القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

وما ذكره بعض الأصحاب من أنّ وجه ردّ الصدوق رحمه‌الله ما يرويه محمّد بن عيسى عن يونس ، هو هذا لا وجه له (١).

وأمّا الإسلام ، فظاهر بعضهم دعوى الإجماع على ذلك ، مستندا إلى قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا). (٢)

__________________

(١) وقد نقله الوحيد البهبهاني على ما حكي عنه في تعليقة رجاله عن جده. وتوضيح المقام أنّ محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين يروي عن كتب يونس بن عبد الرحمن وعن أبي جعفر بن بابويه عن شيخه محمد بن الحسن بن الوليد أنّه قال في شأنه : إنّ ما تفرّد به محمد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه. وعن الشيخ في «الفهرست» فيه : أنّه ضعيف استثناه أبو جعفر بن بابويه من رجال نوادر الحكمة ، وقال : لا أروي ما يختص بروايته. وقيل : إنّه كان يذهب مذهب الغلاة. انتهى. واختلف في وجه هذا التضعيف فقد يحتمل كونه لأجل رميه بالغلوّ كما نقله في «الفهرست» ، وعن التعليقة قال جدي : الظاهر انّ تضعيف الشيخ لتضعيف الصدوق ، وتضعيفه لتضعيف ابن الوليد ، وتضعيف ابن الوليد لاعتقاده انّه يعتبر في الاجازة أن يقرأ على الشيخ أو يقرأ الشيخ ويكون السّامع فاهما لما يرويه. وكان لا يعتبر الاجازة المشهورة بأن يقال : أجزت لك أن تروي عني ، وكان محمد صغير السّن ولا يعتمدون على فهمه عند القراءة. ولا على إجازة يونس له. وأمّا ذكر غلوّه ، فذكر الشيخ بقيل ولم ينقلوا عنه ما يشعر به ، بل مع تتبعي كتب الأخبار جميعا لم اطّلع على شيء يوجب طرح خبره. انتهى. وقوله : وما ذكره بعض الاصحاب ... الخ ، وكأنّه تعريض على جدّ البهبهاني أراد به منع كون الوجه في ردّ الصدوق تبعا لشيخه ما تفرّد به محمد بن عيسى عن كتب يونس عدم قبول روايات من تحمّلها قبل البلوغ. وسند المنع لعلّه ما احتمله بعضهم في توجيه عدم اعتماده على ما تفرّد به من كتب يونس انقطاع الاسناد إليه كما هو الحال في استثنائه أي استثناء الصدوق محمدا من رجال نوادر الحكمة كما تقدم حكايته عن الشيخ في «الفهرست» ، فإنّه إنّما استثناه لانقطاع الاسناد إليه. هذا كما في الحاشية للسيد علي القزويني.

(٢) الحجرات : ٦. واستندوا في الآية هذه بناء على شمولها للكافر كما قال العلّامة : أنّه أي فسق أعظم من الكفر.

٤٦١

أمّا الإجماع ، فيشكل دعواه مطلقا حتّى في صورة انسداد باب العلم.

نعم يفيد دعواه في تضعيف الظنّ الحاصل بخبره (١).

والحاصل ، أنّه يمكن الاعتماد على الإجماع وإن كان منقولا لو ثبت حجّية خبر الواحد بالخصوص ، ولو في صورة إمكان تحصيل العلم ، وأمّا في غيره ، فلا (٢) إلّا إذا أوجب نفي الظنّ.

وأمّا الاستناد إلى الآية ، فإن كان مستند الإجماع هو أيضا هذه الآية ، فلا يبقى اعتماد على الإجماع أصلا ، وإن كان المستند نفس الآية.

ففيه : منع الدّلالة ، لمنع إطلاق الفاسق على الكافر المؤتمن الغير العاصي بجوارحه حقيقة ، والاستدلال بطريق الأولوية حينئذ ممنوع ، فإنّه قد يكون الاعتماد على الكافر الثّقة أكثر من الفاسق الغير المتحرّز عن الكذب.

نعم ، يمكن أن يقال : لو سلّم عدم تبادر الكافر من الفاسق ، فلا نسلّم تبادر عدمه ، فغاية الأمر الشكّ ، فيحتمل أن يكون الكافر فاسقا ، ولمّا كان الحكم معلّقا على الفاسق ، وهو اسم لما هو في نفس الأمر كذلك كما سنبيّنه ، فيشترط قبول الخبر بعدمه ، ولا نعلم إلّا بالعلم بعدم كونه فاسقا.

والجهالة (٣) كما قد تكون في كون الشيء من الأفراد المعلومة الفردية لمفهوم ،

__________________

(١) أي يوجب دعوى الإجماع ضعف الظنّ الحاصل بخبر الكافر.

(٢) أي لا يمكن.

(٣) أي الجهالة الحاصلة في الشرط الباعثة للشك في الشرط. وقال في الحاشية : قد يسمى الأوّل بالشك في المصداق والثاني بالشك في الصدق. وضابط الفرق انّ الشك في صدق مفهوم كلي على فرد خارجي قد يكون لجهالة حال الفرد باعتبار الشك في ـ

٤٦٢

فقد تكون في كون الشيء من أفراد ذلك المفهوم مطلقا (١) ، وهما سيّان فيما نحن بصدده(٢).

ويمكن أن يقال : مع تسليم صدق الفاسق على الكافر أيضا ، لا تدلّ الآية على عدم قبول روايته إذا كان ثقة ، لأنّ معرفة كونه ثقة نوع تثبّت في خبره ولو كان إجمالا ، كما سنبيّنه في خبر المخالفين.

