القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

فما المناص في العمل والتخلّص عن لزوم تكليف ما لا يطاق ، فإن عملت بأصل البراءة حينئذ ، فلم لم تعمل به أوّلا؟

قلت : المناص حينئذ هو المناص حين تعارض الأدلّة لمن لم يرجّح شيئا مع وجود الأدلّة المعلومة الحجّية ، فيتوقّف في الفتوى أو يبني على أصل البراءة. وكذلك في الظّنون الغير المعلوم الحجّية ، إذا تعارضت أو فقدت ، فقد يتوقّف أو يعمل على أصالة البراءة ، وعدم جواز العمل بأصل البراءة أوّلا ، لأنّ الثابت من الأدلّة أنّ جواز العمل عليه موقوف على اليأس من الأدلّة بعد الفحص ، فكما يعتبر العمل عليه بعد اليأس من الأدلّة في الأدلّة الاختيارية ، فكذا الحال في الأدلّة الاضطرارية.

فإن قلت : ما ذكرت من منع بقاء الحرمة عند انحصار العمل في مثل القياس مثلا أو غيره من الظّنون التي لم يثبت حرمتها بالخصوص أيضا ؛ يدفعه منع بقاء التكليف حينئذ أيضا.

قلت : ما دلّ على حرمة العمل بالقياس وغيره من الظّنون أيضا ، ليس بأقوى دلالة وأشمل أفرادا وأوقاتا ممّا دلّ على بقاء التكليف إلى آخر الأبد.

فغاية الأمر عدم الوجوب (١) فما الدّليل على الحرمة؟

ثمّ أجدّد المقال في هذا المجال ليظهر جليّة الحال ، وأقول غير آل جهدي في إقامة الدّليل على الظّنون وإثبات العلم في حجّية بعضها بالخصوص مميّزا إيّاها عن غيرها : إنّه لا ريب ولا شكّ أنّ الله بعث رسولا وأنزل كتابا وسنّن شرائع وأحكاما وأراد من عباده العمل عليها. وطريق إبلاغ الأحكام إلى العباد على ما

__________________

(١) أي عدم وجوب العمل بالقياس.

٤٤١

هو وفق مجرى عادته تعالى ، إنّما هو بالنطق والكلام غالبا (١) ، ونطقه تعالى مع عباده ليس إلّا بلسان رسوله ، إمّا بتلاوة كتابه عليهم ، أو بحكمه بنفسه وبيانه إيّاها بلسانه الشريف. فما حصل العلم بمراد الله تعالى للمخاطبين المشافهين من الكتاب أو سنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا كلام فيه ، وفي أنّه حجّة على العباد ويجب متابعتهم وحصول العلم من الخطاب ولو بضميمة المقام ، ممّا لا يداني إمكانه ريب وشكّ. وكذلك ما حصل الظنّ به لهم من العمل على مقتضى الحقائق والمجازات بحمل الألفاظ على حقائقها عند عدم القرينة على خلافها ، والبناء على القرائن في الحمل على المعاني المجازية ، لأنّ ذلك كان طريقة العرف والعادة من لدن خلقة آدم عليه‌السلام إلى يومنا هذا ، وأنّهم كانوا يبنون المحاورات على ذلك ، يعلم ذلك بملاحظة أحوال العرف والعادة علما وجدانيّا ، فالشّارع اكتفى في المحاورات مع أصحابه بما حصل لهم الظنّ به في التكاليف أيضا.

والسرّ في ذلك مع أنّ المحقّق عند أصحابنا هو التخطئة ، وانّ حكم الله الواقعي واحد في نفس الأمر بالواقع ، أنّ عمدة العماد في التديّن والإيمان بالله هو أصل التوحيد وخلع الأنداد والأضداد ، والتسليم والانقياد وتوطين النفس على تحمّل المشاقّ الواردة من قبله تعالى. فالأحكام الفرعية وإن كانت من الأمور الحقيقيّة المتأصّلة الناشئة من المصالح النفس الأمرية (٢) ، لكن العمدة في تأسيسها هو الابتلاء والامتحان وتقوية الايمان بسبب الامتثال بها ، والتقرّب بها من جهة أنّه

__________________

(١) وقد تكون بالوحي القلبي بإلقاء الشيء في الرّوع. وكما في قصة ابراهيم عليه‌السلام في رؤياه ذبح ولده اسماعيل عليه‌السلام إلّا أنّ ذلك ليس غالبا.

(٢) أي الواقعية في أنفسها لا الحاصلة من الظنون من باب التصويب كما يقول العامة ، فإنّ الأحكام على هذا تكون اعتبارية لا حقيقية ، هذا كما في الحاشية.

٤٤٢

إطاعة ، فإذا فهم المكلّف من خطاب الشّارع فهما علميّا بنفس الحكم ، وامتثل به ، فهو جامع للسّعادتين ، أعني الفوز بالمصلحة الخاصّة الكامنة فيه ، والفوز بالمصلحة العامّة التي هي نفس الانقياد والإطاعة.

وإذا فهم فهما ظنّيا على مقتضى محاورة لسان القوم الذي أنزل الله الكتاب وبعث الرّسول عليه ، فهو وإن فقد المصلحة الخاصّة ، لكنّه أدرك المصلحة العامّة ، بل عوّض المصلحة الخاصّة أيضا ، لئلّا يخلو عمله عن الأجر وفاقا للعدل لحصول الانقياد بدونه أيضا.

وبعد ملاحظة هذا السرّ يندفع ما يتوهّم أنّه كيف يجمع هذا مع القول بكون الأحكام ثابتة في نفس الأمر في كلّ شيء على نهج مستقرّ ثابت ، وأنّ التصويب باطل.

