القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

قانون

اختلفوا في حجّية خبر الواحد العاري عن القرائن المفيدة للعلم بصدق نفسه وبصدق مضمونه (١) وإن كان نصّا في الدّلالة. وإنّما قيّدنا بذلك لأنّه قد يكون مضمونه قطعيّا باعتبار موافقته لدليل قطعيّ ، ولم يتعرّضوا هنا للخلاف فيه لعدم فائدة مهمّة في الخلاف من حيث حجّيته في نفسه مع ثبوت قطعيّة مضمونه.

وقد يكون هو بنفسه قطعيّا لكن يكون مضمونه ظنّيا ، باعتبار كون دلالته ظاهرا لا نصّا. وخلافهم في هذا المقام أيضا ليس فيه ، بل النزاع في جواز العمل به هو النزاع في جواز العمل بالظنّ مطلقا.

وأمّا الخبر الذي كان صدقه قطعيّا بنفسه وبمضمونه ؛ فخروجه عن البحث ظاهر. فانحصر البحث فيما لم يحصل العلم به من حيث السند والمضمون [والمتن] جمعا.

والحقّ ، أنّه يجوز التعبّد به عقلا (٢) ـ أي لا يلزم من تجويز العمل به محال أو

__________________

(١) قال في الحاشية : لا يخلو عن استخدام في الضميرين لعود ضمير نفسه الى الخبر من حيث إنّه حكاية ، وعود ضمير مضمونه الى المحكي القول عن الامام عليه‌السلام ، ويقال له متن الحديث ، وقد يطلق عليه لفظ الحديث. ومضمونه عبارة عن الحكم المدلول عليه بهذا اللّفظ ، ويعبّر عنه غالبا بالمصدر المضاف الى الفاعل أو المفعول كوجوب الصلاة في قوله عليه‌السلام : الصلاة واجبة. ونجاسة الكلب في قوله : الكلب نجس. وتحريم الخمر في قوله : حرمت عليكم الخمر ، وما شابه ذلك. ومعنى صدقه أي مطابقته للواقع ، كما أنّ معنى صدق الخبر مطابقة قول الرّاوي حين حكاية المعصوم عليه‌السلام بقوله ؛ قال الصادق عليه‌السلام.

(٢) والمراد بالجواز هنا الإمكان العقلي في مقابلة عدم الإمكان ، بمعنى الامتناع العرضي ـ

٤٠١

قبيح ـ بلا خلاف فيه من أصحابنا ، إلّا ما نقل عن ابن قبّة (١) ، وتبعه جماعة من الناس (٢) تمسّكا بأنّه يؤدّي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال ، وأنّه لو أجاز التعبّد به في الأخبار عن المعصوم عليه‌السلام لجاز عن الله تعالى أيضا ، لجامع كون المخبر عادلا في الصّورتين ، وفيه ما فيه.

ويمكن توجيه الاستدلال الأوّل : بأنّ للمحرّمات مثلا قبحا ذاتيّا ، وكذا الواجبات (٣) ، وربّما يحرم شيء لكونه سمّا أو موجبا لفساد في العقل أو الجسم كالخمر والميتة الموجبتين للقساوة وظلمة القلب ، وتلك خاصيّتهما ، ولا تزول بالجهل ، فإذا جوّز العمل بخبر الواحد المفيد للظنّ ، فلا يؤمن عن الوقوع في تلك المفسدة ، فتجويز العمل به ، مظنّة الوقوع في المهلكة.

ويمكن دفعه : بأنّا نرى بالعيان أنّ الشارع الحكيم جوّز لنا أخذ اللّحم من (٤) أسواق المسلمين ، وحكم بالحلّ وإن لم نعلم كونه مذكّى ، وكذلك رفع المؤاخذة عن الجاهل والناسي وغيرهما. فعلم من ذلك أنّه تدارك هذا النقص من شيء آخر من الشرائع من الأعمال الشاقّة والمجاهدات الصّعبة وسائر التكليفات ، فلا مانع من أن يجوز العمل بالظنّ الحاصل من خبر الواحد ، وإن كان في نفس الأمر (٥)

__________________

ـ كالظلم على الله تعالى ، لا الامتناع الذّاتي كاجتماع النقيضين ، والإمكان أعم من الوقوع. هذا كما في الحاشية.

(١) بكسر القاف وفتح الباء من المتكلّمين ، وكذا حكاه في «المعارج» ص ١٤١.

(٢) من علماء الكلام منهم الجبّائيّان وغيرهما ، حيث قالوا : بامتناع التعبد به في الشريعة.

(٣) فيها حسنا ذاتيا.

(٤) في الكتاب عن.

(٥) في بعض الأحيان.

٤٠٢

موجبا لارتكاب الحرام وترك الواجب.

ثمّ اختلفوا في جواز العمل به شرعا ، والمراد بهذا الجواز هو المعنى العامّ الشامل للوجوب ، بل المراد الوجوب ، لأنّه إذا جاز العمل به شرعا ، فلا بدّ أن يجب أن يعمل على مقتضاه بعنوان الوجوب في الواجب ، وبعنوان الاستحباب في المستحبّ ، وهكذا.

والحقّ جواز العمل به بالمعنى المذكور كما هو مختار جمهور المتأخّرين (١) ، خلافا لجماعة من قدمائنا كالسيّد وابن زهرة وابن البرّاج وابن إدريس.

والحقّ أنّه يدلّ على ذلك ، السّمع والعقل كلاهما ، كما سيجيء ، خلافا لجماعة (٢) حيث أنكروا دلالة العقل عليه.

