القوانين المحكمة في الأصول - ج ٣

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٣

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٠

١

٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة

الحمد لله الذي حبانا بدينه وحبّبنا بأوليائه ، وهدانا لإيمانه وهذّبنا بشريعته ، ودلّنا على إحسانه وأرشدنا الى أحكامه ، وجعلنا من الشّاكرين لنعمائه ، والصلاة والسلام على نبيّه وأمينه ، ونجيبه ونجيّه ، وصفيّه وصفوته ، محمد وآله عباد الله ، وأهل ذكره وخزنة علمه ، وحملة كتابه وتراجمة آياته ، ومهبط وحيه ومستودع شرائعه ، الّذين علّمونا الحلال والحرام والشّرائع والأحكام ، وعرّفونا حقائق الإيمان وآيات القرآن وسبيل الرّضوان عليهم أفضل الصلاة وأتمّ السّلام.

وبعد ... فإنّ علم الأصول هو من أكبر الفنون للوصول الى أكثر الفروع ، فهو أهم وسيلة لأشرف غاية وأعمّ نتيجة لأنفع نهاية ، به نصوّب طرق الاستدلال ونصل الى أصحّ الأقوال ونبيّن المدارك ونبني المسائل ، بأفضل المباني وأظهر الدّلائل ، وكلّما ازداد به المرء مهارة ازداد معرفة ، فهو أسهل مفتاح وأدلّ باب للولوج الى أفضل علم وأعظم حكم.

وغير خفي على كل ذي لبّ أهمية الفقه وأهميّة أصوله ، فأصول الفقه هو من أهمّ العلوم ارتباطا في الاجتهاد كما ذهب إليه كثير ، ولست في مقام الاستشهاد على ذلك ، بل ولا مجال للاهتمام فعلا بذلك.

هذا وفي الغالب عند الأصوليين يبحثون في مصنّفاتهم عن أدلّة الأحكام

٣

الأربعة الكتاب والسّنة والاجماع والعقل ، ولمّا قد مرّ البحث في الثّلاثة الاولى ، بقي الكلام عن الاخرى والمعروفة بالأدلّة العقليّة. كما ولمّا كان لا بد لهذا المؤلّف أن يكون حاويا لجميع المطالب الأصوليّة وما يتعلّق بها ، فقد جعل المؤلّف البحث عن الباقى المذكور وغيرها ممّا له تعلّق أكيد في علم الأصول في مجلّد على حدة عرف بمجلّد المباحث العقليّة من «القوانين» ، قد طبع قبل قرن من الزّمن فيما أعلم ـ والكلام فى المجلّد الثاني ، وإلّا فإنّ الأوّل قد طبع قبل عقود ثلاث في مدينة قم المقدسة ـ وقد بقى بعد طبعه بعض قليل من نسخه حتى أصبح المجلّد المعهود نادر الوجود ، قد حفظ ما فيه بنقل آرائه ممّن كتب في علم الأصول بعد المرجع المذكور.

هذا وبعد صدور المجلّد الأوّل وإقبال العلماء والفضلاء عليه ولله الحمد ، ونتيجة للحاجة الملحّة للأساتذة العظام والطلاب الكرام بضرورة نشر ما تبقى من «القوانين» ، ورغبة بعض النّاشرين في التّعجيل ، أسرعت فأخرجت عيونه وأنجزت متونه ، وذكرت ما علّقته على اولى بحوثه ما استطعت ، وما لم أسطع تركته لأيّام التّحصيل عند التّعطيل ، فاقتصرت فيه على بعض المهم واختصرت على بعض الأهم حتى صار ما توخيت ولله الحمد. وهذا الكلام كلّه في الشّرح والتّعليق ، وأمّا المتن فإنّني وفيت بالغرض وأديت المطلوب بدقة ، ليصبح الكتاب بعونه تعالى كما أراده المصنّف ويريده الطالب كاملا غير ناقص. وكنت قد اعتمدت فيه على نسختين ، واحدة بخط محمد على بن معصومعلي الأرونقي التي هي طبقا للنسخة التي نسخها عبد الرحيم بن محمد تقي التبريزي المطبوعة في شهر ربيع الأول ١٣١٩ ه‍ وأخرى بخط محمد شريف بن فيض الله المرحوم الهشرودي (الهشترودي) المطبوعة في شهر ربيع الثاني ١٣٢٤. وسرت به تحقيقا

٤

وتدقيقا كما في المجلّدين السّابقين الذي عرفت من قبل. وهذا المجهود عادة ما تقوم به مؤسسة بجهازها وأجهزتها وعتادها وأعدادها وقد قمت به وحيدا بلا عدد ولا مدد ، وبلا إعانة ولا استعانة إلّا من الله تعالى وببركة أولياءه الكرام والسيدة المعصومة في قم عليهم الصلاة والسلام.

وهكذا اتممت كامل «القوانين» ولله الحمد ، بمجموع مجلّديه الحجريّين وجعلتها في أربعة أجزاء بطباعة عصريّة أنيسة المنظر سهلت القراءة وسريعة الملاحظة.

