القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

وأمّا على عدم الجواز فيما له ظاهر : فبما احتجّ به المفصّل ، وسنذكره ونجيب عنه.

واحتجّ المفصّل ، أما في المجمل : فبما بيّناه (١) فيما اخترناه.

وأمّا على عدم جواز تأخير بيان ما له ظاهر : فيقبح خطاب الحكيم بلفظ له حقيقة وهو لا يريدها من دون نصب قرينة على المراد ، بل ذلك دلالة له على غير المراد ، لأنّ الأصل في اللّفظ حمله على معناه الحقيقي.

وأمّا المجمل ، فلمّا لم يكن فيه مرجّح لإرادة أحد معانيه ، فيقتصر على ما اقتضاه الوضع الحقيقي ، ويتوقّف بسبب الإجمال الحاصل في الوضع ، فليس فيه دلالة على غير المراد ، بل فيه دلالة على المراد في الجملة (٢) أيضا ، بخلاف الحقيقة التي أريد منها المعنى المجازي بدون نصب القرينة.

وبأنّ الخطاب وضع للإفادة ، ومن سمع العامّ مثلا مع تجويزه أن يكون مخصّصا ويبيّن في المستقبل ، فلا يستفيد في هذه الحالة به شيئا.

والتحقيق في الجواب عن الدّليل الأوّل : أنّ مناطه لزوم القبح من جهة أنّه إغراء بالجهل ، وهو قبيح (٣).

وفيه : منع كليّة الكبرى لغاية وفور التكليفات الابتلائية كتكليف إبراهيم عليه‌السلام بذبح ولده.

وما قيل : أنّ التكليف إنّما كان بالمقدّمات (٤) ، وجزعه إنّما كان من جهة خوفه

__________________

(١) من إمكانه ووقوعه.

(٢) أي في ضمن المعنيين.

(٣) وهذا هو الكبرى.

(٤) والقائل بهذا هو صاحب «المعالم» ص ٢٣٠.

٢٢١

من أن يؤمر بنفس الذّبح بعده ، لا يليق مدح إبراهيم عليه‌السلام ذلك المدح ، وقد مرّ الإشارة الى ذلك (١).

والتكليفات الامتحانيّة في العرف والعادة أكثر من أن تحصى ، وقد حقّقناه في مبحث تكليف الأمر مع العلم بانتفاء الشرط. فإذا كان مصلحة في توطين المكلّف نفسه على ظاهر العموم (٢) الى وقت الحاجة أو على الوجوب في الأمر الى وقت الحاجة ، ويحصل له هذا الثّواب ثمّ يبيّن له أنّ المراد هو الخصوص والندب ، فأيّ مانع منه.

وقد يجاب : بمنع لزوم الإغراء (٣). لأنّه يلزم حيث ينتفي احتمال التجوّز ، وانتفاؤه فيما قبل وقت الحاجة موقوف على ثبوت منع التأخير مطلقا ، وقد فرضنا عدمه.

وما يقال (٤) : إنّ الأصل في الكلام الحقيقة ، معناه أنّه مع فوات وقت القرينة وهو الحاجة في هذا المقام وتجرّده عنها يحمل على الحقيقة ، لا مطلقا. ألا ترى أنّه لا يحمل اللّفظ على حقيقته حتّى يتمّ الكلام ، وأنّه يجوز تأخير القرينة عن وقت التلفّظ كما في الجمل المتعاطفة المتعقّبة بمخصّص.

وأيضا : قد حكموا بجواز إسماع العامّ المخصوص بأدلّة العقل وإن لم يعلم السّامع أنّ العقل يدلّ على تخصيصه ، فيثبت جواز تأخير القرينة عن اللّفظ ، وعدم لزوم الإغراء.

وكذلك قد جوّزوا إسماع العامّ المخصوص بالدليل السّمعي من دون إسماع

__________________

(١) في مبحث تكليف الآمر مع العلم بانتفاء الشرط.

(٢) في لفظ العام.

(٣) والمجيب بهذا هو صاحب «المعالم» ص ٣٢٥.

(٤) هذا دفع المانع. راجع «المعالم» ص ٣٢٥.

٢٢٢

المخصّص. فكما أنّ احتمال وجود المخصّص يوجب عدم الحمل على الحقيقة حتى يحصل الفحص ، فكذلك احتمال ذكر القرينة في زمان الحاجة يوجب ذلك.

