القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

ولا يبحث في علم الأصول عن سائر الأوضاع المادية (١) ، مثل أنّ الصّعيد هو التراب أو وجه الأرض ، وهل الإنفحة (٢) هو الكرش أو الشيء الأصفر الذي ينجمد فيه اللّباء وهكذا. ولا ريب أنّ الصدق والكذب من قبيل الصّعيد والإنفحة ، لا من قبيل صيغة (افعل) وأمثالها ، ولا من باب الصّلاة والصّوم وأمثالهما لعدم تجدّد اصطلاح فيهما ، كما أشار إليه التفتازاني.

قلت : ولكن نرى أنّ الاصوليين يبحثون عن معنى الخبر والإنشاء والأمر والنّهي وأمثالها لما يترتّب عليها من الثمرات ، وذلك لأجل احتمال تجدّد الاصطلاح أو دعوى ثبوته وتغاير العرف واللّغة فيها ، ولمّا كان معرفة أمثال المذكورات ممّا يتوقّف عليه معرفة الأحكام الشرعية وطريق استنباطها ، ولذلك يبحث عنها في علم الأصول ، فكذلك ما يتوقّف معرفة المذكورات عليها ، فإذا كان لفظ مستعمل في تعريف المذكورات ، وكان مختلفا فيه في اللّغة ؛ فلا يتمّ معرفة المذكورات إلّا بتحقيق معنى ذلك اللّفظ ، فلفظ الصدق والكذب ممّا يتوقّف عليه معرفة الخبر ، ولا يتمّ البحث عن حال الخبر ولا يتميّز حقيقته إلّا بمعرفتهما ، فليس حالهما مثل حال الصّعيد والإنفحة.

فالتحقيق ، أنّ البحث في هذين اللّفظين من هذه الجهة لا من حيث دعوى تغيير الاصطلاح كما نقل عن الآمدي ، ولا أنّه محض الكلام في المعنى اللّغوي حتّى لا يكون له تعلّق بمباحث الأصول.

__________________

(١) إذ البحث عن هذه الأوضاع من وظيفة علماء متون اللّغة ، ومحلّه كتب اللّغة عادة لا كتب أصول الفقه.

(٢) بكسر الهمزة وفتح الفاء والحاء المهملة الخفيفة أو الشديدة كرش الجدي والحمل ما لم يأكلان.

٣٦١

فبقي الكلام في أنّ البحث في تفسير اللّفظين والخلاف في معناهما هل هو نزاع لفظيّ بالمعنى المشهور أو نزاع حقيقي؟ وقد عرفت الوجه ، وأنّ الظاهر أنّه ليس بلفظيّ ، لكن لا ثمرة فيه يعتدّ بها.

ثمّ إنّ كلام العضديّ لمّا كان في آخر المبحث قابلا لما ذكرنا لأنّه ذكر المذاهب الثلاثة. ثمّ قال : والذي يحسم النزاع (١) الإجماع على أنّ اليهوديّ إذا قال : الإسلام حقّ ، حكمنا بصدقه ، وإذا قال خلافه حكمنا بكذبه.

وهذه المسألة لفظية لا يجدي الإطناب فيها كثير نفع ، فيمكن تنزيل ما ذكره من كون المسألة لفظية ، إلى ما ذكرنا.

وأمّا كلام غيره ، فلا يمكن تنزيله على ذلك ، بل مرادهم أنّ النزاع في ثبوت الواسطة لفظيّ ، منهم السيّد عميد الدّين في «شرح التهذيب» بل هو الظاهر من ابن الحاجب (٢) ، حيث عقد المسألة لبيان حصر الخبر في القسمين ، ونقل القول بالواسطة عن الجاحظ. وقال في آخر كلامه : وهي لفظيّة ، ومرجع الضمير المسألة المعقودة.

ونقله الفاضل الجواد (٣) في «شرح الزبدة» أيضا وتنظّر فيه ، قال بعد نقل قول الجاحظ بإثبات الواسطة وردّه : واعلم أنّ النزاع في هذه المسألة كاللّفظيّ ، فإنّا

__________________

(١) فالذي يقطع النزاع ، دليلنا على ما ذهبنا اليه من اعتبار الواقع دون الاعتقاد ، بحيث لا يمكن للنظّام الفرار عنه وكذا الجاحظ.

(٢) ابن الحاجب : (٥٧٠ ـ ٦٤٦ ه‍) عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس ابو عمرو جمال الدين ابن الحاجب ، من أئمة المالكية ومن كبار علماء اصول الفقه ، له مصنفات مشهورة منها منتهى «السّؤل والأمل في علمي الأصول والجدل». ومختصره الذي سماه «مختصر منتهى السّؤل والأمل في علمي الأصول والجدل». وهذا الكتاب يعد من عيون مراجع اصول الفقه.

(٣) وكذا ذكره في «الفصول» ص ٢٦٦.

٣٦٢

نقطع أنّ كلّ خبر فإمّا مطابق للمخبر عنه ، أو لا ، فإن اكتفى في الصدق بالمطابقة كيف كان والكذب بعدم المطابقة كيف كان ، وجب القطع بأنّه لا واسطة ، وإن اعتبر العلم بالمطابقة أيضا في الصدق والعلم بالعدم في الكذب ، يثبت الواسطة بالضّرورة ، وهو الخبر الذي لا يعلم فيه المطابقة (١) ، كذا قيل. وفيه نظر يعلم وجهه بأدنى ملاحظة ، انتهى.

