القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

الخاصّ الذي اجتمع عليه جماعة. ورضاه على هذا الاجتماع لا يسلم إلّا من جهة كونه باجتهادهم المعفوّ عنهم ، وذلك لا يوجب عدم رضاه بمخالفتهم إذا أدّى دليل إلى مخالفتهم ، مع أنّ جريان ما ذكره (١) في مثل زماننا في غاية البعد ، بل لا وجه له.

نعم ، يمكن تتميم هذه الطريقة (٢) فيما لو اجتمع الطائفة على فتوى ولم يعلم موافقة الإمام لهم ، وكذا على قولين أو ثلاثة ، بالأخبار مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» (٣). ونحوه ، بأن يقول : يمتنع اجتماعهم على الخطأ ، فلو كان ما اجتمعوا عليه خطأ لوجب على الإمام عليه‌السلام ردعهم عن الاجتماع ، ويلزمه الاكتفاء بمجرّد إلقاء الخلاف ، ولكنّ الكلام في إثبات دلالة تلك الأخبار وحجّيّتها ، وسيجيء الكلام فيها مع أنّ مدلولها المطابقي يقتضي اجتماع كلّ الأمّة ، ومع عدم العلم بقول الإمام عليه‌السلام يخرج عن مدلولها.

وثالثها : ما اختاره جماعة من محقّقي المتأخّرين (٤) وهو أنّه يمكن حصول العلم برأي الإمام عليه‌السلام من اجتماع جماعة من خواصّه على فتوى مع عدم ظهور مخالف لهم ، وكذلك يمكن العلم برأي كلّ رئيس بملاحظة أقوال تبعته ، فكما لو

__________________

(١) أي ما ذكره الشيخ.

(٢) التي ذكرها الشيخ ، وهي طريقة اللّطف.

(٣) «شرح النهج» ٨ / ١٢٣ و ٢٠ / ٣٤. وذكره المحقق الحلّي في «معارج الأصول» ص ١٢٨ في مبحث الاجماع ، وكذا الشيخ البهائي في «الزبدة» ص ٩٧ ، بل وفي عدد من كتبنا الأصولية. هذا ووجود هذا المعنى في أخبار كثيرة عند الفريقين. روى مثله احمد في مسنده ، والطبراني في الكبير وابن أبي خيثمة في تأريخه كما في «المقاصد الحسنة للسخاوي» ١٠ / ٦٤٠.

(٤) ويبدو لي بأنّه الوحيد البهبهاني راجع «الرسائل الأصولية» رسالة الاجماع ص ٢٥٤.

٢٤١

فرض أنّ فقيها له تلامذة ثقات عدول لا يروون [يردون](١) إلّا عن رأي فقيههم ولا يصدرون إلّا عن معتقده ، فاجتمعوا على فتوى من دون أن يسندوه إلى فقيههم ولم يعلم مخالفة لأحدهم فيه ، يمكن حصول العلم بذلك بأنّه رأي فقيههم ، فكذلك يمكن العلم بفتوى جمع كثير من أصحاب الصّادق عليه الصلاة والسلام من قبيل زرارة بن أعين ومحمّد بن مسلم وليث المرادي وبريد بن معاوية العجلي والفضيل بن يسار من الفضلاء الثّقات العدول وأمثالهم من دون ظهور مخالف منهم ، أنّ ذلك فتوى إمامهم عليه‌السلام ومعتقده. وطريقة ذلك هو الحدس (٢) والوجدان ، وهذه طريقة معروفة لا يجوز إنكارها ، فإذا حصل العلم بذلك بمعتقد الإمام عليه‌السلام ، فلا ريب في حجّيته ، بل يمكن أن يدّعى ثبوته في أمثال زماننا أيضا بملاحظة تتبّع أقوال علمائنا ، فإنّه لا شكّ في أنّه إذا أفتى فقيه عادل ماهر بحكم ، فهو بنفسه يورث ظنّا

__________________

(١) بالدّال بعد الرّاء ويمكن أن تكون هي المناسبة لقوله : لا يصدرون. ولا يروون بالواو بعد الرّاء.

(٢) الحدس في اللغة الظنّ والتخمين ، وفي اصطلاح أهل الميزان هو الانتقال الدفعي من المبادئ الى المطالب. والحدسيّات من الأمور الغير المشاهدة بالحسّ الظاهري التي تسمى بالحسيّات ، وغير المشاهدة بالحسّ الباطني التي تسمى بالوجدانيّات. وإذا كان حصولها موقوفا على الواسطة لكن لا واسطة ، لا تغيب عن الذهن عند حصول الأطراف ، كما في الفطريات التي تسمى قضايا قياساتها معها بلا واسطة ، تحتاج الى اعمال الحدس كما في قولنا : نور القمر مستفاد من الشمس. وأمّا الوجدانيّات فهي المشاهدات بالحسّ الباطني مثل قولنا : إنّ لنا جوعا وعطشا. فقول المصنّف هو الحدس والوجدان إنّ العطف فيه للمغايرة لا أنّ العطف فيه تفسيري كما قد يتوهم في بادئ النظر. فالحدس بالنسبة الى ملاحظة العلم الحاصل لغير الشخص من تلك الملاحظة ، والوجدان بالنسبة الى العلم الحاصل لنفس هذا الشخص ، ويجوز جعل العطف تفسيريا على وجه مع المسامحة في استعمال الوجدان بمعنى الحدس ، فتأمل هذا ما في الحاشية.

٢٤٢

بحقيّته وأنّه مأخوذ من إمامه ، وإذا ضمّ إليه فتوى فقيه آخر مثله يزيد ذلك (١) الظنّ ، فإذا انضمّ إليه آخر وآخر حتّى استوعب فتواهم بحيث لم يعرف لهم مخالف ، فيمكن حصول العلم بأنّه رأي إمامهم ، وإذا انضمّ إلى ذلك البعض المؤيّدات الأخر ، مثل أنّ جمعا منهم نسبوه في كتبهم إلى مذهب علمائنا ، وجمعا منهم نفى الخلاف فيه ، وبعضهم ذكر المذهب مع سكوته عن ذكر مخالف ، بل وإذا رأى بعضهم أو جماعة منهم ذكر في كتابه أنّه إجماعيّ ، فيزيد ذلك الدّعوى وضوحا ، وإذا انضمّ إلى ذلك كون الطّرف المخالف مدلولا عليه بأخبار كثيرة صحيح السند ، فيزيد وضوحا أكثر ممّا مرّ.