والحاصل ، أنّ المقصود بالذّات من الخطاب وإن كان حصول نفس الحكم النفس الأمري ، لكن يظهر من جعل الشارع مناط تفهيمه النطق بالألفاظ التي جرى عادة الله بأنّها لا تفيد اليقين في الأغلب ، أنّه راض بهذا الظنّ ويكتفي به عمّا أراده في نفس الأمر ، لأنّه غير فاقد للمصلحة أيضا كما عرفت.

فهذا الظنّ ممّا علم حجّيته ، وهذا هو الذي اتّفق العلماء على حجّيته من دون خلاف بينهم ، قائلين أنّ الظنّ في موضوعات الأحكام من مباحث الألفاظ وغيرها حجّة إجماعا.

ثمّ إنّ هذا الكلام إذا نقل إلى غير المشافهين المشاركين لهم في التكليف بمقتضاه ، فإن كان نقله بمعناه ، بمعنى أنّ مراده الواقعي صار يقينيا لهم وعلموا أنّه أراد ذلك لا غير ، فلا كلام فيه أيضا. وإن كان نقله بلفظه ، بمعنى أنّه حصل لهم العلم بأنّ هذا هو لفظ الشّارع ، فالإشكال حينئذ في أنّ الظنّ الحاصل لهم من هذا اللفظ القطعي الصّدور ، حجّة عليهم أم لا.

٤٤٣

فنقول حينئذ : إنّ هذا اللفظ على قسمين : قسم يحتمل أن يكون ممّا يقصد به بقاءه في الدّهر (١) والاستفادة منه ، كتأليفات المصنّفين ، وقسم لا يقصد به ذلك ، بل إنّما قصد به تفهيم المخاطبين وان كان غيرهم أيضا مشاركون لهم في أصل الحكم. فأمّا الكتاب العزيز ، فهو وإن كان يمكن أن يكون من القسم الأوّل (٢) ، وذلك لأنّا وإن لم نقل بعموم خطاب المشافهة للغائبين كما حقّقناه في محلّه ، لكنّا نقول بأنّ الله تعالى يريد من جميع الأمّة فهمه والتدبّر فيه والعمل على مقتضاه ، خلافا للأخباريين كما بيّناه سابقا ، فيكون هذا الظنّ أيضا حجّة بالخصوص ، لأنّ طريقة العرف والعادة في تأليف الكتب وإرسال المكاتيب والرسائل إلى البلاد البعيدة ، سيّما مع مخالفة الألسنة ومباينة الاصطلاحات تقتضي ذلك ، فإنّ المصنّفين وأهل المكاتيب والرسائل لا يريدون ممّن يبلغ إليه كتابهم إلّا العمل على مقتضاه بقدر فهمهم ووسعهم ، فالذي يجب على الله أن يكتفي عنّا بما نفهمه من كتابه إمّا يقينا أو ظنّا ، ولكن لم يثبت ذلك ثبوتا علميّا لاحتمال أن يكون الكتاب العزيز من باب القسم الثاني (٣) سيّما الخطابات الشّفاهية منه (٤) ، وسيّما ما اشتمل على الأحكام الفرعية ، ولا ينافي ذلك تعلّق الغرض ببقائه أبد الدّهر أيضا لحصول الإعجاز وسائر الفوائد مع ذلك أيضا.

فإن قلت : إنّ أخبار الثّقلين وغيرها ممّا دلّ على العرض على كتاب الله تعالى ،

__________________

(١) خلف بعد سلف الى يوم القيامة.

(٢) من باب الظنّ الخاص.

(٣) فيكون الظنّ الحاصل من الكتاب حينئذ من باب الظنّ المطلق لا الخاص.

(٤) المخصوصة بالمخاطبين مثل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وغير ذلك ، وهذا في مقابل الخطابات غير الشفاهية.

٤٤٤

تفيد أنّ الكتاب من القسم الأوّل.

قلنا أوّلا : ننقل الكلام إلى تلك الأخبار ونقول : إنّ الاستدلال بها فيما نحن فيه موقوف على أن يكون تلك الأخبار من قبيل القسم الأوّل ، لا من باب مجرّد الخطاب الشفاهي مع الأصحاب.

وثانيا : أنّه لا قطع لنا بكونها ظنّي الدّلالة بالنسبة إلى المشافهين في هذا المعنى ، كما ذكرنا القدح من الأخباريين في دلالتها وإن كان خلاف الظاهر ، فإنّ غايتها الظنّ بكون جواز العمل بما يظنّ من جهة الكتاب جائزا لهم (١) ولا قاطع لحجّية هذا الظنّ. ويمكن أن يكون المراد تمسّكوا بها إذا فسّرها الأئمّة عليهم‌السلام (٢) كما ذكره الأخباريون وإن كان خلاف الظاهر.

وإن سلّمنا أنّ تعاضد تلك الأخبار بعضها ببعض مع قرائن خارجية يفيد القطع بجواز العمل ، فذلك أيضا لا يفيد إلّا جواز العمل في الجملة (٣). وأمّا لو حصل ظنّ أقوى من ظاهر الكتاب من جهة خبر الواحد وغيره من الأدلّة التي لم يثبت حجّيتها بالخصوص ، فلا قطع ، لوجوب العمل على ظاهر الكتاب حينئذ.

__________________

(١) قال السيّد القزويني في الحاشية : إنّ لفظ الجواز زيادة وقعت في العبارة من سهو القلم ، ومحصّل المراد حينئذ انّ غاية ما يحصل من هذه الأخبار الآمرة بالتمسّك بالكتاب ، إنّما هو الظنّ بجواز العمل بالظن الحاصل من الظواهر لهم ولنا ، وهذا الظن غير معلوم الحجّية لنا لاستناده الى الأخبار الغير العلميّة صدورا أو دلالة ، فيلزم انتهاء الظن الحاصل من ظواهر الكتاب بالنسبة الى الظن الغير المعلوم الحجّية.