لنا وجوه :

الأوّل :

قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٣).

__________________

(١) وهو الأقرب كما عن «المعالم» ص ٣٤٣.

(٢) وهؤلاء الجماعة على ما حكاه شارح «الزبدة» المحقق الطوسي وأكثر المعتزلة والأشاعرة. كما نقل في الحاشية. وأعلم أنّ بعض المخالفين كأبي علي الجبّائي ذهب إلى عدم جواز التعبد به عقلا.

(٣) الحجرات : ٦. قال البيضاوي : فتبيّنوا ... وتعرّفوا. الى أن قال : وقراء حمزة والكسائي فتثبّتوا أي فتوقفوا الى يتبين لكم الحال. وكذا قراء خلف. وأما الباقون فقرءوها (فَتَبَيَّنُوا).

٤٠٣

وجه الدلالة : أنّه سبحانه علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق ، فينتفي عند انتفائه ، عملا بمفهوم الشّرط ، وإذا لم يجب التبيّن عند مجيء غير الفاسق ، فإمّا أن يجب القبول وهو المطلوب ، أو الردّ وهو باطل ، لأنّه يقتضي كونه أسوأ حالا من الفاسق ، وهو واضح الفساد (١) ، هكذا ذكره كثير من الاصوليين (٢).

والوجه عندي : أنّه (٣) ليس من باب مفهوم الشرط ، لأنّ غاية ما يمكن توجيهه (٤) على ذلك أن يكون المعنى إن جاءكم خبر الفاسق فتبيّنوا ، ومفهومه (٥) إن لم يجئكم خبر الفاسق فلا يجب التبيّن ، سواء لم يجئكم خبر أصلا أو جاءكم خبر عدل ، فالمطلوب داخل في المفهوم وإن لم يكن هو هو.

وفيه : أوّلا : أنّ ظاهر الآية إن جاءكم الفاسق بالخبر ، ومفهومه إن لم يجئ الفاسق بالخبر ، لا إن لم يجئ خبر الفاسق.

وثانيا : أنّ المراد بالتبيّن والتثبّت طلب ظهور حال خبر الفاسق والثبات والقرار حتّى يظهر حال خبر الفاسق ، فكأنّه قال : تبيّنوا خبر الفاسق. فالمفهوم يقتضي عدم وجوب تبيّن حال خبر الفاسق ، لا خبر العادل ، للزوم وحدة الموضوع

__________________

(١) هذا كلّه الى هنا كما في «المعالم» ص ٣٤٥.

(٢) وليعرف أنّ ما ذكره كثير من الأصوليين منطبق على ما يستفاد من العرف ، فإنّ أصحاب الأذهان الصافية لا يفهمون من القضية المذكورة إلّا ما ذكر ، ولكن بحسب التدقيق وقواعد العربية انّ المستفاد من القضية المذكورة ما ذكره المصنف بقوله : أو لا ... الخ.

(٣) انّ هذا الاستدلال.

(٤) على ما وجّهه له سلطان العلماء. راجع حاشيته ص ٣٢٥.

(٥) سالبة بانتفاء الموضوع المركب من جزءين ، وانتفاؤه تارة بانتفاء الجزء الأوّل واخرى بانتفاء الجزء الثاني هذا كما في الحاشية.

٤٠٤

في المفهوم والمنطوق (١) في الشرط والجزاء.

نعم ، لمّا كان مقدّم المفهوم إن لم يجئكم خبر الفاسق ، بحيث يشمل عدم خبر أصلا أو مجيء خبر عادل ، وتاليه لا يجب تبيّن خبر الفاسق بحيث يشمل ما لو لم يكن هناك خبر أصلا أو كان ولكن كان خبر العادل ، فيندرج فيه خبر العادل ، ولكن لا يدلّ على عدم وجوب تبيّنه ، مع أنّ ذلك خروج عن حقائق الكلام وترك للعرف والعادة بمجرّد احتمال كون السّالبة منتفية الموضوع ، ولا ريب أنّه مجاز لا يصار إليه. وقسمة المنطقيين السّالبة إلى الموجود الموضوع والمنتفي الموضوع ، لا توجب كونه معنى حقيقيّا لها أو عرفيا ، والكتاب والسنّة إنّما وردا على مصطلح أهل اللّغة والعرف لا مصطلح أهل الميزان ، فالاعتماد على مفهوم الوصف ، فإنّا (٢) وإن لم نقل بحجيّته في نفسه لكنّه قد يصير حجّة بانضمام قرينة المقام (٣) كما أشرنا إليه في مباحث المفاهيم. وعلى فرض إمكان تصوير مفهوم الشرط في هذا الكلام ، فلا يخفى أنّ حجّية مثل هذا المفهوم الوصفيّ أوضح من حجّية هذا الفرد من المفهوم الشرطي.

نعم ، لو جعل معنى الآية : إن كان المنبئ فاسقا فتبيّنوا ، لصار ذلك من باب مفهوم الشرط ، وهو خلاف الظاهر ، وكيف كان ؛ فيتّجه الاستدلال بالآية.

والخدشة في الاستدلال بأنّ المفهوم نفي وجوب التبيّن وهو لا يدلّ إلّا على جواز العمل ، والمقصود إثبات الوجوب لا وجه لها ، لما أشرنا إليه من معنى الجواز ،

__________________

(١) بلا تفاوت بينهما إلّا في انتفاء الشرط.

