القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

الإجماع الذي لم يبلغ عدده حدّ التواتر ، لم يسمع منهم ، ودعوى حكم العادة حينئذ على ما ذكر ، غير مسموعة.

نعم ، يمكن أن يقال : يتمّ الاستدلال بناء على كون المطلوب إثبات الحجّية في الجملة لا مطلقا.

وكيف كان ، فما ذكروه من الأدلّة من العقل والنقل لو تمّت ، فلا يضرّنا ، بل ينفعنا ولو لم يتمّ ، فأيضا لا يخلو من تأييد لإثبات حجّية الإجماع ، وأكثر أدلّتهم مطابقة لمقتضى مذهب الشيعة في حجّية الإجماع ، يظهر لمن تأمّل فيها بعين التدقيق والإنصاف.

ولنذكر هنا شيئا من الشّكوك والشبهات التي أوردوها في المقامات الثلاثة المتقدّمة (١) ، ولنجب عنها :

فمنها : ما ذكروه في نفي إمكانه ، وهو أنّ الاتّفاق إمّا عن قطعيّ أو ظنّي ، وكلاهما باطل.

أمّا القطعيّ فلأنّ العادة تقتضي نقله إلينا ، فلو كان لنقل وليس فليس ، ولو نقل لأغنى عن الإجماع (٢).

وأمّا الظنّي فلقضاء العادة بامتناع الاتّفاق عليه لاختلاف القرائح وتباينهم ، وذلك كاتّفاقهم على أكل الزّبيب الأسود في زمان واحد ، فإنّه معلوم الانتفاء ، وما ذلك إلّا لاختلاف الدّواعي.

وردّ : بمنع حكم العادة بنقل القطعيّ إذا أغنى عنه ما هو أقوى عنه ، وهو

__________________

(١) إمكان حصول الاجماع والعلم به وحجّيته.

(٢) قال في الحاشية : لا يخفى ان هذا يردّ حجية الاجماع لا أنّه لا يمكن كما لا يخفى فالأولى عدم ذكر هذا الفرض هنا.

٢٦١

الإجماع ، ونقله أيضا لا يغني عن الإجماع ، لظهور كمال الفائدة في تعدّد الأدلّة سيّما مع كون القطعيّات متفاوتة في مراتب القطع.

و : بمنع استحالة الاتّفاق على الظنّي ، سيّما إذا كان جليّا واضح الدّلالة معلوم الحجّية ، مع أنّا سنثبت إمكان العلم به (١) ، فكيف يمكن التشكيك في إمكانه.

ومنها : ما ذكروه في نفي إمكان العلم به ، وهو أنّه لا يمكن العلم بفتوى جميع علماء الإسلام لانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها ، بل لا يمكن معرفة أعيانهم فضلا عن أقوالهم ، مع احتمال خفاء بعضهم ، لئلّا يلزمه الموافقة أو المخالفة أو انقطاعه لطول غيبته ، فلا يعلم له خبر ، أو أسره في المطمورة (٢) أو كذبه في قوله ، رأيي كذا ، مع أنّ العبرة بالرّأي دون اللّفظ مع احتمال رجوع بعضهم عمّا قال بعد الاستماع عن الآخر.

وفيه : أنّ هذه شبهة في مقابل البديهة لحصول العلم بمذهب جميع علماء الإسلام ، بأنّ رأيهم وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان ونحوهما (٣) ، ومذهب علماء الشيعة بأنّ رأيهم حلّيّة المتعة ومسح الرّجلين ، فإذا أمكن حصول العلم برأيهم على سبيل البديهة فكيف لا يمكن حصول اليقين بالنظر ، مع أنّ مرتبة البداهة متأخّرة عن النّظر.

ولا ريب أنّ أعيان العلماء غير معروفة بأجمعهم في ذلك ، فضلا عن حصول الاستماع منهم. وليس الدّاعي إلى ذلك أمر عقليّ حتّى يقال : إنّ العلم باجتماعهم

__________________

(١) أي بالاجماع.

(٢) من طمر ، قال في المجمع : طمرت الشيء سترته ، ومن المطمورة وهي حفرة يطمر فيه الطعام.

(٣) كحجّ البيت ، وهذه كلها من ضروريات الدين.

٢٦٢

إنّما هو بحكم العقل ، بأنّ العقلاء يجتمعون على ذلك لأجل عقلهم ، مع أنّ العقليات أيضا ممّا وقع فيه الاختلاف كثيرا ، كما لا يخفى على المطّلع بها.

ومنها : ما ذكروه (١) في نفي حجّيته.

فمنها : ما ذكره العامّة مثل قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(٢)(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(٣) فظهر منها (٤) ، أنّ المرجع والمعوّل إنّما هو الكتاب والسنّة.

وفيه : أنّ كون الكتاب تبيانا لا ينافي تبيانيّة غيره ، وأنّ المجمع عليه لا تنازع فيه.

ومثل قوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ.)(٥)

وفيه : منع واضح (٦).

وأمّا ما ذكره بعض القاصرين من الخاصّة فهو أمور :

الأوّل : أنّه يجوز الخطأ على كلّ واحد من المجمعين ، فكذا المجموع.

وهو بعينه الشّبهة التي أوردوها على نفي التواتر.

وجوابه : الفرق بين المجموع وبين كلّ واحد كما لا يخفى ، فإنّ للإجماع تأثيرا واضحا في حصول الاعتماد ، بل هو في الإجماع أظهر منه في الخبر.