وإذا انضمّ إلى ذلك عدم ورود خبر في أصل الحكم أو ورود خبر ضعيف غير ظاهر الدّلالة ، فيتّضح غاية الوضوح.

وإذا انضمّ إلى ذلك (٢) ملاحظة اختلاف مشاربهم ووقوع الخلاف بينهم في أكثر المسائل ، وقلّما يوجد خبر ضعيف إلّا وبه قائل ، وملاحظة غاية اهتمامهم في نقل الخلافات ولو كان قولا شاذّا نادرا ، بل القول النّادر من العامّة فضلا عن الخاصّة ، وملاحظة أنّهم لا يجوّزون التقليد للمجتهدين سيّما تقليد الموتى ، وأنّ كثيرا منهم يوجبون تجديد النظر.

فلو قيل : لا يمكن حصول العلم من جميع ذلك بأنّ الباعث على هذا الاجتماع هو كونه رأيا لإمامهم ورئيسهم الواجب الإطاعة على معتقدهم ، سيّما ولا يجوّزون العمل بالقياس والاستحسان والخروج عن مدلولات النصوص ، وخصوصا مع كون القياس وأمثاله من الأدلّة العقليّة ممّا يختلف فيه المشرب غاية الاختلاف ، من جهة تخريج المناط بالمناسبات الذوقيّة واستنباط العلّة بالترديد

__________________

(١) الذي يذهب اليه من الفتوى.

(٢) وجوابه قوله الآتي : فلو قيل.

٢٤٣

والدوران ونفي الفارق ونحو ذلك ، لكان ذلك مكابرة صرفة (١) لا يستحقّ منكره الجواب ، بل الظاهر أنّ مدار كلّ من يدّعي الإجماع من علمائنا المتأخّرين على هذه الطريقة ولا يتفاوت فيه زمان الغيبة والحضور ، مع أنّه إذا كان يمكن حصول العلم بمذهب الرئيس إلى حدّ الضّرورة كما وصل في ضروريّات الدّين والمذهب كوجوب الصّلوات الخمس (٢) ، ومسح الرّجلين ، وحلّية المتعتين (٣) ، فجواز حصول العلم إلى حدّ اليقين بالنظر (٤) أولى.

وكما أنّه يجوز أن يصير بعض أحكام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام بديهيا للنساء والصبيان ، بحيث يحصل لهم العلم بالبديهة أنّه من دين نبيّهم ومذهب إمامهم بسبب كثرة التضافر والتسامع ، فكذا يجوز أن يصير بعض أحكامه يقينيّا نظريا للعلماء بسبب ملاحظة أقوال العلماء وفتاوى أهل هذا الدّين والمذهب ، إذ الغالب في الضّروريات أنّه مسبوق باليقين النظري ، فكيف يمكن حصول المسبوق بدون حصول السّابق؟

وبالجملة ، فعلى هذه الطريقة ، الإجماع عبارة عن اجتماع طائفة دلّ بنفسه أو مع انضمام بعض القرائن الأخر على رضا المعصوم عليه‌السلام بالحكم ، ويكون كاشفا عن رأيه فلا يضرّه مخالفة بعضهم.

ولا يشترط فيه وجود مجهول النّسب ، ولا العلم بدخول شخص الإمام عليه‌السلام فيهم ، ولا قوله عليه‌السلام فيهم ، ولا يتفاوت الأمر بين زمان الحضور والغيبة ، ويعلم من ذلك أنّه لا يشترط وحدة العصر في تعريفهم الإجماع أيضا ، بل يجوز انضمام أهل عصر آخر في إفادة المطلوب.

__________________

(١) هو جواب لقوله : فلو قيل لا يمكن حصول العلم من جميع ذلك ... الخ.

(٢) وهذا من جملة ضروريات الدّين.

(٣) الحجّ والنساء وحلّيتهما من ضروريات المذهب ، بعد أن كان عمر أوّل من حرّمهما.

(٤) بالتكسب.

٢٤٤

فإن قلت : أمثال ذلك لا تكون إلّا من ضروريات الدّين أو المذهب (١).

قلت : إن كنت من أهل الفقه والتتبّع ، فلا يليق لك القول بذلك (٢) ، وإن لم تكن من أهله فاستمع لبعض الأمثلة ، تهتدي إلى الحقّ.

فنقول لك : قل أيّ ضرورة دلّت على نجاسة ألف كرّ من الجلّاب (٣) بملاقاة مقدار رأس إبرة من البول ، فهل يعرف ذلك العوامّ والنّسوان والصبيان ، وهل يعلم ذلك العلماء الفحول من جهة الأخبار المتواترة ، مع أنّه لم يرد خبر واحد فضلا عن المتواتر؟ فإن قلت : إنّهم قالوا في ذلك هذا القول من غير دليل ، فقد جفوت عليهم جدّا.

وإن قلت : دليلهم غير الإجماع من آية أو عقل أو غيره ، فأت به إن كنت من الصّادقين ، وإلّا فاعتقد بأنّ الدّليل هو الإجماع ، بل مدار العلماء في جميع الأعصار والأمصار على ذلك. ووافقنا المنكرون (٤) على ذلك من حيث لا يشعرون ، بل لا تتمّ [يتم] مسألة من المسائل الفقهيّة (٥) من الكتاب والسّنة إلّا بانضمام الإجماع إليه ، بسيطا أو مركّبا ، فانظر إليهم يستدلّون على نجاسة أبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه مطلقا بقوله : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (٦) مطلقا ، مع أنّ ذلك ليس مدلولا مطابقيّا للّفظ ولا تضمّنيا ولا التزاميا ، إذ

__________________

(١) راجع كلام الوحيد في «الرسائل الأصولية» ص ٢٦٥.