(٢) معاشر الأصوليين.

(٣) هذا مع وجود قرينة في المقام حالية أو مقالية ، ولكن الكلام هنا هو في وجود القرينة.

٤٠٥

ولعدم القائل بالفصل ، فمن قال بالجواز ، قال بالوجوب ، وسيجيء تمام الكلام.

ثمّ إنّ هذا الاستدلال إنّما ينهض على من جوّز العمل بالمفاهيم (١) ، وبالظنّ الحاصل من الظّواهر (٢) في مسائل الاصول ، وقد عرفت في المباحث السّالفة (٣) التحقيق فيهما وستعرف في الثاني أيضا.

واعترض أيضا (٤) : بأنّ سبب نزول الآية ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث وليد بن عقبة (٥) بن أبي معيط إلى بني المصطلق (٦) مصّدّقا ، فلمّا قرب إلى ديارهم ركبوا مستقبلين فحسبهم مقاتليه فرجع وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّهم ارتدّوا ، فنزلت الآية.

وأيضا التعليل بقوله : أن تصيبوا إلى آخره ، إنّما يجري فيه وفي مثله ، لا مطلق الخبر ، والمقصود إثبات حجّية مطلق الخبر.

والأوّل : مردود بما حقّقنا سابقا من أنّ العبرة بعموم اللفظ ، ولفظ فاسق ، وبنبإ ،

__________________

(١) مطلقا في أصول الفقه وغيره.

(٢) وهي مسألة معروفة وهي أنّ الأصول هل يثبت بالظنّ أم لا.

(٣) فقد عرفت في المباحث السابقة من حجّية بعض المفاهيم دون بعض ، وستعرف التحقيق في الثاني أيضا ، أي أنّ مسائل الأصول كالفقه يثبت بالظنّ الثابت الحجّية.

(٤) راجع «العدة» ١ / ١١٣.

(٥) وهو أخو عثمان لأمّه ، وقد ولّاه عثمان الكوفة من بعد سعد بن أبي وقّاص ، وهو في غاية الانحراف والفسق والفجور حتّى صلّى بالناس صلاة الفجر وهو سكران أربعا ، وهو يقول صل أزيدكم.

(٦) وكان بينه وبينهم جناية في الجاهلية ، فلما أخبروا بمجيئه ركبوا إليه تعظيما وإجلالا ووضعوا العداوة في زاوية النسيان ، فلما سمع بهم خاف منهم ورجع وقال : إنّ القوم قد ارتدوا وهمّوا القتل ومنعوا صدقاتهم. فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خالد بن الوليد مع الغزاة إليهم وأمرهم بالتبيّن والاحتياط فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فعادوا واخبروه بأنّهم على الاسلام وأنّهم سمعوا أذانهم وصلواتهم.

٤٠٦

ينزّلان على العموم كما لا يخفى ، إذ لو كان المراد الخصوص ، لناسب العهد والتعريف باللّام.

والثاني : بأنّ التعليل لبيان أنّ خبر الفاسق معرّض لمثل هذه المفسدة العظمى ؛ لا أنّه كذلك مطلقا وفي جميع الأفراد ، وذلك لا يوجب اختصاص التبيّن بمثل هذه الواقعة ، مع أنّ ذلك أيضا يفيد المطلق ، إذ مفهومه يقتضي عدم التثبّت في مثل هذه الواقعة وغيرها لخبر العادل ، عملا بالعلّة المنصوصة في المنطوق.

وقد يعترض أيضا (١) : بأنّ العمل بخبر العدل لا يصحّ في مورد نزول الآية ، لعدم جواز العمل بخبر العدل الواحد في الارتداد ، فلا يدلّ على حجّية خبر العدل مطلقا.

فعلى هذا ، فالنكتة في ذكر الفاسق ؛ التنبيه على فسق الوليد وتعييره عليه ، وإلّا فكان يكفي أن يقول : إن جاءكم أحد ، ونحوه.

وفيه : أنّ عدم جواز العمل بخبر العدل في الردّة لا يضرّ بحجّية المفهوم لإمكان التخصيص ، يعني إخراج المورد عن عامّ المفهوم بدليل خارجي ، والمناسب للتعيير حينئذ هو التعريف والعهد ، فالعدول عنه بعد ترك ذكر مثل أحد ونحوه يدلّ على أنّ ذلك من جهة اعتبار المفهوم ، مع أنّ عدم قبول خبر العدل الواحد في الرّدّة إنّما هو إذا لم ينضمّ إليه آخر ، بخلاف خبر الفاسق ، فإنّه لا يقبل أصلا ، فكأنّه اريد إن جاءكم فاسق بخبر ، وإن كان خبر غير الارتداد (٢) فلا تقبلوه أصلا ، لا منضمّا ولا منفردا إلّا مع التثبّت ، بخلاف خبر العدل ، فإنّه يقبل في الجملة ، أمّا في غير الردّة ؛ فمطلقا ، وأمّا في الرّدّة ؛ فمع انضمام الغير.

__________________

(١) راجع «العدة» ١ / ١١٣.

(٢) لعدم العبرة بخصوص المورد.

٤٠٧

الثاني (١) :

قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.)(٢)

وجه الدلالة أنّه تعالى أوجب الحذر عند إنذار الطوائف للأقوام ، وهو يتحقّق بإنذار كلّ طائفة من الطوائف لقومهم ، ولمّا لم يدلّ لفظ الفرقة على كونهم عدد التواتر ، فلفظ الطائفة أولى بعدم الدّلالة ، بل الظاهر أنّ الفرقة يطلق على الثّلاثة فيصدق الطائفة على الاثنين ، بل الواحد أيضا.