الثاني : أنّ المعصوم لو كان معلوما بشخصه ، فلا حاجة إلى الإجماع ، وإلّا فلا

__________________

(١) العامة غالبا.

(٢) النحل : ٨٩.

(٣) النساء : ٥٩.

(٤) من الآية أو منهما والجمع منطقي.

(٥) البقرة : ١٦٩.

(٦) لأنّ مقتضى الاجماع هو ما نعلمه من الله تعالى.

٢٦٣

يمكن الاطّلاع على رأيه وقوله.

وجوابه : أنّه قد لا يمكن الوصول إلى خدمته ، ولكن يمكن العلم الإجمالي بقوله ورأيه ، وقد بيّنّا إمكان العلم الإجمالي كما يحصل في الضّروريات ، وأنّه يمكن العلم برأيه في زمان حضوره بسبب أقوال تبعته ، كما يمكن صيرورة الحكم بديهيّا في زمانه مع عدم الاستماع من لفظه ، ومن ذلك يظهر عدم الفرق بين زمان الظّهور وزمان الغيبة.

الثالث : وقوع الخلاف في حجّية الإجماع ، وفي أدلّة حجّيته كما مرّ.

وفيه : مع أنّ علماء الشيعة المعتنين بأقوالهم لم يختلفوا في حجّيته ، وكذلك المحقّقون من العامّة ، ونسبة بعض العامّة (١) القول بعدم الحجّية إلى الشيعة افتراء أو اشتباه لفهم مقصد الشيعة ، فإنّهم يمنعون حجّية الإجماع من حيث إنّه إجماع ، لا مطلقا ، وأنّ وجود الخلاف لا ينفي الحجّية ، وكذلك اختلاف مدرك الحجّية ، كما يلاحظ في حجّية خبر الواحد وغيره ، بل الخلاف موجود في اصول الدّين واصول المذهب ، بل في جميع العقليّات إلّا ما شذّ وندر.

الرابع : وجود المخالف في أكثر الإجماعات.

وفيه : أنّه إن أراد أنّ وجود المخالف يمنع عن تحقّق الإجماع ، فهو إنّما يصحّ على طريقة العامّة (٢) ، مع أنّ بعضهم أيضا لا يعتبر خلاف النّادر ، وأمّا على طريقتنا ، فلا يضرّ وجود المخالف.

أمّا على المختار من الطرق الثلاثة (٣) ، فلما عرفت أنّ المناط هو حصول

__________________

(١) كالعضدي كما نقل ، والرازي في «المحصول» ٣ / ٧٧٧.

(٢) الذين جعلوا الاجماع هو عبارة عن اجتماع جميع الأمّة.

(٣) وهو الطريق الثالث من الطرق الثلاثة. قال في الحاشية : وهو الكشف عن رضا ـ

٢٦٤

الجزم بموافقة المعصوم ولو باتّفاق جماعة من الأصحاب.

وأمّا على المشهور (١) بين القدماء ، فلأنّه لا يضرّ خروج معلوم النسب ، بل ولا المجهول النسب أيضا إذا علم أنّه ليس بمعصوم ، بل يكفي فيه العلم الإجمالي بأنّ غير الخارجين الّذين علم أنّهم ليسوا بإمام كلّهم متّفقون على كذا ، بحيث حصل العلم بأنّ الإمام فيهم ، مع أنّه يحتمل تقدّم المخالف على تحقّق الإجماع أو تأخّره مع عدم اطّلاعه على الإجماع ، إذ لم نقل بأنّ كلّ إجماع تحقّق لا بدّ أن يحصل العلم به لكلّ أحد ، سواء كان في حال الحضور أو الغيبة ، بل الأحكام الثابتة من الشّارع على أقسام : منها بديهيّ (٢) ، ومنها يقينيّ نظريّ للخواصّ ، ومنها ظنّيّ للخواصّ مجهول للعوامّ.

والنّظريّ اليقينيّ ربّما يكون يقينيا لبعض الخواصّ ظنّيا لبعض آخر (٣) ، ومرجوحا عند بعض آخر ، إذ أسباب الحدس والتتبّع مختلفة ، فيتفاوت الحال بالنسبة إلى الناظر والمتتبّعين. ألا ترى أنّ الشيعة مجمعون على حرمة العمل بالقياس ، مع أنّ ابن الجنيد ؛ قال بجوازه (٤). ولا ريب أنّ الحرمة حينئذ إجماعيّ. وكذا

__________________

ـ المعصوم عليه‌السلام باجتماع تبعة الرئيس على حكم ، فإنّه يكشف عن رأي الرئيس وهذا هو الطريق الثالث الذي اختاره المتأخرون ، ولا يلزم فيه دخول المعصوم عليهم‌السلام ونظيره طريقة اللّطف بناء على ما بيّنا وكلاهما مبتنى على الكشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام. كما هو مذهب المتأخرين بخلاف الاشتمال على نفس المعصوم الذي اختاره القدماء.

(١) وهو الطريق الأوّل من الطرق الثلاثة.

(٢) للعوام والخواص.

(٣) وذلك يمكن لوجود قرائن إفادة القطع عند البعض وعدم وجودها عند البعض الآخر.

