القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

عن أكثر الشافعيّة (١) على ما نقل عنهم ، فحملوا اليد في آية التيمم على اليد في آية الوضوء فقيّدوها بالانتهاء الى المرفق لاتّحاد الموجب وهو الحدث ، وهو باطل لأنّه يرجع الى إثبات العلّة والعمل بالقياس.

وفيه : منع القياس أوّلا ، ومنع العلّة ثانيا.

والمختار وهو مختار الأكثرين سواء كانا أمرين أو نهيين أو مختلفين ، وسواء كان موجبهما ، أي علّة الحكم متّحدا أو مختلفا لعدم المقتضى للجمع وإمكان العمل بكلّ منهما رأسا ، إلّا فيما كان أحدهما مستلزما لعدم الآخر ، مثل أن يقال : إن ظاهرت فاعتق رقبة ، و : لا تملك رقبة كافرة ، فإنّ العتق والملك وإن كانا مختلفين لكنّ العتق موقوف على الملك ، فالعتق يستلزم الملك (٢) بل عدم الملك أيضا يستلزم عدم العتق فحينئذ يقيّد المطلق بعدم الكفر فلا يجوز عتق الكافرة ، بل ولا يصحّ أيضا (٣).

وأمّا على الثاني : فإمّا أن يتّحد موجبهما أو يختلف ، أمّا الأوّل فإمّا أن يكون الحكمان مثبتين أو منفيّين أو مختلفين ، فهذه أقسام ثلاثة :

الأوّل : مثل أن يقول : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، و : إن ظاهرت فأعتق رقبة

__________________

(١) وأنت خبير أنّهم لم يحملوا المطلق على المقيّد وليس بناؤهم على ذلك ، بل لأجل القياس والاستحسان.

(٢) أي قوله : فاعتق رقبة باطلاقه يدلّ على عتق أي رقبة ، والعتق يدلّ على الملكيّة فتملّك الكافرة ، فقوله هذا ينافي قوله : لا تملك رقبة الكافرة. فكذلك تلك الكافرة تدلّ على عدم عتقها ، فقوله هذا ينافي قوله : اعتق رقبة ، فكلّ واحد منهما يستلزم عدم الآخر فاللّازم حينئذ حمل المطلق على المقيّد.

(٣) قال في الحاشية : لمّا قالوا انّ العتق فيه جهة عبادة فيعتبر فيه قصد القربة ، فلا يمكن ذلك إذا كان المحل خبيثا كافرا.

١٨١

مؤمنة ، ولا خلاف بينهم في وجوب العمل بالمقيّد إمّا من باب البيان أو من باب النّسخ ، والمختار أنّه من باب البيان سواء تقدّم على المطلق أو تأخّر عنه ، ولكن بشرط عدم حضور وقت العمل إذا علم تقدّم المطلق فيكون ناسخا (١).

فها هنا مسألتان :

الأولى : وجوب حمل المطلق على المقيّد.

والثانية : كونه بيانا لا نسخا.

لنا على المقام الأوّل : نظير ما مرّ في حمل العامّ على الخاصّ لشيوع التقييد وشهرته ورجحانه وانفهامه في العرف ، فإنّه في الحقيقة أيضا نوع من التّخصيص كما سنشير إليه.

واحتجّ الأكثرون (٢) : بأنّه جمع بين الدليلين ، لأنّ العمل بالمقيّد يستلزم العمل بالمطلق دون العكس ، وهذا بنفسه لا يتمّ لإمكان الاعتراض بأنّ الجمع لا ينحصر في ذلك ، فلا بدّ من بيان المرجّح ولا يتمّ إلّا بما ذكرنا.

وأمّا سند هذا المنع (٣) ، فقد يقرّر بوجوه :

الأوّل : أنّه يمكن الجمع بينهما بحمل المقيّد على الاستحباب بمعنى حمل الأمر في قوله : أعتق رقبة مؤمنة مثلا على الاستحباب ، فيكون المؤمنة أفضل أفراد الواجب التخييري (٤).

__________________

(١) أي لو حضر وقت العمل يكون ناسخا.

(٢) كما عن «التهذيب» ص ١٥٤ و «القواعد» و «التمهيد» ص ٢٢٣ للشهيدين و «المحصول» ١ / ٦١٥ و «المختصر» وشرحه.

(٣) أي سند هذا الاعتراض من إمكان الجمع بوجه آخر.

(٤) هذا لصاحب «المعالم» ص ٣١٣ وتبعه فيه الفاضل المازندراني في شرح «الزّبدة».

١٨٢

والثاني : أن يحمل الأمر فيه على الواجب التخييري ـ بمعنى التخييري المصطلح لا التخييري المستفاد من العقل ـ فيما لو كان المأمور به كليّا قابلا لكثيرين ، فإنّه كان مستفادا من الأمر بالمطلق بانضمام حكم العقل أيضا.

وفيهما : أنّهما مرجوحان بالنسبة الى ما ذكرنا ، لما ذكرنا ، سيّما الأخير (١).

وقد يذبّ عنهما أيضا (٢) : بأنّ حمل الأمر على الاستحباب مجاز جزما ، وكذا حمله على التخيير ، بخلاف استعمال المطلق في المقيّد فإنّه ليس مجازا مطلقا ، بل له جهة حقيقة كما صرّحوا به.

وفيه : أنّه إن أريد بذلك مجرّد هذه الملاءمة لا كونه مستعملا فيه بعنوان الحقيقة فيما نحن فيه ، فله وجه.