(٢) ان الاجماعيات من الضروريات.

(٣) وهو معرّب كلاب أي ماء الورد.

(٤) للاجماع.

(٥) نقل كما ذكره المحقق البهبهانى في «الرسائل الأصولية» ص ٢٥٦ ـ ٢٦٠ ، وبهذا صرّح غير واحد من المحقّقين راجع «كشف القناع» ص ٣١ ـ ٣٧.

(٦) «الكافي» : ٣ / ٥٧ ح ٣ ، «تهذيب الأحكام» : ١ / ٢٦٤ ح ٧٧٠ ، «الوسائل» : ٣ / ٤٠٥ ح ٣٩٨٨.

٢٤٥

وجوب الغسل أعمّ من النجاسة ، والثوب غير البدن ، وغيره من الملاقيات المأكولة والمشروبة وغيرهما. وكذلك البول غير الرّوث ، إلى غير ذلك من المخالفات ، فليس فهم النجاسة الشرعيّة منه إلّا من جهة إجماعهم على أنّ العلّة في هذا الحكم (١) هو النجاسة وليس من باب التعبّد ، وأنّه (٢) لا فرق بين الثوب والجسد ولا البول والرّوث ، وكذلك غيرهما من المخالفات.

وكذلك في مسألة نجاسة الماء القليل كلّ من يستدلّ على التنجيس فيستدلّ ببعض الأخبار الخاصّة ببعض النجاسات ، وبعض المياه الخاصّة كالكلب والماء الذي ولغ فيه في الإناء. وكلّ من يستدلّ على الطهارة يستدلّ ببعض آخر مختصّ ببعض النجاسات وبعض المياه ، كالجرذ الميّتة ، والقربة من الماء ، مع أنّ في الخبر الأوّل (٣) فهم النجاسة من الأمر بالصبّ أو النّهي عن الوضوء ، ومن الثاني (٤) من جهة الأمر بالتوضّي ، ولا ريب أنّ الصبّ لا يدلّ على النجاسة ، وكذا النّهي عن التوضّي ، ومع ذلك لم يفصّلوا بالعمل بالرّوايتين ولم يبقوهما على حالهما مع عدم التعارض بينهما ، وليس ذلك إلّا الإجماع المركّب ، وعدم القول بالفرق بين المسألتين ، وليت شعري من ينكر حجّية الإجماع أو إمكان وقوعه أو العلم به بأيّ شيء يعتمد في هذه المسائل ، فإن كان يقول : أفهم كذا من اللفظ ، فمع أنّه مكابرة واقتراح وخروج عن اللغة والعرف ، فلم لا يفهم فيما لو أمر الشّارع بالجهر في الصلاة للرجل ؛ وجوبه على المرأة ، ويفهم من قوله : اغسل ثوبك دون قوله :

__________________

(١) والمراد بهذا الحكم هو وجوب غسل الثوب.

(٢) عطف على قوله : انّ العلّة في هذا الحكم.

(٣) وهو الخبر الذي يدلّ على نجاسة الماء القليل.

(٤) ومن الخبر الثاني فهم الطهارة من جهة الأمر بالتوضي.

٢٤٦

اغسلي ، وجوبه عليها.

وبالجملة ، لو أردنا شرح هذه المقامات وإيراد ما ليس فيها مناص عن الاحتجاج بالإجماع بسيطا أو مركّبا ، لكنّا ارتكبنا بيان المعسور والمحال.

وفيما ذكرنا كفاية لمن كان له دراية ، ومن لا دراية له لا يفيده ألف حكاية.

ثمّ لا بأس أن نجدّد المقال في توضيح الحال لرفع الإشكال (١).

ونقول : كلّ طريقة أحدثها نبيّ فبعضها ممّا يعمّ به البلوى ويحتاج إليه الناس في كلّ يوم أو في أغلب الأوان ، كنجاسة البول والغائط ووجوب الصّلوات الخمس وأمثال ذلك ، فذلك بسبب كثرة تكرّره وكثرة التسامع والتضافر بين أهل هذا الدّين والملّة ، يصير ضروريّا يحصل العلم به لكلّ منهم ، ولكلّ من كان خارج هذه الملّة إذا دخل فيهم وعاشرهم يوما أو يومين أو أزيد ، فيحصل له العلم بأنّ هذه الطريقة من رئيسهم ، والعمدة فيه ملاحظتهم متلقّين ذلك بالقبول من دون منكر في ذلك ومخالف لهم أو منكر لا يعتدّ به لندرته ، أو ظهور نفاقه وعناده ، فهذا يسمّى بديهي الدّين ، ودون ذلك (٢) بعض المسائل الغير العامّة البلوى التي لا يحتاج إليها جميعهم ، ولكن علماء هذه الأمّة وأرباب أفهامهم المتردّدين عند ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والرئيس الذين هم الواسطة بينهم وبينه ، غالبا يتداولون هذه المسألة بينهم لأجل ضبط المسائل أو لرجوع من يحتاج في هذه المسائل إلى الرجوع بهم ، فيحصل من الاطّلاع على اتّفاقهم في هذه المسألة وتسامعهم بينهم من دون إنكار من أحدهم على الآخر ، العلم بأنّه طريقة رئيسهم ، فكما في البديهي ليس وجه حصول

__________________

(١) رفع الاشكال في إمكان وقوع الاجماع والعلم به وحجّيته.

(٢) أي دون بديهي الدّين.