(٢) فقد وردت روايات كثيرة تنهى عن التفسير بالرأي ، بل يجب الأخذ من أهل الذكر الرّاسخون في العلم ، وإلّا فمن فسّر القرآن برأيه فقد كفر. وفي رواية اخرى من فسّر القرآن برأيه فاصاب لقد أخطاء ، ومثل هذه كثير.

(٣) لا مطلقا حتى في الصورة الآتية ليكون من باب الظنّ الخاص.

٤٤٥

وأمّا السنّة المعلومة الصّدور عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيحتمل ضعيفا أن تكون مثل المصنّفات والمكاتيب ، ولكنّ الأظهر أن يكون المراد منها تفهيم المخاطبين وبلوغ نفس الحكم إلى من سواهم بواسطة تبليغهم ، ومع ذلك فلا يعلم من حاله رضاه عليه‌السلام بما يفهمه الغير المشافهين حتّى يكون ظنّا معلوم الحجّية. فهذا (١) هو القدر الذي يمكن أن يقال أنّه الظنّ المعلوم الحجّية.

وأمّا أصل البراءة فهو ليس من الظّنون التي علم حجّيتها ، بل هو من الأدلّة الظنّية كما أشرنا وسنشير إليه في محلّه.

وأمّا خبر الواحد فقد عرفت أنّه لا دليل على وجوب العمل به ، إذ أقوى أدلّته الإجماع وهو على فرض تسليمه لا يثبت إلّا حجّيته في الجملة وفي زمان خاص ، وفي نوع خاصّ (٢) إذ حجّيته في الأعصار المتأخّرة عن زمن الصّحابة غير معلومة. وكذلك القدر المسلّم منه خبر العادل ، والمسلّم منه العادل المعلوم العدالة ، والمسلّم منه ما لم يعارضه مثله أو لم يعارضه أضعف منه إذا كان معمولا به وهو مهجورا ولم يسنحه السّوانح (٣) من المعارضات والإشكالات (٤) في علاج

__________________

(١) أي المذكور.

(٢) في زمان خاص كزمان الحضور وفي نوع خاص كخبر العادل.

(٣) تسنح سنوحا أي عرض يقال : تسنح لي رأي في كذا ، والجمع سوانح. ويقال سنح الشيء أي سهل وتيسّر.

(٤) قال في الحاشية : قولك المعارضات والاشكالات مثل الأخبار التي رواها العدل الآخر ، فالرّاء حينئذ مكسور والواو بمعنى مع فيكون الفرق بين هذا والسابق باضافة الاشكالات. والفرق إنّما هو بتعدّد المعارض هنا أو المراد هو تعارض أخبار العلاج فيكون عطف الاشكالات تفسيريّا والرّاء مفتوح حينئذ ، أو المراد من المعارضات ما ـ

٤٤٦

التعارض وغيره ممّا ليس هنا محلّ البسط ، وقد أشرنا إلى بعضها في مباحث التخصيص وغيرها. وأكثر هذه السّوانح يعود إلى كيفية الاستنباط من الكتاب والسنّة المتواترة أيضا باعتبار حصول العلم بالتخصيص والتقييد بالنظر إلى العمومات (١) في الجملة ، واحتمال ورودها فيما لم نطّلع عليه ، فيجب البحث والفحص إلى أن يحصل الظنّ بعدمه كما مرّ في محلّه ، لما بيّنا أنّها من باب الخطابات الشّفاهية المقصودة منها تفهيم المخاطبين ، واحتمال أن يكون معهم من القرائن ما يفيد أنّ المراد خلاف ظاهرها ، كما علم في كثير من المواضع بالإجماع وغيره (٢) ، واحتمال أن يكون (٣) من هذا الباب أيضا يكفي (٤). وثبوت اشتراكنا معهم في أصل التكليف بالإجماع لا يوجب اشتراكنا معهم في كيفية الفهم من هذه الأدلّة وتوجّه الخطاب إلينا ، ولا إجماع على مساواتنا في العمل بالظنّ الحاصل منها لنا.

فالحاصل ، أنّ العمل على مقتضى الظنّ المعلوم الحجّية مجرّد كلام لا يحصل منه الفقه ، فبعد حصول العلم ببقاء التكليف بالتفصيلات المجملة ، كيف يمكن تحصيل العلم بها بمجرّد حصول العلم بجواز العمل بخبر الواحد الذي علم كون راويه عادلا على النهج المتّفق عليه ، مع كونه غير معارض بشيء آخر ، خاليا عن

__________________

ـ فيها من تعارض العموم والخصوص أو الاطلاق والتقييد لا التعارض بنحو التناقض المباين ، فالعطف حينئذ للمغايرة فتأمّل.

(١) والاطلاقات أيضا.

(٢) كما في القرائن الخارجية.

(٣) أي الخبر.

(٤) في لزوم الفحص.

٤٤٧

السّوانح التي لا مناص عنها إلّا بالعمل بالظنّ ، مع أنّه إن لم نقل بامتناع وجوده (١) في أخبارنا ، فهو في غاية الندرة ، ولا إجماع ولا دليل قطعي آخر يدلّ على حجّية الظّنون الحاصلة من جهة المعالجات (٢) كما لا يخفى ، سيّما مع ملاحظة الاختلاف في الأخبار التي وردت في علاج التعارض بينها (٣).