وكيف كان ، فلا ثمرة يعتدّ بها في خصوص العمل برواياتنا وإن كان يثمر في غير الرّواية المصطلحة ممّا يحتاج إليه في الموضوعات.

وأمّا الإيمان ، والمراد به كونه إماميّا اثني عشريّا ، فالمشهور بين الأصحاب اشتراطه لقوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ)، (٣) والكلام فيه مثل ما تقدّم ، بل أظهر. ومقتضى هذا الشرط عدم جواز العمل بخبر المخالفين ولا سائر فرق الشّيعة.

وقال الشيخ في «العدّة» (٤) : بجواز العمل بخبر المخالفين إذا رووا عن أئمّتنا عليهم‌السلام ، إذا لم يكن في روايات الأصحاب ما يخالفه ولا يعرف لهم قول فيه ، لما روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي

__________________

ـ اتصافه بما أخذ في مفهوم كلي فهو الشك في المصداق ، كما لو شك في زيد المسلم المؤمن هل هو فاسق أو عادل. وقد يكون لجهالة حال الكلي باعتبار الشك في وصف هل أخذ في مفهومه أو لا فهو الشك في الصدق كالكافر المشكوك في صدق الفاسق عليه ، وعدمه باعتبار الشك في كونه بحسب الوضع لما يعمّ الخارج عن طاعة الله باعتقاده وعدمه.

(١) أي من دون قرينة على ارادة الأفراد المعلوم الفردية كما في التكاليف.

(٢) وهو الشك في الشرط.

(٣) الحجرات : ٦.

(٤) ١ / ١٤٩.

٤٦٣

عنّا فانظروا إلى ما رووه عن علي عليه‌السلام فاعملوا به» (١).

ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث (٢) وغياث بن كلّوب (٣) ونوح بن درّاج (٤) والسّكوني (٥) وغيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم‌السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه.

وردّ (٦) : بمنع صحّة الرّواية التي استدلّ بها الشيخ ، وبمنع إجماع الطائفة على العمل بخبر هؤلاء لو أريد من عمل الطائفة إجماعهم ، سيّما إذا انفرد بعض العامّة بروايته ، لاحتمال أن يراد من قوله عليه‌السلام : «رووه» اجتماعهم على روايته. وما ذكرنا سابقا من حصول التشبّث الإجمالي يجري هنا أيضا فيمن وثّقه الأصحاب منهم كالسّكوني ، فإنّ المحقّق رحمه‌الله في «المعتبر» وثّقه في مسائل النّفاس ، وكذلك غيره.

__________________

(١) «الرسائل التسع» للمحقق الحلي : ٦١ ، «البحار» : ٢ / ٢٥٣.

(٢) من العامة عند الأكثر ، وفي «الفهرست» أنّه من أهل المذهب ، له كتاب معتمد عند أصحابنا وهو القاضي الكوفي النخعي ، روى عن الصادق وعن الكاظم عليهما الصلاة والسلام وولّى القضاء ببغداد ... وفي بعض الأخبار ما يشهد بتشيّعه. وفي «الوجيزة» ضعيف ، وقيل موثّق بشهادة الشيخ في «العدّة» ١ / ١٤٩.

(٣) بن فيهس [قيس] له كتاب كما في «رجال النجاشي» ، وفى «المعالم» روى عنه الضعفاء ويشمّ من رواياته كونه عاميّا. كما نقل عن «التعليقة» في «منتهى المقال».

(٤) يظهر منه أنّه كان عاميّا موثّقا ، لكن قال في «منتهى المقال» : انّه كان من الشيعة ، كما عن «الخلاصة».

(٥) بفتح السّين منسوب الى قبيلة من عرب اليمن ، قال في «القاموس» : ومن المشهورات التي لا أصل لها تضعيف السّكوني أو جعله عاميّا ، وقد أجمع الطائفة على العمل برواياته. وعن «السرائر» هو عامي المذهب بلا خلاف وهو كوفي.

(٦) قول الشيخ.

٤٦٤

وأمّا على البناء على الدّليل الخامس (١) ، فالأمر واضح ممّا بيّنا. وأمّا سائر فرق الشيعة مثل الفطحيّة (٢) ، والواقفية (٣) ، والناووسية (٤) ، وغيرهم (٥) فقال الشيخ أيضا في «العدّة» (٦) : إن كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه ، وجب أن يعمل به إذا كان متحرّزا [متحرّجا] في روايته موثوقا به في أمانته وإن كان مخطئا في أصل الاعتقاد ، ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره ، وأخبار الواقفية مثل سماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى ومن بعد هؤلاء ممّا رواه بنو فضّال

__________________

(١) من حجية الظن المطلق.

(٢) وهم يقولون بعبد الله بن جعفر وهو الأكبر بعد إسماعيل ، الذي هو أكبر أولاده عليه‌السلام ومات بعده بسبعين يوما. وهم أكثر المشايخ والفقهاء الأجلّة ، ولكن جلّهم رجعوا بعد موته. والفطح أي عريض الرأس أو الرجلين أو كان رئيسهم. هذا وعلى القياس ان يقال الأفطحيّة إلا أنّه بنى على الترخيم عند النسبة.