وفيه : أنّ الحمل على الحقيقة هو مقتضى الظاهر والظنّ والمدار على الظّنون في مباحث الألفاظ ، ولا ريب أنّ احتمال التجوّز ضعيف في جنب إرادة الحقيقة ، ولا ريب في حصول الظنّ بعد الفراغ من الكلام بعدم القرينة ، وأنّ المراد هو الحقيقة.

وقد صرّحوا بأنّ معنى الأصل في قولهم : الأصل هو الحقيقة ، هو الظاهر ، وما ذكره المجيب (١) في معنى أصالة الحقيقة فهو مختصّ به (٢).

وما استشهد به (٣) من جواز تأخير القرينة عن اللّفظ الى آخر الكلام (٤) فهو قياس مع الفارق ، لأنّ وقت تشاغل المتكلّم بالكلام محتمل لما لا يحتمله حال السّكوت عنه كما يقتضيه العرف والعادة ، وذلك (٥) ليس لتفاوت زمان التأخير في الطّول والقصر كما توهّم ، بل لمدخليّة التشاغل ، وعدم التشاغل في ذلك.

وأمّا الاستشهاد (٦) بالعامّ المخصوص بدليل العقل من دون إعلام السّامع ذلك.

ففيه : أنّه غير مضرّ ، لأنّ إعطاء العقل للمكلّف رافع للإغراء ، ودلالته قرينة على إرادة التخصيص ، فإنّ العقل والشّرع متطابقان يفسّر كلّ منهما الآخر ، ومع عدم تعقّل المخاطب ، فلا ريب في قبحه ، إلّا أن لا يتعقّل العموم ، بحيث يشمل الفرد

__________________

(١) وهو صاحب «المعالم» ص ٣٢٥.

(٢) فلم يقلّ به أحد غيره على ما زعمه المصنّف.

(٣) ردّ للاستشهاد الأوّل. راجع «المعالم» ص ٣٢٥.

(٤) آخر كلام المجيب او آخر كلام المتكلّم.

(٥) التفاوت المذكور الذي ادّعيناه.

(٦) من صاحب «المعالم» ص ٣٢٦.

٢٢٣

المخرج بالعقل ، وهو أيضا كاف في عدم الإغراء.

ولو فرض تعقّله للعموم وعدم تعقّله للتخصيص إلّا بعد زمان ، فهذا يكون من باب تأخير البيان عن وقت الخطاب ، ونلتزم فيه الإغراء ، ونمنع قبحه كما مرّ (١).

وأمّا تجويز إسماع العامّ المخصّص بالدّليل السّمعي (٢) ، فلا دخل له بما نحن فيه ، إذ العامّ إن كان ممّا خوطب به المخاطب من لسان الشّارع مواجها له ، مريدا إفهامه والعمل على مقتضاه فعلا أو تعليما للغير ، فيجري فيه ما سبق من عدم جواز تأخير بيان المخصّص عن وقت الحاجة.

وأمّا عن وقت الخطاب ، فإذا أخّره فيلزم الإغراء جزما لأنّه يحمله على ظاهره.

فالتحقيق في الجواب (٣) : منع قبح ذلك الإغراء حتّى يتبيّن له المخصّص ، إمّا بذكره له قبل وقت الحاجة أو إحالته على راو أو أصل أو كتاب.

وأمّا إذا لم يكن السّامع ممّن يراد فهمه للخطاب كالعجميّ القحّ والعاميّ البحت ، فهو ليس بمخاطب بذلك حتى يترتّب عليه أحكام الخطاب ، بل هو مخاطب بالأخذ من العالم ، وكذلك من يفهم الخطاب ، لكن لا يحتاج الى العمل به.

وأمّا إذا كان العامّ من باب الأدلّة الواردة من الشّرع لا من باب الخطاب كما هو كذلك (٤) بالنسبة الى زماننا على ما هو الحق من اختصاص الخطابات بالمشافهين ، فيخرج عن محلّ النزاع. فإنّ الكلام في لزوم الإغراء وقبح الخطاب ، فخطابنا حينئذ هو العمل بمقتضى هذا العامّ الذي رأيناه أو سمعناه مع ما يقتضيه

__________________

(١) وقد تعرّض في «الفصول» ص ٢٢٩ لهذا القول ودفعه.

