القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

نعم ، يصحّ الاستفهام بالنسبة الى اليمنى واليسرى ، فعلم أنّه موضوع للمفهوم الكلّي الذي مصداقه هو مجموع ذلك العضو.

ولا ريب أنّه لو كان اليد موضوعا لكلّ واحد من الأجزاء لصحّ الاستفهام بأنّه أيّ الأيدي.

ومن القطع الإبانة (١) ، والمقايسة بالإنسان وتمثيله في مقابل اليد دون زيد ، لأنّ الإنسان لم يوضع إلّا للمفهوم الكلّي ، وإطلاقه على الشّخص من باب إطلاق الكلّيّ على الفرد ، فهو المناسب للمقايسة والتمثيل.

ولا يخفى عليك أنّ كليهما مثل اليد فيقال : قبّلت زيدا أو إنسانا ، وإنّما قبّل وجهه ، أو : ضربت زيدا أو إنسانا ، وإنّما ضرب رجله ، وهكذا ، بل الظاهر أنّ مرادهم في النّزاع في ذلك إنّما هو بعنوان المثال.

وهذا الكلام يجري في الرّجل والوجه والرأس والجسد واليوم واللّيل وغير ذلك ممّا يكون ذا أجزاء ، وكلّ جزء منه مسمّى باسم على حدة ، ويطلق اسم المجموع على كلّ منها.

والتحقيق في الكلّ ، أنّ الأسامي في الكلّ موضوعة للمجموع ، وإطلاقها على الأبعاض مجاز.

نعم هاهنا معنى دقيق خالجني في حلّ الإشكال في بعض موارد هذه المسألة ، وهو أنّهم اختلفوا في حقيقة اللّيل والنهار ، وطال التّشاجر بينهم ، فقيل : بأنّه ما بين طلوع الفجر الثاني الى غروب الشمس.

وقيل : ما بين طلوع الشمس الى الغروب ، وقيل : بالاشتراك ، وقيل : يكون ما

__________________

(١) عطف على قوله سابقا : والتبادر من اليد إنّما هو المجموع.

٢٠١

بين الطلوعين واسطة (١).

والتحقيق عندي القول الأوّل ، ولكنّي أقول : إنّ من اشتغل من أوّل طلوع الشمس الى الغروب بعمل فيصدق عليه أنّه عمل يوما حقيقة ، فلو صار أجير يوم برء ذمّته. وكذا لو وقع مورد نذر ، وكذا لو دخل في بلد في أوّل طلوع الشمس يحسب ذلك اليوم من أيام إقامته.

وبيان ذلك ، أنّ هذا من خواصّ الإضافة لا أنّ المضاف إليه حقيقة في هذا القدر ، فهذا عمل يوم حقيقة وإقامة يوم حقيقة ، لا أنّه عمل في اليوم الحقيقي وإقامة في اليوم الحقيقي ، فهذا حقيقة عرفيّة للتركيب الإضافي ، ولذلك يقال : نمت ليلة في هذه الدّار ، ويراد منه القدر المتعارف بعد التعشّي والجلوس بعده ، وهو معنى حقيقي ، وعليه يتفرّع مقدار المضاجعة في قسم الزّوجة ، وهكذا في النظائر. فلو قيل : فلان ضرب زيدا ، فلا ريب أنّه حقيقة ، وإن كان الضرب وقع على بعض أعضائه ، وكذلك لو قال : جرح زيدا ، وكذلك : جرح يده ورجله ، ونحو ذلك. ولكن إذا قيل : أبن يده عن جسده ، لا يتأمّل في أنّ المراد هو مجموع العضو الى المنكب (٢) ، ولا يسأل : هل أبين كفّه أو ساعده أو عضده. وكذلك إذا قيل : اغسل جسدك ، يفهم منه تمام الجسد. وأمّا إذا قيل : جرح يد زيد أو جسد زيد أو ضرب على جسد زيد ، لا يفهم تمامه ، بل يكفي حصوله في الجملة ، ولذلك يحسن الاستفهام بأنّه في أيّ موضع منه ، لا أيّ يد ولا أيّ جسد.

وعلى هذا ، فإذا قيل : اغسلوا وجوهكم ، فيجب غسل تمام الوجه ، وكذلك :

__________________

(١) أي واسطة بين النهار واللّيل وما سوى تلك الواسطة من طرف النهار نهار ومن طرف اللّيل ليل ، بخلاف القول بأنّ النهار ما بين طلوع الشمس الى الغروب ، فإنّ الواسطة المذكورة حينئذ من اللّيل. فظهر الفرق بين القولين.

(٢) وفي ذلك نظر.

٢٠٢

اغسلوا أيديكم ، لو لم يكن قوله تعالى : (إِلَى الْمَرافِقِ ،)(١) وكذلك لو قيل : امسحوا رءوسكم. ولذلك اختلفوا في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ،)(٢) مع ذكر الباء في كونه مجملا (٣) وعدمه.

ونحن قد تخلّصنا عن الإجمال ببيان أئمتنا : من كون الباء للتبعيض بالنصّ الصّحيح(٤).

واختلف الناس فيه على أقوال : فذهب الحنفيّة (٥) الى أنّها مجملة وبيّنها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمسح ناصيته. ودليله أنّ الباء إذا دخلت في محلّ المسح تعدّى الفعل

__________________

(١ و ٢) المائدة : ٦.