وإن أريد انّه مستعمل في المقيّد فيما نحن فيه بعنوان الحقيقة في بعض الأحيان ، ففيه : أنّ هذا الاستعمال ليس إلّا الاستعمال المجازي لإرادة الخصوصيّة منه حينئذ وإن لم يتعيّن عند المخاطب.

نعم (٣) قد يمكن دعوى الحقيقة مع عدم التعيين عند المخاطب إذا أشعر المقام بتعيينه عند المتكلّم في مثل : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ،)(٤) وما نحن فيه

__________________

(١) يعني ما ذكر في سند المنع من الوجهين المذكورين ، كليهما مرجوحا بالنسبة الى ما ذكرنا من شيوع التقييد وشهرته ... الخ سيما الأخير من الوجهين المذكورين ، فإنّه أشد مرجوحيّة بالنسبة الى الوجه الأوّل. هذا كما في الحاشية.

(٢) وهذا للفاضل التوني كما في «الوافية» كما عن الحاشية ، ونقول في معناه : أنّه لمّا كان الوجهان المذكوران مخالفين لمذهب المشهور والمنصور ، ولذا قد ذببناهما بقولنا : وبذب أيضا يعني آخر.

(٣) استدراك على الذي مرّ.

(٤) القصص : ٢٠.

١٨٣

ليس من هذا القبيل ، لاستحالة تعليق الحكم على المبهم من الحكيم.

ولو فرض مثل ذلك ، وحصل العلم بعد ذلك (١) بسبب القرينة بإرادة ذلك ، فيكون حينئذ بيانا للمجمل ، يعني يظهر بعد القرينة أنّه كان مجملا فيكون هذا من باب المجمل لا المطلق فيكون مجازا في معناه ، فكيف كان فلا يخرج عن المجازيّة ، والى هذا ينظر قولهم بكون المقيّد والخاصّ بيانا للمطلق والعامّ ، وتقسيمهم المجمل بما له ظاهر وما ليس له ظاهر ، فعلم أنّ ذلك خروج عن الظاهر ، والظاهر هو الحقيقة.

فهذا الكلام في ترجيح ما اخترناه من المجاز (٢) على ما ذكره المانع (٣).

ولئن سلّمنا تساوي الاحتمالين (٤) ، فنقول : إنّ البراءة اليقينيّة لا تحصل إلّا بالعمل بالمقيّد كما ذكره العلّامة رحمه‌الله في «النهاية» (٥).

وقد يعترض عليه : بأنّه لم يحصل العلم بشغل الذمّة مع احتمال إرادة المجاز من المقيّد حتى يجب تحصيل اليقين بالبراءة عنه ، فلا وجه لوجوب العمل به.

وفيه : أنّ المكلّف به حينئذ هو القدر المشترك بين كونه نفس المقيّد أو المطلق ، ونعلم أنّا مكلّفون بأحدهما ، فاشتغال الذمّة إنّما هو بالمجمل ولا يحصل البراءة منه إلّا بالإتيان بالمقيّد.

وإنّما يتمّ كلام المعترض لو سلّمنا أنّا مكلّفون بعتق رقبة ما ، ولكن لا نعلم هل

__________________

(١) لأنّه دفع لما يقال انّه إنّما يقبح لو لم يأت ببيان الإبهام ، وأما مع مجيء التقييد فلا قبح.

(٢) وهو حمل المطلق على المقيّد.

(٣) من عدم الحمل.

(٤) يعني احتمال الاطلاق والتقييد.

(٥) وأشار إليه في «المعالم» ص ٣١٣.

١٨٤

يشترط الايمان أم لا ، فحينئذ يمكن نفيه بأصل البراءة (١) ، وليس كذلك (٢) ، بل نقول : بعد تعارض المجازين وتصادم الاحتمالين ، يبقى الشكّ في أنّ المكلّف به هل هو المطلق أو المقيّد؟ وليس هاهنا قدر مشترك يقيني يحكم بنفي الزّائد عنه بالأصل ، لأنّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ عن الفصل ولا تفارق بينهما ، فليتأمّل.

والثالث (٣) : ذكر سلطان العلماء رحمه‌الله : أنّه يمكن العمل بهما من دون إخراج أحدهما عن حقيقته ، بأن يعمل بالمقيّد ويبقى المطلق على إطلاقه ، فلا يجب ارتكاب تجوّز حتى يجعل ذلك وظيفة المطلق. وذلك لأنّ مدلول المطلق ليس صحّة العمل بأيّ فرد كان حتّى ينافي مدلول المقيّد ، بل هو أعمّ منه وممّا يصلح للتقييد ، بل المقيّد في الواقع ، ألا ترى أنّه معروض للقيد كقولنا : رقبة مؤمنة ، إذ لا شكّ أنّ مدلول رقبة في قولنا : رقبة مؤمنة ، هو المطلق وإلّا لزم حصول المقيّد بدون المطلق مع أنّه لا يصلح لأيّ رقبة كان ، فظهر أنّ مقتضى المطلق ليس كذلك وإلّا لم يتخلّف عنه.

وفيه : أنّ مدلول المطلق وإن لم يكن ما ذكره ، ولكن مقتضاه هو ذلك بالوجهين اللّذين سنذكرهما (٤). فمقتضاه ينافي مقتضى المقيّد ولا يمكن الجمع بين مقتضاه ومقتضى المقيّد بدون تصرّف وإخراج عن الظاهر.

__________________

(١) وتعرّض في «الفصول» : ص ٣٢٠ لهذا الكلام.