(٤) وربما هذه النسبة ليست بصحيحة عنه أو أنّ لها تأويلا ومقصودا. ـ

٢٦٥

عدم وجوب قراءة دعاء الهلال ، مع أنّ ابن أبي عقيل قال بوجوبه (١). وأنّ شهر رمضان يعتبر فيه الرّؤية لا العدد ، مع أنّ الصّدوق رحمه‌الله خالف فيه ، وهكذا. ولا يتفاوت الحال بين زمان الحضور والغيبة ، فتحقّق الإجماع في كلّ واحد من الأزمنة بالنسبة إلى الأشخاص إمّا يقينيّ أو ظنّي ، واليقينيات مختلفة في مراتب القطع ، والظنّيات في مراتب الرجحان ، فلا يلزم اطّراد الحكم (٢) ولا القول بأنّ الإجماع المتحقّق في نفس الأمر لا بدّ أن يحصل به العلم لكلّ أحد ، ولا بدّ أن لا يوجد له مخالف.

نعم ، لا نضايق من القول باحتمال السّهو والغفلة والاشتباه في الحدس ، وذلك لا يوجب بطلان أصل الإجماع ، كما لا ينافي الغفلة والاشتباه والخطأ لبطلان [بطلان] أصول الدّين والعقليّات مع حصول الخطأ فيها من كثير.

وإن أراد أنّ وجود المخالف يمنع عن الاحتجاج بالإجماعات المنقولة ويورث العلم بخطإ المدّعين.

فإن أراد أنّا نجزم مع وجود المخالف بخطئهم في الدعوى فهو في غاية الظهور من البطلان ، لما عرفت من إمكان حصول العلم مع وجود المخالف.

__________________

ـ ومنشأ هذه النسبة ما هو في عبارة النجاشي من قوله : وسمعت شيوخنا الثقات يقولون عنه أنّه كان يقول بالقياس. وما هو في عبارة الشيخ في الفهرست بقوله : محمد بن أحمد بن الجنيد يكنّى أبا علي كان جيّد التصنيف حسنة إلّا أنّه كان يرى القول بالقياس فتركت لذلك كتبه ولم يعوّل عليها. راجع «النجاشي» ص ٢٧٣ و «الفهرست» ص ١٣٤ وهامش «رجال بحر العلوم» ٣ / ٢٠٨.

(١) بوجوب قراءة دعاء هلال شهر رمضان. راجع كتابنا «عروج السالكين» في قسم أدعية دخول شهر رمضان.

(٢) بمعنى تساويه بالنسبة الى الكلّ إمّا يقينا أو ظنّا بحسب كل مرتبة مرتبة ، إذا فلا يلزم أن يكون بالنسبة الى كل واحد على حال واحدة إمّا يقينا قويّا أو يقينا ضعيفا.

٢٦٦

وإن أراد أنّ ذلك يورث ضعف الاعتماد عليه.

ففيه : مع أنّه ممنوع لما ذكرنا أنّ ذلك لا يوجب بطلان مطلق الإجماع (١) ولا مطلق الإجماع المنقول. ألا ترى أنّ خروج بعض أخبار الآحاد عن الحجّية لا يوجب عدم حجّية مطلق الأخبار. وكذلك تخصيص العامّ ، وكثرة تخصيصه لا يوجب خروج العامّ عن أصالة العموم ، وكذلك المخالفات الواقعة في سائر المسائل وسائر العلوم لا يوجب عدم الاعتماد بأصل العلم.

تنبيهات

الأوّل :

إذا قال بعض المجتهدين بقول وشاع بين الباقين من غير إنكار له وهو المسمّى بالإجماع السّكوتي ، فهو ليس بحجّة (٢) ، خلافا لبعض أهل الخلاف (٣) ، لأنّ الإجماع هو الاتّفاق ، ولم يعلم لاحتمال التصويب على مذهب المخالفين (٤) ،

__________________

(١) المحصّل والمنقول.

(٢) وإلى هذا ذهب الشهيد في «التمهيد» ص ٢٥٢ ، والعلّامة في «التهذيب» ص ٢٠٨ ، والبهائي في «الزبدة» ص ٩٦.

(٣) كالغزالي في «المستصفى» ١ / ١٨٨ ، والرازي والشافعي كما عن «المحصول» ٣ / ٨٥٥ وقال أبو هشام : ليس بإجماع ولكنّه حجّة ، وقال الجبائي : إنّه إجماع وحجّة بعد انقراض العصر. قال العضدي : الحق أنّه اجماع وحجّة وليس باجماع قطعي ، محتجّا بأنّ سكوتهم ظاهر في موافقتهم. والجواب : إنّ السّكوت أعمّ من الرضا مع قيام الاحتمالات المذكورة ، ونفيه رأسا تعسّف لما نقل عن عادتهم ، كما نقل عن ابن عباس أنّه سكت في مسألة العول أوّلا ثم أظهر الإنكار. كما في الحاشية.

(٤) أي لاحتمال كون سكوت السّاكت من أجل الاعتقاد بأنّ كل مجتهد مصيب وهذا إنّما يناسب لمذهب المخالفين.

٢٦٧

واحتمال التوقّف والتمهّل للنظر أو لتجديد النظر ليكون ذا بصيرة في الردّ على مذهبنا في غير المعصوم ، ولاحتمال خوف الفتنة بالإنكار أو غير ذلك من الاحتمالات (١) ، فلا يكشف السّكوت عن الرضا.

نعم ، إذا تكرّر ذلك في وقائع متعدّدة كثيرة في الأمور العامّة البلوى بلا نكير ، بحيث يحكم العادة بالرضا ، فهو حجّة.