وكذلك الكلام في الكتاب والسنّة المتواترة باللفظ مع غاية ندرة علميّة مدلولهما. وكذلك أصل البراءة إن سلّمنا كونه ظنّا معلوم الحجّية ، إذ العلم (٤) بحجّيتها مع وجود خبر صحيح يفيد ظنّا أقوى منه أو ظنّ آخر ممنوع.

ودعوى الإجماع على حجّيتها حتّى فيما نحن فيه غير مسموعة.

ونقل الإجماع لا يفيد لنا إلّا الظنّ لو ثبت ، فيصير حال الظّنون المعلومة الحجّية عندنا مثل حال نفس الأحكام المعلومة إجمالا بالضّرورة من الدّين. فكما أنّ العلم الإجمالي بنفس الأحكام لا يفيد في التفصيلات ، فكذلك العلم بجواز العمل بالظنّ الإجمالي في استفادتها لا يفيد فيها ، إذ العلم بجواز العمل بظاهر الكتاب والسنّة المتواترة في الجملة (٥) أو مع خبر الواحد في الجملة أيضا ، مع عدم العلم بحجّية ما يستفاد منها مفصّلا ، بضميمة ما لا مناص لنا عنه في علاج الاختلالات الحاصلة من المعارضات اليقينية والمحتملة ، كيف يجدينا فيما نريده من العمل بأحكام الله تعالى مع الاجتناب عن العمل بظنّ لا نعلم حجّيته بالخصوص ، وليس

__________________

(١) أي مثل خبر العادل الموصوف بما ذكر.

(٢) بين الأخبار مثل حمل العام على الخاص.

(٣) بين الأخبار المطلقة.

(٤) علّة لقوله كذلك أو علّة لما يفهم من قول إن سلمنا من إمكان عدم التسليم.

(٥) أي في بعض الموارد أو الأفراد.

٤٤٨

ذلك غالبا إلّا مثل من يتكلّف في جعل إحدى مقدّمتي قياسه قطعيّة مع كون الأخرى ظنّية ، فهل ينفعه ذلك في صيرورة النتيجة قطعية ، أو من يحصّل العلم في بعض أجزاء صلاته مثلا مع كون سائر الأجزاء ظنّية ، فهل ينفعه ذلك في صيرورة صلاته يقينية مع ملاحظة عدم كون الجزء مطلوبا بذاته وغير مفيد منفردا في نفسه. ولو فرض ثبوت حكم مستقلّ (١) من جهة الظّنون المعلومة الحجّية مستقلا من دون حاجة إلى غيرها ، فهو في غاية الندرة ، ونتكلّم فيما لا يمكن ذلك فيه مع ثبوت التكليف فيه يقينا. فثبت من جميع ذلك أنّه لا مناص من العمل بالظنّ ، إلّا ما أخرجه الدّليل ، كالقياس والاستحسان ونحوهما (٢).

فمن جميع ما ذكرنا ثبت حجّية خبر الواحد ، وهذا هو الدليل المعتمد في إثبات حجّيتها.

ثمّ قد ظهر لك ممّا حقّقنا المقام ، أنّه لا فرق بين مسائل أصول الفقه وفروعه في جواز البناء على الظنّ ، وأنّه لا دليل على اشتراط القطع في الأصول (٣).

نعم لا بدّ في إثبات حجّية ظنّ المجتهد من دليل قطعي ، وسنشير في موضعه أنّه من الأصول الكلامية لا الأصول الفقهية. وإذا صار ظنّه حجّة فلا فرق بين الأصول والفروع ، وسيجيء زيادة توضيح لهذا في مبحث الاجتهاد والتقليد.

فلنرجع إلى ذكر أدلّة النافين لحجّية خبر الواحد

وهو أيضا من وجهين :

أحدهما : هو الدّليل على حرمة العمل بالظنّ ، إلّا ما أثبته الدّليل حذوا (٤) لما

__________________

(١) أي حكم تام في نفسه ، وليس جزء حكم كما في الصلاة.

(٢) كالمصالح المرسلة. وبقية البدع المستحدثة والتي حدثت.

(٣) الأصول الفقهية.

(٤) الحذو والحذوة والحذوة الإزاء ، يقال داري حذاء داره أي إزاءها.

٤٤٩

ذكرناه في خامس الأدلّة (١).

وثانيهما : في نفي حجّية خبر الواحد بالخصوص.

أمّا الأوّل : فهو الآيات والأخبار الدالّة على حرمة العمل بالظنّ ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.)(٢) وقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.)(٣) وغير ذلك.

فإنّ النّهي والذمّ على اتّباع الظنّ دليل على الحرمة ، وخبر الواحد لا يفيد إلّا الظنّ بالفرض.

والجواب : أمّا عن آية النّهي فإنّها مختصّة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا دليل على مشاركة غيره له في جميع الخطابات.

سلّمنا ، لكنّ الخطاب شفاهي ، فلعلّه كان قرينة تدلّ على خلاف المقصود من اختصاصها بأصول الدّين ، أو بما ينسب إلى المسلمين كما يظهر من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ،)(٤) ومن إرادة المعنى الرّاجح من العلم مجازا ، مع أنّ اشتراك غير المشافه للمشافه إنّما هو بالإجماع والضّرورة ، وهما منتفيان في موضع النّزاع ، وهو صورة انسداد باب العلم.

وأيضا التمسّك بهذه الآية يفيد حرمة العمل بالظنّ ، فالتمسّك بالظنّ الحاصل بها هو ما نفاه نفس الآية ، وكلّ ما يستلزم وجوده عدمه فهو محال (٥).

__________________

(١) اذ قلنا هناك إنّ الأصل جواز العمل بالظنّ إلّا ما أخرجه الدليل.