(٢) وذلك لوجود النص بالمقيّد هنا.

(٣) الثالث من الوجوه التي ذكروا للجمع بين المطلق والمقيّد من دون تصرّف في المطلق وارتكاب في مجازيّته ، وهو لسلطان العلماء في حاشيته على «المعالم» ص ٣٠٦.

(٤) ومراده بالوجهين ما يذكر بعد أسطر بقوله : لأنّ الطبيعة توجد الى أن قال : وأيضا الأصل براءة الذمّة.

١٨٥

وقوله (١) : بل هو أعمّ ... الخ.

إن أراد أنّ مدلول المطلق هو الأمر الدّائر بين الأمرين ، أعني أيّ فرد كان على البدل والمقيّد ، فهو باطل جزما ، لأنّ مدلوله الحصّة الشّائعة أو الماهيّة لا بشرط كما مرّ.

وإن أراد أنّه معنى عام قابل لصدقه على المعنيين فهو صحيح ، ولكن مقتضاه صحّة العمل بأيّ فرد كان منه ، فإن كان بضميمة حكم العقل لأنّ الطبيعة توجد في ضمن أيّ فرد يكون ، والامتثال بها يحصل بالإتيان بأيّ فرد كان منه ، وأيضا الأصل براءة الذمّة عن التعيين فهو يقتضي التخيير في الأفراد ، ولا ريب انّ هذا ينافي مقتضى المقيّد.

والظاهر أنّ مراد القائل هو الشقّ الأوّل من التّرديد ، لأنّه ذكر في موضع آخر (٢) : إنّ المراد من المطلق ك : رقبة ليس أيّ فرد كان من أفراد الماهيّة على البدل ، بل ربّما كان مدلوله معيّنا في الواقع وإن لم يكن اللّفظ مستعملا في التعيين ، بل هذا أظهر وأكثر في الأخبار. نعم في الأوامر يحتمل الاحتمالين (٣) ، فلا يكون التقييد تخصيصا وقرينة على المجاز انتهى ، ملخّصا.

وأنت خبير بأنّ كلّ ما تعلّق به الحكم الشّرعي على سبيل التعيين في الواقع فلا بدّ أن يكون معرفة المخاطب للتعيين مقصودا فيه من الشّارع ، سواء قارنه ذكر التعيين أو فارقه ، وسواء كان في صورة الإخبار كقوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ

__________________

(١) وقد عرفته وهو قول السلطان.

(٢) السلطان في حاشيته ص ٣٠٧.

(٣) بأن يراد من المطلق المقيّد ولم يستعمل اللفظ فيه أو اريد مع الاستعمال والخصوصيّة. وفي الحاشية اي إرادة الاطلاق حقيقة مطلقا أو إرادة المعيّن من القرينة ليكون مجازا صوريا بدون استعمال اللّفظ في التعيين.

١٨٦

الْبَيْعُ)(١) أو في صورة الإنشاء ، أمرا كان ك : اعتق ، أو نهيا ، لتمكّن الامتثال ، فذكر لفظة المطلق وإرادة المعيّن الواقعي مجازا جزما.

نعم ، ربّما يصحّ ذلك في القصص والحكايات مثل قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ،)(٢) ومحلّ النزاع وموضع المبحث ليس من هذا القبيل ، فكلّما فرض استعمال مطلق وإرادة فرد معيّن واقعيّ منه ولم يقترن بقرينة ، فهو حقيقة في بادئ النّظر ، ويحصل العلم بكونه مجازا بعد ظهور القرينة.

والحاصل ، أنّ استعمال المطلق في المقيّد حقيقة على وجهين ومجاز على وجه. ومآل الوجهين يرجع الى كون المقصود بالذّات الحكم على الكلّي ويكون إرادة الفرد مقصودا بالعرض ، وذلك يحصل في مثل : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ،)(٣) وفي مثل : ائتني برجل (٤) ، إذا أراد فردا منه ، أيّ فرد يكون.

ومآل الوجه الآخر الى ذكر المطلق وإرادة فرد خاصّ منه ، إمّا باقترانه بما يدلّ على ذلك ، أو بانكشاف ذلك بعد ظهور القرينة ، وكلامنا إنّما هو في الأخير ، وهو المتداول في مسائل المطلق والمقيّد.

فلو قيل : بعد قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ،) جاء حبيب النجّار يسعى أو جاء حزقيل (٥) مؤمن آل فرعون يسعى ، يكون بيانا

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) القصص : ٢٠.

(٣) القصص : ٢٠.

(٤) أي في الانشاء فيما لم يرد التعيين.

(٥) اسم نبيّ من أنبياء بني اسرائيل. وفي «المجالس» كما في تفسير «الصافي» عن ـ

١٨٧

للمجمل لا تقييدا للمطلق ، فقد خبط القائل خبطا عظيما واختلط عليه الأمر ، فلا تغفل.

وقوله (١) : ألا ترى أنّه معروض للقيد.

فيه : ما لا يخفى ، إذ لا شكّ انّ مدلول رقبة في قولنا : رقبة مؤمنة هو المقيّد لا المطلق ، والمؤمنة قيد للمقيّد.

قوله (٢) : وإلّا لزم حصول المقيّد بدون المطلق.

فيه : أنّه لا يستلزم ذلك محالا وقبيحا ، بل هو عين الحق. والذي لا يمكن تخلّف المقيّد عنه إنّما هو المفهوم الكلّيّ ، القدر المشترك بينه وبين غيره من الأفراد ، وهو ليس معنى الرّقبة في قولنا : رقبة مؤمنة.