الثاني :

قال في «المعالم» : الحقّ امتناع (٢) العلم بكون المسألة إجماعيّة في زماننا هذا وما ضاهاه إلّا من جهة النقل عن الأزمنة السّابقة على ذلك ، إذ لا سبيل إلى العلم بقول الإمام عليه‌السلام كيف وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ليدخل في جملتهم ، ويكون قوله مستورا بين أقوالهم ، وهذا ممّا يقطع بانتفائه. فكلّ إجماع يدّعى في كلام الأصحاب ممّا يقرب من عصر الشيخ رحمه‌الله إلى زماننا هذا ، وليس مستندا إلى نقل متواتر وآحاد حيث تعتبر ، أو مع القرائن المفيدة للعلم ، فلا بدّ أن يراد به ما ذكره الشهيد رحمه‌الله من الشّهرة. إلى أن قال (٣) : وإلى مثل هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف (٤) حيث قال : الإنصاف أنّه لا طريق إلى معرفة حصول

__________________

(١) مثل ان يكون اعتقاده على أنّه لو أنكر لكان إنكاره غير مؤثّر عليهم أو ظنّ انّه لو لم ينكر ليقوم غيره مقامه فيه ، فيظنّ سقوطه عنه لعلمه انّه من الواجبات الكفائيّة وغيرهما من الاحتمالات.

(٢) الاطّلاع عادة على حصول الاجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل إذ لا سبيل الى العلم ... الخ. كما في «المعالم» ص ٣٣٢.

(٣) صاحب «المعالم» ص ٣٣٣.

(٤) وهو فخر الدين الرّازي في «المحصول» ٣ / ٧٧٥ ، وفي «نهاية» العلّامة اعترضه.

٢٦٨

الإجماع إلّا في زمن الصّحابة ، حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفصيل.

أقول : لا ريب في إمكان حصول العلم في هذا الزّمان أيضا كما أشرنا على الطريقة التي اخترناها (١) ، فإنّه يمكن حصول العلم من تتبّع كلمات العلماء ومؤلّفاتهم بإجماع جميع الشيعة من زمان حضور الإمام عليه‌السلام إلى زماننا ، هذا بسبب اجتماعهم وعدم ظهور مخالف ، مع قضاء العادة بأنّ المتصدّين لنقل الأقوال ، حتّى الأقوال الشاذّة والنادرة حتّى من الواقفية وسائر المخالفين ، لو كان قول في المسألة من علمائنا لنقلوه ، وإذا مضاف إلى ذلك (٢) دعوى جماعة منهم الإجماع أيضا ، وكذا سائر القرائن ممّا أشرنا سابقا ، فيمكن حصول العلم بكونه إجماعيّا ، بمعنى كون اجتماعهم كاشفا عن موافقتهم لرئيسهم.

وما قيل : إنّهم لعلّهم اعتمدوا على دليل عقليّ ، لو وصلنا لظهر عدم دلالته على المطلوب ، ولم يعتمدوا على ما صدر من المعصوم عليه‌السلام من قول أو فعل أو تقرير.

ففيه : ما لا يخفى ، إذ هذا الكلام لا يجري في الأمور التي لا مجال للعقل فيها ، وجلّ الفقه ، بل كلّها من هذا الباب ، وما يمكن استفادته من العقل فإن كان من جهة إدراك حسن ذاتيّ أو قبح ذاتيّ ، فلا إشكال في كونه متّبعا سواء انعقد عليه الإجماع أو لا ، وإن كان من باب استنباط أو تخريج أو تفريع (٣) ، فالعقل يحكم

__________________

(١) وهي الطريقة الثالثة من الطرق الثلاثة.

(٢) أي وزيادة على ذلك.

(٣) يمكن أن يكون مراده بالاستنباط القياس الذي يكون ثبوت الحكم في الأصل لأجل تلك العلّة بغير النص ، وكذا وجوده في الفرع. والمراد بالتفريع عكس ذلك ، وسيشير ـ

٢٦٩

والعادة تقتضي بعدم اتّفاق آراء هذا الجمّ الغفير ، المتخالفة المذاق المتباينة المشرب على دليل غير واضح المأخذ كما أشرنا سابقا ، سيّما وأصحابنا لا يعملون بأمثال ذلك (١) ، وإن كان مأخوذا من النصّ ، فهو المطلوب.

نعم ، يظهر الإشكال فيما لو استدلّوا بعلّة غير معلومة المأخذ ، كما استدلّوا في لزوم تقديم الشّاهد والتزكية على اليمين إذا كان المثبت للحقّ هو الشّاهد مع اليمين ، وأنّه لو قدّم اليمين وقعت ملغاة (٢) ، بأنّ وظيفة المدّعي هو البيّنة ، واليمين متمّم.

ويمكن أن يقال : بأنّ هذا أيضا في الحقيقة اتّفاق آخر على أمر شرعيّ ، وهو كون اليمين متلبّسة بوصف المتمميّة ، ولازمه التأخير ، فاتّفاقهم على هذا التعليل أيضا اتّفاق على أمر شرعيّ. فإذا حصل من التتبّع اجتماع السّلف والخلف على أصل الحكم ، فلا يضرّ هذا التعليل ولا يقدح في إمكان دعوى الإجماع ، إنّ هذه العلّة غير واضحة المأخذ ولا دليل على حجّيتها ، لإمكان دعوى الإجماع على أصل العلّة أيضا.