ولا يضرّ ضمير الجمع في قوله تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا) في شموله للواحد أيضا ، لأنّه عبارة عن الطوائف ، ولا يلزم من ذلك لزوم اعتبار الإنذار من جميع الطوائف ، لصدق حصوله بإنذار كلّ واحد منهم ، كلّ واحد من الأقوام ، ثمّ يصدق حصوله بملاحظة كلّ واحد منهم بالنسبة إلى قومهم. وكيف كان ، فالمقصود بيان حجّية خبر الواحد [في الجملة] ، لا حجّية مجرّد خبر رجل واحد ، مع أنّه لا قائل بالفرق في جانب المنع.

وأمّا دلالة الآية على وجوب الحذر ، فلأنّ التهديد المستفاد من كلمة (لو لا) (٣) يدلّ على وجوب النفر ، وتعليل النفر بالتفقّه يدلّ على وجوبه ، وكذا تعليله بالإنذار ، ومن المستبعد جدّا وجوب الإنذار وعدم وجوب إطاعة المستمع ، بل المتبادر وجوب الإطاعة للمنذرين.

__________________

(١) الوجه الثاني من الوجوه التي استدلّ بها. وهو أيضا استدل به صاحب «المعالم» ص ٣٤٣ ولكن جعله الوجه الأوّل.

(٢) التوبة : ١٢٢.

(٣) و (لو لا) من حروف التحضيض وكذا (لو ما) ويشاركها في التحضيض (هلّا) و (ألّا) و (ألا) ، كما في «شرح الألفية» للمكودي ولابن عقيل.

٤٠٨

والمشهور في وجه الدّلالة ، أنّ كلمة لعلّ للترجّي ، وهو ممتنع على الله تعالى فلا بدّ من إخراجها عن ظاهرها ، وأقرب مجازاتها الطلب الذي هو في معنى الأمر الظاهر في الوجوب ، وهو فاسد لما بيّناه في مبحث الأمر (١).

وقيل : انّ أقرب مجازاتها مطلق الطلب ، ونحمله على الوجوب لأنّه لا معنى لندب الحذر وجوازه ، فإنّه إن حصل المقتضي له فيجب ، وإلّا فلا يحسن.

وردّ (٢) : بأنّ ندب الحذر لا معنى له إذا كان المقتضي موجودا قطعا أو ظنّا ، وأمّا مع احتمال وجود المقتضي ، فربّما كان الحذر مندوبا كالحذر عن الطهارة بالماء المشمّس مخافة حصول البرص.

أقول : نعم ، ولكن لا معنى لاستحباب الحذر هنا بمعنى أن يقال : يستحبّ الحذر عمّا أنذر به بخبر الواحد (٣) بمعنى العمل بمدلوله مطلقا ، فإنّه قد يكون خبر الواحد دالّا على الوجوب ، ولا معنى لاستحباب الحذر عن ترك العمل بهذا الخبر بأن يقال : يستحبّ أن يعمل بهذا الواجب. وكذلك لا يصحّ حمل الطلب على القدر المشترك بينهما ، بمعنى أنّه يجب العمل بخبر الطائفة إذا حصل منه القطع ، ويستحبّ إذا حصل منه الظنّ ، فإنّ معناه حينئذ استحباب الحذر عن الإنذار الظنّي الحاصل على سبيل الإيجاب.

وحاصل الكلام ، أنّ القول باستحباب العمل بخبر الواحد المفيد للوجوب مع بقاء الوجوب على معناه الحقيقي ، ممّا لا يتصوّر له معنى محصّل ، فإنّ استحباب

__________________

(١) من تسليم ظهور لفظ الأمر في الوجوب ومنع كون ما عداه من الألفاظ الدالّة على الطلب في معنى الأمر ليكون ظاهرا في الوجوب.

(٢) والرّاد هو سلطان المحققين في حاشية «المعالم» ص ٣٢٤.

(٣) وليس هذا المعنى كلام صاحب «المعالم» ، بل معناه يستحب العمل بغير الحجّة ، وهذا مما لا معنى له ؛ لأنّه نظير ما لو قيل يستحب فعل الحرام.

٤٠٩

الواجب لا يتصوّر إلّا في أفضل فردي الواجب التخييري ، والمفروض أنّه لا يتصوّر له فرد آخر حينئذ سوى العمل بمقتضى الأصل ، فإنّ الكلام في العمل بخبر الواحد من حيث هو ، لا إذا كان معارضا لظاهر الآية أو الإجماع أو غيرهما ، والتخيير بين العمل بالأصل والعمل بخبر الواحد لا معنى له ، لأنّه إمّا يعتبر مفهوم الأصل في مقابل مفهوم خبر الواحد كليين (١) ، فيقال إنّ المكلّف مختار بين أن يعمل على مقتضى الأصل ، بأن يقول : لا حكم في المسألة بالخصوص من الشّارع ، لأنّ الأصل عدم الحكم الشّرعي ، وبين أن يعمل على مقتضى خبر الواحد ، بأن يقول : ورد في المسألة حكم من الشّارع ، فيرجع هذا إلى التخيير بين الإذعان بثبوت الحكم وعدم ثبوته ، ولكن يستحبّ الإذعان (٢) بثبوت الحكم.