(١ و ٢) المائدة : ٦.

(٣) فمن جعلها زائدة كالبيضاوي في تفسيره ١ / ٤١٣ جعل المسح للجميع. ومن جعلها للتبعيض جعلها للبعض ، وعلى أي من التقديرين مبيّنة. ومن ردّ الباء بين المعنيين جعلها مجملة.

(٤) منه ما رواه محمد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم عن أبيه ومحمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن حمّاد بن عيسى عن حريز عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ألا تخبرني من أين علمت وقلت انّ المسح ببعض الرأس وبعض الرّجلين؟فضحك فقال : يا زرارة ، قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونزل به الكتاب من الله عزوجل ، لأنّ الله عزوجل قال : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فعرفنا ان الوجه كلّه ينبغي ان يغسل. ثم قال : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فوصل اليدين الى المرفقين بالوجه ، فعرفنا انّه ينبغي لهما ان يغسلا الى المرفقين ، ثمّ فصل بين الكلام فقال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال : (بِرُؤُسِكُمْ) انّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء. ثم وصل الرجلين بالرأس ، كما وصل اليدين بالوجه ، فقال : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما. ثم فسّر ذلك رسول الله ٩ للناس فضيّعوه.

الحديث «الوسائل» ج ١ باب ٢٣ ح ١ [١٠٧٣].

(٥) في «المحصول» ٢ / ٦٢٧ بعض الحنفيّة.

٢٠٣

الى الآلة فيستوعبها دون المحلّ كما في الآية ، وإذا دخلت في آلة المسح تعدّى الفعل الى محلّه فيستوعبه دون الآلة ، مثل : مسحت رأس اليتيم بيدي ، وموجب ذلك في الآية مسح بعض الرأس ، والبعض يحتمل السّدس والرّبع وغيرهما.

وفيه : أنّ المراد هو مطلق البعض ومسمّاه وهو يحصل في ضمن أيّ الأبعاض اختاره ، فلا إجمال.

وذهب جماعة منهم الى وجوب مسح الكلّ (١) لمنعهم مجيء الباء للتبعيض ، ويقولون انّه للإلصاق ، والعضو حقيقة في المجموع.

وذهب بعضهم الى القدر المشترك لمجيئها لكلا المعنيين ، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل فتعيّن القدر المشترك (٢).

ووافقنا جماعة منهم (٣) بأنّها للتبعيض ، مدّعين أنّها إذا دخلت على اللّازم كانت للتعدية ، وإذا دخلت على المتعدّي كانت للتبعيض ، ولأنّ العرف إنّما يفهم في مثل : مسحت يدي بالمنديل ، البعض.

وأجيب : بالمنع ، وبأنّ الباء في المنديل للاستعانة والآليّة وهو يقتضي ذلك ، بخلاف ما نحن فيه.

والحقّ مجيئه للتبعيض كما هو مذهب الكوفيين ، ونصّ الأصمعي على مجيئها له في نظمهم ونثرهم ، وهو المنقول عن أبي علي الفارسي وابن كيسان ، وعدّه صاحب «القاموس» (٤) من معانيه ، وكذلك ابن هشام في

__________________

(١) وهو منقول عن مالك ومن تبعه.

(٢) راجع «المحصول» ٢ / ٦٢٧.

(٣) بعض الشافعيّة كما من «المحصول» ٢ / ٦٢٧ ، فذهبوا إلى ما نذهب إليه.

(٤) الفيروزآبادي ص ١٢٣٩.

٢٠٤

«المغني» (١) ، فلا عبرة بإنكار سيبويه وابن جنّي (٢) ذلك مع أنّ الشهادة على الإثبات مقدّم ، ومع جميع ذلك فصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣) ناطقة بذلك.

الثاني :

اختلفوا في نحو قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٤)

، و «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (٥) ، و «لا صيام لمن لم يبت (٦) الصيام من اللّيل» (٧) ، و «لا نكاح إلّا بوليّ» (٨) ، ممّا نفي فيه الفعل ظاهرا.

والمراد نفي صفة من صفاته هل هو مجمل أم لا؟ على أقوال (٩) :

__________________

(١) ص ١٠٨ والنسبة إلى الكوفيين والأصمعي والفارسي نقلها في «المغني».

(٢) قال ابن جنّي : لا فرق في اللغة بين أن تقول : «مسحت بالرأس» وبين أن تقول : «مسحت الرأس» لأنّ الرأس اسم للعضو بتمامه فوجب مسحه بتمامه كما في «المحصول» ٢ / ٦٢٧.

(٣) التي ذكرتها وسندها في الحاشية الّتي مرّت.

(٤) كما مرّ في «الوسائل» وكذا ذكره في «العلل» ٢٧٩ / ١ و «التهذيب» ١ : ٦١ / ١٦٨ و «الاستبصار» ١ : ٦٢ / ١٨٦ و «الكافي» ٣ : ٣٠ / ٤.

(٥) «عوالي اللئالي» : ١ / ١٩٦ ح ٢ ، «مستدرك الوسائل» : ٤ / ١٥٨ ح ٤٣٦٥.

(٦) فيها قراءات ثلاثة لم يبيّت ولم يبت ولم يبّتّ.