__________________

ـ الى الأخيرين في بحث القياس حيث قال هناك في طرق أقسام القياس : ومنها يخرّج المناط ، ووجه تسميته إبداء مناط الحكم. وحاصله تعيين العلّة في الأصل بمجرّد إبداء المناسبة بينهما وبين الحكم من دون نص أو غيره كالإسكار لتحريم الخمر ويسمى إحالة أيضا ، وأما تحقيق المناط فهو عبارة عن النظر والاجتهاد في وجود العلّة المعلومة علّيتها بنص أو استنباط في الفروع.

(١) كالقياس ونحوه.

(٢) يعني يجب على المدّعي إعادة اليمين بعدهما ، بل يشكل ثبوته في زمان الحضور أيضا ، لأنّه إن علم أنّه قال بمثل ما قال سائر الأئمة فلا معنى للاعتماد على اتفاق سائرهم ، فالمعتمد هو قوله.

٢٧٠

نعم ، على ما اختاره (١) من الطريقة لا يتمّ دعوى حصول العلم بالإجماع في أمثال هذا الزّمان ، بل يشكل ثبوته في زمان الحضور أيضا ، إلّا بأن يؤوّل كلامهم بما ذكرنا سابقا ، من أن يراد من حصول العلم بأقوال العلماء حتّى الإمام ، العلم الإجماليّ لا العلم بهم تفصيلا ، حتّى ينتفي فائدة الإجماع. ويكفي في ذلك عدم معرفة آرائهم تفصيلا ، وإن فرض معرفتهم بأشخاصهم مفصّلا لو شاهدهم ولقيهم.

وبالجملة ، إنكار إمكان العلم بالإجماع في هذا الزّمان مكابرة ، وإن كان انعقاده في الأزمنة السّابقة.

وكيف يمكن قبول إمكان حصول العلم بالبديهي بسبب التّسامع والتظافر للعوامّ والخواصّ ، ولا يمكن دعوى العلم النظري للعلماء المتفحّصين المدقّقين.

وبالجملة ، فيمكن حصول العلم الضروري بكون الشيء مجمعا عليه ، والعلم النظري ودونهما الظنّ المتاخم للعلم ، إذ كثيرا ما يحصل لنا الظنّ المتاخم للعلم بكون المسألة إجماعيّة بسبب القرائن والتتبّع العامّ ، ويختلف الحال في اليقين ومراتبه والظنّ ومراتبه بحسب المتتبّعين ، ولعلّ الإجماع الظنّيّ أيضا يكون حجّة كما سنشير إليه فيما بعد ، لو لم يكن هناك دليل أقوى منه.

وإلى ما بيّنا يرجع كلام العلّامة رحمه‌الله في جواب ما نقله في «المعالم» عن بعض علماء أهل الخلاف ، حيث قال : إنّا نجزم (٢) بالمسائل المجمع عليها جزما قطعيّا ، ونعلم اتّفاق الأمّة عليها علما وجدانيا حصل بالتسامع وتضافر الأخبار عليه.

__________________

(١) صاحب «المعالم».

(٢) هذا هو جواب العلّامة على ما نقل في «المعالم» ص ٣٣٣ على بعض أهل الخلاف ، وقد تقدم نقل عبارة هذا البعض من علماء أهل الخلاف.

٢٧١

وحاصله ، أنّه لا ينحصر العلم بحصول الإجماع في زمن الصحابة ، بل يحصل في أمثال زماننا أيضا بالتسامع والتضافر ، أنّ المسألة (١) إجماعيّة من دون أن ينقل يدا بيد أصل الإجماع من الزّمان السّابق إلى الزّمان اللّاحق ، وغفل صاحب «المعالم» عن مراده.

واعترض عليه : بأنّ (٢) ذلك لا ينافي ما ذكره بعض العامّة ، حيث أراد حصول العلم الابتدائي ، وما ذكره العلّامة ادّعاء حصول العلم بالنقل ، وإنّما دعاه إلى هذا الاعتراض إفراد الضمير المجرور في كلمة عليه (٣) ، وقرينة المقام ومقابلة الجواب للسّؤال شاهد على أنّ مرجع الضمير كلّ واحد من فتاوى العلماء المجمعين كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا ، ظهر ما في قوله (٤) : فكلّ إجماع يدّعى في كلام الأصحاب ... الخ. لأنّهم عدول ثقات ، وادّعوا العلم بحصول الإجماع ، فلا يجوز تكذيبهم. ويكون (٥) لنا بمنزلة خبر صحيح أخبر به العدل عن إمامه بلا واسطة ، مع أنّ ما ذكره موافقا للشهيد (٦) من إرادة الشّهرة ، لا يليق بمن هو دونهم بمراتب ، فكيف وهم أمناء الأمّة ونوّاب الأئمّة عليهم‌السلام ومتكفّلو أيتامهم ، الورعون المتّقون ، الحجج على الخلق بعد أئمّتهم عليهم‌السلام. وهذا منهم تدليس وخداع حيث يصطلحون في كتبهم

__________________

(١) فاعل قوله يحصل.

(٢) وهذا حاصل كلام صاحب «المعالم» في اعتراضه.

(٣) وقد ردّ صاحب «الفصول» ص ٢٥١ الردّ والإيراد والاعتراض مع أصل الدعوة.

(٤) قول صاحب «المعالم» ص ٣٣٢.

(٥) قولهم.

(٦) راجع «المعالم» ٣٣٢ ـ ٣٣٤.

٢٧٢

الأصولية أنّ الإجماع هو الاجتماع الكاشف عن رأي إمامهم ويطلقونه في كتبهم الفقهية على محض الشّهرة ، حاشاهم عن ذلك.