وبالجملة ، لفظ رقبة وإن كان دالّا على المعنى القدر المشترك بين الأفراد في الجملة ، لكنّه يقال له : المطلق إذا استعمل وحده ، ويقال له : المقيّد إذا استعمل مع القيد ، فلا يلزم من وجود المقيّد في الخارج وجود المطلق ، بل إنّما يلزم منه وجود ما وجد في المطلق من المعنى الكلّي.

ثم إنّ هاهنا كلاما من المحقّق البهائي رحمه‌الله في حواشي «زبدته» في مباحث المفاهيم ، وهو أنّه قال : قد يقال أنّ القائلين بعدم حجّيّة مفهوم الصّفة قد قيّدوا المطلق بمفهومها في نحو : اعتق في الظّهار رقبة ، اعتق في الظهار رقبة مؤمنة. فإذا لم يكن مفهوم الصّفة حجّة عندهم ، كيف يقيّدون به المطلق ، فما هذا إلّا التناقض.

والجواب : إنّ مفهوم الصّفة إمّا أن يكون في مقابله مطلق كما في المثال المذكور

__________________

ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الصّديقون ثلاثة حبيب النجّار مؤمن آل يس الذي يقول اتبعوا المرسلين وحزقيل مؤمن آل فرعون ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو أفضلهم.

(١) قول السلطان كما عرفت.

(٢) وهو قول السلطان وقد مضى.

١٨٨

أو لا ، نحو : جاء العالم. ففي الثاني ليس مفهوم الصّفة حجّة عندهم ، فلا يلزم من الحكم بمجيء العالم نفي مجيء الجاهل ، إلّا إذا قامت قرينة على إرادة ذلك.

أمّا الأوّل : فقد أجمع أصحابنا على أنّ مفهوم الصّفة فيه حجّة كما نقله العلّامة طاب ثراه في «نهاية الأصول». فالقائلون بعدم حجيّة مفهوم الصّفة يخصّون كلامهم بما إذا لم يكن في مقابلها مطلق لموافقتهم في حجّيّة ما إذا كان في المقابل مطلق ، ترجيحا للتأسيس على التأكيد (١). وقريب من هذا الاعتراض على القائلين بأنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، كيف قالوا : بأن الأمر الوارد عقيب الحظر حقيقة في الإباحة ، انتهى.

أقول : ولا خفاء في بطلان الاعتراض ، ولا وقع لهذا الجواب.

أمّا الاعتراض فلأنّ مفهوم قوله : اعتق في الظهار رقبة مؤمنة ، عدم وجوب عتق غير المؤمنة ، لا حرمة عتق غير المؤمنة ، فلا ينافي جواز عتق الكافرة ، وحمل المطلق على المقيّد إنّما هو من جهة ملاحظة المنطوق لا المفهوم ، فإنّ المطلوب إن كان عتق فرد واحد ، فلا ريب انّ مع وجوب عتق المؤمنة لا يمكن الامتثال بغيرها ، وإن كان مطلق الطبيعة فبعد وجود عتق المؤمنة وحصول الامتثال بإيجاد الطبيعة في ضمنه فلا يبقى طلب حتى يحصل الامتثال بغيرها ، فيكون الإتيان ثانيا حراما (٢) ، فلا منافاة بين القول بعدم حجيّة المفهوم ووجوب حمل المطلق على المقيّد.

__________________

(١) إذا لم يكن للمقيّد مفهوم يستفاد حكمه من الأمر بالمطلق فذكره تأكيدا بخلاف لو قلنا بالمفهوم.

(٢) وقد تعرّض في «الفصول» ص ٢٢٢ لهذا الردّ.

١٨٩

وإن أوّل قوله (١) : اعتق رقبة مؤمنة ، بأنّ المراد منه أنّ كفارة الظّهار عتق رقبة مؤمنة لا مجرّد إيجاب عتق رقبة مؤمنة ، فهو وإن كان يصحّح الاعتراض في الجملة ، ولكنّه لا يتمّ أيضا ، إذ يكفي في نفي جواز الغير وحدة المطلوب مع ملاحظة المنطوق ولا حاجة الى استفادته من المفهوم.

نعم ، يمكن جريان هذا التوهم في العامّ والخاصّ المتوافقين في الحكم والنفي والإثبات مثل قولك : أكرم بني تميم ، أكرم بني تميم الطّوال ، فإنّ نفي وجوب الإكرام في البعض ينافي وجوبه في الكلّ ، ولا يجري في المطلق والمقيّد لعدم العموم الأفرادي في المطلق ، ولذلك تراهم متّفقين في عدم وجوب حمل العامّ على الخاص ثمّة ، وإنّما خصّوا الحمل بالعامّ والخاصّ المتنافي الظاهر.

وأمّا الجواب ففيه : أنّه يفهم منه قبول التناقض في الجملة وقد ظهر لك بطلانه ، وأنّه لا حاجة الى التمسّك بالإجماع ، والإجماع لا يثبت حجّية المفهوم في الموضع الخاصّ (٢) ، بل إنّما يثبت وجوب العمل بالمقيّد ، والظاهر أنّ العلّامة رحمه‌الله أيضا لم يدّع الإجماع إلّا على ذلك ، ولم يحضرني الآن كتاب «النهاية» لألاحظ. وأيضا التمسّك بترجيح التأسيس على التأكيد أيضا ممّا لا يناسب المقام ، إذ هو ممّا يصلح مرجّحا لجميع موارد المفهوم ، ولا اختصاص له بما نحن فيه (٣).