أقول : وجه النظر ، أنّ النزاع في إثبات الواسطة بعينه هو النزاع في معنى الصدق والكذب وليس شيئا على حدة حتّى يتفرّع عليه ويصير النزاع لفظيا (٢) ، فلذلك عدل العضدي عمّا هو ظاهر عبارة ابن الحاجب ، وفسّر اللّفظي (٣) بما هو خلاف المشهور ، وقال : إنّه ليس فيها كثير نفع ، إذ النزاع اللّفظي المصطلح لا نفع فيه أصلا ، لا إنّه قليل النفع ، فأخذ بمجامع المسألة وتوابعها ولوازمها ، ونظر إلى مآل المنازعات ، وجعله نفس الخلاف في معنى الصّدق والكذب ، وقال : إنّه خلاف لغويّ قليل الفائدة.

فقوله : لا يجدي الإطناب فيها كثير نفع ، صفة تقييديّة لا توضيحيّة. ولو كان الفروع التي ذكرها شيخنا البهائي رحمه‌الله كما ذكره ، لكان فيه نفع كثير (٤) ، فتأمّل في أطراف هذا الكلام ومعانيه وتعمّق النظر في غمار مقاصده ومبانيه ولا تنظر إلى تفرّدي به كأكثر مقاصد الكتاب ، ولا تلحظ إليه بعين الحقارة وإليّ بعين العتاب ، ثمّ بعد ذلك فإمّا قبولا وإمّا إصلاحا وإمّا عفوا ، والله الموفّق للصواب.

__________________

(١) أي ولو لم نعلم بالمطابقة.

(٢) وهذا الكلام في «الفصول» ص ٢٦٦ ، حقّق فيه وكأنّه لم يرتضه بتمامه.

(٣) في كلام ابن الحاجب.

(٤) سواء كانت الصفة تقييدية أو توضيحيّة.

٣٦٣

تنبيهان :

الأوّل : المعتبر في الاتّصاف بالصدق والكذب هو ما يفهم من الكلام ظاهرا لا ما هو المراد منه ، فلو قال : رأيت حمارا ، وأراد منه البليد من دون نصب قرينة ، فهو يتّصف بالكذب ، وإن لم يكن المراد مخالفا للواقع.

وكذلك إذا رأى زيدا واعتقد أنّه عمرو ، وقال : رأيت رجلا ، فهو صادق ، لأنّ المفهوم من اللّفظ مطابق للواقع ، بل والاعتقاد أيضا (١) ، وإن لم يكن معتقده في شخص الرّجل موافقا للواقع ، فهو على مذهب الجاحظ أيضا صدق.

والمعتبر في مطابقة الواقع هو مطابقته واقعا ، ولكن يكفي في الكشف عن ذلك اعتقاد المطابقة وإن كان مخالفا لنفس الأمر. ونظيره ما أشرنا اليه في العدالة ، فإنّ اعتقاد كونه عدلا في نفس الأمر ، يكفي في اتّصافه بالعدالة.

نعم ، ذلك الاتّصاف دائر مدار عدم ظهور الفساد ، ثمّ يتبدّل.

الثاني : المشهور أنّ الصّدق والكذب من خواصّ النسبة الخبريّة دون التقييديّة ، مثل : يا زيد الفاضل ، وغلام زيد.

وقيل بعدم الفرق بينهما في ذلك ، لأنّ النسبة التقييدية أيضا إمّا مطابق للواقع أو غير مطابق للواقع ، ف : يا زيد الإنسان ، صادق ، و : يا زيد الفرس ، كاذب ، و : يا زيد الفاضل ، محتمل.

والتحقيق على ما ذكره بعض المحقّقين (٢) : أنّ النسبة الذهنية في المركّبات

__________________

(١) فصادق على مذهب النظّام من هذه الجهة.

(٢) وهو السيد الشريف في حاشية «المطوّل».

٣٦٤

الخبرية تشعر (١) من حيث هي هي بوقوع نسبة اخرى خارجة عنها ، ولذلك احتملت عند العقل مطابقتها أو لا مطابقتها.

وأمّا النسبة الذّهنية في المركّبات التقييديّة فلا إشعار لها من حيث هي هي ، بوقوع نسبة اخرى تطابقها أو لا تطابقها ، بل إنّما أشعرت بذلك من حيث إنّ فيها إشارة إلى نسبة اخرى خبريّة.

بيان ذلك ، إنّك إذا قلت : زيد فاضل ، فقد اعتبرت بينهما نسبة ذهنية على وجه يشعر بذاتها بوقوع نسبة اخرى خارجة عنها ، وهي أنّ الفضل ثابت له في نفس الأمر ، لكن تلك النسبة الذهنية لا تستلزم (٢) تلك النسبة الخارجية استلزاما عقليّا ، فإن كانت النسبة الخارجية المشعر بها واقعة ، كانت الأولى صادقة ، وإلّا فكاذبة ، وإذا لاحظ العقل تلك النسبة الذهنية من حيث هي هي ، جوّز معها كلا الأمرين على السّواء ، وهو معنى الاحتمال.

وأمّا إذا قلت : يا زيد الفاضل ، فقد اعتبرت بينهما نسبة ذهنية على وجه لا يشعر من حيث هي هي ؛ بأنّ الفضل ثابت له في الواقع ، بل من حيث إنّ فيها إشارة إلى معنى قولك : زيد فاضل ، إذ المتبادر إلى الأفهام أن لا يوصف شيء إلّا بما هو ثابت له في الواقع ، فالنسبة الخبرية يشعر من حيث هي هي بما يوصف باعتباره بالمطابقة والّلامطابقة ، أي الصدق والكذب ، فهي من حيث هي هي محتملة لهما. وأمّا التقييديّة فإنّها تشير إلى نسبة خبرية ، والإنشائية تستلزم نسبا خبرية (٣) ،

__________________

(١) بمعنى تدل صريحا بحسب ذات نفس الكلام.