(٢) ردّ للاستشهاد الثالث وهو في «المعالم» ص ٣٢٦.

(٣) أي عن لزوم هذا الإغراء.

(٤) وذلك لعدم توجه الخطاب إليه.

٢٢٤

سائر الأدلّة التي لم نعثر عليها ، وهي في الأصول (١) يقينا أو ظنّا ، لا خصوص العام ، وهذا المقام (٢) هو الذي يقولون : يجب الفحص عن المخصّص في الأصول. فخطابنا حينئذ هو العمل بما نفهمه من مجموع الأدلّة ، ولا إجمال في هذا الخطاب ، وليس من باب الخطاب بما له ظاهر وإرادة غيره أيضا.

وهذا الفرض الحاصل في زماننا الآن هو أيضا قد يحصل في زمن الشّارع أيضا ، إذ ليس كلّ أحد في زمن الشّارع يسمع الخطابات شفاها ، عموما كان أو خصوصا ، بعنوان أن يراد منه فهمه والعمل به ، بل الأئمة عليهم‌السلام كانوا يقرّرون أصحابهم على العمل بما يفهمون من الجمع بين أخبارهم وفهمهم واجتهادهم في تطبيق الرّوايات بالكتاب وبمذاهب العامّة وبسنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيرها (٣).

فالكلام في الإذعان بكون العامّ باقيا على عموم أم لا ، في غير محلّ الخطاب الشّفاهي ، وما في معناه غير الخطاب بالعامّ المخصوص شفاها مريدا به الإفهام ، مع عدم إسماع مخصّصه. وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، وما ذكره المجيب من قبيل الثاني (٤) ، وبينهما بون بعيد.

هذا مع أنّ الشيوع والغلبة في التخصيص زاحم أصالة الحقيقة في العامّ ، وذلك

__________________

(١) أي في الكتب الحديثية.

(٢) هو مقصود الذي ذكره المجيب في قوله حتى يحصل الفحص.

(٣) كأخبار الأئمة عليهم‌السلام كما أفاد في الحاشية. وإن كانت تصدق أخبارهم عليهم‌السلام على السنة.

(٤) ما ذكره من قوله : إذ العام إن كان مما خوطب به المخاطب من لسان الشارع هو الذي نحن فيه وقد عبّر من قبيل الأول ، وما ذكره المجيب من قبيل الثاني من قوله : وأما إذا كان العام من باب الادلّة الواردة ... الخ.

٢٢٥

لا يوجب تأسيس القاعدة التي بني عليه الأمر ، وهو أنّ مجرّد احتمال التجوّز يوجب التوقّف عن الحمل على أصل الحقيقة ، مع أنّا قد أشرنا في مبحث البحث عن المخصّص ، أنّ البحث عن المجاز معنى ، والبحث عن المعارض معنى آخر ، ولزوم التوقّف عن العمل بظاهر الدّليل حتى يتفحّص عن معارضه عامّا كان الدّليل أو غيره من الظواهر ، مثل الأمر والنّهي ، غير التوقّف عن حمله على أصالة الحقيقة حتّى يعلم عدم القرينة على المجاز.

وهذا التوقّف الذي أورده المجيب من باب الأوّل لا الثاني.

وقد يجاب : بالنقض (١) بالنّسخ.

وتوجيهه أنّ المنسوخ لا بدّ أن يكون ظاهرا في الدّوام وإن كان عن القرائن الخارجية لا من دلالة اللّفظ والحقيقة ، فبعد مجيء الناسخ يعلم أنّه غير مراد ، ومن هنا التجأ بعضهم (٢) الى القول بلزوم اقتران المنسوخ بالبيان الإجمالي وهو باطل.

وأمّا الجواب عن قوله (٣) : إنّ الخطاب وضع للإفادة ... الخ.

فهو أوّلا : منقوض بتأخير بيان المجمل.

وثانيا : بأنّ الفائدة حاصلة من العزم والتوطين على الظاهر.

__________________

(١) وصاحب «المعالم» ص ٣٢٣ هو الذي أجاب بالنقض عن الدليل الأوّل للمفصّل.

(٢) وهذا البعض من العامة.