٢٤٧

اليقين إلّا التّسامع والتضافر بدون إنكار المنكر مع ملاحظة اقتضاء العادة ذكر المخالفة لو كان هناك مخالف ، فكذلك في الإجماعي. الوجه هو ملاحظة تسامع العلماء وتضافرهم واتّفاقهم في الفتوى ، مع كون العادة قاضية بذكر الخلاف لو كان ، فوجود المخالف لو فرض في عصر التتبّع وحصول الحدس فهو من باب النّادر الذي ذكرنا في الضّرورة ، بأن يكون بحيث ثبت عندهم غفلته وخطأه من أجل شبهة ، أو لم يقفوا عليه وأدّى اجتهادهم وسعيهم إلى الاعتماد على حدسهم الذي استقرّ عليه رأيهم ، إذ لا ننكر احتمال الخطأ في مدّعي الإجماع كما سنحقّقه فيما بعد.

وبالجملة ، فكما يمكن حصول العلم بضروريات الدّين من جهة تسامع وتضافر العلماء والعوامّ والنسوان ، فيمكن حصول العلم بالنظريات (١) من تسامع العلماء وتظافرهم ، وهذا نسمّيه إجماعا. ونظير ذلك في المتواترات موجود ، فإنّ التواتر قد يحصل من دون طلب وتتبّع كما لو جاء ألف رجل من مكّة وأخبروا بوجود مكّة ، فيحصل العلم اليقيني بذلك للعلماء والنّسوان والصبيان ، وقد يحتاج ذلك إلى تتبّع وإعمال رويّة ، كقوله عليه‌السلام : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٢) ، على ما ذكروه ، فإنّ اليقين بكون ذلك قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مختصّ بالعلماء ، بل ببعضهم لاحتياجه إلى معرفة الوسائط وتعدّدها بالعدد المعتبر في كلّ طبقة ، فهناك النظر إلى كثرة الرّواة والنقلة (٣) وثمّة إلى كثرة المفتين (٤) والقائلين والعاملين.

ولنرجع إلى بيان مدرك الإجماع على طريقة العامّة ، وهو من وجوه.

__________________

(١) كالتي تحتاج الى التتبع والطلب.

(٢) «تهذيب الأحكام» : ٤ / ١٨٦ ح ٥١٩ ، «الوسائل» : ٦ / ٥ ح ٧١٩٧.

(٣) وهذا في المتواتر.

(٤) وهذا في الاجماع.

٢٤٨

وليعلم أوّلا : أنّه لا جدوى لنا في التعرّض إلى القدح في أدلّتهم التي أقاموها على حجّية الإجماع ، لأنّ الإجماع على مصطلحهم (١) إذا ثبت فلا ريب أنّه حجّة عندنا أيضا.

ولكن نتعرّض لذكر أدلّتهم ، والكلام فيها على وجهين :

أحدهما : بيان نفس الأمر.

والثاني : إظهار أنّ ما تشبّثوا به في وجه حجّية الإجماع ، لا يمكن أن يعتمد عليه ، فيبطل كلّ ما يعتمدون في إثباته عليه إلزاما عليهم بعد إبطال المستند ، ومن ذلك أصل مذهبهم ودينهم. فنحن نلزمهم إمّا ببطلان طريقتهم من جهة عدم حجّية الإجماع إن كان مستنده ما ذكروه على معتقدهم إلزاما ، أو بمنع تحقّق الإجماع المصطلح فيما يضرّنا تسليمه في مذهبنا ، سواء سلّمنا مستندهم فيه أم لا ، مع أنّ حجّية الإجماع عندهم ليس بوفاقي ، بل أنكره النظّام (٢) وجعفر بن

__________________

(١) وذلك لأنّ الاجماع على مصطلحهم كما مرّ في أوّل القانون هو اتفاق المجتهدين من هذه الأمة على أمر ديني في عصر من الأعصار ، ولا ريب أنّه اذا ثبت الاجماع بهذا المعنى ، فهو كما انّه حجّة عندهم فهو حجّة عندنا أيضا.

(٢) ابراهيم بن سيّار بن هانئ البصري ابو اسحاق النظام (١٨٤ ـ ٢٣١ ه‍) ـ وقيل توفي سنة ٢٢١ ـ وهو من أئمة المعتزلة ومن شيوخ الجاحظ. نشاء في البصرة واقام ببغداد تبحّر في الفلسفة وله آراء تبعه فيها فرقة من المعتزلة سميت بالنظامية. وشهرته بالنظام لانه يجيد نظم الكلام ، وأمّا خصومه فقالوا لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة أيام فقره. ولقد كان النظام أصوليا قد أنكر حجية الاجماع وردّه وألّف كتابا سماه «النكث في عدم حجية الإجماع». قال إمام الحرمين في كتابه «البرهان في اصول الفقه» : وأوّل من باح برده (اي كون الاجماع حجة في السمعيات). وقال الغزالي في «المستصفى» ص ١٧١ : وذهب النظام الى أنّ الاجماع عبارة على كل قول قامت حجته وان كان قول واحد. ـ

٢٤٩

حرب (١) ، وغيرهما (٢) ، على ما نقل عنهم (٣).

وبعضهم أنكر إمكان وقوعه (٤) ، وبعضهم العلم به ، ولكنّ جمهورهم على

__________________

ـ وقال النظام ف حق الصحابة هنا كلاماً لجعلهم الاجماع حجة اذ قال : ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله دعوا الناس ال اتباع الاجماع وراموا أن يتخذوا رؤوساء فقرروا الاجماه وأسند إليه ما يرون وأخذوا يحكمون مسترسلين فيما لا نهاية له ، وأصول الشريعة ومظبوطة. وكما أنكر النظام حجية الاجماع أنطر – كذلك – ان يكون القياس طريقا الى إدراك الأحكام الشرعية واثباتها وقال : النص إذا ورد بحكم من الاحكام فلا يجوز ان يحمل ما شاركه في العلّة عليه ويحكم فيه بمثل حكمه. وقال ابن عبد البر في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» ذكر ابو القاسم عبيد الله بن عمر في «كتاب القياس» من كتبه في الاصول فقال : ما علمت انّ احداً من البصريين ولا غيرهم من له نباهة سبق ابراهيم النظام الى القول بنفي القياس والاجتهاد ولم يلتفت إليه الجمهور.