__________________

(١) قول المعترض.

(٢) وذلك لأنّه من المسائل اللّغوية ، والاجماع إنّما يثبت به المسائل الفقهيّة.

(٣) وذلك لأنّ الامكان اعتبار المفهوم في قولنا : أكرم العالم أيضا بملاحظة ترجيح التأسيس على التأكيد ، بأن يقال : إنّ اقتران الوصف أعني عالما بالذات التي تدلّ عليها الألف واللام ، تدلّ على وجوب إكرام غير العالم ترجيحا للتأسيس على التأكيد ، هذا كما في الحاشية.

١٩٠

وإن قيل : أنّه فيما انحصر فائدة القيد في اعتبار المفهوم ، فنمنع (١) الانحصار فيما نحن فيه ، إذ التأسيس يحصل بحمله على إرادة الأفضليّة أيضا.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما نحن فيه ليس من قبيل الأمر الواقع عقيب الحظر ، وقد مرّ التحقيق فيه.

ولنا على المقام الثاني (٢) : أنّه نوع من التخصيص ، فإنّ المستفاد من المطلق ومقتضاه ولو بانضمام العقل إليه ، حصول الامتثال بأيّ فرد كان من أفراده ، فهو عامّ لكنّه على البدل ، وقد عرفت في العامّ والخاصّ ، أنّ الخاصّ مبيّن لا ناسخ إلّا في صورة تقدّم العامّ وحضور وقت العمل به ، فكذلك المطلق والمقيّد.

واحتجّ من قال بكون المقيّد ناسخا إذا تأخّر عن المطلق ، والظاهر أنّه لا يشترط حضور وقت العمل للنّسخ : بأنّ الدّلالة لا بدّ أن تكون مقارنة باللّفظ ، فلو كان المقيّد بيانا للمطلق ، لكان المطلق مجازا فيه ، وهو فرع الدّلالة وهي منفيّة.

والجواب : منع لزوم المقارنة ، ولا يلزم منه شيء إلّا تأخير البيان عن وقت الخطاب ، ولا دليل على امتناعه (٣).

وأجيب : أيضا بالنّقض (٤) بصورة تقدّم المقيّد ، فالمطلق الوارد بعده لا بدّ أن يراد منه المقيّد من دون دلالة ، وبتقييد الرّقبة بالسّلامة عندهم أيضا.

واعترض على الأوّل : بأنّ تقدّم المقيّد يصلح قرينة لانتقال الذّهن من المطلق الى المقيّد ، بخلاف العكس.

__________________

(١) جواب قوله : وإن قيل.

(٢) وهو كون المقيّد بيانا للمطلق لا ناسخا له.

(٣) راجع «المعالم» : ص ٣١٤.

(٤) كما عن كثير من الكتب «كالمختصر» وشرحه ، وشرح «الزبدة» وغيره.

١٩١

وعلى الثاني : بمنع تناول الرّقبة للناقصة (١) حتى يكون مجازا في السّليمة ، ولو سلّم فالمطلق ينصرف الى الفرد الكامل والشّائع.

الثاني : وهو ما كانا منفيّين مع اتّحاد الموجب ، حكمه وجوب العمل بهما اتفاقا ، ومثّل له الأكثرون بقوله (٢) في كفّارة الظّهار : لا تعتق مكاتبا ، لا تعتق مكاتبا كافرا.

وأورد عليه (٣) : بأنّه من تخصيص العامّ لا تقييد المطلق ، فإنّ النّكرة المنفيّة تفيد العموم.

وبدّله بعضهم (٤) بقوله : لا تعتق المكاتب ، لا تعتق المكاتب الكافر ، مع تقييده ذلك بعدم قصد الاستغراق ، بل جعله من العهد الذهني.

وأورد عليه (٥) : بأنّ معناه حينئذ : لا تعتق مكاتبا ما من المكاتب ، على سبيل البدل والاحتمال من غير قصد الى الاستغراق ، ويكتفى لامتثاله بعدم عتق فرد واحد من المكاتب فقط ، ويحتمل حينئذ أنّ قوله : لا تعتق مكاتبا كافرا ، بيان لهذا الفرد المنفي ، فمن أين يحصل الحكم بعدم إجزاء إعتاق المكاتب أصلا كما قالوا في حكم هذه المسألة سيّما مع اعتبار مفهوم الصّفة (٦).

__________________

(١) هذا الاعتراض للتفتازاني كما حكي عنه ، وكذا الأوّل كما حكي أيضا.

(٢) ذكره الحاجبي وغيره.

(٣) وهو من العضدي ، شارح «المختصر» وذكره المولى محمّد صالح المازندراني في حاشيته ص ١٨٨.

(٤) كما في «المعالم» ص ٣١٤.

(٥) وهذا المورد هو سلطان العلماء في حاشيته على «المعالم» ص ٣٠٧.

(٦) ولهذا الكلام تتمّة يمكن الرجوع إليه في حاشيته على «المعالم» كما عرفت.

١٩٢

أقول : ويمكن دفع الإيراد عن مثال الأكثرين بإرادة الجنس ، فيكون التنوين تنوين التّمكن ، ويصحّ المثال الثاني أيضا بإرادة الماهيّة أيضا كما بيّنا سابقا (١) ، فلا حاجة الى جعله من باب العهد الذّهني ، مع أنّه أيضا في معنى النّكرة. ولا يدفع الإشكال ، مع أنّ التقييد بعدم قصد الاستغراق لا فائدة فيه ، إلّا أن يراد دفع توهّم أن يجعل من قبيل : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ،)(٢) وإلّا فاللّام داخل على المنفي ، والنفي إنّما يفيد نفي العموم لا عموم النفي ، فهو أوفق بالمطلق من العامّ.