(٣) أي السيّد ومثله العلّامة ، ونقله في «المعالم» ص ٣٢٣.

٢٢٦

تنبيه (١)

قد عرفت وجوب البيان في الجملة.

فاعلم أنّ البيان إنّما يجب لمن أراد الله إفهامه الخطاب دون من لا يريد إفهامه ، للزوم التكليف بالمحال لو لاه في الأوّل دون الثاني.

ثمّ الأوّل ، قد يراد منه فعل ما تضمّنه الخطاب إن تضمّن فعلا كالعالم في الصلاة.

وقد لا يراد منه إلّا معرفة المضمون لإرشاد الغير ، كمسائل الحيض له.

والثاني ، قد لا يراد منه العمل بمضمون الخطاب أيضا كالعوامّ بالنسبة الى مسائل الحيض.

وقد يراد فعله كالعبادات بالنسبة الى العوامّ ، ومسائل الحيض بالنسبة الى النساء ، فإنّ وظيفتهم الأخذ عن العالم.

__________________

(١) وهذا التنبيه قد ذكر في «التهذيب» ص ١٦٧ في ذيل بحث المجمل والمبيّن مفصّلا وشرحه العميدي بأبسط وجه ، وعبارة المتن مطابق له.

٢٢٧

قانون

قد عرفت معنى الظاهر في أقسام المحكم ، وتنبّهت على معنى المأوّل أيضا.

ونقول هاهنا أيضا : الظاهر (١) ما دلّ على معنى دلالة ظنيّة راجحة مع احتمال غيره ، كالألفاظ التي لها معان حقيقة إذا استعملت بلا قرينة تجوّز ، سواء كانت لغويّة أو شرعيّة أو غيرهما (٢). ومنه المجاز المقترن بالقرينة الواضحة (٣) على ما أشرنا إليه سابقا.

وأمّا المأوّل (٤) فهو في الاصطلاح : اللّفظ المحمول على معناه المرجوح.

وإن أردت تعريف الصحيح منه فزد عليه (٥) : بقرينة مقتضية له (٦).

والقرينة إمّا عقليّة ، مثل قوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ،)(٧) ومثل : (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ). (٨)

__________________

(١) الظاهر : لغة الواضح. واصطلاحا قيل : ما دلّ على معنى دلالة ظنيّة. وقيل : دلالة واضحة ، فعلى الأوّل يكون النص هو ما دلّ دلالة قطعيّة قسيما منه ، وعلى الثاني يكون قسما منه.

(٢) كالعرفية العامة والخاصة غير الشرعية.

(٣) وليس غير الواضحة المحتملة الموجبة للتردد بين الحقيقة والمجاز.

(٤) المأوّل : لغة الارجاع من آل يئول إذا رجع. واصطلاحا على وجه يتناول الصحيح والفاسد معا ، هو اللّفظ المحمول على معناه المرجوح.

(٥) أي فزد عليه هذا القيد.

(٦) والقرينة المقتضية قد تجعل أعم من الواضحة وقد تجعل بمعنى الواضحة ، هذا كما في الحاشية.

(٧) الفتح : ١٠.

(٨) المدثر : ٣١.

٢٢٨

وإمّا لفظيّة كحمل آية الصدقة على بيان المصرف لا الاستحقاق والملك ، بقرينة ملاحظة ما قبلها وهو قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ)(فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ.)(١) فالآية ردّ عليهم وردع عمّا اعتقدوا أنّه يجور في ذلك ، بل إنّه يصرفه في مصرفه.

وثمرة ذلك عدم وجوب التوزيع على الأصناف (٢) ، وإحاطتهم.

وربّما تكون القرينة مفصولة ، مثل الأخبار المخصوصة بالسّنّة والإجماع وغيرهما. وإن شئت جعلت المجازات كلّها من باب المأوّل بالنسبة الى اللّفظ مع قطع النظر عن القرينة سواء قارنها القرينة أو فارقها ، فمع ملاحظة الهيئة المركّبة من اللفظ والقرينة ظاهر ، ومع قطع النظر عن القرينة مأوّل ، وهو بعيد.