(٢) الاسراء : ٣٦.

(٣) النجم : ٢٨.

(٤) الحجرات : ١٢.

(٥) لرجوعه الى اجتماع النقيضين.

٤٥٠

ودعوى قطعيّة حجّية الظنّ الحاصل من الكتاب قد عرفت الكلام فيه (١) ، وأنّه ليس بثابت في الأصل ، وعلى فرض الثبوت فلم يثبت فيما كان هناك خبر واحد يدلّ على حكم بالخصوص ، مع أنّ الآية إنّما تفيد العموم لو كانت كلمة ما نكرة ، ولو كانت موصولة فلا تنافي (٢) جواز اتّباع بعض الظّنون.

وأمّا مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)(٣) فعلى خلاف الأصل ، فإنّ الظاهر من ليس كلّ ، أنّه سور للسّلب الجزئي.

وأمّا عن آية الذمّ ، فمع أنّه يرد عليه بعض ما ذكر فيه (٤) انّها ظاهرة في أصول الدّين بالنظر إلى سياقها ، وإن قلنا بأنّ السّبب والمحلّ لا يخصّص اللفظ.

سلّمنا العموم في جميع الآيات لكن ما ذكرنا من الأدلّة يخصّصها ، لأنّ الخاصّ مقدّم على العامّ.

وأمّا الثاني : فهو ما ذكره السيّد المرتضى رحمه‌الله في «جواب المسائل التبانيات» (٥)

__________________

(١) من أصحاب الظنّ المطلق والأخباريين.

(٢) لأنّ الموصولة عام وعمومها ليس من جهة النفي ، والنفي الوارد على العام يفيد سلب العموم الذي يقال له رفع الايجاب الكلي ، ولا ريب إنّه لا ينافي الايجاب الجزئي.

(٣) لقمان : ١٨.

(٤) أي بعض ما ذكر في الاستدلال بها ، أي في الاستدلال السابق.

(٥) في الحاشية بتقديم الباء الموحّدة على التاء ، قال في القاموس : البتان كغراب اسم قرية ينسب اليها ابو الفضل البتاني الفقيه الزاهد ، والبتان بكسر الباء وبالفتح وتشديد التاء أيضا قرية من مضافات حرّان وإليها ينسب احمد بن جابر البتّاني المنجّم. ولكن الصحيح التبانيات وهي أجوبة للسيّد على أسئلة ابو عبد الله محمّد بن عبد الملك التباني وهي أسئلة في الاجماع المصطلح عندهم وعن القياس وعن ادلّة عدم قبول السيّد للخبر الواحد وهي رسالة مهمة لأهميّة السّائل والأسئلة المسئول.

٤٥١

من أصحابنا لا يعملون بخبر الواحد ، وأنّ ادّعاء خلاف ذلك عليهم ، دفع للضرورة. قال : لأنّا نعلم علما ضروريا لا يدخل في مثله ريب ولا شكّ ، أنّ علماء الشيعة الإمامية يذهبون إلى أنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشّريعة ولا التعويل عليها ، وأنّها ليست بحجّة ولا دلالة (١) ، وقد ملئوا الطوامير وسطّروا الأساطير في الاحتجاج على ذلك والنقض على مخالفيهم (٢) ، ومنهم (٣) من يزيد على هذه الجملة ويذهب إلى أنّه مستحيل من طريق العقول أن يتعبّد الله بالعمل بأخبار الآحاد ، ويجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد مجرى ظهوره في إبطال القياس في الشريعة وخطره (٤).

وقال في المسألة التي أفردها في البحث عن العمل بخبر الواحد ، إنّه (٥) بيّن في جواب «المسائل التبانيات» (٦) : أنّ العلم الضّروري حاصل لكلّ مخالف للإمامية أو موافق ، بأنّهم لا يعملون في الشريعة بخبر لا يوجب العلم ، وأنّ ذلك قد صار شعارا لهم يعرفون به ، كما انّ نفي القياس في الشريعة من شعارهم الذي يعلمه منهم كلّ مخالط لهم.

__________________

(١) عطف تفسير أيضا أي ولا دليل ، كما قوله : ولا التعويل عليها عطف تفسير.

(٢) عطف على الاحتجاج ، وهذه قرينة واضحة على صدق ما استبعده صاحب «المعالم» ، فيما بعد ذلك عن الصواب لأنّه ظاهر كالصريح في أنّ كلام الأصحاب إنّما هو على ما يراه المخالفين من تجويز العمل بأخبار الآحاد ، وليست إلّا الأخبار المرويّة بطرقهم لأنّهم لا يعملون بغير هذه الأخبار. هذا كما في الحاشية.

(٣) كابن قبة.

(٤) «رسائل الشريف المرتضى» ١ / ٢٤.

(٥) أي أنّ السيّد المرتضى.

(٦) «رسائل الشريف المرتضى» ١ / ٢٤.

٤٥٢

وتكلّم في «الذّريعة» (١) على التعلّق بعمل الصّحابة والتابعين بأنّ الإمامية تدفع ذلك وتقول : إنّما عمل بأخبار الآحاد من الصحابة (٢) المتآمرون الّذين يحتشم التصريح بخلافهم والخروج من جملتهم ، فإمساك النكير عليهم لا يدلّ على الرّضا بما فعلوه ، لأنّ الشرط في دلالة الإمساك على الرّضا أن لا يكون له وجه سوى الرّضا من تقيّة وخوف وما أشبه ذلك ، هكذا نقله عنه في «المعالم» (٣).