والدّافع الذي جعلني أسيرا لهذا الكتاب ورهينا لهذه البحوث هو لأنّني وجدت بأنّ التّعاطي بها تمنح الانسان قوّة في الاستدلال وإحاطة بالمطالب وبيانا للطالب ، فعلينا ان لا نستخفّ أبدا في مثل هذه الدروس العلمية العالية التي خاضوا أصحابها للوصول إليها اللّجج واتعبوا المهج ، وعلينا أن لا نملك الجرأة سريعا في التّسفيه لعمل الآخرين. والتّسرّع في التّغليط والتّغليظ لمجرّد قراءتنا لحروف قليلة من العلم ولمّا نصل إليه.

فمثلا تكاد تجده قد عبّر كثيرا ببعض الكلمات قاصدا بها معان لا يحيط بها إلّا كل بليغ بمؤدّاها وكل عليم بسياقها ومعانيها ، ولا يقدر عليها إلّا كل متسلّط على صياغة الكلمات وصناعة الأدبيات وقادرا على التّقديرات وعالما بالتّأويلات.

فنجده مثلا بكلمة (عن) قد قصد بها كثيرا (من) ، وهذا غير خفيّ على الطالب المجدّ بمعانيها العشرة ، فمع الملاحظة تجده جاء بها بمعنى المجاورة تارة واخرى بمعنى البدل او الاستعلاء او الظرفيّة او مرادفة (من) او غير ذلك. فالطالب المحصّل سرعان ما يعلمها فيصوّبها ، وأمّا الفاشل فيسرع الى التّغليظ فيعلّها ، ولذا أؤكد على ضرورة التّدبّر والتّوجّه ، والتّدبير والتّوجيه لكلمات هذا الفقيه. وعلى كلّ إنّ

٥

العصمة لأهلها.

فعلينا أن لا نبخس النّاس أشياءها ، كما علينا أن نرتقي بهذا الكتاب لغزارة مواده وكثرة محتوياته وفيض معارفه. بل أقول : إن من يدرس هذا الكتاب حقّ الدّراسة ويداريه حق الدّراية ويفهمه حق الفهم ويتقنه حق الاتقان يصبح مؤهّلا لحضور أبحاث العظام ، وربما يصير مراهقا للاجتهاد ، ولكن بالشّرط الذي ذكرت ، بل الشّروط التي قلت ، وإنّني لأجد مباحث الأصول العمليّة فيه ، هي من أفخر البحوث العلميّة ، وحرام أو قل عيب على طالب العلم أن لا يكون محيطا بها او لا يستفيد منها.

كما أقول : يمكن لك أن تحصي آراء الميرزا القمي وآراء غيره ومسائل الخلاف بينهما ممّن كانوا قد أتوا من بعده على آرائه كصاحب «الرّسائل» و «الكفاية» وغيرهما من المحقّقين كالميرزا النّائيني والأصفهاني وصاحبي «الفصول» و «هداية المسترشدين» وغيرهم «رحمهم‌الله» ورغم ذلك فهي تحصى ولا تتعدى لتصل الى الأعداد الكبيرة ، وهذا ديدن أصحاب هذه العلوم للوصول الى ازدهارها ورشدها أو قل رشدهم وازدهارهم

أسأله تعالى العصمة والتّوفيق والتّعجيل بظهوره عليه الصلاة والسلام

وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين والحمد لله ربّ العالمين

قم المقدسة ـ حرم السيدة المعصومة عليها‌السلام

رضا حسين على صبح

١٤ ربيع الأول ١٤٣١ ه

٦

المقصد الرابع

في الأدلّة العقلية

والمراد بالدّليل العقلي : هو حكم عقليّ يتوصّل به إلى الحكم الشّرعي ، وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشّرعي.

وهي أقسام تذكر في طيّ قوانين :

منها : ما يحكم القل به من دون واسطة خطاب الشّرع.

ومنها : ما يحكم به بواسطة خطاب الشّرع كالمفاهيم والاستلزامات (١).

__________________

(١) المفاهيم أي ما دلّ عليه اللفظ لا في محل النطق وخلافا للماتن ، فقد توقّف في مثل هنا صاحب «هداية المسترشدين» فقال : فدرج بعضهم مباحث المفاهيم في هذا القسم ليس على ما ينبغى. والاستلزامات كاستلزام وجوب الشّيء وحرمة ضده ، فإنّ العقل لا يحكم أوّلا بوجوب المقدمة ولا بحرمة الضّد ، وإنّما يحكم بهما بعد الحكم بوجوب الشّيء ولو من جهة حكم الشّرع به ، فهو حكم عقلي تابع لحكم الشّرع.

٧

قانون

معنى كون ما يستقلّ به العقل وينفرد به (١) ، كوجوب قضاء الدّين وردّ الوديعة وحرمة الظّلم ، واستحباب الإحسان ، ونحو ذلك (٢).