والتحقيق أن يقال : إنّ المجاز ما اقترن بالقرينة الدالّة على خلاف ما وضع له اللّفظ ، والمأوّل ما لم يقترن به. وعلى هذا فاليد في الآية ليست بمجاز ، بل هي ظاهرة في معناها الحقيقي عند عامّة العرب ، محمولة على خلاف ظاهرها عند أهل المعرفة ، والقرينة على هذا الحمل هو العقل. وعلى هذا يظهر الفرق بين قولنا : رأيت أسدا يرمي ، وبين : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ).

وعلى هذا فكلّ المجملات التي لها ظاهر وتأخّر بياناتها عن وقت الخطاب مؤوّلات ، وكذلك العمومات المخصّصة بما هو مفصول عنها ، وأطلق عليها المجاز توسّعا من أجل احتمال أن يكون القائل أراد منها حين التكلّم ما ظهر إرادته

__________________

(١) التوبة : ٥٨.

(٢) الأصناف الثمانية المذكورة في الآية رقم ٦٠ التي بعدها وهي : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.)

٢٢٩

أخيرا ، ونصب قرينة عليها حين التكلّم بها قد اختفت علينا. ولا يجوز ارتكاب التأويل إلّا مع تعذّر الحمل على الظّاهر ، بأن يتحقّق عليه دليل يترجّح على ظهور اللّفظ.

وكما أنّ الرّاجح متفاوت في مقدار الرّجحان ، فالمرجوح أيضا متفاوت ، فمنها قريب ومنها بعيد ومنها أبعد.

وأمّا ما لا يحتمله اللّفظ فلا يجوز تنزيله عليه. وتفاوت القرب والبعد إنّما يكون بسبب تفاوت أفهام النّاظرين وانتقالاتهم وتفاوت القرائن ، فربّما يكون اللفظ عند أحدهم ظاهرا وعند الآخر مؤوّلا وبالعكس.

وقد ذكر الأصوليّون لأقسام التأويل وقريبها وبعيدها في كتبهم الأصوليّة أمثلة لا فائدة في التعرّض لها والكلام عليها.

٢٣٠

الباب السادس

في الأدلّة الشرعيّة

وفيه مقاصد :

المقصد الأوّل :

في الإجماع

قانون

الإجماع لغة : العزم والاتّفاق (١).

وفي الاصطلاح : اتّفاق خاصّ يدلّ على حقيّة مورده.

واختلف العلماء في حدّه ، ولا فائدة في ذكر (٢) ما ذكروه وجرحها وتعديلها ، فلنقتصر على تعريف واحد يناسب مذهب العامّة ، ثمّ نذكر ما يناسب مذهب الخاصّة.

أمّا الأوّل : فهو أنّه اتّفاق المجتهدين من هذه الأمّة على أمر دينيّ في عصر من الأعصار (٣).

__________________

(١) يظهر منه انّه مشترك بينهما كما هو صريح «المعارج» ص ١٢٥ للمحقّق ، ولكن بلفظ والإعزام ، وفي نسخة والازماع وهو كتعبير الغزالي في «المستصفى» ٢ / ١٧١ ، هذا وما في المتن لغة مثله في «المحصول» ٣ / ٧٦٩.

(٢) ومقصوده جميع ما ذكروه من الحدود.

(٣) مثل ما ذكره ابن قدامة وهو تعريف الغزالي في «المستصفى» وهو : اتّفاق علماء ـ

٢٣١

فقيد الاجتهاد لعدم اعتبار وفاق العوام وخلافهم.

والتخصيص بهذه الأمّة لأنّهم لا يقولون بحجّيّة إجماع سائر الأمم ، وإن اقتضى بعض أدلّتهم ذلك (١).

وأمّا الشيعة فيلزمهم القول بالحجّيّة ، لأنّ حجّيّة الإجماع عندهم باعتبار دخول المعصوم عليه‌السلام ، وهو لا يختصّ عندهم بزمان دون زمان.

وأمّا ما ذكره العلّامة رحمه‌الله في أوّل نكاح «القواعد» وغيره : من أنّ عصمة الأمّة من خواصّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

فقد نقل المحقّق البهائي رحمه‌الله عن والده عن مشايخه رحمهم‌الله : أنّ مراده العصمة من المسخ والخسف ونحو ذلك ، فلا اعتراض عليه.