(٣) وهم يقولون بأنّ موسى عليه‌السلام هو المهدي عليه‌السلام. هذا وقد سمي بذلك من وقف على الامام موسى الكاظم عليه‌السلام ، والسبب الذي من أجله قيل بالوقوف هو انّه استشهد عليه‌السلام وليس له من قوّامه أحد إلّا وعنده المال الكثير ، وكان ذلك سبب وقفهم وجحودهم لموته ، فكان عند زياد القندي سبعون ألف دينار ، وكذا مآل كثير عند عثمان بن عيسى الكلابي أو العامري أو الرؤاسي الذي قال للامام الرضا عليه‌السلام : إنّ أباك لم يمت. وفي حديث الامام الرضا عليه‌السلام : انّ الزيديّة والواقفيّة والنصّاب بمنزلة واحدة. وكان عليه‌السلام يقول : والواقفة حمر الشيعة ثم تلا هذه الآية : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

(٤) منسوبة الى رجل من أهل البصرة يقال له عبد الله ناووس أو الى قرية ناووس ، وهم قائلون بأنّ الصادق عليه الصلاة والسلام لم يمت وهو القائم المنتظر.

(٥) كالبتريّة والكيسانيّة والزيديّة والاسماعيليّة والخطابيّة الى غير ذلك.

(٦) ١ / ١٥٠.

٤٦٥

وبنو سماعة والطّاطريون (١) وغيرهم فيما لم يكن عندهم فيه خلاف.

وردّه (٢) المحقّق (٣) : بأنّا لا نعلم إلى الآن أنّ الطائفة عملت بأخبار هؤلاء ، ولعلّه أراد منع إجماعهم على العمل (٤) وأنّه لا حجّية في عمل البعض ، وإلّا فلا مجال لإنكار العمل مطلقا.

واختلف كلام العلّامة رحمه‌الله ، ففي «الخلاصة» أكثر من قبول روايات فاسدي المذهب مع اشتراطه الإيمان في «التهذيب» (٥). ونقل صاحب «المعالم» رحمه‌الله (٦) عن والده في «فوائد الخلاصة» أنّه حكى عن فخر المحقّقين أنّه سئل والده عن أبان بن عثمان فقال : الأقرب عندي عدم قبول روايته ، لقوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ)(٧) ولا فسق أعظم من عدم الإيمان ، وأشار بذلك إلى ما رواه الكشّي من أنّ أبانا كان من الناووسية.

__________________

(١) ذكر في الرجال ، أنّ الطاطري ابن علي بن الحسن بن محمد ، وانّه يقال له ذلك لبيعه ثياب يقال له طاطر ، وانّه كان فقيها عالما له كتب ، من وجوه الواقفة ، شديد العناد مع الإماميّة ، ولعلّه هو رئيس هذه الطائفة ، ويمكن أن يقال بأنّهم صنف من الواقفة ، وقال في «الصحاح» : الطرطور قلنسوة للأعراب طويلة دقيقة الرأس. ويقال لمن يبيع الكرابيس والثياب البيضاء ـ في دمشق ومصر ـ طاطري والكرابيس جمع كرباس وهو القطن.

(٢) أي الشيخ.

(٣) الحلّي في «المعارج» ص ١٤٩.

(٤) بأن يكون المراد سلب العموم وليس عموم السلب.

(٥) ص ٢٣١.

(٦) ص ٣٥٣.

(٧) الحجرات : ٦.

٤٦٦

أقول : والأظهر قبول أخبار الموثّقين منهم ، إذ لو قلنا بصدق العدالة مع فساد العقيدة وعدم إطلاق الفاسق عليهم ، فيدلّ على حجّية مفهوم الآية ، كما سيجيء ، وإن لم نقل بذلك وقلنا بكونهم فسّاقا لأجل عقائدهم ، فيدلّ على الحجّية منطوق الآية ، لأنّ التوثيق نوع من التثبّت ، سيّما مع ملاحظة العلّة المنصوصة. فإنّ التثبت (١) إنّما يحصل بتفحّص حال كلّ واحد من الأخبار ، أو تفحّص حال الرّجل في خبره ، فإذا حصل التثبّت في حال الرّجل وظهر أنّه لا يكذب في خبره ، فهذا تثبّت في خبره ، لاتّحاد الفائدة ، وإن أبيت عن ذلك (٢) مع ظهوره ، فالعلّة المنصوصة تكفي عن ذلك.

وأمّا على البناء على الدليل الخامس ، فالأمر واضح (٣).

وأمّا العدالة ، فهي في الأصل الاستقامة (٤) والاستواء ، فالكيفية الحاصلة من تعديل القوى النفسانية وكسر سورة كلّ منها بعد فعلها وانفعالها من الطّرفين ، بحيث يحصل شبه مزاج منها ، عدالة.

وأمّا القوّة العاقلة إذا اعتدلت بين طرفي إفراطها وهو الجربزة (٥) وتفريطها وهو البلادة ، تسمّى حكمة ، والقوّة الشّهوية إذا اعتدلت بين الشّره (٦) والخمود ،

__________________

(١) فإنّ التثبت في الخبر أعمّ من أن يكون بلا واسطة أو مع الواسطة.

(٢) عن أنّ التثبت في حال الرّجل تثبت في الخبر وداخل في منطوق الآية.

(٣) لأن الميزان حينئذ هو الظنّ الحاصل بأخبار هؤلاء أيضا.

(٤) وهي خلوص الشيء عن الانحراف والاعوجاج.

(٥) وهذا معنى آخر للعدالة ، وهو خلوص الشيء عن الميل الى الزّيادة والنقصان. قال في جمهرة اللغة : وليس الجربز من كلام العرب ، إنّما هو فارسي معرّب.

(٦) بفتح الشين المعجمة والرّاء المهملة مصدر شره ، اشتد ميله إليه.

٤٦٧

تسمّى عفّة ، والقوّة الغضبية إذا اعتدلت بين التّهور والجبن ، تسمّى شجاعة وحلما.