كما أنكر النظام أيضاً من الاخبار ما لا يوجب العلم الضروري وقال عبد القاهر البغدادي : ثم أنّه (آ النظام) علم اجماع الصحابة على الاجتهاد في الفروع الشرعية فذكرهم بما يقرؤه غداً في صحيفة ... وطعن في فتاوي الصحابة.

(١) الهمداني (١٧٧ ـ ٢٣٦ ه‍) من أئمة المعتزلة بغدادي أخذ الكلام عن ابي الهذيل العلاف بالبصرة وصنف كتبا ، قال الخطيب البغدادي إنّها معروفة عند المتكلّمين وكان له اختصاص بالواثق العباسي.

(٢) كجعفر بن مبشّر بن احمد الثقفي (... ـ ٢٣٤ ه‍) متكلّم من كبار المعتزلة له آراء انفرد بها وتصانيف ، مولده ووفاته ببغداد.

وقال به ـ كذلك ـ أهل الظاهر وغيرهم.

(٣) ونقل ذلك عنهم الشيخ في «العدة» ٢ / ٦٠١.

(٤) مطلقا ، ونقل عن إمامهم أحمد في رواية ابنه عبد الله قوله : من ادعى الاجماع فهو كاذب وقال ما يفيد غير ذلك راجع ما ذكره القاضي أبو يعلى في «العدة» وأبو الخطاب في «التمهيد» وراجع كتاب «اتحاف ذوي البصائر» ٢ / ١١٥٩.

٢٥٠

حجّيته (١) وإن اختلفوا أيضا في انحصارها في إجماع الصّحابة (٢) وأهل المدينة (٣) وعدم الانحصار.

واستدلّ القائلون بحجيّته : بوجوه من العقل والنقل ، من الآيات والأخبار ، ونحن نقتصر بما هو أظهر دلالة منها.

فأمّا الآيات ، فمنها قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ)(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ)(٤) الآية (٥).

فإنّه تعالى جمع في الوعيد بين مخالفة سبيل المؤمنين ، ومشاقّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا ريب في حرمة الثاني فكذا الأوّل.

وفيه : أنّ الوعيد على المجموع من حيث المجموع ، لا على كلّ واحد (٦).

__________________

(١) وجمهورهم على أنّه حجّة شرعيّة يجب العمل به واختلفوا فيه على ثلاثة أقوال : حجّة قطعيّة وحجّة ظنيّة وقول ثالث على أنّ الإجماع الصريح والنطقي حجّة قطعيّة والإجماع السكوتي حجّة ظنيّة.

(٢) راجع «الحصول» ٣ / ٨٦٩ ، «البحر المحيط» للزركشي ٤ / ٤٨٢.

(٣) راجع «المحصول» ٢ / ٨٦٠ ، «البحر المحيط» ٤ / ٤٨٣.

(٤) النساء : ١١٥.

(٥) قال الشيخ البهائي في معنى قوله تعالى : (ما تَوَلَّى) في الآية : نجعله واليا لما تولّى من الضلالة ونخلّي بينه وبين ما اختاره.

(٦) قال في الحاشية : توضيح هذا وتتميمه أن يقال : إنّ اثبات حجّية الإجماع بهذه الآية موقوف على حجّية الكتاب ، ودليل حجّية الكتاب ، ودليل حجّية الكتاب إن كان هو الإجماع فيلزم الدّور.

وإن كان هو الروايات مثل خبر الثقلين ونحوه ، فإن كانت أخبار آحاد فلا يفيد إلّا الظنّ ، وكفاية الظنّ في مثل هذا الأصل الذي هو مبنى دينهم هو أوّل الكلام ، وإن كانت متواترة فالقدر المسلّم إنّما هو لفظ الرّواية وهو لا يفيد إلّا القطع بحجّيته في الجملة. ـ

٢٥١

وما قيل : إنّ مشاقّة الرّسول كافية فيه مستقلّا ، فلا حاجة إلى ضمّ غيره.

ففيه : أنّه كذلك لكن متابعة غير سبيل المؤمنين غير مستقلّ بذلك حتّى تنضمّ إلى مشاقّة الرّسول ، فلا يتمّ الاستدلال والتمسّك بأصالة الاستقلال في كلّ منهما ، وأنّ الأصل عدم انضمام كلّ منهما إلى الآخر باطل ، لفهم العرف الانضمام في مثل قولك : من دخل الدّار وجلس فله درهم ، مع أنّ القيد المعتبر في المعطوف عليه ، وهو تبيّن الهدى ؛ معتبر في المعطوف ، والهدى في المعطوف هو دليل الإجماع ، فلم يثبت حجّيته.

وأيضا سبيل المؤمنين ليس على حقيقته ، ومن أقرب مجازاته دليلهم وهو مستند الإجماع لا نفسه.

هذا جملة ممّا ذكروه (١) في هذا المقام ، وقد أطنب الأصحاب (٢) في هذا المقام بما لا حاجة إلى إيرادها ، والأوجه أن يقال : المراد بسبيل المؤمنين الإيمان ، وهو ما صاروا به مؤمنين.

__________________

ـ والقدر المسلّم منه إن كان نصا في المطلق لا مطلق الظواهر ، وهذه الآية ليست بنص في المطلوب لاحتمال إرادة الوعيد على المجموع من حيث المجموع لا على كل واحد من المشاقة وعدم الاتباع. وإن قلنا انّ الواو لمطلق الجمع لا للمعيّة ولا للترتيب ، بل الظاهر هو إرادة المجموع من حيث المجموع بفهم العرف ذلك كما في قولك : من دخل الدار وجلس فله درهم ، بل الظاهر انّ ذكر عدم متابعة المؤمنين إنّما هو بالتّبع ، والمقصود بالذّات هو الوعيد على المشاقة.

(١) من الايرادات. وقد تمسّك الشافعي بالآية على مذهبه ، بل وكثير من بعده ، وقد نقلها الغزالي في «المستصفى» ١ / ١٧٢ ، وقد أطنب الغزالي في كتابه «تهذيب الأصول» في توجيه الأسئلة على الآية ودفعها.