والتقييد بالأمر الدّيني لإخراج ما ليس منه مثل العقليّات المحضة (٣) والدّيني

__________________

ـ العصر من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمر من أمور الدين. ونقله صاحب «الاتحاف في شرح روضة الناظر» ٢ / ١١٥٤.

(١) لعلّ المراد استدلالهم بقضاء العادة على حقيقة اجتماع الخلق الكثير كما عن إمام الحرمين.

(٢) في «القواعد» : وخصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأشياء في النكاح وغيره وهي : ... وجعلت أمته معصومة ... وفي شرحه «جامع المقاصد» ٢ / ٦٤ ، وروي عنه عليه‌السلام أنّه قال : «لا تجتمع أمتي على ضلالة» وفي عدّ هذا من الخصائص نظر ، لأنّ الحديث غير معلوم الثبوت ، وأمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع دخول المعصوم فيهم لا تجتمع على ضلالة ، لكن باعتبار المعصوم فقط ولا دخل لغيره في ذلك ، وبدونه هم كسائر الأمم ، على أنّ الأمم الماضين مع أوصياء أنبيائهم كهذه الأمة مع المعصوم ، فلا اختصاص.

(٣) كالعلوم التي لا دخل للشرع فيها كالرياضيات والطبيعيات ، ومثل الإجماع على جوهرية الجسم أو عرضيّة الألوان والطعوم ، ـ والطعوم مفرده الطّعم وهو ما تدركه ـ

٢٣٢

أعمّ من الاعتقادي والفروعي.

وقيد عصر من الأعصار ، لعدم اشتراط اجتماع ما مضى وما يأتي ، وإلّا فلم يتحقّق بعد إجماع.

وأمّا الثاني (١) : فهو اتّفاق جماعة يكشف اتّفاقهم عن رأي المعصوم ، فقد يوافق ذلك مع ما حدّه العامة به (٢) ، وقد يتخلّف عنه ، فإنّهم يعتبرون اتّفاق جميع علماء الأمّة ، ومع اتّفاق الجميع يظهر موافقة المعصوم عليه‌السلام أيضا لعدم خلوّ العصر عن معصوم عندهم ، أو لأنّ مع اتّفاق جميعهم يحصل العلم بأنّه مأخوذ من رئيسهم.

ثمّ إنّ أصحابنا متّفقون على حجّيّة الإجماع (٣) ، ووقوعه موافقا لأكثر المخالفين ، ولكن منهم من أنكر إمكان حصوله ، ومنهم من أنكر إمكان العلم به ، ومنهم من أنكر حجّيّته والكلّ ضعيف ، وأدلّتهم سخيفة ، وسنشير إليها بعد ذلك.

فلنقدّم الكلام في مدرك حجّيّة الإجماع وكونه مناطا للاحتجاج ، ثمّ نتبعه بذكر الشّكوك والشّبهات في المقامات الثلاثة (٤).

__________________

ـ حاسة الذوق من طعام او شراب كالحلاوة والمرارة والحموضة ـ فإنّه ليس من الأدلّة الشرعيّة المعرّف في الكتب الأصولية. نعم الإجماع على أمر عقلي يجب أن يعتقد كالإجماع على حدوث العالم فهو من الأدلّة الشرعية ، فتدخل الاجماعات الثابتة في علم الكلام المتعلّقة بالاعتقاد في التعريف ، ولهذا قال المصنّف : والدّيني أعمّ من الاعتقادي والفروعي ، فحينئذ لا بدّ أن يكون المراد من المجتهد في الأصول الكلامية أيضا.

(١) وهو الذي يناسب مذهب الخاصة.

(٢) إذ إنّ حدّ العامة خاص مطلقا ، بينما حدّ الخاصة عام مطلقا.

(٣) وقول من لا يذهب إليه شاذ وإن كانت له حجج فهي سقيمة.

(٤) أي مقام إنكار إمكان حصول الاجماع ، وإمكان العلم به ، وإنكار حجّيته.

٢٣٣

ولمّا كان مدرك حجّيّته مختلفا بالنسبة الى مذاهب العامّة والخاصّة ، فلنذكر أوّلا ما اعتمد عليه الخاصّة ، ثمّ نذكر ما اعتمد عليه العامّة.