وأمّا في عرف الفقهاء والأصوليين فالمشهور بين المتأخّرين أنّها ملكة في النفس ، تمنعها من فعل الكبائر والإصرار (١) على الصغائر ومنافيات المروّة. يعني ما يدلّ على خسّة النفس ودناءة الهمّة بحسب حاله ، سواء كانت صغيرة كالتطفيف بحبّة أو سرقتها ، أو مباحا كلبس الفقيه لباس الجندي والأكل في الأسواق في بعض الأوقات والأزمان ، والكاشف عن تلك الكيفية هو المعاشرة المطّلعة على تلك الملكة يقينا أو ظنّا أو شهادة عدلين.

والمختار (٢) الاكتفاء بحسن الظاهر وظهور الصّلاح ، وكون الشّخص ساتر العيوب ومجتنبا عن الكبائر ، مواظبا للطاعات على ما اشتمل عليه صحيحة عبد الله بن أبي يعفور (٣) المرويّة في كتاب «من لا يحضره الفقيه» وغيره.

__________________

(١) وتمنعها من الإصرار على الصغائر.

(٢) لتلك الكيفية من العدالة.

(٣) في الصحيح عن ابن أبي يعفور قال : قلت للصادق عليه‌السلام : بما يعرف عدالة الرّجل من المسلمين حتى يقبل شهادته لهم وعليهم. فقال عليه‌السلام : أن يعرفوه بالسّتر والعفاف ، وكفّ البطن والفرج واليد واللّسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار ، من شرب الخمر والزّنا والرّبا وعقوق الوالدين والفرار من الزّحف وغير ذلك. والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته بين الناس ، الى أن قال عليه‌السلام بعد ذكر مواظبته على الصّلوات الخمس وعدم تخلّفه عن جماعة المسلمين إلّا من علّة : فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلّته قالوا : ما رأينا منه إلّا خيرا ، مواظبا على الصلاة معاهدا لأوقاتها في مصلّاه ، فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين ، الى أن قال بعد التأكيد على حضور الجماعة ، ومن لزم جماعتهم : حرمت عليهم غيبته وثبت عدالته بينهم.

٤٦٨

وأمّا الاكتفاء بظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق كما هو مذهب جماعة من القدماء (١) فهو ضعيف.

وتفصيل الكلام والخلافات في معنى العدالة والكاشف عنها وأدلّتها ونقضها وإبرامها ، قد أوردناه في كتبنا الفقهية ، فالمشهور اشتراط العدالة في قبول الرّواية ، واكتفى الشيخ بكون الرّاوي ثقة متحرّزا عن الكذب في الرّواية وإن كان فاسقا بجوارحه ، وهذه عبارته في «العدّة» (٢) : فأمّا من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحرّزا فيها ، فإنّ ذلك لا يوجب ردّ خبره ، ويجوز العمل به ، لأنّ العدالة المطلوبة في الرّواية حاصلة فيه ، وإنّما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانع من قبول خبره ، ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم.

وعن ظاهر جماعة من متأخّري الأصحاب الميل إلى العمل بخبر مجهول الحال ، كما هو مذهب بعض العامّة ، والظاهر أنّ هذا القول ليس من جهة اختيار هذه الجماعة الاكتفاء في الكاشف عن العدالة بظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق ، كما هو مذهب بعض العامّة (٣) ، بل لأنّ آية التثبّت وغيرها تدلّ على جواز العمل بخبر المجهول وإن لم نقل بكونه عادلا بسبب عدم ظهور الفسق.

حجّة المشهور قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ)(٤) الآية.

__________________

(١) كابن الجنيد والمفيد والشيخ في كتاب «الاشراق» ، وفي «الخلاف» مدّعيا فيه الإجماع على ما حكي.

(٢) ١ / ١٥٢.

(٣) راجع «المحصول» ٣ / ١٠٢٣.

(٤) الحجرات : ٦.

٤٦٩

وجه الدلالة أنّ الفاسق هو من ثبت له الفسق ، لا من علم أنّه فاسق ، فإذا وجب التثبّت عند خبر من له هذه الصّفة في الواقع ، فيتوقّف القبول على العلم بانتفائها. وهو يقتضي اشتراط العدالة ، إذ لا واسطة بين الفاسق والعادل في نفس الأمر فيما يبحث عنه من رواة الأخبار ، لأنّ فرض كون الرّاوي في أوّل سنّ البلوغ مثلا ، بحيث لم يحصل له ملكة قبل البلوغ ولم يتجاوز عن أوّل زمان التكليف بمقدار يحصل له الملكة ، ولم يصدر عنه فسق أيضا فرض نادر لا التفات إليه.

وأمّا في غير ذلك (١) فهو إمّا فاسق في نفس الأمر ، أو عادل ، والواسطة إنّما تحصل بين من علم عدالته ، ومن علم فسقه ، وهو من يشكّ في كونه عادلا أو فاسقا وذلك الواسطة إنّما هو [هي] في الذّهن لا في نفس الأمر.

وبالجملة ، تقدّم العلم بالوصف لا مدخلية له في ثبوت الوصف ، والواجبات المشروطة بوجود شيء ، إنّما يتوقّف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجودها ، فبالنسبة إلى العلم ، مطلق لا مشروط ، مثل أنّ من شكّ في كون ماله بقدر استطاعة الحجّ لعدم علمه بمقدار المال ، لا يمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ، ولا يجب عليّ شيء ، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها.

نعم ، لو شكّ بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا ، فالأصل عدم الوجوب حينئذ. فمقتضى تعليق الحكم على المتّصف بوصف في نفس الأمر لزوم الفحص (٢) ، ثمّ العمل على مقتضاه.