(٢) ربما مقصوده الشيخ في «العدة» ٢ / ٦٠٥ والسيد في «الذريعة» ٢ / ٦٠٨.

٢٥٢

ويرد عليها (١) أيضا : أنّ مفهوم اتّباع غير سبيل المؤمنين ، عدم اتّباع الغير لا اتّباع سبيل المؤمنين ، فلا يلزم تهديد ووعيد على تارك المتابعة رأسا.

لا يقال : أنّ ترك المتابعة رأسا هو متابعة غير سبيل المؤمنين ، لأنّا نقول : المتابعة أمر وجوديّ يحصل بحصول المتبوع ، والمفروض انتفاؤه.

ومنها : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ.)(٢) فإنّ وسط كلّ شيء عدله وخياره في اللّغة ، فمن عدّله الله تعالى يكون معصوما عن الخطأ ، فقولهم حجّة.

ففيه : أنّ ذلك يستلزم عدم صدور الخطأ عنهم مطلقا (٣) ، وهو باطل.

وما يقال : إنّ ذلك إذا اجتمعوا ، لا مطلقا.

ففيه : أنّه تقييد بلا دليل ، وتخصيص قبيح ، مع أنّ التعليل بقوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ظاهر في كون كلّ منهم شاهدا ، لا المجموع من حيث المجموع ، فكذلك الامّة.

مع أنّ المراد إمّا الشهادة في الآخرة كما ورد في الأخبار ، فهو إنّما يستلزم العدالة عند الأداء لا التحمّل ، فلا يجب عصمتهم في الدنيا.

وإمّا في الدنيا فهو إنّما يدلّ على قبول شهادتهم وهو لا يستلزم حجّية فتواهم ، فالآية متشابهة الدّلالة ، فالأولى أن يقال : المراد بهم أئمّتنا عليهم‌السلام كما روي في تفسيرها (٤).

__________________

(١) على الآية.

(٢) البقرة : ١٤٣.

(٣) ولو في غير حال الاجتماع.

(٤) عن بريد بن معاوية العجلي عن أبي جعفر عليه‌السلام : قال : نحن الأمة الوسطى ونحن ـ

٢٥٣

ومنها : قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(١) فإنّ مفهومه عدم وجوب الردّ مع الاتّفاق.

وفيه : أنّ عدم وجوب الردّ حينئذ أعمّ من أن يكون جواز العمل لكون إجماعهم حجّة ، بل إنّما كان من أجل أنّ عند كلّ منهم ما يكفيهم من الدّليل على مطلبه من عقل أو نقل ، مع انّ عموم الجمع في قوله : (تَنازَعْتُمْ ،) و (رُدُّوا ،) أفراديّ لا مجموعيّ ، كما لا يخفى.

وسيجيء انّ بعض العامّة استدلّ بهذه الآية على عدم حجّية الإجماع (٢).

وأمّا الأخبار (٣) :

فمنها : ما ادّعوا تواتر مضمونها معنى (٤) وأظهرها دلالة ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» (٥). وفي لفظ آخر : «لم يكن الله ليجمع امّتي

__________________

ـ شهداء الله على خلقه وحجّته في أرضه. كما في تفسير «العياشي» وكذا في «البرهان» و «الصافي» و «البحار» وكذا في «مجمع البيان».

(١) النساء : ٥٩.

(٢) وذلك لوقوع النزاع في الإجماع وحجيته فحينئذ يجب ردّه ، وهذا من باب القلب.

(٣) يمكن تقرير الاخبار المتواترة بالقياس الشرطي بأن يقال : لو لم يكن إجماع هذه الأمة حجّة لزم اجتماعهم على الخطأ ، والثاني باطل فالمقدم مثله.

(٤) قد ذكر في «النهاية» ألفاظها قريبا من خمسة عشر ، منها : ما رواه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. لا يجتمع أمتي على الضلالة. يد الله على الجماعة. سألت ربي أن لا يجتمع أمتي على الضلالة فأعطانيها. عليكم بالسواد الأعظم. من خرج من الجماعة فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه. من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية. لا يزال أمّتي على الحق حتى يأتي أمر الله. الى غير ذلك ما ذكره.

(٥) في «المعارج» ص ١٢٨ للمحقق الحلي و «شرح النهج» ٨ / ١٢٣.

٢٥٤

على خطأ» (١).

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كونوا مع الجماعة» (٢) ، و «يد الله على الجماعة» (٣) ونحو ذلك.

وفيه أوّلا : منع صحتها وتواترها ، بل هي أخبار آحاد لا يمكن التمسّك بها في إثبات مثل هذا الأصل الذي بنوا دينهم عليه ، فضلا عن فقههم ، ولم يثبت دلالتها على القدر المشترك على سبيل القطع بحيث يفيد المطلوب.

وثانيا : منع دلالتها.

أمّا أوّلا : فلأنّ الظاهر من الاجتماع هو التجامع الإرادي لا محض حصول الموافقة اتّفاقا ، فلا يثبت حجّية جميع الإجماعات ، إذ لا يتوقّف تحقّق الإجماع على اجتماع آرائهم على سبيل اطّلاع كلّ منهم على رأي الآخر واختياره موافقة الآخر ، وتتميمه بالإجماع المركّب أو بعدم القول بالفصل دور ، وهذا واضح ، إلّا أن يقال : مرادهم إثبات الحجّية في الجملة لا مطلقا ، وبه يبطل السّلب الكلّي (٤) الذي يدّعيه الخصم.

وثانيا : أنّ لام الخطأ جنسيّة ، لما حقّقناه سابقا في محلّه من أنّها حقيقة فيه (٥) ، ومقتضاه عدم جواز اجتماعهم على جنس الخطأ ، وهو قد يحصل ، بأن يختار كلّ واحد من الامّة خطأ غير خطأ الآخر ، وذلك يوجب عصمتهم ولا يقولون به.

__________________

(١) «سنن ابن ماجة» : ٢ / ١٣٠٣ ح ٣٩٥٠.