دليل حكم الشّرع ، أنّه كما تبيّن عندنا معاشر الإماميّة وفاقا لأكثر العقلاء من أرباب الدّيانات ، وغيرهم من الحكماء والبراهمة (٣) والملاحدة وغيرهم بالأدلّة القاطعة والبراهين السّاطعة ، بل بالضّرورة الوجدانية التي لا يعارضها شبهة وريبة ، أنّ العقل يدرك الحسن والقبح ، بمعنى أنّ بعض الأفعال بحيث يستحق فاعله من حيث هو فاعله المدح ، وبعضها بحيث يستحقّ فاعله كذلك الذّم (٤) ، وإن لم يظهر من الشّرع خطاب فيه :

__________________

(١) مسألة حسن الانفعال وقبحها ثار النزاع فيها واحتدم الخلاف عليها ، وكثر الكلام فيه واشتهر به المعتزلة والأشاعرة وطال ولا زال وكثر في الكتب الكلاميّة ، ويتفرّغ منه مسألة معروفة بين الأصوليين بالملازمة ، بمعنى الملازمة بين حكم العقل والشرع ، فقد تنازعوا فيها عن أقوال ، فذهب الأكثرون ومنهم المصنّف الى ثبوت الملازمة ، وبعض الى نفيها ، وبعض آخر أنكرها في الأحكام المتعلّقة بالفروع وأثبتها في الأصول.

(٢) وكذا ذكره المحقّق في «المعتبر» ١ / ٣٢ ، الشهيد في «الذكرى» ، المقدمة ، وغيرهما كما في «الوافية» ص ١٧١.

(٣) واحدهم برهمي ، قوم لا يجوّزون على الله تعالى بعثه الرّسل ، وهم طائفة من الهنود ينكرون الشّرائع ويحرّمون لحم الحيوان ولهم عقائدهم الخاصة.

(٤) بيانه في معنى كون ما يستقلّ به العقل دليل حكم الشرع ليس على ما ينبغي لقصوره عن إفادة الملازمة ووضوحها كما هو المدّعى ، وإنّما مفاده وضوح الحكم بكل من الأمرين على ما يقتضيه العنوان ، وقد ذكر في «الفصول» ص ٣٤٠ وجه أوجه.

٨

ويظهر عنده هذا الحسن والقبح في المواد المختلفة على مراتبهما المرتّبة فيها بحسب نفس الأمر ، فقد يدرك في شيء حسنا لا يرضى بتركه ويحكم بلزوم الإتيان به ، وفي بعضها قبحا يحكم بلزوم تركه. وقد يجوز الترك في بعضها والفعل في بعضها ، وهكذا.

فكذلك من الواضح أنّه يدرك أنّ بعض هذه الأفعال مما لا يرضى الله بتركه ويريده من عباده بعنوان اللّزوم ، وبعضها ممّا لا يرضى بفعله ويريد تركه بعنوان اللّزوم ، وأنها مما يستحق بها عن الله المجازاة إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ. ولازم ذلك (١) أنّه تعالى طلب منّا الفعل والتّرك بلسان العقل.

فكما أنّ الرّسول الظّاهر يبيّن أحكام الله ومأموراته ومنهيّاته ، فكذلك العقل (٢) يبيّن بعضها ، فمن حكم عقله بوجود المبدئ الحكيم القادر العدل الصّانع العالم ، فيحكم بأنّه يجازي العبد القويّ بسبب ظلمه على العبد الضعيف بالعقاب.

وكذلك الودعي الذي ائتمنه عبد من عباده ، سيّما إذا كان العبد محتاجا غاية الاحتياج بسبب ترك ردّها إليه ، ويجازي العبد القويّ الرّفيع برأفته على العبد الضعيف العاجز المحتاج بالثواب. فلو لم يكن نهانا عن الظّلم وأمرنا بردّ الوديعة ،

__________________

(١) بعد ما عرفت من معنى الملازمة.

(٢) في الرواية كما في «الكافي» كتاب العقل والجهل عن الامام الكاظم عليه‌السلام في مواعظ منه لهشام أنّه قال : إنّ لله على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرّسل والأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، وأمّا الباطنة فالعقول. كما في الحديث ١٢ ، وفي الحديث ٣٤ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ... واستدلّوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه من سمائه وأرضه وشمسه وقمره وليله ونهاره ، وبأنّ له ولهم خالقا ومدبّرا لم يزل ولا يزول وعرفوا به الحسن من القبيح وأنّ الظّلمة في الجهل وانّ النور في العلم ، فهذا ما دلّهم عليه العقل.

٩

ولم يكن الظّلم وترك الردّ مخالفة له ، لما حكم العقل بمؤاخذة الله وعقابه.

فإنّ القبح الذّاتي يكفي فيه محض استحقاق الذّمّ ، فيثبت من ذلك أنّ الظّلم حرام شرعا ، وردّ الوديعة واجب شرعا.