(٧) «بحار الأنوار» : ٨٠ / ٩٠. وأخرجه أبو داود ٢ / ٨٢٣ باب النيّة في الصيام حديث ٢٤٥٤.

(٨) «مستدرك الوسائل» : ١٤ / ٣١٧ ح ١٦٨١٣.

(٩) أوّل الأقوال : هو القول بعدم الاجمال كما ذهب إليه العلّامة في «التهذيب» ص ١٦١ ، وفي «المبادئ» ص ١٥٨ ، وصاحب «المعالم» فيه ٣١٧ مطلقا أي سواء كان شرعيّا أم لا وسواء كان لغويّا ذا حكم واحد أم لا وهو قول الأكثر. وثانيها : وهو المنقول عن ـ

٢٠٥

ثالثها : إن كان الفعل المنفيّ شرعيّا كالصّلاة والصّيام ، أو لغويّا ذا حكم واحد فلا إجمال ، وإن كان لغويّا له أكثر من معنى فهو مجمل.

والحقّ عدم الإجمال كما اختاره الأكثر.

واحتجّوا عليه بما تحريره وتوضيحه : إنّ الفعل المنفيّ في هذه التراكيب إن كان من قبيل العبادات ، وقلنا بأنّها حقيقة شرعيّة في الصحيحة منها ، فحينئذ يصحّ نفي الذّات.

ويمكن حمل التركيب على الحقيقة اللّغوية لعدم منافاة وجود عامّة أركان الصلاة التي يطلق عليها الصلاة حقيقة على القول بكونها أسامي للأعمّ ، لنفي اسم الصلاة حقيقة عنها على هذا القول (١) ، وحينئذ فإذا صحّ الحمل على المعنى الحقيقي فنحملها عليه ، إذ المانع عنه لم يكن إلّا عدم الإمكان باعتبار وجود الأركان في الجملة ، وقد انتفى اعتبار ذلك على هذا القول ، فإذا صحّ الحمل على نفي الذّات ، فيعلم أنّ ذلك بسببه ، كون ما فقد مع تلك الأركان من مثل الطهور والفاتحة شرطا أو جزء ، وإلّا لما صحّ نفي الذّات ، فعلم بذلك النفي كونهما شرطا أو جزء أيضا ، فينتفي الإجمال فلا إجمال.

وإن لم يكن من قبيل العبادات (٢) أو كان ولم نقل بكونها حقائق في الصحيحة ،

__________________

ـ القاضي القول بالاجمال مطلقا. وعن «إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر» ٣ / ١٤٩٠ : ومذهب جمهور العلماء ليس بمجمل وأكثر الحنفيّة والقاضي أبو بكر الباقلاني وأبو عبد الله البصري وأكثر المعتزلة الإجمال. وثالثها : التفصيل وهو ما ذكره المصنف في قوله : وإن كان الفعل المنفي شرعيّا ... الخ. وعلى تفصيل في «العدة» ٢ / ٤٤٢ ونقل التفصيل في «المعارج» ص ١٠٨.

(١) أي على القول بكون الأسامي أسام للصحيحة وثبوت الحقيقة الشرعيّة فيها.

(٢) عطف على قوله : إن كان من قبيل العبادات وقلنا بأنّها حقيقة شرعية.

٢٠٦

بل تكون حقيقة في الأعمّ ، فإن قلنا بثبوت معنى عرفي لهذه التراكيب ، بأن يقال : المراد من أمثالها نفي الفائدة كما في قولهم : لا علم إلّا ما نفع ، ولا كلام إلّا ما أفاد ، فيحمل عليه ويعبّر عن الفائدة بالصّحة إذا كان في مثل العبادات ، إذ الصّحة هو ترتّب الأثر وهو مساوق الفائدة.

وإن لم نقل بثبوت ذلك ، فالأمر متردّد فيها بين أن يكون المراد نفي الفائدة أو نفي الكمال ، وإذا تردّد الأمر بين هذين المجازين فنقول : إنّ نفي الفائدة ، والصّحة أقرب الى الحقيقة من نفي الكمال ، فيحمل عليه فلا إجمال أيضا.

أقول : وبما حقّقنا في أوائل الكتاب (١) تعرف أنّه لا حاجة إلى إقحام كونها حقيقة شرعيّة في الصحيحة ، بل يكفي إرادة الشارع من الأركان المخترعة الصحيحة منها. ثمّ إنّ التمسّك بأقربيّة المجاز ليس من باب إثبات اللّغة بالترجيح ، بل من باب تعيين أحد المجازات بكثرة التعارف ، ولذلك يقال : هو العدم إذا كان بلا منفعة.

والمراد بكثرة التعارف كثرة إرادة هذا المجاز وظهوره في العرف ، لا صيرورتها حقيقة فيه ليناقض ما تقدّم (٢).

احتجّ القائل بالإجمال : باختلاف العرف في نفي الصّحة والكمال وتردّده ، فيلزم الإجمال.

والجواب (٣) : إن أريد أنّ أهل العرف مختلفون في الفهم ـ فبعضهم يدّعي ظهور هذا وبعضهم ظهور ذلك ـ فلا إجمال عند أحد منهم ، وكلّ يحمل على ما يفهمه.

__________________

(١) في قانون ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه.