(٢) اي لا تستلزم وجودها في الواقع.

(٣) أي أنّ المركّبات الانشائية كاضرب مثلا. ووجه الاستلزام انّ النسبة الانشائية ـ

٣٦٥

فهما بذلك الاعتبار يحتملان الصدق والكذب ، وأمّا بحسب مفهومهما ، فلا تصحّ ، إنّ الحقّ هو المشهور من كون الاحتمال من خواصّ الخبر ، انتهى (١).

ويمكن أن يكون مرادهم بالاختصاص هو الإطلاق العرفيّ حقيقة ، يعني أنّهم لا يصفون بالصدق والكذب حقيقة إلّا أنّ النسبة الخبريّة المقصودة بالذّات ، فإطلاقهما على غيرهما مجاز.

ويتفرّع على ذلك (٢) ، الأحكام المتعلّقة بالصدق والكذب ، فمن نذر لمن قال صدقا درهما ، وقال أحد : يا زيد الفاضل ، لا يبرّ النذر بإعطائه وإن وافق فضله للواقع ، كما يقتضيه أصل الحقيقة.

__________________

ـ المقصودة من الكلام الإنشائي على ما قدمناه سابقا عبارة عن نسبة الضرب مثلا الى المخاطب من حيث إنّه مطلوب منه للمتكلّم ، وهذه النسبة تتضمن نسبة فاعليّة غير مقصودة افادتها.

(١) الى هنا ينتهي كلام السيد الشريف الجرجاني في حاشيته على «المطوّل» ص ١٥٠.

(٢) أي على النزاع السّابق.

٣٦٦

قانون

الخبر ينقسم إلى ما هو ما معلوم الصدق ضرورة أو نظرا ، أو معلوم الكذب (١) ، وما لا يعلم صدقه وكذبه. وهو إمّا يظنّ صدقه أو كذبه ، أو يتساويان. فهذه أقسام ستّة(٢).

فالأوّل (٣) : إمّا ضروري بنفسه كبعض المتواترات (٤) أو بغيره ، كقولنا : الواحد نصف الاثنين ، فإنّ ضروريّته ليست من مقتضى الخبر من حيث إنّه هذا الخبر ، بل لمطابقة الخبر لما هو كذلك في نفس الأمر ضرورة.

والثاني (٥) : مثل خبر الله تعالى والمعصومين عليهم‌السلام ، والخبر الموافق للنظر الصحيح.

__________________

(١) وهو أيضا قسمان.

(٢) وفي بعض النسخ خمسة. قال في الحاشية الشّهشهاني الأصفهاني : اعلم أنّ في بعض النسخ في مقام خمسة ستة. الى أن قال : في مقام الخامس السادس ولكلّ وجه ، ولعلّ هذه النسخة هي الأكثر كما هو الأصح. وفي حاشية اخرى : فهذه أقسام ستة ، والظاهر السبعة لأنّ معلوم الكذب على قسمين ضروري ونظري كأخبار بعض المنافيات للعصمة على الأئمة الاثني عشر وغيرهم عليهم‌السلام من بعض الناس ، فبعد أن شئت العصمة والصدق فيهم بالنظر فيما ينافي ذلك معلوم الكذب بالنظر ، وهذه من حاشية چهاردهي الميرزا محمد علي.

(٣) أي معلوم الصدق.

(٤) جمع المتواتر وهي في اللّغة عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما ، ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) المؤمنون : ٤٤ ، أي رسول بعد رسول بفترة.

(٥) أي والنظري من هذا القسم.

٣٦٧

والثالث : هو الخبر الذي علم مخالفته للواقع.

والرابع : مثل خبر العدل الواحد.

والخامس : مثل خبر الكذوب.

والسادس : مثل خبر مجهول الحال.

ثمّ ينقسم الخبر باعتبار آخر إلى متواتر وآحاد.

أمّا المتواتر ، فعرّفه الأكثرون : بأنّه خبر جماعة يفيد بنفسه القطع بصدقه (١).

وذكروا أنّ التقييد بنفسه ، ليخرج خبر جماعة علم صدقهم لا بنفس الخبر ، بل إمّا بالقرائن الزّائدة على ما لا ينفكّ الخبر عنه عادة من الأمور الخارجية ، كما سيجيء في الخبر المحفوف بالقرائن ، وإمّا بغير القرائن كالعلم بمخبره ضرورة أو نظرا.

ومرادهم بالقرائن التي لا ينفكّ عنها الخبر عادة ، هو ما يتعلّق بحال المخبر ، ككونه موسوما بالصدق وعدمه ، والسّامع ، ككونه خالي الذهن وعدمه ، والمخبر عنه ، ككونه قريب الوقوع وعدمه ، ونفس الخبر ، كالهيئات المقارنة له الدالّة على الوقوع وعدمه ، فقد يختلف الحال باختلاف الأمور المذكورة.

أقول : ويشكل ما ذكروه بأنّهم اشترطوا في التواتر تعدّد المخبرين وكثرتهم إلى حدّ يؤمن تواطؤهم على الكذب عادة. ولا ريب أنّ مقتضى ذلك أن يكون للكثرة مدخلية في حصول العلم بحيث لو لم تكن لم يحصل العلم.