والجواب عنه : منع ما ادّعاه (٤) ، ولا يحصل لنا العلم بالإجماع الحقيقي على ذلك ، لو لم يحصل على عدمه ، والاتّكال على نقله الإجماع رجوع إلى العمل بخبر الواحد ، مع أنّه لو سلّم الإجماع فإنّما يسلّم فيما لو لم ينقطع باب العلم ، والمفروض في زماننا انقطاعه كما مرّ. فالقدر المسلّم منه في زمان أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام لكونهم قادرين على تحصيل العلم ، بل ولبعضهم لعدم تمكّن كثير منهم من العلم أيضا.

ووجه امتناع أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام عن العمل بأخبار الآحاد لعلّه كان لأجل تمكّنهم ، بل الظاهر أنّ السيّد رحمه‌الله أيضا كان متمكّنا (٥) لقرب عهده بصاحب الشّرع ووجود القرائن والأمارات ، ولذلك قال : إنّ معظم الفقه يعلم بالضّرورة من مذاهب أئمّتنا عليهم‌السلام ، وبالأخبار المتواترة ، وما لم يتحقّق فيه ذلك ، فيعوّل فيه على إجماع

__________________

(١) ٢ / ٥٣٧.

(٢) كأبي بكر في رواية اختلقها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه صدقة. فمنع الصديقة الزهراء عليها‌السلام حقها مفتريا بذلك على الله ورسوله. وأيضا كرجوع ابو بكر في توريث الجدة الى خبر المغيرة ، ورجوع عمر الى رواية عبد الرحمن في سيرة المجوس بقوله : سيروا بهم سنة أهل الكتاب ، ومنع من توريث المرأة من دية زوجها ورجع عن ذلك بخبر الضحاك بن قيس ، كما لم يكن عثمان بأفضل منهما.

(٣) ص ٣٤٨.

(٤) من الاجماع.

(٥) من تحصيل العلم.

٤٥٣

الإمامية ، وفي سائر المتخالفات يرجع إلى التخيير بين الأقوال.

وأنت خبير بأنّه لا يحصل لنا سبيل إلى العلم بتفاصيل الفقه بشيء ممّا ذكر ، فكيف يكون حالنا متّحدة مع حال السيّد رحمه‌الله وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، مع أنّ السيّد أيضا يكتفي بالظنّ فيما لا سبيل فيه إلى العلم.

هذا إذا أردنا إثبات حجّية الخبر في أمثال زماننا ، وكان غرضنا إبطال القول بحرمة العمل به في أمثال هذا الزّمان ، وأمّا لو أردنا إثبات جواز العمل به مطلقا (١) ومع تمكّن العلم ، فيحتاج إلى تتميم الأدلّة المخصوصة بإثبات حجّية خبر الواحد مطلقا (٢). والظاهر من الإجماع الذي إدّعاه الشيخ والعلّامة (٣) هو ذلك.

بقي الكلام في تحقيق الحقّ في هذا الإجماع المدّعى على طرفي النقيض من السيّد والشيخ ، ووجه ذلك المخالفة (٤).

فاعلم ، أنّ إنكار العمل بخبر الواحد في الجملة ممّا لا ريب فيه أنّه كان مذهبا للإمامية ، وعلى ذلك تنزّل دعوى السيّد وإن غفل في تعميم الدّعوى.

وذكر في «المعالم» (٥) في وجه المخالفة في الدّعويين ، أنّ السيّد كان اعتماده في هذه الدّعوى على ما عهده من كلام أوائل المتكلّمين منهم ، والعمل بخبر الواحد بعيد عن طريقتهم ، حتّى قال بعضهم (٦) : باستحالته عقلا ، وتعويل الشيخ

__________________

(١) أي حتى في الزّمان الأوّل.

(٢) يعني إثبات حجية الخبر مطلقا.

(٣) على جواز العمل بخبر الواحد. في «العدة» ١ / ١٢٦ و «المبادئ» ص ٢٠٥.

(٤) بين الشيخ والسيّد.

(٥) ص ٣٥١.

(٦) لعلّ المراد من ذلك البعض ابن قبة أو غيره. ويمكن أن يكون مراد ابن قبة في كلامه ـ

٤٥٤

والعلّامة رحمه‌الله كان على ما ظهر لهما من حال علمائنا المعتنين بالفقه والحديث حيث أوردوا الأخبار في كتبهم واستراحوا إليها في المسائل الفقهية.

وأقول : الذي هو صريح كلام الشيخ في «العدّة» موافقته للسيّد في إنكار الإمامية للعمل بخبر الواحد ، لكنّه ذكر أنّه هو ما رواه المخالفون في كتبهم.

وأمّا الذي رواه أصحابنا الإمامية في كتبهم وتداولوه بينهم ، فاتّفقوا على العمل بها ، وصاحب «المعالم» رحمه‌الله بعد ما ذكر في وجه الدّعويين ما ذكرنا أوّلا كتب في «الحاشية» أنّ ذلك كان قبل وقوفه على كتاب «العدّة» ثمّ نقل رحمه‌الله في «الحاشية» في وجهها (١) ما نقلناه عن الشيخ واستبعده عن الصّواب ، لأنّ الاعتراف بإنكار عمل الإمامية بأخبار الآحاد لا يعقل صرفه إلى روايات مخالفيهم ، لاشتراط العدالة عندهم ، وانتفاؤها في خبرهم كاف في الإضراب عنها ، فلا وجه للمبالغة في نفي العمل بخبر يروونه.