(٢) «تاريخ دمشق» : ٣٩ / ٤٠٠.

(٣) «أمالي الشيخ الطوسي» : ٢٣٧ ح ٤١٨.

(٤) عدم الحجيّة مطلقا والذي يدّعيه المنكر لحجيّة الاجماع.

(٥) أي في الجنس.

٢٥٥

فهذا من أدلّة الشيعة على القول بوجوب وجود الإمام المعصوم ، والعجب من المخالفين حيث قالوا بمقتضاه من حيث لا يشعرون ، نقله المحقّق البهائي رحمه‌الله (١) عن صاحب «المحصول» (٢) وهو نسبه فيه إلى أكثرهم ، وسيجيء في مسألة تعاكس شطري الإجماع ، الكلام في ذلك.

نعم ، يمكن توجيه الدّلالة على القول بجنسيّة اللّام ، بأن يقال : يفهم اتّحاد الفرد ، من لفظ الاجتماع لا من لفظ الخطأ ، فيكون المراد : لا تجتمع امّتي على جنس الخطأ ، بأن يختاروا فردا منها كالزّنا مثلا ، فما اجتمعوا عليه فهو صواب ، وهو تقييد بلا دليل.

نعم ، يتمّ ذلك لو جعل اللّام للعهد الذّهني فيصير من باب النّكرة المنفيّة مفيدا للعموم (٣) ، لكنّه أيضا معنى مجازي للّفظ.

وأيضا الظاهر من اللّفظ سيّما على القول بكون الاجتماع بمعنى التجامع الإرادي ، أنّ اجتماع الأمّة لا يحصل على ما خطائيّته ثابتة قبل الاجتماع ، فالغرض نفي اجتماع الأمّة على ما هو خطأ ، لا أنّ ما اجتمعوا عليه يعلم أنّه ليس بخطإ.

وظاهر الأوّل أنّ المعتبر في الخطأ كون خطئيّته ثابتة قبل الاجتماع ، فالغرض نفي اجتماع الأمّة على ما هو خطأ عندهم ، لا أنّ ما اجتمعوا عليه يكشف عن أنّه صواب وليس بخطإ ، وإن قلنا بكون الألفاظ أسامي للماهيّات النفس الأمرية (٤).

__________________

(١) في «الزبدة» ص ٩٩ وراجع حاشيته هناك.

(٢) فخر الدّين الرّازي ، وهو نسبه في المحصول الى أكثر المخالفين.

(٣) فإنّ العموم من لوازم الفردية فلا يراد الجنس حينئذ حتى يكون مطلقا ، ويعود المحذور.

(٤) يعني إنّا وإن قلنا : بأنّ لفظ الخطاء اسم لما هو خطاء عندهم وإن لم يكن في الواقع ـ

٢٥٦

والحاصل ؛ أنّ هذه الرواية وما في معناها ظاهرة في مذهب الإمامية من لزوم معصوم في كلّ زمان ، ويؤيّده أيضا ما رووه من قوله عليه‌السلام : «لا يزال طائفة من امّتي على الحقّ حتّى تقوم السّاعة» (١). وهو أيضا يشعر بأنّ نفيه عليه‌السلام اجتماعهم على الخطأ إنّما هو لأجل أنّه لا بدّ أن يكون طائفة من أمّته على الحقّ ، كما نبّه عليه بعض المحقّقين. قال : وهو ما يقوله أصحابنا من وجوب دخول المعصوم عليه‌السلام في الإجماع حتّى يكون حجّة ، فيلزم المخالفين أن يقولوا بأنّ حجّية الإجماع إنّما هو من أجل ذلك ، كما يقوله أصحابنا ، لا لأنّه إجماع من حيث إنّه إجماع.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «لم يكن الله ليجمع امّتي على خطأ» (٢).

فمع ما فيه من أكثر ما مرّ من القدح في السّند والدّلالة ، أنّ ظاهرها مقبول عندنا ولا يصدر مثل هذا القبيح عن الله تعالى ، ولكن لا ينفي صدوره عن الخلق ، ويظهر الكلام في الباقي ممّا مرّ.

وأمّا الأدلّة العقليّة التي أقاموها على ذلك : فأقواها أنّ العلماء أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف للإجماع ، فدلّ على أنّه حجّة ، فإنّ العادة تحكم بأنّ هذا العدد الكثير من العلماء المحقّقين لا يجتمعون على القطع في شرعيّ بمجرّد تواطؤ

__________________

ـ كذلك ، فلا تدلّ الرّوايات على أنّ كل ما اجتمعوا عليه فهو ليس بخطاء في نفس الأمر ، بل لو دلّ فإنّما يدل على انّه ليس بخطاء عندهم ، ولا ريب بأنّه أعم مما هو مقصودهم ، هذا كما في الحاشية.

(١) فتح الباري : ١٣ / ١٦. وفي رواية : لا تزال طائف من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله. أخرجه مسلم ٣ / ١٥٢٣ وفي رواية بلفظ : لا يزال طائفة من امتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتّى يأتي أمر الله وهم على ذلك.

(٢) «المعارج» ص ١١٨ للمحقق الحلي ، «سنن ابن ماجة» : ٢ / ١٣٠٣ ح ٣٩٥٠ (نحوه) ، «الاحكام للآمدي» : ١ / ٢١٩.

٢٥٧

وظنّ ، بل لا يكون قطعهم إلّا عن قاطع ، فوجب الحكم بوجود نصّ قاطع بلغهم في ذلك ، فيكون مقتضاه ، وهو خطأ المخالف للإجماع حقّا ، وهو يقتضي حقيّة ما عليه الإجماع وهو المطلوب.

واجيب أوّلا : بالنقض بإجماع الفلاسفة على قدم العالم ، وإجماع اليهود على أنّ لا نبيّ بعد موسى عليه‌السلام وأمثال ذلك.

وردّ : بأنّ إجماع الفلاسفة عن نظر عقليّ وتعارض الشبه ، واشتباه الصحيح والفاسد فيه كثير.