وإمّا يعتبر الأصل الخاصّ في مقابل الخبر الخاصّ ، مثل أن يقول : الأصل براءة الذمّة عن مقتضى الوجوب الذي هو مدلول هذا الخبر الخاصّ مثلا فيقال : أنّ المكلّف مخيّر بين أن يعلم ذمّته بريئة عن هذا التكليف ، وبين أن يعلم ذمّته مشغولة بمقتضى مدلول الخبر ، وعلى أيّ الفرضين لا يصلح جواز اعتقاد الوجوب الذي هو مدلول الخبر.

وما يتوهّم أنّ هذا (٣) من باب التخيير في الرّجوع إلى المجتهدين المخالفين في الرأي أو إلى الخبرين المتعارضين المتساويين من جهة الترجيح ، فهو باطل ، لأنّ التخيير في هاتين الصّورتين إنّما هو في حال الاضطرار وإرشاد بطريقة العمل في صورة جهالة الحكم ، وعدم وجود ما يفيد القطع بالحكم.

__________________

(١) أي على سبيل الكليّة وبلا ملاحظة أصل خاص أو مدلول خبر خاص.

(٢) فلا تخيير بين الواجبين.

(٣) أي هذا التخيير الحاصل بين الأصل ومدلول الخبر الذي به أوّل استحباب الحذر في المقام.

٤١٠

ولا ريب أنّه لا يعلم في هاتين الصّورتين كون خصوص أحد الحكمين من الشارع (١) ، بل يحتمل أن يكون كلّ منهما حقّا ، ولكن لمّا لم يتعيّن ، ولا سبيل إلى العلم ، فرخّص لنا الشّارع حينئذ إلى الأخذ بأيّهما شئنا ، من باب التسليم.

وأمّا فيما نحن فيه ، فليس كذلك ، إذ هو إنشاء الحكم الأوّلي حين حضور الشّارع ، والأصل الثابت بالعقل والشّرع متيقّن الثبوت من الشّرع جزما ، وليس من باب الأحكام الاضطرارية في حال عدم التمكّن ، فالتخيير فيما نحن فيه من باب التخيير بين خصال الكفّارة المصرّح به في الكتاب والسنّة ، لا من باب التخيير الذي دلّنا عليه الإلجاء والاضطرار حين جهالة الحكم.

وهذا التخيير قد يتصوّر بين جواز العمل بالأصل ، وجواز العمل بخبر الواحد ، وقد يتصوّر بين الأصل وخبر الواحد ، والأوّل إنّما هو من باب المسائل الأصولية المبحوث عنها.

والذي يمكن (٢) أن يستدلّ عليه برجحان الحذر المستفاد من الآية على ما بنى عليه المأوّل (٣) ، إنّما هو من باب المسائل الفقهية (٤) المستنبطة من آحاد أخبار الآحاد و ، حمله على الاستحباب إنّما يصحّ إذا قطع النظر عن دلالتها على

__________________

(١) معيّنا من العلم بأنّ أحدهما حكم الشارع وقد انشأه وقرّره في عالم الواقع إلّا انّه اشتبه المعيّن الواقعي بين هذين الحكمين في عالم الظاهر وهذا بخلاف ما نحن فيه.

(٢) أي التخيير الذي.

(٣) وهو سلطان المحقّقين حيث وجّه ندب الحذر بإرجاعه الى صورة احتمال وجود المقتضي وهو على ما زعمه إما الوجوب أو الحرمة في الخبر الدّال على أحدهما ، أو تابع مفسدة الترك أو الفعل ، والقرينة على أنّه بني على كون رجحان الحذر المستفاد من الآية.

(٤) وسيجيء بأن لا معنى للتخيير هنا فما لو كانت المسألة أصولية.

٤١١

الوجوب مثلا. يعني إذا عارض خبر الواحد للأصل ، فيجوز العمل بكلّ منهما ، لكن يستحبّ اختيار العمل بخبر الواحد ، فهو في معنى التخيير في المطلوب بخبر الواحد بين الإتيان به وعدمه وهو صريح في نفي الوجوب ، ولا يجامع إتيانه على سبيل الوجوب كما توهّمه. فهذا إخراج للخبر عن المدلول الحقيقي.

وأمّا التخيير بين الاعتقاد بجواز العمل بالأصل ، وبين الاعتقاد بجواز العمل بخبر الواحد عند عدم دليل آخر رافع للأصل الذي هو من المسائل الأصولية ، فهو غلط ، إذ لا يتوهّم فيه تعارض وتناقض حتّى يستلزم التخيير وأرجحيّة أحدهما ، فإنّ الاعتقاد بجواز العمل بالأصل قبل العثور على الدليل ، لا ينافي الاعتقاد بجواز العمل بخبر الواحد في الصورة المفروضة.

فإن قلت : نعم (١) ، ولكن اعتقاد جواز العمل بخبر الواحد لا ينافي استحباب العمل.

قلت : بعد ثبوت التكليف في الجملة ، ولزوم الامتثال بالتكاليف ، فكلّ ما يجوز استخراج الحكم منه فيتمكّن من العمل به فيحصل مقدّمة الواجب ، فيجب الإتيان به ، فلا معنى للاستحباب.

فإن قلت : نعم ، ولكن يقدر على استنباطه من الأصل فهو مخيّر بينهما.