(٢) فالمقصود بكثرة التعارف هو كونه شائعا في العرف ، وليس انّه صار حقيقة عرفية ليناقض دعوى المجازيّة التي إدّعاها سابقا.

(٣) مثله في «المعالم» ص ٣١٧.

٢٠٧

وإن أريد أنّ أهلّ العرف متردّدون ، بمعنى عدم استقرار رأي أحدهم على شيء لتساوي الاحتمالين في كل مورد.

قلنا : لا نسلّم التردّد ، وإن سلّم فهو في البادئ (١). وأمّا بعد التأمّل ، فنفي الصحّة أرجح لكونه أقرب الى الحقيقة ، فيقدّم على غيره.

وإن أريد أنّ الألفاظ مختلفة في الفهم ، فيفهم من قوله : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» (٢) ، نفي الكمال ، ومن قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب». نفي الصّحة (٣) ، وهكذا.

قلنا : ممنوع ، بل الظاهر في الكلّ نفي الصّحة ، والإجماع وسائر الأدلّة هو المخرج عن مقتضى الظاهر في الأوّل.

ويظهر حجّة المفصّل وجوابها ممّا تقدّم (٤) بالتأمّل.

والظاهر أنّ المفصّل ممّن يدّعي كون الألفاظ الشرعيّة كلّها حقيقة في الصحيحة.

الثالث :

اختلفوا في التحليل والتحريم المضافين الى الأعيان مثل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ،)(٥) و : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ،)(٦) و : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ،)(٧) و : (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ

__________________

(١) أي في بادئ النظر.

(٢) «دعائم الاسلام» : ١ / ١٤٨ ، «مستدرك الوسائل» : ٣ / ٣٥٦ ح ٣٧٦٧.

(٣) والقول في نفي الكمال ونفي الصحة قول بأن لا اجمال.

(٤) وكذا قال في «المعالم» ص ٣١٨.

(٥) النساء : ٢٣.

(٦) المائدة : ٣.

(٧) المائدة : ١.

٢٠٨

ذلِكُمْ ،)(١) و : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ،)(٢) وغير ذلك ، وكذلك غير لفظ الحلّ والحرمة من الأحكام ، والأكثر على عدم الإجمال (٣).

واحتجّوا عليه (٤) : بأنّ استقراء كلام العرب يفيد أنّ في مثل ذلك ، المراد هو الفعل المقصود من ذلك ، كالأكل من المأكول ، والشرب من المشروب ، واللّبس من الملبوس والوطء من الموطوء ، وأنت خبير بأنّ المقامات في أمثال ذلك مختلفة ، إذ الشيء قد يتّصف بكونه مأكولا وبكونه مبيعا وبكونه مشترى ، وهكذا المشروب فقد يقصد بالخمر الشّرب وقد يقصد البيع وقد يقصد الشّرى وغير ذلك.

وكذلك قد يكون الشيء الواحد مشتملا على أشياء كالميتة المشتملة على اللّحم والشّحم والإهاب (٥) والعظم والصّوف. والمقصود من الإهاب قد يكون هو

__________________

(١) النساء : ٢٤.

(٢) الاعراف : ٣٢.

(٣) ومنهم الشيخ في «العدة» ٢ / ٤٣٦ ، والعلّامة في «التهذيب» ص ١٦٠ و «المبادئ» ص ١٥٧ ، والمحقّق في «المعارج» ص ١٠٧ ، وظاهر «الزبدة» ص ١٤٤ للبهائي ، وصريح «المعالم» ص ٣١٨ منّا ، وذهب منهم أيضا أي عدم الإجمال فيها ابن قدامة وأبو الخطاب الحنبلي في «التمهيد» ، وأبو علي وابنه أبو هاشم ، وعبد الجبّار بن أحمد ، وأبو الحسين البصري في «المعتمد» من المعتزلة وعليه أكثر الشافعيّة وهو مذهب أكثر العلماء كما عن شرح «روضة الناظر» ٣ / ١٤٨٦ وفيه أيضا : وذهب إلى الإجمال أبو يعلى في «العدة» ١ / ١٠٦ وأبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري ، وبعض الحنفية وبعض الحنابلة وبعض الشافعيّة.

(٤) ومن هذا الكلام حجّة صاحب «المعالم» ص ٣١٨.

(٥) وهو الجلد المغلف لجسم الحيوان قبل أن يدبغ.

٢٠٩

اللّبس وقد يكون هو الاستسقاء به وغير ذلك ، فلا بدّ من ملاحظة ذلك. فإرادة المنكوح والموطوء من الأمهات والبنات ونحوها ، والقول بأنّ المقصود منها ذلك لا معنى له إلّا بإرادة بعض النسوان (١) منها.

نعم ، مقابلة المرأة بالرّجل وخلقة النسوان (٢) يصحّح أن يقال : المقصود المتعارف منها الوطي. وأمّا مع عنوان الأم والبنت بدون قرينة على أنّ ذكرها في مقام بيان المحرّمات والمحلّلات من حيث النكاح ، فيشكل دعوى ذلك. وكذلك الميتة في مقام لم يظهر قرينة على أنّ المراد بيان المأكولات ، فالاستصباح والأكل واتّخاذ الصّابون بالنسبة الى الشّحم متساوية.