__________________

(١) أي في غير الفرض النّادر فالرّاوي في نفس الأمر إما عادل أو فاسق ولا واسطة بينهما ، فانتفاء كونه فاسقا يلازم كونه عادلا.

(٢) عن الوصف.

٤٧٠

فإذا قيل : أعط كلّ بالغ رشيد من هذه الجماعة درهما ، يقتضي إرادة السّؤال عن من جمع الوصفين لا الاكتفاء بمن علم اجتماعهما فيه ، ويؤيّده التعليل المذكور في الآية (١) ، فإنّ الوقوع في النّدم يحصل بقبول خبر من كان فاسقا في نفس الأمر وإن لم يحصل العلم به فيه.

وأمّا خبر العدل ، وإن ظهر كذبه فيما بعد ، فلا ندم عليه (٢) ولا ذمّ فيه على عدم الفحص ، لأنّه عمل على مقتضى الدّليل ومقتضى طريقة العرف والعادة ، بخلاف مجهول الحال. ومن حكاية التعليل يظهر أنّ في صورة فرض ثبوت الواسطة أيضا ، لا يجوز العمل ، لعدم الاطمئنان بخبر مثله ، فهو قد يوجب النّدم أيضا ، مع أنّ العلم بتحقّقها متعذّر لعدم إمكان العلم بانتفاء المعاصي الباطنية عادة ، وقد تصدّى بعضهم (٣) لبيان أنّ المراد ، الفاسق النفس الأمري بما لا كرامة فيه ، فقال : إذا علّق أمر بشيء ، فالظاهر أنّ المراد ما هو مدلول ذلك الشيء بحسب الواقع.

فإذا قيل : زيد صالح ، أو فاسق ، أو شاعر ، أو كاتب ، فالمراد اتّصافه بالصّفة المذكورة بحسب نفس الأمر لا بحسب معتقد المخاطب ، وإلّا انتفى من الكلام الذي لا قرينة على إرادة إفادة معنى الخبر المتعارف إفادة معنى الخبر ، وانحصر الإفادة حينئذ في إفادة لازم معنى الخبر.

وأيضا لو كان المراد هو مدلول الكلام بحسب معتقد المخاطب ، لصحّ للمخاطب الجزم بكذب المتكلّم بمحض عدم اعتقاده بما أخبر به.

__________________

(١) قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).

(٢) في العرف.

(٣) وهذا المتصدي هو الفاضل التنكابني المشهور بالسّرابي على ما في الحاشية المنسوبة إليه.

٤٧١

وأيضا ليس إثبات المتكلّم تحقّق صلاح زيد مثلا في نفس الأمر ، إثباتا لما أخبر به.

وأيضا لا يصحّ طلب الدّليل عمّا أخبر به ، لأنّه حينئذ بمنزلة أن يقول : أقم الدّليل على أنّي معتقد بصلاح زيد ، وبطلان اللوازم أظهر من أن يحتاج إلى البيان. فظهر أنّ المتبادر من الفاسق هو الفاسق بحسب نفس الأمر. انتهى.

وفيه ما لا يخفى من الاشتباه بين النسبة الخبرية المصرّحة واللّازمة للنسبة التقييدية الحاصلة في كلّ واحد من المحكوم عليه والمحكوم به بالنسبة إلى ذاتهما ، والوصف العنواني الثابت لهما ، فإنّ معنى قولنا : زيد صالح ، أنّ ما هو زيد في الواقع صالح في الواقع ، وكلمة في الواقع ، في الموضعين قيد لطرفي النسبة. والمراد بالواقع هنا (١) مقابل اشتراط علم المخاطب لا مقابل الإمكان ، والواقع في الواقع لا بحسب اعتقاد المتكلّم (٢).

وأمّا النسبة الخبرية المستفادة من الجملة ، فلا يلزم أن تكون مقيّدة بالواقع. نعم ، ظاهر المتكلّم دعوى مطابقته للواقع ، وأنّه معتقد لذلك ، ووضع الجملة الخبرية لإفادة هذه النسبة ولا يجري فيه (٣) توهّم إرادة ثبوت النسبة ، على معتقد المخاطب (٤) حتّى يلزم انحصار فائدة الجملة في إفادة لازم معنى الخبر وغيره

__________________

(١) فالمراد من الواقع انّه مع قطع النظر عن علم المخاطب.

(٢) قال في الحاشية : يعني كما لا يدخل علم المخاطب في معنى زيد وصالح ، فكذلك لا يدخل فيه أيضا علم المتكلّم.

(٣) الظاهر انّ المراد به وضع الجملة الخبريّة ويجوز على وجه بعيد جعل الضمير فيه لظاهر المتكلم في النسبة الخبرية. هذا كما أفاد في الحاشية.

(٤) الذي ذكره المستدل.

٤٧٢

من اللوازم المذكورة ، فالملازمة المدّعاة في كلامه ممنوعة ، وإن كان بطلان اللوازم ظاهرا.

وحجّة القول بالعمل بخبر مجهول الحال : أنّ الله تعالى علّق وجوب التثبّت على فسق المخبر ، وليس المراد الفسق الواقعي ، وإن لم يعلم به ، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق. فتعيّن أن يكون المراد الفسق المعلوم ، فانتفاء الأمر بالتثبّت ليس بالردّ ، للزوم كونه أسوأ حالا من معلوم الفسق ، وهو باطل ، فهو بالقبول أولى.