وما توهّمه بعض المتأخرين تبعا لبعض العامة من أنّ حكم العقل هو محض استحقاق المدح والذّم لا ترتّب الثّواب والعقاب أيضا ، الذي هو لازم حكم الشرع ، فلم يدلّ الحكم العقلي على الحكم الشرعي ، فهو مبنيّ على الغفلة عن مراد القوم من الحكم العقلي. وحسبان أنّ حكم العقل إنّما هو الّذي ذكروه في مبحث إدراك العقل للحسن والقبح ، قبالا للأشاعرة المنكرين لذلك. وقد عرفت أنّ العقل يحكم بأزيد من ذلك أيضا ، مع أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في العقل والجهل أيضا ، هو ذلك وأنّه ممّا به يثاب ويعاقب ، وأنّه مما يكتسب به الجنان وغير ذلك (١) ، مع أنّه يمكن أن يقال : بعد ما ثبت أنّ لكلّ أمر من الأمور حكما من الله تعالى بالضّرورة والأخبار ، وثبت من الأخبار أنّها موجودة عند المعصومين (٢) ،

__________________

(١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لمّا خلق الله العقل استنطقه ، ثم قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال : أدبر فأدبر ، ثم قال : وعزّتي وجلالي ، ما خلقت خلقا هو أحب إليّ منك ولا أكملتك إلّا فيمن أحبّ ، أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى ، وإيّاك اعاقب وإيّاك اثيب. كما في كتاب العقل والجهل الحديث الأوّل من «الكافي» ، وفيه أيضا ، الحديث (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : ما العقل؟ قال : ما عبد به الرّحمن واكتسب به الجنان ، قال : قلت : فالّذي كان في معاوية؟ فقال : تلك النّكراء ، تلك الشّيطنة وهي شبيهة بالعقل ، وليست بالعقل. وغير ذلك من الأحاديث في ذلك الباب.

(٢) وقد ثبت عندنا بأنّهم صلوات الله وسلامه عليهم موضع الرّسالة ومهبط الوحي وخزّان العلم ومحال معرفة الله وحملة كتابه والمظهرين لأمره ونهيه. وعن هشام بن الحكم ـ

١٠

وإن لم يصل إلينا كلّها ، أنّ كلّ ما يدرك العقل قبحه فلا بدّ أن يكون من جملة ما نهى الله تعالى عنه ، وما يدرك حسنه لا بدّ أن يكون ممّا أمر به ، فإذا استقلّ العقل بإدراك الحسن والقبح بلا تأمّل في توقيفه على شرط أو زمان أو مكان أو مع تقييده بشيء من المذكورات ، فيحكم بأنّ الشّرع أيضا حكم به كذلك ، لأنّه تعالى لا يأمر بالقبيح ولا ينهى عن الحسن ، بل إنّه يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر.

وقد يقال (١) : إنّ الثّواب والعقاب إنّما يترتّبان على الإطاعة والمخالفة لا غير ، والإطاعة والمخالفة لا يتحقق إلّا بموافقة الأوامر والنواهي من الكتاب والسنّة ومخالفتهما ، وحيث لا أمر ولا نهي ولا خطاب ، فلا طاعة ، فلا ثواب ولا عقاب.

وفيه : أنّ انحصار الإطاعة والمخالفة في موافقة الخطاب اللّفظي ومخالفته دعوى بلا دليل ، بل هما موافقة طلب الشّارع ومخالفته وإن كان ذلك الطلب بلسان العقل.

ونظير ذلك أنّ الله تعالى إذا عبده نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة إلهام من دون نزول وحي من جبرئيل عليه‌السلام وإتيان كلام وامتثله ، فيقال : إنّه أطاع الله جزما ، فإنّ العقل فينا نظير الإلهام فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام بمنى عن خمسمائة حرف من الكلام ، فأقبلت أقول : يقولون كذا وكذا ، قال : فيقول : قل كذا وكذا ، قلت : جعلت فداك هذا الحلال وهذا الحرام ، أعلم أنّك صاحبه وأنّك أعلم الناس به هذا هو الكلام ، فقال لي : ويك يا هشام لا يحتجّ الله تبارك وتعالى على خلقه بحجّة لا يكون عنده كلّ ما يحتاجون إليه. كما في «الكافي» باب ١٠٥ ح ٥.

(١) وهنا اعتراض على لازم الملازمة.

١١

والقول (١) : بأنّ القدر الثّابت من الأدلة ، أنّ ما يجوز اتّباعه ويجب متابعته هو ما حصل القطع به أو الظنّ من قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره دون غيره ، فالكلام في هذا الدليل العقلي مثل الكلام في جواز العمل بالرّؤيا إذا رأى أحد أحدا من المعصومين عليهم‌السلام وحكم بحكم ، ولا دليل على جواز العمل بهذا الحكم ، فهو كلام ظاهريّ ، إذ من يدّعي حكم العقل بوجوب ردّ الوديعة وحرمة الظّلم يدّعي القطع بأنّ الله تعالى خاطبه بذلك بلسان العقل ، فكيف يجوز العمل بالظنّ بخطاب الله تعالى وتكليفه ، ولا يجوز العمل مع اليقين به.