فلو قيل : حرّم عليكم شحوم الميتة ، فلا يخفى أنّ الإجمال ثابت ، ولا كلام فيما ظهر من القرائن إرادة فرد من الأفراد.

والظاهر أنّ مراد المنكر هو عدم دلالة اللّفظ بالذّات على شيء مع تعدّد الأفعال ، لا في مثل آية التحريم المنادية بأنّ المراد بيان من يجوز نكاحها من النساء ومن لا يجوز ، ولا ريب أنّ الإجمال فيما لا قرينة فيه ثابت.

ويمكن دفع الإجمال في أمثال ذلك بحملها على الجميع ، لئلّا يلزم القبيح في كلام الحكيم وعراه عن الفائدة.

__________________

(١) غير الأم والبنت والعمة والخالة ونحوهم.

(٢) يعني إنّ القول بأنّ المراد والمقصود من الأمهات والبنات المنكوح والموطوء لا معنى له ، وذلك لأنّ المقامات يختلف باختلاف العنوانات ، فعنوان الأمّ والبنت لا يناسب مثل النكاح والوطء ، بل المناسب لهما هو عنوان النّسوان ، وكذلك عنوان المرأة اذا كانت في مقابلة الرجل من جهة كون المراد من الرجل ذات ثبت له الرجوليّة ، ومن المرأة ذات ثبت لها الانوثية ، ومقابلتهما يناسب النكاح والوطء ، هذا كما في الحاشية.

٢١٠

واحتجّ القائل بالإجمال (١) : بأنّ تحريم العين غير معقول فلا بدّ من إضمار فعل يصلح متعلّقا له ، لأنّ الأحكام إنّما تتعلّق بأفعال المكلّفين ولا يمكن إضمار كلّ الأفعال المتعلّقة بها ، لأنّ الإضمار خلاف الأصل ، فلا يرتكب إلّا بقدر الضّرورة ، وهي ترتفع بإضمار البعض ، ولا دليل على خصوصيّة شيء منها ، فيقع الإجمال.

وأجابوا عنه (٢) : بمنع عدم الدّليل على الخصوصيّة ، لأنّ ظهور ما هو المقصود منه في العرف يرجّح ذلك.

أقول : وقد عرفت (٣) ما في ذلك.

فالتحقيق في الجواب : أنّ ما لم يثبت من الخارج مرجّح لأحد المعاني فنحملها على الجميع ، إذ قد لا يرتفع الضّرورة إلّا بذلك.

فقوله (٤) : وهو يرتفع بإضمار البعض ، مطلقا ممنوع.

__________________

(١) ونقلها في «المعالم» ص ٣١٨.

(٢) والمجيب هو صاحب «المعالم» : ص ٣١٨.

(٣) من أنّه قد لا يكون هناك فعل ظاهر.

(٤) وهو قول من احتجّ بالإجمال كما عرفت.

٢١١

قانون

المبيّن : نقيض المجمل ، فهو ما دلالته على المراد واضحة.

وهو قد يكون بيّنا بنفسه مثل قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.)(١) فإنّ إفادته لشمول علمه تعالى لجميع الأشياء بنفس اللّغة لا بشيء خارج.

وفي هذا المثال تأمّل ، إذ العامّ ظاهر في الشّمول وليس بنصّ. نعم مع انضمام الخارج إليه يصير نصّا ، لكنّه ليس مقتضى اللّغة ، وقد مرّ في الفرق بين النصّ والظّاهر في محلّه (٢) ما ينفعك هنا.

وقد يكون مع تقدّم إجمال كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(٣) بعد حصول البيان بفعله (٤) عليه الصلاة والسلام ، والعامّ المخصّص وغيرهما (٥).

وتسمية القسم الأوّل بالمبيّن إمّا مسامحة ، وإمّا لأنّه من باب ضيّق فم الركيّة (٦) ، فإنّ أهل اللّغة وضعوه مبيّنا.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢ وهو مثال «المعالم» ص ٣١٩ ، ومثله في «المحصول» ٢ / ٦٣٤.

(٢) في المحكم والمتشابه.

(٣) البقرة : ٤٣.

(٤) فيكون المبيّن هو فعله.

(٥) كالمطلق والمقيّد والمجازات.

(٦) هذا الخطاب الى البنّاء والحفّار ، والرّكيّة البئر ، وليس معناه وسّع ثم ضيّق بتوهم اقتضاء التضييق سبق التوسعة لمنع الاقتضاء ، بل معناه ابن فم الركيّة من أوّل بنائه أو احفره من ابتداء حفر البئر على الضيّق. وهكذا يقال في القسم الأوّل من المبيّن. فإنّ المراد به بناء اللفظ من أوّل الأمر باعتبار الوضع والاستعمال على البيان ، فكون الشيء مبيّنا بمعنى ما وقع عليه البيان مبيّنا كما في القسم الثاني. وأما ما كان مبيّنا بنفسه من ـ

٢١٢

والبيان مأخوذ من بان بمعنى ظهر ، أو من البين وهو الفرقة بين الشيئين. وهو إمّا المراد به فعل المبيّن ، وهو التبيين كالكلام بمعنى التكليم والسّلام بمعنى التسليم ، وإمّا الدّليل على ذلك أي ما به التبيين ، وإمّا متعلّق التبيين وهو المدلول ، ومعناه حينئذ العلم من الدّليل.