وممّا بيّنا يظهر لك جوابه ، من أنّ المراد بالفسق هو الفسق النفس الأمري ، وبعد إمكان تحصيل العلم به أو الظنّ فلا يلزم تكليف بما لا يطاق ، وقد يتمسّك بالأصل في نفي الفسق ، وهو باطل ، لأنّ الأظهر أنّ العدالة أمر وجودي ، فالأصل بالنسبة إليهما سواء ، مع أنّه معارض بغلبة الفسق في الوجود ، وأنّه مقتضى الشّهوة والغضب اللّتين هما غريزتان في الإنسان ، والرّاجح وقوع مقتضاهما ما لم يظهر عدمه.

والحاصل (١) ، أنّ مجهول الحال ملحق بالفاسق في الحكم ، وأمّا قبول قول المسلم المجهول الحال في التذكية (٢) والطّهارة ورقّ الجارية ونحوها ، فهو من دليل خارجيّ من القاعدة المقتضية لحمل فعل المسلم وقوله على الصحّة ومطابقته للأصل (٣) في بعضها ، وأمّا إخراج الخبر والشّهادة من البين ، فلأنّهما مخصّصان بالدّليل الخاصّ ، والسرّ فيهما أنّهما يثبت بهما الحكم على الغير غالبا ، ولذلك لا يسمع قول المدّعي بمجرّده ولو كان عدلا.

__________________

(١) اي حاصل ردّ التمسّك المذكور وحاصل المعارضة المذكورة وحاصل كلامنا. كما في الحاشية.

(٢) أي تذكية الحيوان.

(٣) كأصالة الطهارة.

٤٧٣

وأمّا حجّة الشيخ (١) ، فالظاهر أنّها أيضا آية التثبّت ، لا ما فهمه صاحب «المعالم» رحمه‌الله (٢) من كلام المحقّق ، أنّ دليل الشيخ هو مجرّد عمل الطائفة.

وردّه تبعا للمحقّق أمّا أوّلا : فبمنع العلم بحصول العمل من الطائفة.

وأمّا ثانيا : فبأنّ عملهم إنّما يدلّ على قبول تلك الأخبار المخصوصة لا مطلقا. فلعلّه كان لانضمام القرائن إليها ، لا بمجرّد الخبر. ولا يخفى ما ذكرناه (٣) على من لاحظ كلام الشيخ وتأمّل فيه.

ووجه الاستدلال بآية التثبّت : انّ معرفة حال الرّاوي بأنّه متحرّز عن الكذب في الرّواية تثبّت إجماليّ محصّل للظنّ بصدق الرّاوي ، فيجوز العمل به (٤) كما مرّ في أخبار الموثّقين من المخالفين وسائر فرق الشّيعة ، والظّاهر كفاية الظنّ ، فإنّ الظّاهر من الآية أنّه إذا حصل الاطمئنان من جهة خبر الفاسق بعد التثبّت بمقدار يحصل من خبر العدل فهو يكفي ، سيّما العدل الذي ثبت عدالته بالظنّ والأدلّة الظنّية ، فإنّ المراد بالعادل النفس الأمري ، هو ما اقتضى الدّليل إطلاق العادل عليه في نفس الأمر ، لا ما كان عادلا في نفس الأمر ، والدليل قد يفيد القطع وقد يفيد الظنّ. وأمّا بناء على الدّليل الخامس في أمثال زماننا ، فالأمر واضح.

نعم ، قال المحقّق (٥) : دعوى التحرّز عن الكذب مع ظهور الفسق مستبعد ، واستجوده في «المعالم» (٦).

__________________

(١) على كفاية التحرّز.

(٢) في «معالمه» ص ٣٥٣.

(٣) من انّ استدلال الشيخ بالآية لا بعمل الطائفة.

(٤) اي بخبره.

(٥) في «المعارج» ص ٣٥٣.

(٦) ص ٣٥٣.

٤٧٤

أقول : وجه الاستبعاد أنّ الداعي على ترك المعصية قد يكون هو الخوف عن فضيحة الخلق ، وقد يكون لأجل إنكار الطبيعة لخصوص المعصية ، وقد يكون من أجل الخوف (١) عن الحاكم ، وقد يكون هو الخوف عن الله تعالى ، وهذا هو الذي يعتمد عليه في عدم حصول المعصية (٢) في السرّ والعلن ، بخلاف غيره (٣) ، فمن كان فاسقا بالجوارح ولا يبالي عن معصية الخالق ، فكيف يعتمد عليه في ترك الكذب.

والتحقيق أنّ إنكار حصول الظنّ مطلقا حينئذ (٤) لا وجه له ، كما نرى بالعيان أنّ كثيرا ممّن لا يجتنب عن أكل المال الحرام ، أنّه يهتمّ في الصلاة وترك الشرب والزّنا وغيرها. وكذلك كثيرا ممّن هو مبتلى بأنواع الفسوق أنّه لا يستخفّ بكتاب الله وسائر شعائره ، وكذلك الكذب خصوصا في الرّواية بالنسبة إلى الأئمّة عليهم‌السلام ، كما هو ظاهر كلام الشيخ ، فمجرّد ظهور سائر الفسوق عمّن يعظم في نظره الكذب على الإمام عليه‌السلام ، لا يوجب عدم حصول الظنّ بصدقه ، وكذلك إذا كان طبيعته مجبولة على الاجتناب عن الكذب.

نعم ، إن كان ترك الكذب محضا من جهة أنّ الشّارع منعه وأوعد عليه ، لا يحصل الظنّ به مع صدور ما هو أعظم منه ، ممّا يدلّ على عدم الاعتناء بوعيده تعالى ونواهيه ، فالأقوى إذن ما ذهب إليه الشيخ (٥) ، ويرجع هذا في الحقيقة إلى

__________________

(١) من جهة الضّرر.

(٢) بسبب ذلك الخوف.