نعم ، تطرّق الغفلة والاشتباه عليهم لا نمنعه ، واحتمال الخطأ لا يوجب الحكم ببطلانه في نفس الأمر ، أو عدم جواز الاعتماد على الظنّ الحاصل به لو لم يزاحمه ظنّ أقوى ، أو لم يظهر من الخارج قرائن تدلّ على غفلته في دعوى الإجماع واشتباهه في حدسه.

وكذلك لا وجه لسائر التوجيهات التي ذكرها الشهيد رحمه‌الله في «الذّكرى» (١) أيضا من أنّهم أرادوا بالإجماع عدم ظهور المخالف عندهم حين دعوى الإجماع ، إلّا أن يرجع إلى الإجماع على مصطلح الشيخ وقد عرفت ضعفه ، وأنّه خلاف مصطلح جمهورهم ، بل الشيخ أيضا يريد من الإجماع الذي يدّعيه مطلق مصطلح المشهور كما سنشير إليه ، أو أرادوا الإجماع على روايته بمعنى تدوينه في كتبهم منسوبا إلى الأئمّة عليهم‌السلام أو بتأويل الخلاف على وجه يمكن مجامعته لدعوى الإجماع وإن بعد ، كجعل الحكم من باب التخيير.

وكلّ ذلك بعيد لا حاجة إليه.

فنقول : تلك الإجماعات إجماعات نقلها العلماء ، ومن يقول بحجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد يقول بحجّيتها ، إلّا أن يعارضها أقوى منها من الأدلّة ، وظهور الخلل في بعضها لا يوجب خروج أصل الإجماع المنقول عن الحجّية أو كون جميع تلك الإجماعات باطلة في نفسها.

__________________

(١) وقد نقلها عنه في «المعالم» ص ٣٣٣ أيضا.

٢٧٣

الثالث :

قد عرفت أنّ الإجماع هو اتّفاق الكلّ أو اتّفاق جماعة يكشف عن رأي الإمام ، فأمّا لو أفتى جماعة من الأصحاب ولم يعلم لهم مخالف ولم يحصل القطع بقول الإمام عليه‌السلام ، فهو ليس بإجماع جزما.

قال الشهيد في «الذّكرى» (١) : وهل هو حجّة مع عدم متمسّك ظاهر من حجّة عقلية أو نقلية. الظاهر ذلك (٢) ، لأنّ عدالتهم تمنع عن الاقتحام على الإفتاء بغير علم. ولا يلزم من عدم الظّفر بالدّليل عدم الدّليل ، خصوصا وقد تطرّق الدّروس (٣) إلى كثير من الأحاديث ، لمعارضة الدّول المتخالفة ومباينة الفرق المنافية وعدم تطرّق الباقين إلى الردّ له (٤) ، مع أنّ الظاهر وقوفهم عليه ، وأنّهم لا يقرّون ما يعلمون خلافه.

فإن قلت : لعلّ سكوتهم لعدم الظّفر بمستند من الجانبين (٥).

قلت : فيبقى قول اولئك (٦) سليما من المعارض. ولا فرق بين كثرة القائل بذلك أو قلّته ، مع عدم معارض ، وقد كان الأصحاب يتمسّكون بما يجدونه في «شرائع» الشيخ أبي الحسن بن بابويه رحمه‌الله عند إعواز النّصوص لحسن ظنّهم به ، وإنّ فتواه كروايته (٧).

__________________

(١) وقد نقله عنه في «المعالم» ص ٣٣٣ أيضا.

(٢) لأن الاجماع هو الاتفاق لا عدم العلم بالخلاف والى الأوّل ينظر قولهم : انّ هذه المسألة مما لا خلاف فيه. وإلى الثاني قولهم : مما لا نعلم فيه مخالفا.

(٣) كما في الحاشية انّ مقصوده الاندراس والانمحاء ، كذا أفاده في الدرس.

(٤) حيث لم يعثروا على طريق الى رده بعدم الخدشة فيه من جهة السند أو الدلالة.

(٥) أي أصل الحكم وعدمه هذا كما في الحاشية.

(٦) المجمعين.

(٧) قال في الحاشية : فيه انّ الظاهر انّ تمسّكهم بما يجدونه في شرائع ابن بابويه لعلّه من ـ

٢٧٤

وبالجملة ، تنزّل فتاويهم بمنزلة روايتهم ، هذا مع ندور هذا الفرض ، إذ الغالب وجود دليل دالّ على ذلك القول (١) عند التأمّل.

وقال في «المعالم» (٢) بعد ما نقل كلامه إلى قوله : عدم الدّليل : وهذا الكلام عندي ضعيف ، لأنّ العدالة إنّما يؤمن معها تعمّد الإفتاء بغير ما يظنّ بالاجتهاد دليلا ، وليس الخطأ بمأمون على الظّنون.

أقول : وسيجيء منه رحمه‌الله في مباحث الأخبار استدلاله بما يدلّ على كفاية الظنّ مطلقا إذا انسدّ باب العلم ، ولا ريب أنّ ما ذكر من الظّنون القويّة ، فلو لم يعارضه ما هو أقوى منه فلا يبعد الاعتماد عليه ، سيّما إذا كان القائل به في غاية الكثرة ، إلّا أنّ الفرض بعيد كما ذكره في «الذّكرى».

