جلّ العلماء ، سيّما على القول باشتراط العدلين في التزكية ، وقد أشرنا إلى معنى اشتراط العدالة ووجه الإجماع المنقول فيه.

__________________

(١) احمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الهمداني الكوفي.

(٢) يقال لعبد الله وابنه محمد وهما من علماء العامة. ومحمد أشهر من أبيه.

(٣) كابن حجر الشافعي وغيره ، منه رحمه‌الله كما في الحاشية.

٥٣٨

الثاني :

إنّهم ذكروا (١) للخبر أقساما أخر باعتبارات شتّى كلّها ترجع إلى الأقسام الأربعة ، بعضها مختصّ بالضعيف ، وبعضها مشترك بين الكلّ في الجملة ، وذكر تفصيلها وتعريفاتها وإن كان وظيفة علم الدّراية ، إلّا أنّا نذكر هنا أكثرها لتكثير الفائدة.

فمنها : المسند ، وهو ما اتّصل سنده إلى المعصوم عليهم‌السلام ، بأن لا يعرضه قطع بسقوط شيء منه.

ومنها : المتّصل ، ويسمّى الموصول ، وهو ما اتّصل إسناده بنقل كلّ راو عمّن فوقه ، سواء رفع إلى المعصوم عليه‌السلام كذلك أو وقف على غيره ، فهو أعمّ من الأوّل.

ومنها : المرفوع وهو ما أضيف إلى المعصوم عليه‌السلام (٢) من قول أو فعل أو تقرير ، سواء اعتراه قطع أو إرسال في سنده أم لا.

ومنها : المعلّق ، وهو ما حذف من أوّل إسناده واحد أو أكثر ، فإن علم المحذوف (٣) فهو كالمذكور ، وإلّا فهو كالمرسل.

__________________

(١) كالشهيد الثاني في كتابه «الرعاية في علم الدراية» ص ٩٦.

(٢) وعند العامة ما أضيف الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) كقول الشيخ في كتابيه والصدوق في «الفقيه» : محمد بن يعقوب ، أو أحمد بن محمّد ثم يذكر في آخر الكتاب طريقه الى كل واحد ممن ذكر في أوّل الاسناد مثل انّه قال الشيخ الطوسي في مشيخته في نهاية «التهذيب» ، فما ذكرناه في هذا الكتاب عن محمد بن يعقوب الكليني رحمه‌الله فقد أخبرنا به الشيخ ابو عبد الله محمد بن محمد النعمان رحمه‌الله عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه رحمه‌الله عن محمد بن يعقوب رحمه‌الله.

٥٣٩

ومنها : العالي الإسناد ، وهو القليل الوسائط (١).

ومنها المعنعن ، وهو ما يقال في سنده ، فلان عن فلان بدون ذكر التحديث والإخبار ، والأظهر أنّه متّصل كما عليه الأكثر إذا لم يظهر قرينة على عدم اللّقاء وأمن التدليس (٢).

ومنها : المدرّج (٣) ، وهو أن يدرج في الحديث كلام بعض الرّواة فيظنّ أنّه منه (٤).

ومنها : المشهور ، وهو الشّائع عند أهل الحديث ، بأن ينقله جماعة منهم.

ومنها : الشاذّ ، وهو ما رواه الثقة مخالفا لما رواه الأكثر ، فإن رواه غير الثقة فهو المنكر والمردود (٥).

ومنها : الغريب ، وهو إمّا غريب الإسناد والمتن ، بأن ينفرد بروايته واحد ، أو غريب الإسناد خاصّة ، كخبر يعرف متنه عن جماعة من الصّحابة مثلا إذا انفرد

__________________

(١) من قبيل ثلاثيّات الكليني وهي الأحاديث التي يكون عدد رواتها ثلاثة وقد وقع منه بهذا الاسناد مثل : على بن ابراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام. علما بأن الكليني توفي بعد شهادة الامام الصادق عليه‌السلام بمائة وثمانين عاما.

هذا وقد دوّن بعض القدماء الأحاديث العالية الإسناد وأشهرهم الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري وله كتاب «قرب الإسناد».

(٢) قال في «الرعاية» قد استعمله أكثر المحدثين مريدين به الاتّصال : وأكثرهم لا يقول بالمرسل ، وقال الحاكم لا يسمى مرسلا بل منقطعا كما في معرفة علوم الحديث والنووي يرى انّ عدّ المعنعن من قبيل المرسل مردود بإجماع السّلف كما في «شرح مسلم للنووي».

(٣) في «الرعاية» للشهيد الثاني ذكره المدرج بغير تشديد خلافا لما عليه هنا.

(٤) اي من الحديث.

(٥) لجمعه بين الشذوذ وعدم الثقة.

٥٤٠