وقولهم : إنّ التقييد بنفسه احتراز عمّا لو حصل العلم من القرائن الخارجية عن لوازم الخبر من الأمور المتقدّمة ، يقتضي أنّه إذا حصل العلم بسبب خبر جماعة

__________________

(١) وكذا في «الزبدة» ص ٩٠ ، وفي «المعالم» ص ٣٣٩ مثله تقريبا.

٣٦٨

خاصّة من حيث خصوصيّات الخبر يكون متواترا مطلقا (١) ، سيّما مع ملاحظة ما يذكرونه في نفي تعيين العدد ، وأنّ المدار بما يحصل منه العلم ، وهو يختلف باختلاف المواقع ، فلا يقتضي اعتبار ما ذكر ؛ اعتبار الكثرة فيه.

فعلى هذا ، لو أخبر ثلاثة بواقعة وحصل العلم بها من جهة خصوص الواقعة وملاحظة صدق المخبرين وخلوّ ذهن السّامع من الشبهة ، يلزم أن يكون هذا متواترا ، مع أنّ الظاهر أنّهم لا يقولون به.

والحاصل ، أنّ اشتراط الكثرة أمر زائد على اعتبار كون المخبرين جماعة ، فالمعتبر هو الجماعة الكثيرة لا مطلق الجماعة ، فالتعريف على ما ذكروه غير مطّرد (٢). فلو لم نمنع من مدخليّته حال المخبرين والسّامعين ونفس الخبر في حصول العلم ، فلا بدّ أن نعتبرها في حصول العلم بالكثرة (٣) ، فالأولى أن يقال أنّه خبر جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب عادة ، وإن كان للوازم الخبر مدخلية في إفادة ذلك الكثرة العلم.

ثمّ إنّ الحقّ إمكان تحقّق الخبر المتواتر وحصول العلم به ، وقد خالف في ذلك السمنيّة والبراهمة ، وهما طائفتان من أهل الهند أولاهما عبدة الأوثان ، قائلة بالتناسخ (٤) ، والثانية من الحكماء على زعمهم ، وكلاهما نافيتان للأديان والنبوّات.

__________________

(١) أي سواء بلغوا الى المرتبة الكثيرة المعهودة أو لا.

(٢) أي غير مانع لدخول خبر ثلاثة مثلا يعلم صدقهم بسبب القرائن الداخلة.

(٣) أي بسبب الكثرة.

(٤) التناسخ الذي أطبق المسلمون على بطلانه هو تعلّق الأرواح بعد خراب أجسامها بأجسام أخر في هذا العالم مطردة في الأجسام العنصرية.

٣٦٩

وبعضهم خصّ المنع بما لو كان الخبر عمّا مضى ، لا الموجود.

لنا : الجزم بوجود البلدان النائية كالهند والصين ، والأمم الخالية كقوم فرعون وقوم موسى عليه‌السلام ضرورة من دون تشكيك ، كالجزم بالمشاهدات. وللسّمنية شبه واهية ، مثل أنّهم قالوا أوّلا : إنّه كاجتماع الخلق الكثير على أكل طعام واحد ، وهو محال عادة.

وفيه : مع أنّه مدفوع بوقوعه (١) ـ كما ذكرنا ـ قياس مع الفارق ، لوجود الدّاعي فيما نحن فيه دون ما ذكروا.

وثانيا : أنّه لو حصل العلم به ، لزم اجتماع النقيضين لو تواتر نقيضه أيضا.

وفيه : أنّ هذا الفرض محال.

وثالثا : لو حصل العلم به ، لحصل بما نقله اليهود والنصارى عن نبيّهم ، بأنّه لا نبيّ بعده ، فيبطل دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه : منع تحقّق التواتر فيما ذكروه ، لاشتراط تساوي الوسائط في إفادة العلم بالكثرة ، وبخت نصّر قد استأصل اليهود فلم يبق منهم عدد التواتر. وكذلك النصارى في أوّل الأمر لم يكونوا عدد التواتر ، مع أنّ عدم العلم بتساوي الطبقات يكفي في المنع ، ولا يهمّنا إثبات العدم.

واعلم أنّ هاهنا دقيقة لا بدّ أن ينبّه عليها ، وهو أنّه قد يشتبه ما يحصل العلم فيه بسبب التسامع والتضافر وعدم وجود المخالف بالتواتر ، فمثل علمنا بالهند والصين ورستم وحاتم ، ليس من جهة التواتر ، لأنّا لم نسمع إلّا من أهل عصرنا ، وهم لم يرووا لنا عن سلفهم ذلك أصلا ، فضلا عن عدد يحصل به التواتر ، وهكذا.

__________________

(١) بوقوع التواتر.

٣٧٠

وذلك وإن لم يستلزم عدم حصول التواتر في نفس الأمر ، إلّا أنّ علمنا لم يحصل من جهته ، بل الظاهر أنّه من جهة أنّ أهل العصر قاطبة مجمعون على ذلك ، إمّا بالتصريح أو بظهور أنّ سكوتهم مبنيّ على عدم بطلان هذا النقل ، فكثرة تداول ما ذكر على الألسنة وعدم وجود مخالف في ذلك العصر ، ولا نقل عمّن سلف في غيره ؛ تفيد القطع بصحّته ، وذلك نظير الإجماع على المسألة ، وليس ذلك من باب التّواتر. فالظاهر أنّ وجود البلاد النائية والأمم الخالية لنا من هذا الباب ؛ لا من باب التواتر (١) ، بل الذي يحصل لنا من باب التواتر في هذا العصر ليس من باب تلك الأمثلة. والمثال المناسب لهذا العصر هو نقل زلزلة وقعت في بلدة ، فتكاثر الواردون والمشاهدون لذلك ، وتضافروا في الإخبار حتّى حصل القطع. فعلى هذا ، فاجتماع اليهود والنصارى على الخبر أو على ملّتهم ليس من إحدى القبيلتين.