الرابع :

قال في «الذّكرى» (٣) : ألحق بعضهم المشهور بالمجمع عليه ، فإن أراد في

__________________

ـ جهة انّهم سبروا في المواضع الكثيرة انّ كلماته في طبق الأخبار وانضم إليه قرائن أخر فيحصل لهم الظنّ في موارد الشك انّ المشكوك أيضا مأخوذ من الأخبار إذا لم يكن هناك في طبق خلافه نص آخر. فإن كان هناك نص آخر على خلافه فحينئذ يضعف الظنّ بكونه نصا فيؤخذ الظنّ بطرح الحاصل من شرائعه ، بل يمكن إيقاع المعارضة بين النص وبين ما وجد في شرائعه لما مرّ إليه الاشارة الدالّة على أنّ حكمه وفتواه كروايته. وبالجملة فالشّهرة كاشفة عن دليل ظنّي السند والاجماع كاشف عن دليل قطعي السند.

(١) قال في المدارك : فكل مشهور قد وجدنا له أصلا ودليلا بعد التتبع ، والظنّ يلحق الشيء بالأعم الأغلب فيكون المشهور حجّة.

(٢) ص ٣٣٣.

(٣) ونقله أيضا عنه في «المعالم» ص ٣٣٣.

٢٧٥

الإجماع (١) ، فهو ممنوع.

وإن أراد في الحجّية ، فهو قريب لمثل ما قلناه ، يعني قوله : لأنّ عدالتهم تمنع من الاقتحام على الإفتاء بغير علم ، إلى آخر ما ذكره (٢) ، ولقوّة الظنّ (٣) في جانب الشّهرة سواء كان اشتهارا في الرّواية بأن يكثر تدوينها ، أو الفتوى.

أقول : وقوله : لقوّة الظنّ ، يحتمل أن يكون المراد به بيان كون الظنّ الحاصل من جانب المشهور أقوى من الظنّ الحاصل من مخالفهم. ولمّا كان المفروض في المسألة السّابقة عدم العلم بالمخالف ، فلم يتعرّض لذلك (٤). وما ذكره رحمه‌الله قويّ ، ويؤيّده قوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك واترك الشاذّ النّادر ، فإنّ المجمع عليه (٥) لا ريب فيه» (٦). فإنّ ملاحظة الحكم والتعليل في الرّواية يقتضي إرادة الشهرة من المجمع عليه أو الأعمّ منه ، والعلّة المنصوصة حجّة ، والتخصيص بالرّواية خروج عن القول بحجّية العلّة المنصوصة كما لا يخفى ، وعلى القول بكون الأصل العمل بالظنّ بعد انسداد باب العلم إلّا ما أخرجه الدّليل ، يتقوّى حجّية الشّهرة ، وإذا كان معها دليل ضعيف ، فأولى بالقبول سيّما إذا كان الدّليل الذي في طرف المخالف أقوى ، بل كلّما كان الأدلّة والأخبار في جانب المخالف أكثر

__________________

(١) أي في كون المشهور اجماعا حقيقة.

(٢) ونقله في «المعالم» ص ٣٣٣.

(٣) كالعطف التفسيري لقوله : لأن عدالتهم تمنع ...

(٤) أى للدليل الثاني أو لاعتبار المخالف هنا لأنّه معلوم بقرينة المقابلة أو لوجود الظنّ في الطرف المخالف أيضا لأنّ الكلام هنا بقرينة المسألة السّابقة هنا فيما لو كان هناك طرف مخالف وهو قد يفيد الظنّ وقد لا ، فلا حاجة الى ذكره كما في الحاشية.

(٥) وهذه العبارة تتمة الرّواية.

(٦) «عوالي اللئالي» : ٢ / ١٢٩ ح ١٢ ، و ٤ / ١٣٣ ح ٢٢٩.

٢٧٦

وأصحّ ، يتقوّى جانب الشّهرة ، ويضعف الطرق الأخر.

ثمّ إنّ صاحب «المعالم» رحمه‌الله (١) اعترض على الشهيد رحمه‌الله بمثل ما سبق (٢) ، وبأنّ الشهرة التي تحصل معها قوّة الظنّ هي الحاصلة قبل زمن الشيخ رحمه‌الله ، لا الواقعة بعده. قال : وأكثر ما يوجد مشتهرا في كلام الأصحاب حدث بعد زمن الشيخ كما نبّه عليه والدي في كتاب «الرّعاية» الذي ألّفه في دراية الحديث مبيّنا لوجهه ، وهو أنّ أكثر الفقهاء الّذين نشئوا بعد زمن الشيخ كانوا يتّبعونه في الفتوى تقليدا له لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنّهم به ، فلمّا جاء المتأخّرون ، وجدوا أحكاما مشهورة قد عمل بها الشيخ ومتابعوه ، فحسبوها شهرة بين العلماء ، وما دروا أنّ مرجعها إلى الشيخ ، وأنّ الشّهرة إنّما حصلت بمتابعته. ثمّ نقل عن والده (٣) تأييدا لما ذكره من كلام بعض أصحابنا.

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام في غاية البعد ، فإنّ توجيه كلام والده لا يمكن بمثل ما نقلناه عن الشهيد رحمه‌الله فيما لو يعرف خلاف للجماعة ولم يظهر مستندهم في الحكم ، فإنّ ذلك (٤) في المقام الذي لم يظهر مستند الحكم ، ولا بأس حينئذ (٥)

__________________

(١) ص ٣٣٤.

(٢) من أنّ العدالة إنّما يؤمن معها تعمّد الافتاء كما هو قوله في المسألة السّابقة.