(٣) من الوجوه السّابقة ، فإنّ غيره يوجب ترك المعصية في بعض الحالات دون بعضها.

(٤) أي حين الفسق بالجوارح.

(٥) من كفاية التحرّز.

٤٧٥

التثبّت الإجمالي أو إلى مطلق العمل بالظنّ عند انسداد باب العلم.

ومن جميع ما ذكرنا (١) ، يظهر لك حال الحسن من أقسام الخبر ، وأنّ حجّيته أيضا من جهة حصول التثبّت الإجمالي ، وهو تابع لما ذكروه في مدح الرّجل ، فيتّبع ما أفاده (٢) دون غيره.

وأمّا الضبط ، فلا خلاف في اشتراطه ، إذ لا اعتماد ولا وثوق إلّا مع الضبط ، لأنّه قد يسهو فيزيد في الحديث أو ينقص أو يغيّر ويبدّل [أو يبدل] بما يوجب اختلاف الحكم واختلال المقصود ، وقد يسهو عن الواسطة مع وجودها ، وبذلك قد يحصل الاشتباه بين السّند الصحيح والضعيف وغير ذلك.

والمراد به من يغلب ذكره (٣) سهوه لا من لا يسهو أبدا ، وإلّا لما صحّ العمل إلّا عن معصوم عن السّهو ، وهو باطل إجماعا عن العاملين بالخبر. فمفهوم الآية المقتضي لقبول خبر العدل مطلقا مخصّص بالضّابط لإشعار المنطوق به من حيث التعليل ، ولإجماعهم ظاهرا.

وأمّا بناء على العمل بمقتضى الدّليل الخامس ، فالأمر واضح.

ومراد علماء الرّجال حيث يقولون في مقام التزكية : فلان ثقة ، هو العدل الضابط ، إذ لا وثوق إلّا مع الضبط ، ولذلك اختاروا هذا اللفظ.

لا يقال : أنّ العدالة كافية عن هذا الشّرط ، لأنّ العدل لا يروي إلّا ما تحقّقه.

لأنّا نقول : إنّ العدل لا يكذب عن عمد ، لا عن سهو ، فإنّه قد يسهو عن كونه غير

__________________

(١) في حال الخبر الموثّق.

(٢) أي المدح أو ما ذكروه أو التثبت ، كما في الحاشية.

(٣) الذّكر بضم الدّال هو التذكر القلبي ، مقابل الذّكر بالكسر بمعنى الذّكر اللّساني.

٤٧٦

مضبوط عنده أو عن كونه ساهيا ، والظاهر أنّه يكفي في إطلاق الضبط كثرة الاهتمام في نقل الحديث بأنّه بمجرّد سماع الحديث يكتبه ويحفظه ويراجعه ويزاوله بحيث يحصل له الاعتماد وإن كان كثير السّهو ، إذ ربّما يكون الإنسان متفطّنا ذكيّا لا يغفل عن درك المطلب حين الاستماع ، ولكن يعرضه السّهو بعد ساعة أو أكثر ، فمثل هذا إذا كتب وأتقن حين السّماع ، فقد ضبط الحديث وهو ضابط.

وبمثل هذا يمكن أن يجاب عمّا يقال : إنّ حبيبا [حبيب](١) الخثعمي ممّن وثّقوه في الرّجال ، مع أنّ الصّدوق رحمه‌الله روى في الفقيه أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : إنّي رجل كثير السّهو فما أحفظ على صلاتي (٢). الحديث.

ويمكن أن يقال في وجهه : إنّ كثرة السّهو في الصلاة لا تنافي الضّبط في الرّواية ، أو أنّ المراد كثير الشّك لكثرة استعمال السّهو في الشّك.

واعلم أنّ معرفة الضّبط أيضا ، إمّا تحصل بممارسة حال الرّاوي باختبار رواياته واعتبارها بروايات الثّقات المعروفين بالضبط والإتقان وموافقتها لها ولو من حيث المعنى فقط ، أو بشهادة العدول. وقد ذكرنا أنّ قولهم : ثقة ، شهادة على ذلك.

__________________

(١) بالإضافة وحذف التنوين ومثل ذلك يصحّ في نحو المقام قال في الألفية : وإن يكونا مفردين فأضف حتما وإلّا اتبع الذي ردف.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٥٥ ح ٧٨١.

٤٧٧

تنبيه :

المعتبر في شرائط الرّاوي هو حال الأداء لا حال التحمّل ، كما أشرنا إليه في الصبي ، فلا إشكال في جواز الرّواية عمّن تاب ورجع عمّا كان عليه من مخالفة في دين أو فسق في حال استقامته ، وكذا في عدم الجواز عمّن خلط بعد الاستقامة في حال الخلط إن كان فسقا مطلقا ، وعلى المشهور إن كان مخالفة في المذهب أيضا.

قال الشيخ في «العدّة» (١) : فأمّا ما يرويه الغلاة والمتّهمون والمضعّفون وغير هؤلاء ، فما يختصّ الغلاة بروايته ، فإن كانوا ممّن عرف لهم حال استقامة وحال غلوّ ، عمل بما رووه حال الاستقامة ، وترك ما رووه في حال خطائهم (٢) ، فلأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطّاب محمّد بن أبي زينب (٣) في حال استقامته ، وتركوا ما رواه في حال تخليطه ، وكذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي (٤) وابن أبي

__________________

(١) ١ / ١٥١.

(٢) [تخليطهم] كما في حاشية نسخة «العدة».