فإن كان ولا بدّ من المناقشة فليكتف في منع حصول هذا القطع من جهة العقل وأنّه لا يمكن ذلك (٢) ، وأنت خبير بأنّ دعوى ذلك بعيد عن السّداد.

ولا يرد هذا على من ادّعى ذلك ، إذ لم يدلّ دليل على امتناعه إن لم يسلم البرهان على وقوعه (٣) ، فإذا ادّعاه مدّع فكيف نكذّبه.

نعم ، لا نمنع تفاوت الأفهام في ذلك ، وندرة المواضع التي يستقلّ العقل بإدراك الحكم ، وذلك لا يوجب نفي الحكم ، رأسا ولا يرد نقضا على من جزم بذلك ، فإنّ كلّ مجتهد مكلّف بمؤدّى فهمه قطعيّا كان أو ظنّيّا ، ومعذور في خطأه.

ثم إنّ معنى قولهم : إنّ العقل والشرع متطابقان فكلّ ما حكم به الشّرع فقد حكم

__________________

(١) وهو للأخباريين فإنّهم ينكرون حجيّة إدراكات العقل ، وفي ذلك نزاع جاء في مباحث حجيّة القطع.

(٢) اي لا يمكن للعقل أن يدرك ما هو حسن أو قبيح عنده ، قبيح أو حسن عند الله تعالى.

(٣) أي أنّ مجرّد عدم ورود دليل على الامتناع يكفي في عدم ورود المناقشة وإن لم يثبت البرهان والأدلة على وقوع درك العقل بأنّ ما هو حسن أو قبيح عنده حسن أو قبيح عند الله تعالى أيضا.

١٢

به العقل ، وبالعكس ، إنّ كلّ ما حكم فيه الشّرع بحكم لو اطّلع العقل على الوجه الذي دعا الشّارع إلى تعيين الحكم الخاص في ذلك الشّيء لحكم العقل موافقا له ، وذلك لأنّ الحكيم العدل الذي لا يفعل القبيح لا يصدر عنه القبيح ، وترجيح المرجوح قبيح ، والترجيح بلا مرجّح محال (١).

فتعيين الوجوب مثلا للصلاة والزكاة ، وتعيين الحرمة للخمر والخنزير إنّما كان لجهة مرجّحة لذلك من حسن أو قبح ذاتي ، أو بحسب زمان أو مكان أو شخص.

وتلك الجهة علّة تامّة لاختيار ذلك الحكم إمّا بذاتها أو مع ملاحظة قيد من زمان أو مكان أو غيرهما. فلو فرض اطّلاع عقولنا على تلك العلّة على ما هي علّة لحكم فيه ، مثل ما حكم به لسان ظاهر الشّرع.

وما يتوهّم أنّه قد يكون في أصل الفعل رجحان ، لكنّه يأمر به امتحانا للعبد ، فهو لا ينافي ما ذكرنا ، إذ نفس الابتلاء أيضا مصلحة وإن لم يكن في نفس المأمور به مصلحة ، مع أنّه قد يكون المراد بالأمر محض (٢) الامتحان مثل حكاية إبراهيم عليه‌السلام ، فالمصلحة إنّما هي في الامتحان لا في الذّبح (٣) ، مع أنّ الإيثار أمر مخصوص للامتحان أيضا دون أمر آخر جهة مقتضية ومصلحة معيّنة لأن لا يلزم الترجيح في إيثار ذلك الأمر للامتحان عدم إدراكنا إيّاها لا يدلّ على عدمها.

وبالجملة ، العقل تابع لما أفاده الشّارع ، فإذا اطّلع على طلب الفعل من حيث

__________________

(١) وهنا لصاحبه «الفصول» ص ٣٣٨ فيه كلام.

(٢) المحض على شيء خلص عن لا يشوبه شيء يخالصه. والظّاهر أنّ المعنى هنا قد يكون الأمر صوريّاً فقط لا يقصد منه وقوع الفعل من المكلّف وكما هو في المثال هنا في أمر إبراهيم بذبح إسماعيل عليهما‌السلام.

(٣) راجع «الفصول» ص ٣٣٨ ، فقد علّق على هذا الاعتراض واعتبره واضح السّقوط.

١٣

هو هذا الفعل ؛ يحكم بحسن طلبه كذلك ، وإذا اطّلع على طلبه من حيث الامتحان ، فيحكم بحسن طلبه من حيث الامتحان وهكذا.

وأمّا العكس ، أعني كلّ ما حكم به العقل فقد حكم به الشّرع ، فيتصوّر له تقريران :

أحدهما : أنّ ما حكم العقل بحسنه وقبحه بعنوان لزوم الفعل وعدم الرضا بالترك أو بالعكس أو غيرهما من الأحكام ، فيحكم الشّرع به ، بمعنى أنّ العقل دلّ على أنّه مطلوب الشّارع ومراده ونحن مكلّفون بفعله ، أو مبغوضه ومكروهة ونحن مكلّفون بتركه ، ويثيبنا على الأوّل ويعاقبنا على الآخر.