وأمّا ما ذكره المورد (٣) من أنّ معناه حينئذ ... الخ.

ففيه : أنّه إن أراد أنّ مكاتبا ما من المكاتب على سبيل البدل ، والاحتمال مورد للنهي ، ومتعلّق له مع وصف كونه محتملا ، فهو عين النّكرة المنفيّة المفيدة للعموم. وإن أراد بعد اختيار المكلّف تعيينه في ضمن فرد معيّن ، فهو ليس معنى هذا اللّفظ ، بل يحتاج الى تقدير وإضمار ، ومع ذلك فكيف يكون المقيّد بيانا له كما ذكره ، إذ البيان إنّما حصل باختيار المكلّف ذلك الفرد.

وإن أراد جعله من باب : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ،)(٤) فهو مع ما فيه ممّا مرّ (٥) انّه ليس من موضوع المسألة في شيء فيه ، إنّ هذا ألصق بالمثال

__________________

(١) في أوائل هذا القانون أنّ قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مطلق وبيع الغرر مقيّد.

(٢) لقمان : ١٨.

(٣) السلطان.

(٤) القصص : ٢٠.

(٥) وهو ما تقدم في هذا العنوان من كون ذلك المثال أي : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) من باب القصص والحكايات ، ومحلّ البحث ليس من هذا القبيل.

١٩٣

المشهور (١) من هذا المثال (٢) ، فلا وجه للعدول عنه ، فبالضّرورة لا بدّ أن يكون مراد من بدّل المثال بذلك ، غير هذا.

نعم يصحّ ما ذكره (٣) لو أخرج النهي عن معناه الى معنى إثباتي مثل أن يراد منه : أبق على الرّق مكاتبا ما ، وحينئذ يتمّ معنى المطلق ويكتفي في الامتثال بعدم عتق فرد واحد الى آخر ما ذكره.

لكنّك خبير بأنّه خارج عن مقاصد الفروع وأغلب موارد الاستعمالات في الشّرع والعرف ، إذ المقصود (٤) من أمثال ذلك بيان مورد العتق لا بيان مورد إبقاء الرّق ، فالمقصود بالذّات عتق غير المكاتب لا إبقاء الرّق للمكاتب ، مع أنّ إرادة فرد ما بعد النهي بدون العموم ممّا يبعد فرضه غالبا ، إذ يصير المعنى حينئذ كون غير ذلك المنفي من الأفراد محكوما عليها بذلك الحكم ، فيكون معنى : لا تعتق مكاتبا ، إمّا اعتق من عداهم من العبيد ، وهو وإن كان يتمّ في مثل هذا المثال لو كان مالكا لمكاتب ولغير مكاتب ، ولكن كيف يتمّ في مثل : لا تقتلوا الصّيد ، مثلا ، إذ حينئذ يكون معناه : لا تقتلوا صيدا ما ، إلّا أن يخرج أيضا الى المعنى الإثباتي مثل أن يقال : إذا أصبتم صيودا فأبقوا منها واحدا ويجوز لكم قتل الباقي ، وهذا كلّه خارج عن العرف والعادة.

ثمّ إنّ الحكم بوجوب العمل بالمطلق والمقيّد هنا لا يتمّ إلّا بفرضهما عامّا وخاصّا ، والظاهر أنّ اتّفاقهم على ذلك مبنيّ على مثالهم المشهور ، وإلّا فعلى الفرض الذي ذكرنا من إرادة الماهيّة لا بشرط ، فيمكن الجمع بينهما بحمل المطلق

__________________

(١) الذي هو نكرة مثل : جاء رجل.

(٢) الذي ذكره المبدل وهو المثال المعرّف باللّام.

(٣) من الإيراد.

(٤) عرفا.

١٩٤

على المقيّد ، اللهمّ إلا أن يعتمد على الإجماع في ذلك ، بمعنى أن يكون ذلك كاشفا عن اصطلاح عند أهل العرف متّفقا عليه ، وهو كما ترى.

وإن أريد الإجماع الفقهيّ فلا يخفى بعده (١).

الثالث : وهو ما كانا مختلفين مثل : إن ظاهرت فاعتق رقبة ، وإن ظاهرت فلا تعتق رقبة كافرة ، فحكمه حمل المطلق على المقيّد ، ووجهه ظاهر ممّا مرّ (٢).

وأمّا الثاني (٣) : كإطلاق الرّقبة في كفّارة الظّهار وتقييدها في كفّارة القتل ، فمذهب الأصحاب فيه عدم الحمل ، ولا فرق بين الأقسام المتصوّرة فيه من كونهما مثبتين أو منفيّين أو مختلفين.

واختلف مخالفونا ، فعن الحنفيّة المنع عنه مطلقا (٤).

وعن أكثر الشافعيّة (٥) أنّه يحمل عليه إن اقتضاه القياس ووجد شرائطه (٦).

وعن بعضهم الحمل مطلقا ، وحججهم واهية (٧) لا تليق بالذّكر.

والحقّ ما اختاره الأصحاب ، لعدم المقتضي (٨).

__________________

(١) في المسألة الأصولية هذا كما في الحاشية.

(٢) بملاحظة العام والخاص المختلفين.