أمّا التواتر فلعدم العلم بتساوي الطبقات ، بل العلم بالعدم كما ذكرنا.

وأمّا الإجماع ، فلوجود المخالفة من المسلمين وغيرهم ، فلا تغفل ، فإنّ أكثر الأمثلة التي يذكرون في هذا الباب (٢) من باب الثاني لا الأوّل (٣) وكم من فرق بينهما.

ورابعا : أنّ الكذب يجوز على كلّ واحد من الآحاد ، فيجوز على الجميع لأنّه عبارة عن الآحاد.

__________________

(١) حيث لا بد في التواتر من النقل والأخبار الكثيرة.

(٢) باب التواتر.

(٣) من الاجماع لا التواتر.

٣٧١

وفيه : منع اتّحاد حكم المجموع مع الآحاد ، فإنّ العسكر يفتح البلاد ويظفر ولا يتمشّى ذلك من كلّ واحد ، والعشرة من حكمها أنّ الواحد جزئها بخلاف الواحد (١) ، فلا يلزم من حصول العلم من إخبار الجميع بسبب التعاضد والتّقوي حصوله من كلّ واحد.

وذكروا غير ذلك أيضا من الشبه الواهية الظاهرة الدفع ، مع أنّها تشكيكات في مقابلة الضرورة فلا يستحقّ الجواب ، كالشبّه السّوفسطائية المنكرين للحسيّات ، فإنّ غاية مراتب الجواب ، الضّرورة ، وهم ينكرونها.

ولهم (٢) شبهتان اخريان إنّما تردان على من قال بأنّ العلم الحاصل من التواتر ضروريّ كما هو المشهور ، وهو أنّه لو حصل العلم به بالضّرورة لما فرّقنا بينه وبين سائر الضروريات ، واللّازم باطل ، لأنّا نفرّق بين وجود الإسكندر وكون الواحد نصف الاثنين ، وأنّه لو كان ضروريا لما اختلف فيه ، ونحن لكم مخالفون (٣).

وفيهما : مع أنّهما لا يردان إلّا على القول بكون العلم به ضروريا لا مطلقا ، أنّه يرد على الأوّل : أنّ الفرق إنّما هو من جهة تفاوت الضّروريات في حصول العلم من جهة كثرة المؤانسة ببعضها دون بعض.

وعلى الثاني : أنّ الضرورة لا تستلزم عدم المخالف كما نشاهد في السّوفسطائية ، وإنّما هو من جهة بهت (٤) وعناد.

__________________

(١) أي بخلاف كل واحد واحد.

(٢) اي لمنكرين التواتر.

(٣) لأننا نقول بعدم حصول العلم من جهة التواتر.

(٤) قذف بالباطل ومنه البهتان.

٣٧٢

تنبيهات

الأوّل :

إنّهم اختلفوا في كيفيّة العلم الحاصل بالتواتر ، فالمشهور أنّه ضروريّ (١) ، وقال الكعبي (٢) وأبو الحسين (٣) والجويني (٤) وإمام

__________________

(١) كما ذهب العلامة في «مباديه» ص ١٩٩ ، و «تهذيبه» ص ٢٢٢ ، والمحقق في «المعارج» ص ١٣٩.

(٢) عبد الله بن احمد الكعبي البلخي الخراساني (٢٧٣ ـ ٣١٩ ه‍) أحد أئمة الاعتزال ورأس طائفة منهم تسمى «الكعبية». له آراء ومقالات في علم الكلام بعيدة انفرد بها وكذا في علم الأصول. وقد اعتاد الاصوليون ذكر وايراد نظريته المتعلقة بالمباح وهي نظرية اختلفت عبارات الأصوليين في تصويرها وغاية ما يرومه الكعبي من نظريته هي الإفضاء الى إثبات كون المباح غير موجود في الأحكام الشرعية ، بل المباح من قسم الواجب ، وقد أثارت هذه النظرية الكعبية مناقشات وردود مختلفة وكلّها تتضمن في محتواها توجيه حكم المباح غير هذا التوجيه الذي أبداه الكعبي وسار عليه إلّا ما كان ممن وافقه على رأيه هذا ، له كتب منها : «تأييد مقالة أبي الهذيل» و «قبول الأخبار ومعرفة الرجال» و «الطعن على المحدثين».

(٣) أبو الحسين البصري : (.... ـ ٤٣٦ ه‍) محمد بن علي بن الطيّب شيخ المعتزلة في عصره ، وأحد الاصوليين ، ومن كتبه «المعتمد في أصول الفقه» ، مطبوع في مجلدين وهو من أمّهات مراجع علم أصول الفقه ، ومن الكتب التي لخّص منها فخر الدين الرازي كتابه «المحصول في أصول الفقه».

(٤) الجويني : أبو محمد الجويني (... ـ ٤٣٨ ه‍) عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه من كبار علماء الشافعيّة وأئمتهم في الفقه والاصول والأدب والعربية ، وهو والد إمام الحرمين عبد الملك الجويني ، له مصنفات منها «شرح رسالة الامام الشافعي ـ في أصول الفقه» توفي في نيسابور.

٣٧٣

الحرمين (١) إنّه نظري (٢) ، وعن الغزّالي (٣) الميل إلى الواسطة (٤).

وذهب السيّد رحمه‌الله إلى التوقّف في موضع (٥) ، وإلى التفصيل في موضع آخر (٦).