وثانيهما : أنّ ما حكم العقل بأنّه مراد الله ومطلوبه وأراد منّا فعله أو تركه بعنوان الإلزام أو غيره فهو موافق لما صدر عن الله تعالى من الأحكام وهو مخزون عند أهله من المعصومين عليهم‌السلام. وذلك مبنيّ على الاعتقاد بأنّ حكم كلّ شيء ورد عن الله تعالى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبلغنا أكثرها وبقي بعضها مخزونا عند أهلها لأجل مصلحة يرونها ، فذلك الحكم العقليّ كاشف عن أنّ ما هو مخزون من الحكم عند أهله في شأن هذا الذي أدرك العقل حكمه هو ما حكم به العقل من الأحكام ، والأظهر هو التقرير الأوّل.

وبالجملة ، لا وجه لما مرّ من الإشكال في كون دليل العقل بهذا المعنى مثبتا للحكم الشرعي مع أنّه متّفق عليه عند أصحابنا. فإنّهم يصرّحون في الكتب الاصوليّة والفقهيّة أنّ من أدلّة أحكام الشّرع هو العقل ، ثم يذكرون في أقسام الأدلّة العقلية ما يستقلّ به العقل كقضاء الدّين وردّ الوديعة وترك الظّلم.

وينادي بذلك قولهم في الكتب الكلاميّة بوجوب اللّطف على الله ، وتفسيرهم اللّطف بما يقرّب الطاعة ويبعد عن المعصية ، وجعلوا من اللّطف إرسال الرّسل

١٤

وإنزال الكتب.

وليس معنى ذلك (١) إلّا أنّ العقل يدرك الأحكام الشرعية من أنّ الله تعالى يريد منهم العدل وردّ الأمانة وينهاهم عن الظلم والفساد ، وأنّ الصدق والتواضع والسّخاء والعفو حسن ، وأنّ الكذب والكبر والبخل والنّفاق قبيح ، وأمثال ذلك. فاللّطف إنّما هو لتعاضد العقل بالنقل حتى يكمل به البيان ويثبت به الحجّة.

وقد أورد (٢) على هذا القسم من الأدلّة العقليّة وجوه من الاعتراض سخيفة لا يليق كثير منها بالذكر أعرضنا عنها ، وأقواها أمور :

__________________

(١) أي ليس معنى وجوب اللّطف في إرسال الرّسل وإنزال الكتب.

(٢) وقد أورد ذلك الفاضل التوني الذي يظهر انّه أنكر الملازمة راجع «الوافية» ص ١٧٦.

وبعده أيضا السيد صدر الدين شارح «الوافية» ، وفي «هداية المسترشدين» ٣ / ٥٠٣ : وقد خالف فيه بعض العامة ، حكاه الزّركشي عن جماعة من العامة واختاره قال : وحكاه الحنيفيّة عن أبي حنيفة نصا ، وقد مال إليه صاحب «الوافية» من أصحابنا ، إلّا أنّه تردّد في المقام ، وكيف كان فلم يحكم بثبوت الملازمة المذكورة ، واستشكل في الحكم بثبوت الحكم في الشّريعة بعد استقلال العقل في الحكم بثبوت حسن الفعل أو قبحه ، وقد تبعه في ذلك السيد الشّارح لكلامه ، وقد ينسب الى بعض الجماعة المتقدّمة القول بإنكار الملازمة المذكورة وليس كذلك ، بل قد صرّح غير واحد منهم بثبوت الحكم إذا قضى به الضّرورة العقلية حسب ما مرّ ، نعم قد يومئ إليه بعض أدلّتهم وليس صريحا فيه ، فلا وجه للنسبة المذكورة. والسيد القزويني في حاشيته قال : ونقل ربما أدعي على خلافهما إجماع المخالف والمؤالف محصّلا ومنقولا في حدّ الاستفاضة القريبة من التّواتر بسيطا ومركبا على معنى أنّ كل من قال بحكم العقل قال بالملازمة بينه وبين حكم الشرع ، وكل من لم يقل به قال بها أيضا على تقدير حكم العقل فالأشاعرة أيضا داخلة في الإجماع المذكور إلا الزّركشي منهم على ما حكي.

١٥

أحدها : قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) فإنّها تدلّ على نفي التعذيب إلّا بعد بعث الرّسول وتبليغه فلا يكون ما حكم العقل بوجوبه أو حرمته واجبا شرعيا أو حراما شرعيّا ، بل هو إباحة شرعيّة.

وردّ : بأنّ الواجب ما يستحقّ تاركه العقاب ، والحرام ما يستحقّ فاعله العقاب ، ولا ملازمة بين الاستحقاق وفعليّة الجزاء.

واعترض عليه (٢) : بأنّ الواجب الشرعي مثلا هو ما يجوز المكلّف العقاب على تركه ومع الجزم بعدمه لإخباره تعالى بذلك ، فلا تجويز فلا وجوب.

وفيه : أنّ هذا مناقشة في الاصطلاح.