(٣) وهو أن يختلف موجبهما.

(٤) سواء اقتضاه القياس ووجد شرائطه أم لا وهذا هو الموافق لمذهب الأصحاب. ذكر العلّامة في «التهذيب» : ص ١٥٥ : بأنّ منع الحنفيّة منه بالقياس مناف لمذهبهم.

(٥) وفي «المبادئ» ص ١٥٢ للعلّامة : بعض الشافعيّة.

(٦) أي شرائط القياس ، ومن شرائط حكم الأصل عدم نسخه وعدم ثبوتها بالقياس ، ومن شرائط الفرع مساواته للأصل علّة وحكما ، هذا كما في الحاشية.

(٧) الواهي جمعها واهون ووهاة وتأنيثها واهية بمعنى ضعيفة.

(٨) راجع «الذريعة» ١ / ٢٧٥ ، و «العدة» ١ / ٣٢٩ ـ ٣٣٥ ، و «التمهيد» ص ٢٢٣ ، و «الفصول» : ص ٢١٩.

١٩٥

الباب الخامس

في المجمل والمبيّن والظاهر والمأوّل

قانون

المجمل : ما كان دلالته غير واضحة (١) ، بأن يتردّد بين معنيين فصاعدا من معانيه ، وهو قد يكون فعلا وقد يكون قولا.

أمّا الفعل ، فحيث لم يقترن بما يدلّ على جهة وقوعه من الوجوب والنّدب وغيرهما ، كما إذا صلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة ولم يظهر وجهها.

وأمّا القول فهو إمّا مفرد أو مركّب.

أمّا المفرد ، فإمّا إجماله بسبب تردّده بين المعاني بسبب الاشتراك اللّفظي في

__________________

(١) عن الفيومي في «مصباحه» ص ١١٠ : أجملت الشيء إجمالا جمعته من غير تفصيل. وعن مختار «الصّحاح» ص ١١٠ : أجملت الحساب رددته الى الجملة. وعن الفيروزآبادي في «القاموس» ص ٩٠١ : أجمل جمع ، واجمل الشيء جمعه عن التفرقة ، والحساب ردّه الى الجملة. وعن الطريحي في «المجمع» ٥ / ٣٤٢ : أجملت الحساب رددته عن التفصيل الى الجملة ، ومعناه الإجمال وقع على ما انتهى إليه التفصيل.

وأمّا اصطلاحا فعرّفه بعض الأشاعرة : بأنّه اللّفظ الذي لا يفهم منه عند الاطلاق شيء.

وعن أبي الحسين : ما لا يعرف المراد منه. واعلم أنّ الاجمال قد يكون أيضا بسبب الإعراب.

١٩٦

أوّل الأمر كالقرء ، أو بسبب الإعلال كالمختار (١) أو بسبب الاشتراك المعنوي وهو فيما لو أراد منه فردا معيّنا عنده ، غير معيّن عند المخاطب ، وذلك امّا في الإخبار مثل : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ،)(٢) وامّا في الأوامر والأحكام مثل : (أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)(٣) و : اعتق رقبة ، إذا أريد بها المؤمنة. والى هذا ينظر قولهم : إنّ الخاصّ والمقيّد بيان لا ناسخ. وقولهم فيما سيأتي : انّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب فيما له ظاهر (٤).

ومرادهم ممّا له ظاهر ، هو الظاهر على الظاهر ، وفي النّظر الأوّل.

ومرادهم بكونه مبيّنا بالخاصّ المستلزم لإطلاق المجمل عليه ، هو المجمل في النّظر الثاني (٥) ، فلا يتوهّم التناقض بين وصف العامّ بالمجمل والظاهر.

والحاصل ، أنّ مرادهم بكون العامّ والمطلق حينئذ مجملا ، وكون الخاصّ والمقيّد بيانا ، هو أنّ الخاصّ والمقيّد يكشفان عن أنّ مراد المتكلّم بالعامّ والمطلق كان فردا معيّنا عنده مبهما عند المخاطب ، وهذا هو الأكثري (٦) في الأحكام ، وإلّا فقد يقترن العامّ والمطلق بقرينة تدلّ على إرادة مرتبة خاصّة من العامّ وفرد خاصّ من المطلق ، ولكنّه لم يقترن ببيان تلك المرتبة ، فذلك مجمل في أوّل النّظر أيضا ،

__________________

(١) وذلك لأنّ تردّده بين الفاعل والمفعول إنّما هو بسبب الإعلال إذ لو لا الإعلال لكان مختير ، بكسر الياء للفاعل وبفتحها للمفعول فينتفي الاجمال ، هذا كما في الحاشية.

(٢) القصص : ٢٠.

(٣) البقرة : ٦٧.

(٤) أي في مجمل له ظاهر.

(٥) اي بعد ظهور القرينة على أنّ الظاهر لم يكن مرادا. وفيه : أنّه لا إجمال في النظر الثاني أيضا لظهور القرينة.

(٦) أي غالبا ما يقع في مقام بيان الأحكام.

١٩٧

ولكنّه مجاز حينئذ ، ولا يقال له أنّه ممّا له ظاهر ، فإنّ القرينة أخرجته من الظّهور في أوّل النّظر أيضا.

وقد يجعل من الإجمال باعتبار الاشتراك المعنوي قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ،)(١) باعتبار إمكان صدق الحقّ على كلّ واحد من الأبعاض ، مع أنّ المراد هو العشر لا غير.