أقول : ويمكن دفع الاستبعاد بأنّ الإمامية لمّا كانوا مخالطين مع المخالفين ، وكان المخالفون من مذهبهم جواز وضع الأحاديث ، كما لا يخفى على من اطّلع على طريقتهم ، ومنها : ما اشتهر أنّ سمرة بن جندب (٢) اختلق رواية عن رسول

__________________

ـ السّابق الذي ذكر فيه استحالة التعبد بخبر الواحد ، هو كون الأمر كذلك في الأصول لا في الفروع ، وإن نزّل القوم كلامه على الفروع ، فحينئذ يصح كلام ابن قبة وإن كان فيه إشكال أيضا عند المصنف فيما لم يحصل العلم بالأصول ولم يكن تحصيله أيضا أو كان المكلّف غافلا مثلا ، هذا كما في الحاشية.

(١) أي وجه المخالفة.

(٢) السّمرة والسمرة الأوّل بالفتح فالضم والثاني بالضم والسكون كلاهما صحيحان والظاهر الأوّل. والاختلاق بمعنى الافتراء ومنه قوله تعالى : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) ص : ٧.

٤٥٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر معاوية في إزاء أربعمائة ألف درهم ، بأنّ آية اشتملت على مذمّة عظيمة في شأن عليّ عليه‌السلام ، وآية أخرى مشتملة على مدح عظيم نزلت في شأن قاتله ، وكذا غيره من المعروفين بالكذب ، وما كانوا متمكّنين عن التصريح بتكذيبهم ، ومنع قبول أخبارهم من حيث إنّها أخبارهم ، فاحتالوا فيه مناصا ، واعتمدوا في احتجاجاتهم على أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم فلا يثبت به شيء ، وتخلّصوا بذلك عن تهمتهم (١) فاشتهر بينهم هذا المطلب بهذا الاشتهار ، حتّى ظنّ السيّد ونظراؤه أنّ ذلك كان مذهبا لهم في خبر الواحد ، وإن كان من طرق الأصحاب في فروع المسائل.

والحقّ ، أنّ الغفلة إنّما وقع عن السيّد في التعميم ، وأنّ العمل بخبر الواحد من طرق الأصحاب كان جائزا عند الإمامية وعليها شواهد كثيرة لا تخفى على المتتبّع المتأمل.

ثمّ إنّ صاحب «المعالم» رحمه‌الله تصدّى لرفع التنافي بين الدعويين وبيان الموافقة بين المدّعيين ، وقال (٢) : الإنصاف أنّه لم يتّضح من حال الشيخ وموافقيه مخالفة السيّد ، إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصومين عليهم‌السلام واستفادة الأحكام منهم ، وكانت القرائن المعاضدة لها متيسّرة كما أشار إليه السيّد ، ولم يعلم أنّهم اعتمدوا (٣) على الخبر المجرّد ليظهر مخالفتهم لرأيه فيه.

__________________

(١) أي عن أخبارهم الموضوعة من جهة التهمة ، أو عن اتهامهم لأصحابنا بالتشيّع من جهة تكذيبهم لهم في نقل هذه الأخبار ، فالتهمة مستعملة في موضع المصدر المبني من الفاعل أو المفعول هذا كما في الحاشية.

(٢) في «المعالم» ص ٣٥١.

(٣) أي الشيخ وموافقيه.

٤٥٦

ثمّ استشهد على ذلك بكلام المحقّق. وأنت إذا تأمّلت كتاب «العدّة» تعرف أنّ هذا الكلام بعيد بمراحل عن الصّواب ، وكذلك لا شهادة في كلام المحقّق له ، ووجه غفلته رحمه‌الله أنّه لم يكن عنده كتاب «العدّة» حين تأليف «المعالم».

والحاصل ، أنّ في «العدّة» مواضع متعدّدة من كلامه رحمه‌الله ، ينادي بأعلى صوتها ، أنّ كلامه في الأخبار المجرّدة عن القرائن الدّالّة على صحّة الخبر وصحّة المضمون لا حاجة لنا إلى نقلها.

نعم ، خصّ الشيخ القول بجواز العمل بأخبار الإمامية التي دوّنتها في الكتب المتداولة الدّائرة بين الأصحاب ، سواء رواها الإمامية أو غيرهم أيضا إذا كان سليما عن المعارض ، وهذا هو الذي نقله المحقّق عنه (١) أيضا ، وأنت خبير بأنّ مجرّد ذلك لا يوجب كون تلك الأخبار مقرونة بالقرائن المفيدة للقطع بالصدور ، سيّما مع تصريحه في مواضع كثيرة بما يدلّ على أنّها غير موجبة للعلم ، فلاحظ ، مع أنّ كون تلك الأخبار مقترنة بالقرائن المفيدة للقطع لأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام لا يفيد كونه كذلك عند الشيخ أيضا ، ولا دلالة في كلام الشيخ على أنّها كانت كذلك عند هذا.

ولكنّ الحقّ والتحقيق ، أنّ الاعتماد في الاستدلال بخبر الواحد في أمثال زماننا على الإجماع أيضا مشكل. لأنّ ما نقله الشيخ وإن كان يفيد عموم حجّية الكتب المتداولة ، لكنّه لفظ عامّ ، والاعتماد على عموم لفظ الإجماع المنقول في إثبات خبر الواحد دوريّ (٢) ، والعلم بجواز العمل بجميعها (٣) لأنفسنا غير معلوم ، فلا

__________________

(١) اي عن الشيخ. راجع «المعارج» ص ١٤٧ للمحقّق.

(٢) وجهة الدّورية أنّ الإجماع المنقول أيضا خبر واحد ، فلا يثبت حجّيته إلّا بثبوت حجّية الخبر الواحد ، فيتوقّف حجّيّة الإجماع المنقول على حجّيّة نفسه ، وكذا حجّيّة الخبر الواحد.

(٣) أي العلم بجواز العمل بالإجماع المنقول وبالأخبار غير معلوم ، بمعنى غير متحقّق.