واعترض أيضا (٣) : بأنّ الواجب الشّرعي مثلا ما يوجب فعله الثواب من حيث هو طاعة وتركه العقاب من حيث هو مخالفة ، وإخبار الله تعالى بنفي التعذيب إباحة للفعل فلا طاعة ولا مخالفة ولا وجوب ولا حرمة.

وقد ظهر دفعه ممّا مرّ من أنّ العقل يحكم بأنّ الله تعالى أمرنا بالفعل ونهانا فيحصل الإطاعة والمخالفة ، ولا ينحصران في موافقة الخطاب اللّفظي ومخالفته ، ودلالة نفي التعذيب على الإباحة فيه منع ظاهر.

وعلى القول بكون جميع الأحكام مخزونا عند أهله والانتقال من إدراك العقل إلى ما هو الموجود عند أهله ، فصدق الإطاعة والمخالفة أظهر ، فيصدق بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينئذ وحصول التبليغ منه في هذا الحكم أيضا فيثبت الحكم

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

(٢) المعترض يبدو هو الفاضل التوني على ما عرفت من قبل ، راجع «الوافية» ص ١٧٥.

(٣) والمعترض هنا السيد صدر الدين في شرحة «للوافية» راجع «هداية المسترشدين» ٣ / ٥٠٣.

١٦

الشرعي بالعقل ويثبت الحكم بالثواب والعقاب.

وما قيل في دفعه : من أنّ المراد ببعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو بعثه بالبيان التفصيلي ، لا مثل هذا البيان الذي يبيّن العقل تفصيله ، ويظهر بيانه من حكم العقل فهو بعيد جدا. ألا ترى أنّا نثبت كثيرا من أحكام الله تعالى بالإجماع ، مع أنّك لا تقول ؛ بأنّ هذا ليس بتبليغ تفصيليّ ، فإنّ اتّفاق الفقهاء كاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام وحكمه المعلوم إجمالا قبل العلم بالإجماع تفصيلا ؛ وليس بكاشف عن قوله التفصيليّ ، وحال استخراج العقل للحكم حال استخراج اتفاق العلماء له.

فالتّحقيق في الجواب (١) عن الآية أنّها من قبيل قوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(٢) ، و : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(٣) ، ولا تكليف إلّا بعد البيان ، ونحو ذلك. ولمّا كان أغلب التكاليف الشرعية مما لا يستقلّ به العقل ، فاكتفى في الآية بذكر الرسول ، فالمراد حقيقة والله يعلم : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ)(٤) حتّى تتمّ الحجّة ، ولا ريب أنّ مع إدراك العقل الحجّة تمام. أو نقول : إنّ الرسول أعمّ من الرسول الباطن (٥) كما ورد : «أنّ لله تعالى حجّتين حجّة في الباطن وهو العقل وحجّة في الظاهر وهو الرسول» (٦) مع أنّ الآية ظاهرة.

__________________

(١) في رفع الاعتراض الثاني عند ذكره ، واعترض عليه أيضا. هذا وصاحب «الفصول» أيضا ص ٣٤٢ تعرّض لكلا الاعتراضين ، وكذا الكلام عن البيان التّفصيلي الذي ذكره.

(٢) الانفال : ص ٤٢.

(٣) الطلاق : ٧.

(٤) الإسراء : ١٥.

(٥) وهذا الدّليل وما سبقه في الجواب غير مستقيم عند صاحب «الفصول» عن ٣٤٣ راجع اجابته.

(٦) وهي كما في «الكافي» كتاب العقل والجهل الحديث ١٢ عن أبي عبد الله الأشعري ـ

١٧

وفيه ألف كلام ، فلا يعارض بها الدليل القاطع من حكم العقل فيما يستقلّ.

ولو نوقش في إدراك العقل بالاستقلال فإنّما هو كلام في الصغرى وكلامنا إنّما هو على فرضه ، والمفروض انّا ندّعي استقلاله في بعض الأمور وكلّ مجتهد مكلّف بمقتضى فهمه ، فإذا جزم بشيء فهو المتّبع ، وإذا ظهر بعد ذلك خطأه فهو معذور كما هو معذور في خطأ ظنونه ، بل استقلاله في بعض الامور بديهيّ لا يقبل التشكيك ، ومنعه مكابرة ،

ولقد أغرب بعضهم حيث سلّم ذلك في المعارف والعقائد لما دلّ عليه إطلاقات الأخبار الدالّة على تعذيب عبدة الأوثان ، فإنّها تشمل حال الفترة أيضا بخلاف الأعمال ، وهو مع أنّه معارض بالإطلاقات الدالّة على العذاب واللّعنة على الظّلم والكذب وغيرهما. فيه أنّ مآل التعذيب على عبادة الأوثان مثلا يرجع إلى التعذيب على الأعمال ، فإنّ الاعتقادات ليست باختيارية ، بل المقدور منها هو النظر الذي هو من مقدّماتها والتخلية واندراج النّظر بمجرّد أنّ في تركه مظنّة الضّرر ، ودفع الضّرر المظنون واجب عقلا في الواجبات الشرعية ، وتسليم العقاب على تركه ليس بأوضح من اندراج الظلم في المحرّمات الشرعية ، وردّ الوديعة والدّين في واجباتها فهذا تحكّم بارد ، بل ترجيح المرجوح.