وقد يسمّى ما به البيان مبيّنا على لفظ الفاعل وهو يحصل بالقول إجماعا ، وبالفعل على الأقوى (١).

أمّا القول فمن الله كقوله تعالى : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها ...)(٢) إلخ. فإنّه بيان للبقرة في قوله تعالى : (أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)(٣) على الأصحّ. ومن الرّسول كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فبما سقت السّماء العشر» (٤) ، فإنّه بيان لمقدار الزّكاة المأمور بإيتائها (٥).

__________________

ـ غير تقدم إجماله فهو ليس بهذه المثابة ، فلا بد حينئذ من تسميته بالمبيّن إما أن يكون من باب المسامحة أو من باب ضيّق فم الركيّة. هذا كما أفاده في الحاشية.

(١) إشارة الى الخلاف الآتي من بعض العامّة حيث منع من جواز كون الفعل بيانا.

(٢) البقرة : ٦٩.

(٣) البقرة : ٦٧.

(٤) لم أجد في الكتب الأربعة وكذا في «الوسائل» هذه الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا عن الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم ، نعم يوجد رواية عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : في الصدقة فيما سقت السماء والأنهار إذا كانت سيحا أو كان بعلا العشر. والذي بدا لي أنّ المصنّف أراد مثل هذه الرواية فنقلها بتصرّف منه في العبارة. نعم في «المعارج» ص ١١٠ ذكرها قوله عليه‌السلام : فيما سقت السّماء العشر ، وكذا في «المعالم» ص ٣١٩ ، وهو الصحيح بعد تقطيع الرّواية. وكأنّ ما ذكر في المصنّف من الناسخ وليس من المصنّف. وفي شرح «روضة الناظر» ٣ / ١٥٠٧ : ومنها قوله عليه‌السلام «فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالسانية نصف العشر».

(٥) كما في قوله تعالى : وآتوا الزكاة ، و : آتوا حقه يوم حصاده.

٢١٣

وأمّا الفعل فهو قد يكون دلالته على البيان بمواضعه كالكتابة وعقد الأصابع والإشارة بالأصابع في تعيين عدد أيّام الشهر (١) ، وغيره أو بغيرها كما بيّن صلى‌الله‌عليه‌وآله الصّلاة والحجّ بفعله وإتيانه بالأركان على ما هي عليه.

وقد يكون تركا ، كما لو ركع عليه‌السلام في الثانية بغير قنوت ، فإنّه يدلّ على عدم وجوبه.

ثمّ العلم بكون الفعل بيانا ، إمّا يعلم بالضّرورة من قصده أو بقوله : أنّ ما فعله بيان للمجمل أو أمره بأن يفعل مشابها لما فعله مثل قوله عليه‌السلام : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (٢). فإنّه ليس فيه بيان قوليّ لأفعال الصّلاة ، بل إحالة على ما فعله في الخارج (٣) ، فبطل ما توهّم أنّ هذا بيان قوليّ لا فعليّ.

أو بالدّليل العقلي كما لو أمر بفعل مضيّق مجمل وفعل فعلا يصلح لكونه بيانا ، فالعقل يحكم بأنّه بيان له ، ولا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وخالف بعض العامّة (٤) في جواز كون الفعل بيانا ، محتجّا بأنّ البيان بالفعل

__________________

(١) إشارة الى مثل ما روي في باب علامة شهر رمضان عن عبد الأعلى بن أعين عن أبي عبد الله عليه‌السلام : فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، وأشار بيديه عشرا وعشرا وعشرا ، وهكذا وهكذا وهكذا ، عشرة وعشرة وتسعة. «الوسائل» ١٠ / ٢٥٩ باب ٣ حديث ٢٤ [١٣٣٦٢].

(٢) «عوالي اللآلي» ١ / ١٩٧ ح ١٨ ، و ٣ / ٨٥ ح ٧٦ ، «سنن البيهقي» ٢ / ٣٤٥ ، «سنن الدارقطني» ١ / ٢٧٩ ح ١٠٥٦.

(٣) وكذا في الحج حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : خذوا عني مناسككم. «عوالي اللآلي» ١ / ٢١٥ ، ٧٣ و «مسند أحمد» ٣ / ٣١٨.

(٤) كالكرخي وأبي إسحاق الأسفراييني كما عن شرح «روضة الناظر» ٣ / ١٥٠٩.

وأعلم بأنّ هناك بيان بالإشارة وبالكتابة وبالترك.

٢١٤

يوجب الطّول فيتأخّر البيان مع إمكان تعجيله.

وفيه أوّلا : أنّه قد يكون القول أطول من الفعل (١).

وثانيا : أنّه يلزم تأخير البيان لو لم يشرع بالفعل بعد إمكان الشروع وبعد ما شرع ، فإذا احتاج إتمامه الى زمان طويل لا يسمّى ذلك تأخير البيان عرفا ، كما لا يسمّى بذلك في القول في الزّمان المحتاج إليه.

وثالثا : أنّه لا قبح في هذا التأخير سيّما إذا كان أصلح.

ورابعا : أنّ امتناع تأخير البيان مع إمكان التعجيل ، إنّما يسلّم قبحه إذا كان عن وقت الحاجة وهو خارج عن الفرض.