(٣) حيث قال : وممن اطّلع على هذا الذي بيّنه وحققه من غير تقليد الشيخ الفاضل المحقق سديد الدين محمود الحمصي والسيد رضي الدين بن طاوس وجماعة. قال السيد رحمه‌الله في كتابه المسمى «بالبهجة في ثمرة المهجة» : أخبرني جدّي الصالح ورّام بن أبي فراس أنّ الحمصي حدّثه : أنّه لم يبق في الإماميّة مفت على التحقيق ، بل كلام [كلّهم] حاك. وقال السيد عقيب ذلك ؛ والآن فقد ظهر أنّ الذي يفتى به ويجاب على سبيل ما حفظ من كلام العلماء المتقدمين. انتهى.

(٤) وهو الذي نقلناه عن الشهيد.

٢٧٧

بمتابعتهم لحصول الظنّ بأنّ قولهم كان عن دليل شرعي.

وأمّا القول : بأنّ كلّ مشهور بعد زمان الشيخ هو من هذا القبيل (٦) ، فلا ريب أنّه اعتساف. وإن أبقينا كلامه على ظاهره من تجويز تقليد الجماعة للشيخ مع تصريحهم بحرمة التقليد على المجتهد ، فهو جرأة عظيمة.

ولا ريب أنّ ذلك في معنى تفسيقهم ، مع أنّا نرى مخالفتهم له كثيرا ، بل أكثر من مخالفة القدماء بعضهم لبعض ، واعتراضهم عليه في غاية الكثرة ، على أنّا نقول : إنّ كتب الشيخ كثيرة ، وفتاويه في كتبه متخالفة ، بل له في كتاب واحد فتاوى متخالفة ، فهذه الشّهرة حصلت في أيّ موضع وتبعيّة (٧) أيّ فتوى من فتاويه ، وتقليد أيّ كتاب من كتبه؟ إذ قلّما يوجد قول بين الأصحاب إلّا وللشيخ موافقة فيه ، فربّما وافق الشّهرة فتواه في «النهاية» وخالفت فتواه في «المبسوط» ، وربّما كان بالعكس ، وربّما كانت موافقة «للخلاف» وهكذا.

وبالجملة ، هذا الكلام من الغرابة بحيث لا يحتاج إلى البيان ، فإن كان اعتمادهم على كتاب «النهاية» فسائر كتبه متأخّرة عنه ، فهي أولى بالإذعان ، مع أنّ المشهور ربّما كان موافقا «للخلاف» و «المبسوط» وإن كان بالعكس ، فربّما كانت موافقة «للنهاية» وهكذا.

نعم ، يمكن ترجيح الشهرة الحاصلة بين القدماء من جهة قربهم بزمان المعصوم عليه‌السلام ، وإن كان لترجيح الشهرة بين المتأخّرين أيضا وجه ؛ لكونهم أدقّ

__________________

(٥) حين عدم ظهور مستند الحكم.

(٦) أي من قبيل غير ظاهر المستند.

(٧) كالعطف التفسيري.

٢٧٨

نظرا وأكثر تأمّلا ، «فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (١). فعلى المجتهد التحرّي والتأمّل وملاحظة رجحان الظنّ بحسب المقامات ، وقد وجدنا المقامات مختلفة في غاية الاختلاف ، وترجّح عندنا شهرة القدماء تارة وشهرة المتأخّرين أخرى ، وتارة وجدنا مشهورا لا أصل له ، وأخرى وجدناها مستقلّة (٢) في الحكم ومحلّا للاعتماد.

ثمّ إنّ هاهنا كلاما وهو : أنّ المشهور عدم حجّية الشهرة ، فالقول بحجّية الشهرة مستلزم للقول بعدم حجّيتها ، وما يستلزم وجوده عدمه ، فهو باطل.

ويمكن دفعه : بأنّ الذي يقوله القائل هو حجّية الشهرة في مسائل الفروع ، والذي يلزم عدم حجّيته هو الشهرة في المسألة الأصولية ، وهي عدم حجّية الشهرة ، ولا منافاة.

ووجه الفرق ابتناء المسألة الأصولية على دليل عقليّ يمكن القدح فيه ، وهو عدم الائتمان على الخطأ في الظّنون ، وهو لا يقاوم ما دلّ على حجّية الشهرة ، وهو ما دلّ على حجّية الظنّ بعد انسداد باب العلم إلّا ما أخرجه الدليل كما سيجيء ، والعلّة المنصوصة وغيرهما (٣) ، فما يحصل من الظنّ بصدق الجماعة في الحكم الفرعي ، أقوى من الظنّ الحاصل من قول الجماعة بعدم جواز العمل بالمشهور.

__________________

(١) وهو من جملة فقرات الخبر النبوي الذي ذكره الشيخ البهائي في «الأربعين» وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رحم الله امرأ سمع مقالة ووعاها فأدها كما سمعها فربّ حامل فقه الى من ليس بفقيه وربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه.

(٢) يعني شهرة مطلقة غير منتسبة الى أحد الفريقين وغير مخصوصة بإحداهما.

(٣) مما دلّ على حجّية الظنّ المطلق كما سيجيء.

٢٧٩

الخامس :

قد يطلقون الإجماع على غير مصطلح الأصوليّ ، كإجماع أهل العربية والأصوليين واللّغويين ، ومثل قولهم : أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه ، وأجمع الشيعة على روايات فلان.

وهذا ليس كاشفا عن قول الحجّة ، ولكنّه ممّا يعتمد عليه في مقام الترجيحات ومراتب الظّنون.

٢٨٠