وارتضاه الشيخ في «العدّة» (٧) ، والأقرب عندي القول بالتفصيل.

احتجّ المشهور : بأنّه لو كان نظريا لتوقّف على توسّط المقدّمتين (٨) ، واللّازم منتف لأنّا نعلم علما قطعيّا بالمتواترات ، مثل وجود مكّة وهند وغيرهما مع انتفاء ذلك.

__________________

(١) إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد ضياء الدين أبو المعالي الجويني (٤١٩ ـ ٤٧٨ ه‍) ، أحد كبار شيوخ الشافعيّة له مصنفات منها «كتاب البرهان في أصول الفقه» و «الورقات في أصول الفقه» توفي في نيسابور.

(٢) راجع «المستصفى» ١ / ١٣١ ، و «المحصول» ٣ / ٩٠٤ ، و «المبادئ» ص ١٩٩ للعلّامة ، وله أيضا في «التهذيب» ص ٢٢٣ ، وإن نسب فيه إلى الغزالي قوله إلى أنّه نظري.

(٣) الغزالي (٤٥٠ ـ ٥٠٥ ه‍) : محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي ويعرف بحجّة الاسلام ، من كبار رجال التصوّف ، ونظرياته كثيرة الشهرة في الفلسفة والفقه والأصول وله نحو مائتي كتاب منها «المنخول في أصول الفقه» صنّفه في أوّل حياته العلميّة ، وهو كتاب في حقيقة الأمر كان تابعا فيه لآراء أستاذه إمام الحرمين ، مدوّنا لأفكاره مرتبا لتعاليقه دون أن يزيد عليها أو ينقص منها كما أشار فيه ، وله كتاب «تهذيب الأصول» وهو أكبر كتبه في أصول الفقه ، وله أيضا فيه «المستصفى في أصول الفقه» وهو وسطا بين الايجاز والاطناب. توفي بطوس ودفن بظاهر قصبة طابران.

(٤) بين النظري والضروري ، راجع «المستصفى» ١ / ١٣٢.

(٥) راجع «الذريعة» ٢ / ٤٨٥ ، كما وراجع المبحث المذكور في «الشافي» وجوابات المسائل التبانيات في «رسائل الشريف المرتضى» المجموعة الاولى ص ٣٥.

(٦) أي ان بعض العلوم الحاصلة من التواتر ضروري وبعضها نظري بالنسبة الى الموارد.

(٧) ١ / ٧١.

(٨) الصغرى والكبرى.

٣٧٤

وأيضا لو كان نظريّا لما حصل لمن لا قدرة له على النظر كالعوامّ والصبيان. وأيضا يلزم أن لا يعلمه من ترك النظر قصدا إذ كلّ علم نظري ، فإنّ العالم به يجد نفسه أوّلا شاكّا ثمّ طالبا ، ونحن لا نجد أنفسنا طالبين لوجود مكّة.

ويمكن دفع الأوّل : بأنّا نمنع عدم الاحتياج إلى توسّط المقدّمتين في المتواترات مطلقا ، نعم يتمّ فيما حصل القطع من جهة التواتر اضطرارا ، فإنّ المتواترات على قسمين :

قسم منها : ما يحصل بعد حصول مبادئها اضطرارا وبدون الكسب ، كالمشاهدات وضروريات الدّين ووجود مكّة وهند وأمثال ذلك.

ومنها : ما هو مسبوق بالكسب ، كالمسائل العلميّة التي لا بدّ أن يحصل التتبّع فيها من جهة ملاحظة الكتب وملاقاة أهل العلم والاستماع منهم اصولية كانت أو فروعيّة. ولا ريب أنّ التتبّع واستماع الخبر يتدرّج في حصول الرّجحان في النظر إلى حيث يشرف المتتبّع على حصول العلم ، فيلاحظ حينئذ المقدّمات من كون هذه الأخبار مسموعة ومنوطة بالحسّ ، وأنّ هؤلاء الجماعة الكثيرين لا يتواطئون على الكذب ، ثمّ يحصل له القطع بمضمونها ، فهذا متواتر نظري.

ومن علامات النظريّ ، أنّ بعد حصول العلم أيضا إذا ذهل عن المقدّمتين قد يتزلزل القطع ويحتاج إلى مراجعة المقدّمات ، وهو ممّا يحصل في كثير من المتواترات ، بخلاف الضروريّ. فالضروريّ وإن كان أيضا لا ينفكّ عن المقدّمات ، لكنّها لا تحتاج إلى المراجعة إليها والاعتماد عليها ما دام ضروريا ، فإن كان مراد المشهور هو ذلك (١) فمرحبا بالوفاق ، وإن كان مرادهم أنّ كلّ متواتر لا يحتاج

__________________

(١) أي القول بأنّ العلم بالمتواترات ضروري هو القسم الذي لا يتزلزل القطع بعد حصوله فنعم الوفاق.

٣٧٥

إلى النظر مطلقا ، فهو مكابرة. وإلى ما ذكرنا ينظر كلام سيّدنا المرتضى رحمه‌الله حيث قال : إنّ أخبار البلدان والوقائع (١) والملوك وهجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومغازيه وما يجري هذا المجرى ، يجوز أن يكون العلم بها ضرورة من فعل الله تعالى ، ويجوز أن تكون مكتسبة [يكون مكتسبا] من أفعال العباد.