__________________

(١) فالرّكعتان مثلا من الهيئة لو بيّنت بالقول ربما استدعى زمانا أكثر مما تؤدى صلاة بكثير.

٢١٥

قانون

ذهب أصحابنا (١) وجميع أهل العدل (٢) الى امتناع تأخير بيان المجمل

عن وقت الحاجة ، لاستلزامه تكليف ما لا يطاق.

وأمّا تأخيره عن وقت الخطاب ، ففيه أقوال ثلاثة :

المشهور الجواز (٣).

وفصّل بعضهم (٤) فجوّز في غير ما له ظاهر ، وأمّا ما له ظاهر كالعامّ والمطلق والأمر الظاهر في الوجوب ، فلا يجوز فيه تأخير البيان رأسا ، وأمّا مع البيان الإجمالي فلا بأس.

وربّما زاد بعض العامّة عدم جواز تأخير البيان في المنسوخ أيضا ، فذهب الى

__________________

(١) كما في «المعالم» ص ٣١٩ ، و «العدة» ٢ / ٤٤٨ ، و «المعارج» ص ١١١ ، و «التمهيد» ص ٢٣٣ ، و «الذريعة» ١ / ٣٦١ ، وفي «التهذيب» ص ١٦٤ ، و «المبادئ» ص ١٦١ ادّعى على ذلك الإجماع وقال في «الزبدة» ص ١٤٥ : ممتنع إجماعا.

(٢) أي المعتزلة وفي «روضة الناظر» ٣ / ١٥١٣ : لا خلاف فيه ، وفي شرحه «إتحاف ذوي البصائر» ، وقد حكى الاتفاق على عدم جواز ذلك الغزالي ، والباجي ، وابن السمعاني وكثير من الأصوليين. راجع «المحصول» ٢ / ٦٤٥.

(٣) وعليه جمهور الأشاعرة وأختاره أكثر الشافعية وبعض الحنفية وبعض المعتزلة ومشهور الخاصّة ، وأما المنع مطلقا فعن كثير الحنفية والظاهرية وبعض الشافعية وجمهور المعتزلة.

(٤) وهو خيرة العلّامة تبعا لبعض الخاصّة كما عن «الفصول» ص ٢٢٨ ، والظاهر من المرتضى راجع «الذريعة» ١ / ٣٦٣.

٢١٦

لزوم اقترانه بالبيان الإجمالي ، بأن يقال وقت الخطاب : إنّ هذا الحكم سينسخ ، وهو في غاية الضّعف ، للإجماع من العامّة والخاصّة على عدمه ، بل جعلوا تأخير بيان الناسخ من شرائط النسخ.

لنا على الجواز مطلقا : عدم المانع عقلا ووقوعه في العرف والشرع.

أمّا الأوّل (١) ، فلما سنبيّن من ضعف ما تمسّك به المانع ، وإمكان المصلحة في التأخير ، مثل توطين المكلّف نفسه على الفعل والعزم عليه الى وقت الحاجة ، وتهيّؤه للفعل حتّى يكون عليه أسهل ، بل قد يكون التأخير أصلح ، لأنّ مع اقتران البيان ربّما يعلم سهولة التكليف والتوطين عليه الى وقت الحاجة سهل.

وأمّا مع عدم الاقتران ، فرّبما يحتمل كون المكلّف به أشقّ ممّا هو مراد في نفس الأمر ويوطّن نفسه على الأشقّ والأسهل ، مع أنّ المطلوب منه هو الأسهل ، وفي صورة اقتران البيان بإرادة الأسهل لا يوطّن إلّا على الأسهل ، ولا فرق في ذلك بين الأوامر والتكاليف والحكايات والقصص.

فما توهّم بعض القائلين (٢) بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب مطلقا ، من عدم جوازه في الأخبار والحكايات نظرا الى أنّها ليس لها وقت الحاجة ، بل المراد منها التّفهيم ، ولا بدّ أن يكون مقترنا بالخطاب ، لا وجه له ، إذ من الجائز أن يكون المراد من الخبر لازم فائدته مثل أن يعتقد على ما هو ظاهر ، ليحصل به ما يحصل من حقيقة المراد ، فيمكن تأخّر زمان الاحتياج الى بيان نفس المراد والعلم بأصل

__________________

(١) أي عدم المانع عقلا.

(٢) لعلّ هذا إيراد على ما في «المعالم» في مقام ردّ ثالث الوجوه التي أريد بها المرتضى ، مقصوده من المنع فيما له ظاهر ، بعد الاشارة الى لزوم الاغراء بالجهل.

٢١٧

الخبر وحصول فائدته بذاته مثل أن يقال : قتل فلان ، مع أنّه ضرب ضربا شديدا لأجل تعذيب أوليائه وتشويشهم أو لأجل تفريح أعدائه وتجربتهم [وتحريشهم](١) ، ثم يبيّن أنّ المراد الضّرب الشّديد.

وأمّا الثاني (٢) ، فكثير لا حاجة الى البيان.

أمّا في العرف ، فلأنّه يصحّ عرفا أن يقول الملك لأحد من غلمانه : قد ولّيتك البلد الفلاني فاذهب إليه الى وقت كذا ، وسأكتب لك كتابا فيه بيان ما تعمله هناك وأرسله إليك بعد استقرارك في عملك.