وأمّا في الشرعيّات فالفرق بين القاطع والظنّي بيّن لا يشتبه على أهل المعرفة والتميّز ، وإجماع اليهود والنصارى عن الاتّباع لآحاد الأوائل لعدم تحقيقهم ، والعادة لا تحيله بخلاف ما ذكرنا.

وبالجملة ، فإنّما يرد نقضا إذا وجد فيه ما ذكرنا من القيود ، وانتفاؤه ظاهر.

وقد يعترض : بأنّه لا حاجة في هذا الاستدلال (١) إلى توسيط الإجماع على تخطئة المخالف ، لأنّه لو صحّ لاستلزم وجود قاطع في كلّ حكم وقع الإجماع عليه.

ويجاب : بأنّ كلّ المجمعين (٢) ليسوا بقاطعين على خطأ مخالفيهم ، بل ربّما يكون كلّ حكم منهم ظنّيا مستندا إلى أمارة ، لكن يحصل لنا القطع بالحكم من اتّفاق الكلّ ، ولذلك قال في الاستدلال : أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف ، ولم

__________________

(١) وهو ان العادة تحكم بأنّ العدد الكثير من العلماء والمحققين لا يجتمعون على القطع بمجرد توطؤ وظنّ ، بل لا يكون قطعهم إلّا عن قاطع.

(٢) أي المجمعين في المسألة الفقهية.

٢٥٨

يقل على تخطئة المخالف (١).

واعترض عليه أيضا : بأنّه مستلزم للدور ، لأنّه إثبات للإجماع بالإجماع.

وردّ (٢) : بأنّ وجود الإجماع الخاصّ ، دليل على حجّية الإجماع لاستلزامه ثبوت أمر قطعي (٣) يدلّ عليها كما مرّ. فحجيّة الإجماع موقوفة على وجود هذا الإجماع الخاصّ (٤) ، ووجود هذا الإجماع الخاصّ لا يتوقّف على حجّية مطلق الإجماع ، وكذا دلالته على وجود قاطع يدلّ عليها لا تتوقّف على حجّية مطلق الإجماع. هكذا قرّروا الدّليل والاعتراضات.

أقول : إن كان مراد المخالفين من حجّية الإجماع هو حجّيته من حيث هو إجماع كما هو لازم طريقتهم ، بل هو صريح أكثرهم ، فلا يتمّ الاستدلال ، لأنّ مرادهم إن كان من العلماء المجمعين على القطع بتخطئة مخالف الإجماع ، علماء الإمامية أيضا ، ومن الإجماع الذي يخطأ مخالفه ما اشتمل على الإمام المعصوم ، فلا ريب في حقيّة ما ذكروه ، ولكن ذلك لا يثبت حجّية الإجماع من حيث هو ، فلا ينفعهم ، وإلّا فإن لم يعلم دخول المعصوم أو علم خروجه عن الإجماع الذي يخطأ مخالفه ، فلا نسلّم إجماع جميع العلماء حتّى الإمامية على القطع بتخطئة المخالف ، وبدونه نمنع حكم العادة على ما ذكروه.

__________________

(١) راجع «الرسائل الاصولية ص ٢٨٥ للوحيد ، و «الزبدة» للشيخ البهائي ص ٩٧.

(٢) هذا الردّ مذكور في تعليقات «الزّبدة» ص ٩٧ ، لأنّه قال : قوله لا دور ، دفع لما قد نصّ من أنّ هذا الدّليل اجماع بالاجماع.

(٣) أي لاستلزام ذلك الاجماع الخاص ثبوت أمر قطعي يدلّ ذلك الأمر القطعي على حجّية مطلق الاجماع.

(٤) وهذا لا ينفك عن دليل خاص.

٢٥٩

ولو فرض موافقة الإمامية على القطع بتخطئة المخالف ، وإن لم يعلم دخول المعصوم (١) فيهم ، فحينئذ نقول : إن كان موافقة الإمامية في القطع في التخطئة بحيث يحصل القطع معه بكونه قول المعصوم ، فيكون حجّية الإجماع الذي يحكم بخطإ مخالفه للإجماع المصطلح عندنا ، لا لأجل اقتضاء العادة بذلك (٢) ، وبدونه فيمنع أيضا حكم العادة على ما ذكروه.

ويظهر ثمرة هذا الكلام (٣) في أمثال زماننا حيث لا يمكن تحقّق الإجماع على مصطلح العامّة بحيث يحكم بكون الإمام المنتظر فيهم ، وكذلك في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع فرض عدم معصوم آخر حال انعقاد الإجماع ، لأنّه لا يستحيل ذلك (٤) عندنا أيضا ، مع أنّ القدر المسلّم في قضاء العادة ـ على ما ذكروه ـ هو ما لو كان عدد المجمعين عدد التواتر حتّى يمكن القطع بتخطئة مخالفه.

والجواب : بأنّ الدّليل ناهض في إجماع المسلمين من غير تقييد واشتراط ، فإنّهم خطّئوا المخالف مطلقا (٥) لا يخفى ما فيه. فإنّ دعوى كونهم قاطعين بتخطئة المخالف لا بدّ أن تكون قطعيّة ، ومجرّد ظهور اللّفظ في إرادة العموم لا يكفي في ذلك ، مع أنّ المجمعين على القطع بالتخطئة لو ادّعوا ذلك في خصوص مثل هذا

__________________

(١) أي وجوده عليه‌السلام بين المجمعين في المسألة الفقهيّة.

(٢) أي بالحجّية.

(٣) أي الحكم بأنّ المخالف مخطئ للإجماع المصطلح عندنا لا لأجل قضاء العادة ، وذلك لأنّ في زمان إمكان تحقق الإجماع على مصطلح العامّة يمكن الاستناد بكل واحد من الأمرين ، فلا تظهر ثمرة لهذا الكلام. هذا كما في الحاشية.

(٤) أي فرض عدم معصوم آخر حال انعقاد الإجماع في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٥) أي سواء كان عدد المجمعين على عدد التواتر أم لا.

٢٦٠