قلت : المفروض أنّ الأصل إنّما يصحّ العمل به قبل إمكان معرفة الحكم ، وبعد الإمكان فلا يجوز ، لهذا اشترط الأصوليون في جواز العمل بأصل البراءة الاستقراء والتتبّع ، بل أوجبوا ذلك في العامّ مع أنّه أولى بعدم الوجوب (٢) ، فكيف

__________________

(١) أي لا منافاة لما مرّ إلّا أنّه استدرك بقوله لكن اعتقاد جواز العمل بخبر الواحد لا ينافي استحباب العمل أي بالخبر في مقابل جواز العمل بالأصل.

(٢) أي عدم وجوب الفحص في العام لكونه من الأدلّة اللّفظية التي هي أقوى من الأصل.

٤١٢

يقال بالاستحباب مع أنّه لا دليل على الاستحباب في ذلك.

بقي الكلام في تأويل كلمة (لعلّ) بناء على ما اخترناه وأثبتناه في محلّه. فيمكن جعلها من باب اللّام في قوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(.)(١) بأن يكون استعارة تبعيّة (٢) فيشبه حصول الخوف والإطاعة مرّة وعدمه اخرى ، إمّا من جهة تفاوت الإنذارات بالقطع والظنّ ، أو المخبرين بالصدق والكذب ، أو المستمعين بالإطاعة وعدمها بالترجّي ، لأنّ المترجّى قد يحصل وقد لا يحصل ، واستعير كلمة (لعلّ) لذلك.

ويمكن أن يجعل حكاية عن حال المنذرين ، فإنّهم مترجّون لحصول الحذر.

وما يقال : أنّه لا يدلّ إلّا على وجوب الحذر عند الإنذار وهو التخويف ، فهو أخصّ من المدّعى (٣).

مدفوع : بعدم القول بالفصل ، وبأنّه يثبت بذلك غيره بطريق الأولى ، إذ إثبات الحرمة والوجوب أصعب من الكراهة والاستحباب للمسامحة في دليلهما دون الأوّلين ، ولموافقتهما للأصل وكمال مباينة الأوّلين له.

__________________

(١) القصص : ٨.

(٢) فيه نظر ، لأنّ الاستعارة التبعيّة ليست من المجاز اللّغوي ، بل هي أشبه شيء بالمجاز العقليّ. والضرورة قاضية بأنّ كلمة لعلّ في الآية على اعتبار الاستعارة مستعملة في الطلب وهي موضوعة للترجّي ، فالتشبيه اعتبار حصل بينهما لا بين متعلقيهما ، فقد شبّه الطلب في كون المطلوب به قد يحصل وقد لا يحصل بالترجّي في كون المرجوّ به قد يحصل وقد لا يحصل ، واستعير له كلمة لعلّ ، فهي أوفق بالاستعارة التحقيقيّة لتحقق معناها المستعمل فيه بكونه أمرا معلوما يمكن أن يشار إليه إشارة عقلية ، هذا كما في حاشية القزويني.

(٣) راجع «المعالم» ص ٣٤٤.

٤١٣

وقد اعترض على الاستدلال أيضا : بأنّ مقتضى الآية الوجوب الكفائي على كلّ فرقة ، ولا يقول به أحد.

واجيب : بأنّه مخصّص بالدّليل ، والأولى أن يقال أنّ المراد بالفرقة في الآية الجماعة العظيمة التي تحتاج إلى منذر مستقلّ ، مثل بني حرب أو بني أسد ونحوهما ، لا محض ما يصدق عليه الفرقة لغة ، فيصحّ الوجوب الكفائي في الكلّ (١).

واعترض أيضا : بإمكان حمل التفقّه على التفقّه في اصول الدّين. وهو أيضا بعيد (٢) لأنّ المفهوم منه في العرف هو الفروع ، مع أنّه أهمّ بالتهديد على ترك النفر فيه ، لاستقلال العقل فيه غالبا دون الفروع ، مع أنّ الخطاب متعلّق بالمؤمنين واتّصافهم بكونهم مؤمنين لا يكون إلّا بعد كونهم عالمين بما يعتبر في الإيمان.

واعترض أيضا : بأنّ التفقّه ظاهر في الاجتهاد ومعرفة الأحكام ، فلا يدلّ الآية إلّا على لزوم عمل المقلّد بفتوى المجتهد ، وهو خارج عن المبحث ، وهو اتّفاقي.

وأجيب (٣) : بمنع ثبوت كونه حقيقة في ذلك في عرف الشّارع ، بل هو اصطلاح جديد ، فيحمل على معناه اللّغوي وهو مطلق الفهم ، وهو صادق على سماع الخبر ونقله مع أنّه مستلزم لتخصيص القوم بالمقلّدين ، وهو أيضا مجاز.

نعم ، يمكن أن يدّعى أنّ المتبادر من الفهم والإنذار هو الفتوى لا نقل الخبر ، فتأمّل.

__________________

(١) وإن لم يصحّ الوجوب العيني.

(٢) جواب على الاعتراض المذكور.

(٣) راجع «المعالم» ص ٣٤٥.

٤١٤

هذا كلّه مبنيّ على المشهور (١) في تفسير الآية.

وأمّا على التفسير الآخر ، وهو أن يكون المراد بالطوائف المجاهدين ، وأن يكون التفقّه واجبا على المتخلّفين ، فيمكن توجيه الاستدلال أيضا بملاحظة ما سبق كما لا يخفى.

الثالث :

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(٢)الآية. فإنّ المنقول عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام أيضا من الهدى ، ويظهر وجه الاستدلال ممّا بيّنّا سابقا من التبادر ، فإنّ الظاهر من وجوب إظهاره أنّه يجب على السّامع الامتثال به ، فتأمّل.