وأمّا في الشرع ، فمنها قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)(٣) وهي كانت معيّنة في الواقع ، وإلّا لما سألوا عن التعيين بقولهم : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ)(٤) و : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها.)(٥) ولم يبيّنه تعالى ، بقوله : (بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ ،)(٦) وبقوله : (فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.)(٧)

وقيل : انّه ليس من هذا الباب لظاهر قوله : (أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ،) فإنّه يفيد التخيير.

وقوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ،)(٨) فإنّه ظاهر في قدرتهم على الفعل ، وإنّما

__________________

(١) بالحاء المهملة والشين المعجمة ، وهو كما في «المجمع» ٤ / ١٣٢ ، تهييج بعض القوم على بعض.

(٢) وهو وقوع تأخير البيان عن وقت الخطاب الى وقت الحاجة في العرف والشرع.

(٣ و ٤) البقرة : ٦٧.

(٣ و ٤) البقرة : ٦٧.

(٥) البقرة : ٦٩.

(٦) البقرة : ٦٨.

(٧) البقرة : ٦٩.

(٨) البقرة : ٧١.

٢١٨

وقع السّؤال تعنّتا ، فشدّد الله عليهم. ونقل عن ابن عباس أنّه قال : لو ذبحوا أيّ بقرة لأجزأتهم ولكنّهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم (١).

وفي «عيون أخبار الرضا عليه‌السلام» عنه عليه‌السلام : «لو عمدوا الى أيّ بقرة أجزأتهم ولكنّهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم» (٢).

أقول : ظاهر تنكير (بقرة) يندفع بالقرائن المتأخّرة.

وقوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ.)(٣) يعني من جهة التّواني في الامتثال ومن جهة عظم ثمن البقرة ، فقد روي : أنّه بلغ الى ملء مسكها ذهبا فأرادوا أن لا يفعلوا ، ولكن اللّجاج حملهم على ذلك واتّهامهم موسى حداهم عليه.

وأمّا قول ابن عباس ، فعلى فرض تسليمه لا حجّة فيه.

وأمّا حديث العيون فمعارض بما في تفسير الإمام عليه‌السلام ، وبما في تفسير عليّ بن ابراهيم عن الصادق عليه‌السلام (٤) وغيرهما.

ومنها : قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ،)(٥) و : (وَالسَّارِقُ

__________________

(١) «مجمع البيان» : ١ / ٤٩٤. عند تفسيره للآية ٦٨ من سورة البقرة ، علما أنّه ليس في الرواية لو ذبحوا أي بقرة لأجزأتهم. وإنّما في الرواية : انّهم امروا بأدنى بقرة. نعم في «العيون» و «العياشي» عن الإمام الرضا عليه‌السلام : لو عمدوا الى أي بقرة أجزأتهم.

(٢) «عيون أخبار الرضا عليه‌السلام» : ١ / ١٦ ح ٣١.

(٣) البقرة : ٧١.

(٤) لم أجد في تفسير علي بن ابراهيم ما يعارض ما جاء في «العيون». ويمكن أنّه فهم التعارض مما جاء في القصّة : وأمر بني اسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها. وليس هذا واضحا في ذلك.

(٥) البقرة : ١١٠.

٢١٩

وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ،)(١) و : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما ،)(٢) مع تأخّر بيان تفاصيلها من الأركان والمقدار واشتراط الحرز (٣) والنّصاب وتخصيص الزّاني بالمحصن.

وأمّا بيان الفائدة في تأخير بيان ما له ظاهر فسيجيء.

وأمّا وقوعه في العرف والشرع أيضا فأكثر من أن يحصى.

ومنها : الآيات المتقدّمة في حكم السّارق والزّاني وغيرهما ، وكفاك ملاحظة عموم التكاليف للظانين لبقائهم إلى آخر الامتثال جامعا للشرائط ، مع أنّ الصّائم قد يمرض ، والصّائمة قد تحيض ، والمصلّي قد يموت بين الصلاة ، الى غير ذلك.

واحتجّ المانع مطلقا ، أمّا على عدم التأخير في المجمل (٤) : فبأنّه لو جاز لجاز خطاب العربي بالزنجيّة من غير بيان في الحال ، وهو قبيح لعدم فهم المراد.

وجوابه : منع الملازمة للفرق بينهما ، فإنّ خطاب العربي بالزنجيّة لا يحصل منه العلم بشيء من أصناف الكلام وضروب (٥) القول ، حتّى أنّه لا يميّز بين كونه خبرا أو إنشاء ، مدحا أو ذمّا ، ثناء أو شتما ، بخلاف المجمل ، فإنّ المخاطب يفهم أنّه يريد به أحد معانيه المحتملة ويوطّن نفسه على الامتثال بأيّهما تبيّن له أنّه مراد ، ولو فرض في خطاب العربي بالزنجيّة حصول فهم في الجملة للسّامع بقرائن المقام ، وكان له رجاء تفسير له ، فلا نسلّم بطلان اللّازم حينئذ.

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

(٢) النور : ٢.

(٣) كالخزانة والصندوق.

(٤) أي فيما ليس له ظاهر.

(٥) كالعطف التفسيري.

٢٢٠