وأمّا ما عدا ذلك مثل العلم بمعجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكثير من أحكام الشريعة والنصّ الحاصل على الأئمّة عليهم‌السلام ، فنقطع على أنّه مستدلّ عليه (٢) ، وهذا هو التفصيل (٣) الذي أشرنا إليه وارتضاه الشيخ في «العدّة» (٤).

والظاهر أنّ القول بالتوقّف المنسوب إليه أيضا إنّما هو في القسم الأوّل من الضّروريّات.

ومنشأ التوقّف الشكّ والتأمّل في أنّ العلم هل يحصل بجعل الله تعالى اضطرارا من دون اختيار العبد بعد حصول المقدّمات ، أو يحصل من جهة كسب العبد والتأمّل في المقدّمات من كون المخبرين عددا يمتنع كذبهم ، وأنّهم أخبروا عن حسّ ، وإن لم يكن متفطّنا بها حين حصول العلم ، إذ يصدق حينئذ أنّ العلم ناشئ عن الكسب وإن لم يتفطّن بالمكتسب عنه حين العلم ، إذ لا فرق بين المعلومات الموصلة إلى المطلوب التي كانت حاصلة بالعلم الإجمالي أو التفصيلي. فإنّ من

__________________

(١) هذه العبارة بعينها هي في «العدة» ١ / ٧١ منسوبة الى السيّد ، ولم أظفر بعينها في «الذريعة» وان يمكن تحصيل مضمونها راجع هناك.

(٢) أي يحتاج الى الكسب وترتيب المقدمات.

(٣) أي جعلنا المتواترات على قسمين كما أشرنا ، وكلام السيد أيضا ناظر الى ذلك ، بل هو متوقف في القسم الذي أشرنا أنّه ضروري ، من أنّه ضروري أو فطري.

(٤) ١ / ٧١.

٣٧٦

أسّس أساسا وأصّل أصلا وقاعدة يتفرّع عليه فروع كثيرة ، فقد اكتسب في ذلك ، فكلّما ترتّب عنده نتيجة على ما أصّله بسبب علمه به إجمالا ، يصدق أنّه من كسبيّاته ، وإن احتمل أيضا أن يكون مع ذلك إلقاء العلم في روعه بفعل الله تعالى ، ومجرى عادته عقيب إخبار هذا القدر من المخبرين.

وممّا ذكرنا (١) ، ظهر أنّ المتواتر بعد العلم بالتواتر أيضا يمكن أن يكون نظريا ، فضلا عن ابتداء الأمر.

وأمّا الدّليل الثاني (٢) ، ففيه : أنّ العوامّ والصبيان أيضا لهم معلومات نظرية بالضّرورة ، وأنّهم يستفيدون ذلك من المقدّمات ، ويترتّب في نظرهم مقدّمات الدّليل ويحصل لهم النتيجة ، لكنّهم لا يتفطّنون بها من حيث هي كذلك ، والمقدّمات العادية لا إشكال فيها ولا دقّة ؛ بحيث لم تحصل للعوامّ والصبيان ، بل مدار العالم وأساس عيش بني آدم غالبا على المقدّمات العادية التي يفهمها أكثر العقلاء ، وإلّا فلا نجد أحدا من غير العلماء والأزكياء يعلم ضرّه من نفعه وخيره من شرّه ، مع أنّ ذلك مبتن على قاعدة إدراك الحسن والقبح العقليّ ولزوم الاجتناب عن المضارّ وحسن ارتكاب المنافع. والنظريّ هو ما كان العلم به موقوفا على المقدّمتين (٣) ، لا بالعلم بهما (٤). ويظهر ممّا ذكرنا ، الجواب عن الدّليل الثالث (٥) ، فلا نعيد.

__________________

(١) أي من أنّ العلم الحاصل لأجل المقدمات لو تزلزلت المقدمات لتزلزل العلم ، ظهر ... الخ. وفي الحاشية : من قسمي التواتر.

(٢) كان قد احتج بأنّه لو كان نظريّا لما حصل لمن لا قدرة له على النظر كالعوام والصبيان ، فجاء دفعه بكلامه هذا.

(٣) أي على ترتيبها.

(٤) تفصيلا.

٣٧٧

واحتجّ القائلون بكونه نظريا : بأنّه لو كان ضروريا لما احتاج إلى توسّط المقدّمتين ، والتالي باطل لأنّه يتوقّف على العلم بأنّ المخبر عنه محسوس ، وأنّ هذه الجماعة لا يتواطئون على الكذب.

وأجيب : بمنع التوقّف على ذلك ، إذ العلم بالصدق ضروري حاصل بالعادة ، ووجود صورة الترتيب للمقدّمتين لا يستلزم الاحتياج إليه ، على أنّ مثل ذلك موجود في كلّ ضروري. فإنّ قولنا : الكلّ أعظم من الجزء ، يمكن أن يقال لأنّ الكلّ مشتمل على جزء آخر غيره ، وما هو كذلك فهو أعظم.

وممّا ذكرنا من بيان التفصيل (٦) يعرف حقيقة الحال ، وأنّ الحقّ هو التفصيل.

وأمّا مذهب الغزّالي فالذي نقل عنه في كتابه «المستصفى» (٧) أنّه قال : العلم الحاصل بالتواتر ضروري ، بمعنى أنّه لا يحتاج إلى الشعور به بتوسّط واسطة مفضية إليه ، مع أنّ الواسطة حاضرة في الذّهن ، وليس ضروريا بمعنى أنّه حاصل من غير واسطة ، كقولنا : الموجود لا يكون معدوما ، فإنّه لا بدّ فيه من حصول مقدّمتين :

إحداهما : أنّ هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع.