__________________

(١) أشار الى سادس الايرادات على الآية المذكورة وهو كون التفقه والانذار مراد من النافرين ، والحذر والقبول مقصودا من المتخلّفين كما هو ظاهر الآية وصريح الرواية ، ومن ذلك ما رواه عبد المؤمن الأنصاري قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّ قوما يروون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : اختلاف أمتي رحمة. فقال : صدقوا. فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب. قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنّما أراد قول الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ،) فأمرهم أن ينفروا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيتعلّمون ثم يرجعوا الى قومهم فيعلموهم ، إنّما أراد اختلافهم في البلدان لا اختلافا في دين الله ، إنّما الدّين واحد.

(٢) البقرة : ١٥٩.

٤١٥

الرابع :

اشتهار العمل بخبر الواحد في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعمل الصّحابة عليه من غير نكير. وذكر الخاصّة والعامّة وقائع كثيرة ذكروا فيها عمل الصحابة به يحصل من مجموعها العلم باتّفاقهم الكاشف عن رضاه عليه‌السلام ، بل كان عليه‌السلام يأمر به ويجوّزه ، حيث كان يرسل الرّسل والولاة إلى القبائل والأطراف لتعليم الأحكام بدون اعتبار عدد التّواتر ، وكذلك أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ومن يليهم من أصحابنا القدماء ، كان طريقتهم رواية أخبار الآحاد وتدوينها وضبطها والتعرّض لحال رجالها وتوثيقها وتضعيفها وتقرير الأئمّة عليهم‌السلام على ذلك ، بل أمرهم بالعمل بها كما يستفاد من تتبّع أخبار كثيرة لا نطيل بذكرها ، فليراجعها من أرادها في مظانّها (١) ، بل من الواضح الجليّ الذي لا يقبل الإنكار أنّ كلّ واحد من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام

__________________

(١) وهي كثيرة جدا وقريبة من التواتر ، بل عن المجلسي في «البحار» كونها متواترة. وإليك القليل منها تبرّكا بحديثهم عليهم الصلاة والسلام ، فعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم ارحم خلفائي. فقيل له : يا رسول الله ومن خلفاؤك. قال : الّذين يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنتي فيعلّمونها الناس من بعدي.

وعن علي بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر رواياتهم عنّا.

وعن «عدة» الشيخ عن الصادق عليه‌السلام قال : فإذا نزلت بكم حادثة لا تعلمون حكمها في ما ورد عنّا فانظروا الى ما رووه عن علي فاعملوا به. وعن آبان بن عثمان انّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال له : انّ ابان بن تغلب روى عني رواية كثيرة فما رواه لك عني فاروه عني. وعن أبي بصير أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال له في حديث : لو لا زرارة ونظرائه لظننت أنّ أحاديث أبي ستذهب.

٤١٦

المتردّدين عندهم السائلين عنهم ، كانوا يأخذون الخبر وينقلون إلى غيرهم للعمل ، ولم يكن يحصل بخبر كلّ واحد منهم العلم للسّامع ، ومع ذلك كان أئمّتهم عليهم‌السلام مطّلعين على طريقتهم ويقرّرونهم على ذلك ، واحتمال أنّ كلّ ذلك كان من القرائن المفيدة للعلم ؛ ممّا يأباه العقل السليم والفهم المستقيم.

فحصل من جميع ما ذكرنا ، أنّ إطباقهم على هذه الطريقة من غير نكير منهم ، إجماع منهم على الجواز ، فيدلّ عليه الإجماع وتقرير المعصوم عليه‌السلام بل أمره (١) ، وصرّح بالإجماع الشيخ في «العدّة» (٢) حيث قال : وأمّا ما اخترته من المذهب فهو أنّ خبر الواحد إذا كان من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة ، وكان ذلك مرويّا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد من الأئمّة عليهم‌السلام وكان ممّن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم تكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ، لأنّه إذا كان هناك قرينة تدلّ على ذلك كان الاعتبار بالقرينة ، وكان ذلك موجبا للعلم ، ونحن نذكر القرائن فيما بعد ، جاز العمل به(٣).

والذي يدلّ على ذلك (٤) إجماع الفرقة المحقّة ، فإنّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي أوردوها في تصانيفهم ودوّنوها في أصولهم ، لا يتناكرون

__________________

(١) وفي التوقيع عنه عليه‌السلام : لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرنا ونحملهم إيّاه إليهم. وعنه عليه‌السلام : العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك عني ، فعنّي يؤديان وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان ... كما عن «الكافي».

(٢) ١ / ١٢٦.

(٣) جواب إذا كان.

(٤) وهو تتمة كلام الشيخ أيضا.

٤١٧

ذلك ولا يتدافعونه ، حتّى أنّ واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه : من أين قلت هذا ، فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور ، وكان رواية ثقة لا ينكرون حديثه ، سكتوا وسلّموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله ، هذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من الأئمّة عليهم‌السلام إلى زمان الصّادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام الذي انتشر عنه العلم ، فكثرت الرّواية من جهته ، فلو لا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزا ، لما أجمعوا على ذلك ولا أنكروه ، لأنّ إجماعهم لا يكون إلّا عن معصوم عليه‌السلام لا يجوز عليه الغلط والسّهو.