(٣) محمد بن مقلاص بالصاد المهملة على ما ضبطه العلّامة أو مقلاس بالسّين المهملة كما ضبطه أبو جعفر بن بابويه. وهو ملعون غال مطرود ، بعد ما كان من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وذكرت أحاديث متعدّدة في ذمّه ولعنه ، لعنه الله وأخزاه وجعل النار مثواه. وقيل انّ من بدعه تأخير صلاة المغرب حتى تستبين النجوم.

(٤) نسبة الى رستاق كبيرة بين النّهروان والبصرة وقالوا انّه غال ، وقيل غال ورد فيه ذمّ كثير من الامام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام ، وربما رمي الى النصب حتى قيل فيه انّه ما رأينا ولا سمعنا بمتشيّع خرج عن التشيّع الى النصب إلّا أحمد بن هلال ، «أعوذ بالله» ـ

٤٧٨

العزاقر (١) وغير هؤلاء. وأمّا ما يروونه في حال تخليطهم فلا يجوز العمل به على كلّ حال. انتهى.

ومقتضى ما ذكرنا ترك رواياتهم مع جهل التاريخ إلّا أن يكون موثّقا عند من يعمل بالموثّق كما هو الأظهر.

وقد يتأمّل في ذلك ، لأنّ خطأ مثل أبي الخطّاب لم يكن بعنوان السّهو والغفلة ، بل دعته الأهواء الفاسدة إلى تعمّد الكذب ، والظاهر أنّه لم يكن في المدّة التي لم يظهر منه الكفر ، بريئا من غاية الشقاوة ، لكن جعل إخفاء المعصية وإظهار الطّاعة وسيلتين إلى ما أراد من الرئاسة وإضلال الجماعة ، فكيف يمكن الاعتماد على روايته ورواية أمثاله في وقت من الأوقات. وربّما يجعل هذا مؤيّدا لضعف القول بكون عثمان بن عيسى (٢) وعلى بن أبي حمزة (٣) ثقتين.

__________________

ـ ويمكن الإجماع بينهما بالقول بأنّه يحتمل أن يكون غلوّه بالنسبة الى بعض الأئمة ونصبه الى بعض.

(١) بالعين المهملة والزّاء المعجمة ثم القاف والرّاء المهملة بعدها وهو محمد بن علي الشلمغاني ، قالوا في وصفه : له كتب روايات ، وكان مستقيم الطريقة متقدّما في أصحابنا فحمله الحسد لأبي القاسم بن روح على ترك المذهب والدخول في المذاهب الردّية حتى خرجت فيه توقيعات ، وقد أخذه مرّة السلطان فقتله وصلبه ببغداد ، وله من الكتب التي عملها حال الاستقامة كتاب «التكليف».

(٢) كان شيخ الواقفية ووجهها وأحد الوكلاء المستبدّين بمال الامام موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وقيل انّه كان عنده مآل كثير للكاظم عليه الصلاة والسلام ، وكتب إليه الإمام الرضا صلوات الله وسلامه عليه وآله فيها ، فأبى عليه أن يردّها.

(٣) البطائني عن النجاشي أنّه روى عن أبي الحسن موسى وعن أبي عبد الله عليهما‌السلام ثم وقف ، وهو أحد عمد الواقفة. وعن علي بن الحسين بن فضّال انّه كذّاب ملعون. وقيل انّه كان ـ

٤٧٩

أقول : فما نراه من أخبار أمثال هؤلاء قد عمل به الأصحاب ولم يظهر لنا تاريخ الرّواية ، فعلينا أن نرجع إلى القرائن الخارجية ، إذ لعلّهم عملوا بها لاعتمادهم على القرائن الخارجية لا لكون الرّواية في حال الاستقامة ، فعلينا أن نجتهد في القرائن أيضا ، ومن القرائن المفيدة للرجحان هو عمل جمهور الأصحاب.

والحاصل ، أنّ المعيار في أمثال ذلك قوّة الظنّ من القرائن الخارجية ، فلا بدّ من التأمّل والتفحّص ، فمثل ما يرويه الأصحاب عن الحسين بن بشّار (١) وعلي بن أسباط (٢) ممّن كانوا من غير الإمامية ثمّ تابوا ورجعوا واعتمد الأصحاب على

__________________

ـ عنده ثلاثون ألف دينار للكاظم عليه‌السلام فجحدها فكان ذلك سبب وقفه. نعم قد ضعّف السيد الخوئي الرواية بمحمّد بن جمهور وبأحمد بن الفضل. وعن الكشي انّه روي عن يونس بن عبد الرحمن انّه كان عند زياد بن مروان سبعون ألف دينار من مال الكاظم عليه‌السلام ، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار ، فلمّا رأيت ذلك وتبيّن لي الحق وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ما علمت ، فكلّمت ودعوت الناس إليه فبعثا إليّ وقالا : إن كنت تريد المال فنحن نغنيك ، وضمنا لي عشرة آلاف دينار ، وقالا لي : كفّ.

فقلت لهما : إنّا روينا عن الصادقين عليهم‌السلام أنّهم قالوا : إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه فإن لم يفعل سلب عنه نور الإيمان ، وما كنت ادع الجهاد وأمر الله على كل حال. فناصباني وأظهرا لي العداوة.

(١) بشار بالباء الموحّدة والشّين وربما قرء بالسّين المهملة مع الياء المثناة. رمي بالوقف ونقل رجوعه الى الحق ، وفيه رواية دالّة على كلّ من وقفه ورجوعه غير أنّها غير سالم سندها.

(٢) كان من الفطحيّة ثم رجع الى الاستقامة ، وربما قيل ببقائه على مذهبه وموته فيه إلّا أنّه وثّقه غير واحد ، فحديثه إن لم يكن صحيحا فهو من الموثّق.

٤٨٠