الثانية : أنّهم قد اتّفقوا على الإخبار عن الواقعة ، لكنّه لا يفتقر إلى ترتيب المقدّمتين بلفظ منظوم ، ولا إلى الشّعور بتوسّطهما وإفضائهما إليه.

__________________

(٥) وهو ما ذكر من حجتهم سابقا : وأيضا يلزم ان لا يعلمه من ترك النظر قصدا إذ كل علم نظري ... الخ.

(٦) أي تعلم أنّ هذا التفصيل ليس على اطلاقه.

(٧) ١ / ١٣١.

٣٧٨

وقال التفتازاني (١) : إنّ حاصل كلامه أنّه ليس أوّليا (٢) ولا كسبيا ، بل من قبيل القضايا التي قياساتها معها ، مثل قولنا : العشرة نصف العشرين.

وأنت بعد التأمّل فيما ذكرنا تعرف أنّه ليس من هذا القبيل ، وأنّ الحقّ ما ذكرنا من التفصيل.

والظاهر أنّ ما ذكره الغزالي نوع من النظري لا واسطة ، ولذلك نسب العلّامة في «التهذيب» (٣) القول بالنظرية إليه ، ولعلّ مراده الغزالي ، أنّه من باب نظريات العوامّ ، فإنّهم وإن استفادوها من المقدّمتين ، لكنّهم لم يتفطّنوا بهما ، بكيفيّتهما المترتّبة في نفس الأمر ، فكأنّ الغزالي قسّم النظري إلى قسمين بالنسبة إلى الناظرين ، وهو في الحقيقة تقسيم للناظرين لا للنظري ، فكأنّه قال : العالم والعامّيّ كلاهما مساويان في النظر فيما نحن فيه ؛ دون سائر النظريات.

__________________

(١) التفتازاني : (٧١٢ ـ ٧٩٣ ه‍) ، مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني من فقهاء الشافعية الكبار تقدّم في النحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان والأصول وفي كثير من العلوم. وقد حكي أنّه كان في ابتداء طلبه للعلم بعيد الفهم جدا ولم يكن في جماعة استاذه عضد الدين أبلد منه ، ومع ذلك كان كثير الاجتهاد ، ولم يؤيسه جمود فهمه من الطلب ، وكان استاذه يضرب به المثل في البلادة ، حتى برع في العلوم وأصبح يضرب به المثل في الجدّ ، وأكثر العلماء في الثناء عليه وكذا الفضلاء الذين وصفوه بأوصاف خاصة. ومن كتبه «حاشية على شرح عضد الدين على مختصر ابن الحاجب» في أصول الفقه ، و «التلويح في كشف حقائق التنقيح» وهو شرح على «التوضيح» لمتن «التنقيح في أصول الفقه» لصدر الشريعة المحبوبي ، وهما من أجلّ مصنفاته.

(٢) الأوّليات هي القضايا التي يحكم بصدقها العقل لا بمجرد ذلك بل بواسطة ، غاية الامر أنّ تلك الواسطة لا تغيب عن الذهن عند تصوّرها كقولنا : الأربعة زوج فإنّ من يتصوّر الأربعة والزوج تصوّر الانقسام بمتساويين في الحال وترتب في ذهنه أنّ الأربعة منقسمة بمتساويين ، وكل ما هو كذلك فهو زوج فهي قضية قياساتها معها.

(٣) ص ٢٢٢.

٣٧٩

الثاني :

إنّهم بعد ما عرّفوا المتواتر بما نقلنا عنهم ، قالوا : إنّ هذا المعنى يتحقّق بأمور ، فيشترط في تحقّق هذا الخبر الذي يفيد العلم بنفسه أمور : منها ما يتعلّق بالمخبرين ، ومنها ما يتعلّق بالسّامع.

فأمّا الأوّل : فهو كون المخبرين بالغين في الكثرة حدّا يمتنع معه في العادة تواطؤهم على الكذب ، وكون علمهم مستندا إلى الحسّ ، فإنّه في مثل حدوث العالم لا يفيد قطعا ، واستواء الطرفين والواسطة (١) ، بمعنى أن يبلغ كلّ واحد من الطبقات حدّ الكثرة المذكورة ، وذلك فيما لو حصل هناك أكثر من طبقة ، وإلّا فلا واسطة ولا تعدّد في الطبقات.

وربّما زاد بعضهم اشتراط كون إخبارهم عن علم ، ولا دليل عليه (٢) ، بل يكفي حصول العلم من اجتماعهم وإن كان بعضهم ظانّين ، مع كون الباقين عالمين.

وأقول : الكثرة المذكورة التي اشترطوا هنا إن كانت مأخوذة في ماهيّة المتواتر ، فالتعريف مختلّ لعدم دلالته على ذلك ، إذ مع ملاحظة مدخليّة لوازم الخبر في حصول العلم وعدم ضرره في الحدّ ، فلا حاجة إلى الكثرة ، فإذا حصل العلم بخبر ثلاثة بسبب صدقهم وصلاحهم وثقتهم سيّما مع انضمام حال نفس الخبر ، فيحصل العلم ويصدق الحدّ على ذلك ، فيكفي ذلك في تحقّق التواتر ، وإن لم تكن مأخوذة في ماهيّته ، فما معنى قولهم : ويشترط في حصول التواتر وتحقّقه

__________________

(١) استواء الطرفين يعني طرفي السلسلة في النقل ، وأما الواسطة فيما لو كان هناك أكثر من طبقتين.

(٢) قال في الحاشية : الظاهر انّ هذا من تتمة كلام القائلين المذكورين ردّا للبعض المذكور.

٣٨٠