والذي يكشف عن ذلك (١) أنّه لمّا كان العمل بالقياس محظورا في الشّريعة عندهم ، لم يعملوا به أصلا ، وإذا شذّ واحد منهم وعمل به في بعض المسائل أو استعمله على وجه المحاجّة لخصمه ، وإن لم يعلم اعتقاده ، تركوا قوله وأنكروا عليه وتبرّءوا من قوله ، حتّى انّهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملا بالقياس. فلو كان العمل بخبر الواحد يجري هذا المجرى ، لوجب فيه أيضا مثل ذلك ، وقد علمنا خلافه. انتهى (٢) ما أردت نقله.

وقال العلّامة رحمه‌الله في «النهاية» : أمّا الإمامية فالأخباريّون منهم لم يعوّلوا في أصول الدّين وفروعه (٣) إلّا على أخبار الآحاد المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام.

والأصوليون منهم كأبي جعفر الطوسي رحمه‌الله وغيره وافقوا على قبول خبر الواحد ولم

__________________

(١) وهو تتمة كلام الشيخ أيضا.

(٢) وهذا الكلام للمصنّف.

(٣) يريد بقوله الأخباريين الفرقة المعهودة لدى العلماء والمخالفة في طريقة الاستنباط ، ويفهم ذلك أيضا من قرينة مقابلة الأصوليين.

٤١٨

ينكره سوى المرتضى رحمه‌الله وأتباعه لشبهة حصلت لهم ، انتهى (١).

ويظهر منه رحمه‌الله أنّ المخالف إنّما هو السيّد ومن تبعه من بعده ، ويظهر دعوى الإجماع أيضا من المحقّق رحمه‌الله على ما نقل عنه (٢).

وبالجملة ، من تتبّع سيرة العلماء وتتبّع أحوال أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ولاحظ الأخبار الدالّة على رخصتهم في العمل بكتب أصحابهم والرجوع إليهم والأخبار الواردة في بيان علاج الأخبار المتخالفة ، سيّما مع ملاحظة أنّ ذلك (٣) هو طريقة العرف والعادة وجميع أرباب العقول ، بل مدار العالم وأساس عيش بني آدم غالبا كان على ذلك ، يظهر له (٤) العلم بجواز العمل بخبر الواحد في الجملة.

وما يستبعد من أنّه لو كان العمل بخبر الواحد جائزا وواقعا في زمان الأئمّة عليهم‌السلام لم يختف على مثل السيّد رحمه‌الله مع قربه بزمانهم عليهم‌السلام وكمال فطانته واطّلاعه.

فهو مدفوع باستبعاد أنّه لو كان وجوب الاقتصار باليقين الحاصل من مثل الأخبار المتواترة أو المحفوفة بالقرينة ونحوها ثابتا ، وكان المنع من العمل بخبر الواحد طريقة الأئمّة عليهم‌السلام ومذهبا لهم ، لصار شائعا من باب حرمة القياس ، ولم يختف على مثل الشيخ رحمه‌الله حتّى ادّعى إجماعهم على جواز العمل ، بل التحقيق أنّ الاشتباه إنّما حصل للسيّد رحمه‌الله ومن تبعه لما بيّنا ولما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) وقد نقل هذا أيضا صاحب «المعالم».

(٢) بل هو في «المعارج» ص ١٤٤.

(٣) أي العمل بخبر الواحد.

(٤) جواب من تتبع.

٤١٩

الخامس (١) :

الأدلّة الدالّة على حجّية ظنّ المجتهد في حال غيبة الإمام عليه‌السلام من أمثال زماننا المتباعدة عن زمان الأئمّة عليهم‌السلام.

واعلم أنّ ما تقدّم من الأدلّة إنّما يدلّ على حجّية المراد بخبر الواحد ، فإنّه هو المتبادر من النبأ والإنذار ، وهو المستفاد من الإجماع الذي نقلناه.

وأمّا حجّية ما يفهم من لفظ الخبر ، والظنّ الحاصل من جهة دلالته ، وأنّ هذا المظنون هو المراد أو غيره ، مع تفاوت ذلك بسبب أفهام النّاظرين والمعاصرين للأئمّة عليهم‌السلام والمتباعدين ، فهو يحتاج إلى دليل آخر من إجماع على حجّية أمثال هذه الظّنون أو غيره من الأدلّة التي تدلّ على حجّية ظنّ المجتهد في أمثال زماننا.

فهذه الأدلّة دلالتها على حجّية خبر الواحد ليس من حيث إنّه خبر الواحد ، ولا تشمل جميع الأزمان والأوقات ، بل هي إنّما تتمّ في أمثال زماننا وتدلّ على حجّية مطلق الظنّ ، وهي حقيقة أدلّة على جواز عمل المجتهد بالظنّ إلّا ما أخرجه الدّليل ، في مقابل قول من لا يجوّز العمل إلّا باليقين (٢) أو بالظنّ الذي ثبت فيه الرّخصة من الشّارع.

والأوّل أشهر وأظهر (٣) ، بل الظاهر من طريقة الفقهاء هو الأوّل.

ولعلّ وجه نزاعهم في خبر الواحد واستدلالهم على حدّه ، إنّما هو لأجل إثبات

__________________

(١) من الأدلّة الدالة على حجيّة الخبر الواحد.

(٢) وهو قول السيّد ومن تبعه.

(٣) الأظهر والأشهر من القولين عند المصنّف هو العمل بأخبار الآحاد ونحوها في زمن غيبة الامام عليه‌السلام من باب الظنّ المطلق لا الخاص.

٤٢٠