__________________

ـ عن بعض أصحابنا رفعه الى هشام بن الحكم قال : قال لي ابو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام : يا هشام إنّ الله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأما الظّاهرة فالرّسل والأنبياء والائمة عليهم‌السلام وأمّا الباطنة فالعقول.

وفيه أيضا الحديث ٢٢ عن علي بن محمد عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان عن علي بن ابراهيم عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله قال : حجّة الله على العباد النبي ، والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل.

١٨

وثانيها : الأخبار التي دلّت على أنّه لا يتعلّق التكليف إلّا بعد بعث الرّسل ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(١). وعلى أنّ على الله تعالى بيان ما يصلح للناس وما يفسد ، وعلى أنّه لا يخلو زمان عن إمام معصوم عليه‌السلام ليعرّف النّاس ما يصلحهم وما يفسدهم (٢) ، وعلى : «أنّ الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل إليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ، أمر فيه بالصلاة والصيام» (٣) الحديث.

ولا يخفى ضعف الاستدلال بها ، ويظهر الجواب عنها ممّا قدّمنا ، فإنّ المراد من بعث الرسل هو التبليغ ولا معنى للتبليغ بعد إدراك العقل مستقلّا ، فإنّه تحصيل الحاصل.

نعم هو لطف وتأييد وتأكيد كموعظة الواعظين في التكاليف السّمعيّة الّتي صار كثير منها من ضروريّات الدّين ، مع أنّ البيّنة أعمّ من الشّرع ، والتعليل يفيد انحصار البيّنة في الشّرع وهو لا يتمّ إلّا فيما لا يدركه العقل.

سلّمنا الدّلالة لكنها مخصّصة بالأدلّة المتقدّمة ، وبيان ما يصلح ويفسد لا ينحصر في بيان الرسول ؛ فقد بيّن الله تعالى كثيرا من المصالح والمفاسد بسبب خلق العقل ، وتعريف المصلح والمفسد ينحصر في المعصوم عليه‌السلام إذا لم يكن بحيث يدركهما العقل فهو في غير ما يستقلّ به العقل.

__________________

(١) الأنفال : ٤٢.

(٢) وقد ذكر ذلك بتمامه في «الوافية» ص ١٧٣ في الباب الرابع في الأدلّة العقلية ، وشبهه في «الفصول» ص ٣٤٣.

(٣) في «الكافي» كتاب التوحيد باب حجج الله على خلقه الحديث ٤ وفيه [وأنزل عليهم] وليس كما ذكر [وأنزل إليهم].

١٩

وأمّا الرّواية الأخيرة فهي على خلاف مطلب المورد أدلّ ؛ إذ الظاهر ممّا أتاهم وعرّفهم هو ما أرشدهم العقل إليه أو المذكور في الخبر من أوامر الكتاب ونواهيه هو مثل الصلاة والصيام ممّا لا يستقلّ به العقل ولا دلالة في الخبر على أنّ المراد أنّ الاحتجاج لا يتمّ إلّا بمجموع الأمرين من الإتيان والتّعريف وإرسال الرّسل.

وأما قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١) ، فلا يدلّ على أنّ كلّ ما لم يرد فيه نصّ فهو مباح وإن أدرك العقل قبحه كما توهّم ، بل المراد منه ما لا يدركه العقل ، فلا بدّ إمّا من تخصيص كلمة شيء أو تعميم النهي بحيث يشمل مناهي العقل.

وقد ذكر بعضهم في تقريب الاستدلال به وجهين :

الأوّل : أنّ الرّواية من باب الخبر لا الإنشاء ، ومعناها أنّ كلّ شيء لم يرد من الشّارع منع فيه ولم يصل إلينا ، فلا يحكم عليه بالمنع الشّرعي ؛ وإن كان محظورا عند العقل استنادا إلى منع إدراك العقل العلّة المقتضية لحكم الشّرع فيبنى على أصالة البراءة حتى يصل النهي ؛ فدلّ الخبر على أنّه لا يصحّ الحكم بوجوب شيء أو حرمته شرعا لحكم العقل بحسنه وقبحه.

والثاني : أنّها إنشاء لحكم ما لم يرد فيه نهي ، ومعناها أنّ حكم كل ما لم يرد فيه نهي هو الإباحة وإن أدرك العقل قبحه ، وأنت خبير بأنّ المعنى الأوّل أيضا إنشاء للحكم ، فإنّ المنع عن الحكم بالمنع الشّرعي وأنّه حرام شرعيّ ، مثلا إذا صدر عن

__________________

(١) رواه ابن بابويه في «الفقيه» في تجويز القنوت بالفارسية ١ / ٣١٧ الحديث ١٣٧ ، وهو ما استدل به أيضا الفاضل في «الوافية» ، ص ١٧٣ إنكاره الملازمة ، وضعّف في «الفصول» ص ٣٤٧ التمسّك في المقام بهذه الرّواية.

٢٠