والتحقيق ، أنّه يرجع الى الإشارة الى القدر المخرج من المال الذي قدّره الشّارع مثل الزّكاة مثلا ، فالإجمال بسبب الاشتراك المعنوي إنّما هو فيما لو قال : أخرج قدرا من مالك ، وأراد قدرا معيّنا ولم يبيّن ، وأمّا إذا سمّى ذلك القدر بالحق ، فهاهنا الحق معيّن ، لأنّ المراد منه هو القدر المذكور ، فالإجمال في الحقّ إنّما هو باعتبار الإجمال في مسمّاه.

ومن الإجمال تردّد اللّفظ بين مجازاته إذا قام قرينة على نفي الحقيقة وتساوت مجازاته.

وأمّا المركّب (٢) ، فإمّا أن يكون الإجمال فيه بجملته مثل قوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ،)(٣) المتردّد بين الزّوج ووليّ المرأة ، أو باعتبار تخصيصه بمخصّص مجهول مثل : اقتلوا المشركين إلّا بعضهم ، مع إرادة البعض المعيّن ، و : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ،)(٤) و : (أُحِلَّ لَكُمْ ما

__________________

(١) الانعام : ١٤٦.

(٢) وكان قد ذكر الى أنّ المجمل قد يكون فعلا وقد يكون قولا والقول إما مفرد أو مركب.

(٣) البقرة : ٢٣٧.

(٤) المائدة : ١.

١٩٨

وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ ،)(١) لجهالة معنى الإحصان ، فإنّه قد يجيء بمعنى الحفظ كما في : (أَحْصَنَتْ فَرْجَها ،)(٢) وقد يجيء بمعنى التزوّج.

وقد يكون الإجمال بسبب تردّد مرجع الضمير بأن يتقدّمه شيئان يحتمل رجوعه الى كلّ منهما (٣) مثل : ضرب زيد عمروا أكرمته ، ومرجع الصّفة مثل : زيد طبيب ماهر ، لاحتمال كون المهارة في الطبّ أو لزيد مطلقا.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ التكليف بالمجمل جائز عقلا ، واقع شرعا ، وتوهّم لزوم القبح لعدم الإفهام فاسد ، لأنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كان وقت الحاجة والفائدة فيه قبل الحاجة ، الاستعداد والتهيّؤ للامتثال وتوطين النّفس ، ووقوعه في الآيات والأخبار أكثر من أن يحتاج الى الذّكر ، وقد سمعت بعضها وستسمع.

ثمّ إنّ هاهنا فروعا مهمّة :

الأوّل :

ذهب أكثر الأصوليّين (٤) الى أنّه لا إجمال في آية السّرقة ، لا من جهة اليد ولا من جهة القطع (٥).

__________________

(١) النساء : ٢٤.

(٢) الأنبياء : ٩١ ، التحريم : ١٢.

(٣) كما نقل انّه سئل عن أحد من العلماء عن علي وأبي بكر أيّهما خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : من بنته في بيته. ومنه قول عقيل : أمرني معاوية بن أبي سفيان أن ألعن عليا ، ألا فالعنوه.

(٤) في «التهذيب» ص ١٦٢ و «المعارج» ص ١٠٦ و «التمهيد» ص ٢٣٤ و «المعالم» ص ٣١٥ وفي «الزبدة» ص ١٤٤ والعلّامة والفخريّ والحاجبي لا إجمال فيها.

(٥) كما في «المبادئ» ص ١٥٨.

١٩٩

وذهب السيّد المرتضى رحمه‌الله (١) وجماعة من العامّة الى إجمالها بسبب اشتراك اليد بين جملتها وبين كلّ واحد من أبعاضها (٢).

وقيل : بإجمالها باعتبار القطع أيضا لاشتراكه بين الإبانة والجرح.

حجّة السيّد مع تحرير منّي لها : أنّ اليد تطلق على الجملة وعلى كلّ بعض منه (٣) ، كما يقال : غوّصت يدي في الماء ، إذا غوّصه الى الأشاجع (٤) أو الى الزّند أو الى المرفق ، وأعطيته بيدي وكتبت بيدي ، مع أنّهما إنّما حصلا بالأنامل ، والاستعمال دليل الحقيقة ، فثبت الاشتراك.

قال (٥) : وليس قولنا : يد يجري مجرى قولنا : إنسان ، كما ظنّه قوم ، لأنّ الإنسان يقع على جملة يختصّ كلّ بعض منها باسم ، من غير أن يقع إنسان على أبعاضها ، بخلاف اليد. ويظهر من ذلك استدلال من يعتبر القطع أيضا في الإجمال.

والجواب : إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة كما مرّ مرارا ، والتبادر علامة الحقيقة ، والمتبادر من اليد إنّما هو المجموع الى المنكب.

والشّاهد على ما ذكرنا أنّه إذا قيل : فلان بيده وجع ، يقال له : أيّ موضع من يده به وجع؟ لا أيّ يد منه به وجع؟

__________________

(١) كما في «الذريعة» ١ / ٣٢٥ في مبحث المجمل.

(٢) راجع «المحصول» ٢ / ٦٣١ ، «الإحكام» للآمدي ٣ / ١٧.

(٣) قال سلطان العلماء في حاشيته على «المعالم» ص ٣٠٩ : ظاهره كل بعض حتى الأصبع ، والظاهر انّه لم يذهب إليه أحد ، وكان المراد الأبعاض المخصوصة المذكورة ، انتهى كلامه.

(٤) أصول الأصابع.

(٥) ونقله في «المعالم» ص ٣١٦.

٢٠٠