٤٥٧

يمكننا اليوم دعوى الإجماع على حجّية جميع ما في الكتب المتداولة ، مع أنّ الإجماع لا يثبت إلّا جواز العمل في الجملة ، وقطعيّة حجّية بعضها في الجملة مع الإجمال والاشتباه لا يحصل منه شيء.

ودعوى الإجماع على العمل بالنحو الّذي رخّصوه في الجمع والترجيح وتقديم بعضها على بعض ، مع عدم حصول العلم بنفس الكيفيّة وخصوصيّتها لاختلاف وجوه الجمع والترجيح بالنسبة إلى الأخبار وغيرها ، ممّا لا يسمن ولا يغني.

فظهر من جميع ذلك ، أنّ ذلك (١) أيضا بعد التسليم حجّة إجماليّة لا يحصل العلم بتفاصيلها.

فالمرجع في حجّية خبر الواحد حقيقة إنّما هو الدّليل الخامس (٢) كما أشرنا سابقا.

ثمّ إنّ بعض المتأخّرين (٣) تمسّك بالأخبار الواردة في أمرهم عليهم‌السلام بحفظ الكتب والعمل بها ، ولو سلّم التواتر فيها ، فإنّها أيضا لا تفيد إلّا الإجمال كما بيّنا ، والله العالم.

__________________

(١) أي الإجماع المنقول.

(٢) المثبت لحجّيّة الظنّ المطلق.

(٣) ولعلّ مقصوده الفاضل التوني لما ذكره في «الوافية» ص ١٦٠.

٤٥٨

قانون

ذكر العلماء للعمل بخبر الواحد شرائط ترجع إلى الرّاوي ، وهي :

البلوغ والعقل والإسلام والإيمان والعدالة والضبط.

والتحقيق ، أنّ هذه الشرائط إنّما تتمّ إذا ثبت جواز العمل بخبر الواحد من الأدلّة الخاصّة به ، وعلى القول (١) بجواز العمل به من حيث هو.

وأمّا إذا كان بناء العمل عليه من جهة أنّه مفيد للظنّ كما هو مقتضى الدّليل الخامس ، فلا معنى لهذه الشرائط ، بل الأمر دائر مدار حصول الظنّ ، فحينئذ اشتراط هذه الشرائط لا بدّ أن يكون للتنبيه على أنّ الخالي عن المذكورات لا يفيد الظنّ أو لبيان مراتب الظنّ أو لإثبات تحريم العمل بالخالي عن الشرائط كالقياس ، وقد عرفت أنّه ليس كذلك ، إذ قد يحصل الظنّ بخبر الفاسق والمخالف ما لا يحصل من غيره ، مع قطع النظر عن القرائن الخارجية أيضا.

وستعرف الكلام في دعوى حرمة العمل في الخالي عنها في الأكثر ، مع ما عرفت من الإشكال في صحّة الاستثناء فيما ذكرناه في استثناء القياس.

وأمّا تفصيل القول في الشرائط :

فأمّا البلوغ والعقل ، فنقلوا الإجماع على عدم قبول خبر المجنون المطبق ، والصبيّ الغير المميّز.

وأمّا المجنون الأدواريّ ، فلا مانع من قبول روايته حال إفاقته إذا انتفى عنه أثر الجنون.

__________________

(١) عطف تفسير.

٤٥٩

وأمّا الصبيّ المميّز ، فالمعروف من مذهب الأصحاب وجمهور العامّة (١) المنع ، ودليله الأصل (٢) وعدم شمول أدلّة حجّية خبر الواحد له ، وربّما يستدلّ بالأولوية بالنسبة إلى الفاسق ، فإنّ للفاسق خشية من الله ربّما منعه عن الكذب بخلاف الصبي (٣).

وفيه : تأمّل.

وذهب آخرون (٤) إلى القبول قياسا على جواز الاقتداء به.

وردّ : ببطلان القياس أوّلا ، وبمنع الأصل ثانيا. وبوجود الفارق (٥) ثالثا. فإنّهم يجيزون الاقتداء بالفاسق ولا يقبلون خبره. هذا إذا رواه قبل البلوغ ، وأمّا إذا رواه بعده وسمعه قبله فلا إشكال في القبول إذا جمع سائر الشرائط ، ولذلك قبل الصّحابة رواية ابن عبّاس (٦) وغيره (٧) ممّن تحمّل الرّواية قبل البلوغ.

__________________

(١) راجع «المستصفى» ١ / ١٥٤ ، و «المحصول» ٣ / ١٠١٨ ، و «اتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر» ٢ / ٩٨٣.

(٢) أي أصالة عدم قبلوه ، ظاهرا هذا الذي يقصده.

(٣) وربما يستدل على جواز قبول خبر الصبي المميّز بأنّه ليس بفاسق فلا يجوز ردّ خبره ، ويجب قبوله لعموم مفهوم قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الحجرات : ٦.

(٤) من بعض العامة ، كما عن «المستصفى» ١ / ١٥٤.

(٥) فهناك فارق بين قبول الخبر وجواز الاقتداء به.

(٦) فيه نظر ، إذ لم يعلم أنّ الصحابة قبلوا من ابن عبّاس أخباره التي سمعها قبل البلوغ ، بل الظاهر انّ قبولهم إنّما لأخباره الّتي سمعها بعده ولعدم قبول الرّواية المسموعة قبل البلوغ وجه مثل ما ذكر بعض الأصحاب. وقول المصنّف لا وجه له ، لا وجه له. هذا كما في الحاشية.

(٧) كعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وكان له اثني عشر عاما تقريبا حينما ارتحل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسبطي النبي الرحمة الحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام.

٤٦٠