أمّا الخاصّة فاعتمدوا في ذلك على كشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، فلا حجّيّة عندهم في الإجماع من حيث إنّه إجماع ، بل لأنّه كاشف عن رأي رئيسهم المعصوم ، ولهم في بيان ذلك وجوه ثلاثة :

أوّلها : ما اشتهر بين قدمائهم (١) ، وهو أنّهم يقولون : إذا اجتمع علماء أمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على قول فهو قول الإمام المعصوم القائم بعده ، لأنّه عليه‌السلام من جملة الامّة وسيّدها ، فإذا ثبت اجتماع الامّة على حكم ، ثبت موافقته لهم.

فإن قيل : إن علم أنّه قال بمثل ما قال سائر الأمّة ، فلا معنى للاعتماد على اتّفاق سائرهم ، فالمعتمد هو قوله ، وإلّا فكيف يقول : إنّه موافق لهم.

قلنا (٢) : فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي ، وكلامنا إنّما هو في العلم الإجمالي ، وما علم قوله فيه بالتفصيل فالكلام فيه هو ما ذكرت ، وذلك (٣) من باب كلّيّة الكبرى في الشكل الأوّل ، فإنّ العلم بجسميّة الإنسان في ضمن قولنا : كلّ حيوان جسم ، إنّما هو بالإجمال لا بالتفصيل حتى يستلزم الدّور (٤) ، كما أورده

__________________

(١) ذكر العلّامة مثله في «المبادئ» ص ١٩٠ ، و «التهذيب» ص ٢٠٣. ومآل هذه الطريقة الى دخول نفس المعصوم عليهم‌السلام في المجمعين. ويجوز أن يكون مرادهم أعم من دخوله شخصا أو قولا.

(٢) وفي هذا القول كلام من صاحب «الفصول» ص ٢٤٣.

(٣) أي العلم الاجمالي من الاجماع نظير العلم الاجمالي الحاصل من كبرى الشكل الأوّل.

(٤) لعل المراد بالدّور تقدم الشيء على نفسه أو يراد الدّور الاصطلاحي ، ولمزيد المعرفة راجع الحاشية الآتية بعد هذه.

٢٣٤

بعض المتصوّفة (١) على أهل الاستدلال.

وبهذا (٢) ، يندفع الشبهة التي أوردوها من عدم إمكان العلم بمذاهب العلماء المنتشرين في شرق العالم وغربه مع عدم معرفتهم وعدم إمكان لقائهم ، فإنّ العلم الإجمالي ممّا يمكن حصوله بلا شكّ ولا ريب ، كما في ضروريات المذهب وسيجيء تمام الكلام.

وبالجملة ، مناط هذا التقرير في حجيّة الإجماع ، إنّي علمت بالعلم الإجمالي أنّ جميع أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله متّفقون على كذا ، وكلّ ما كان كذلك (٣) فهو حجّة ، لأنّ الإمام عليه‌السلام في جملتهم فهو حجّة. وهذا هو السرّ (٤) في اعتبار هؤلاء وجود شخص مجهول النّسب في جملة المجمعين ليجامع العلم الإجمالي ، ولو بدّلوا اعتبار وجود مجهول النّسب بعدم العلم بأجمعهم تفصيلا ، لكان أولى ، ولعلّهم أيضا يريدون بمجهول النسب ذلك.

وحاصله ، فرض إمكان صورة يمكن القول بكون الإمام فيهم إجمالا لا تفصيلا ، وعلى هذه الطريقة فإن حصل العلم باتّفاق الجميع إجمالا ، فيتمّ

__________________

(١) وهو أبو سعيد أبو الخير الخراساني ، فقد أورد على اهل الاستدلال مثل ابن سينا : بأنّ العلم بالنتيجة موقوف على العلم بكليّة الكبرى ، والعلم بها موقوف على العلم بالنتيجة.

والجواب : إنّ العلم التفصيلي بالنتيجة موقوف على العلم الاجمالي بكليّة الكبرى ، والعلم الاجمالي بكليّة الكبرى لا يتوقف على العلم التفصيلي بالنتيجة ، بل يتوقف على العلم بها أصلا ونقل أنّ للأوّل على الأخير مقالات منها : «تأثير الطبائع» ومنها «إمكان الكيميا» ونحو ذلك.

(٢) أي باعتبار العلم الاجمالي دون التفصيلي.

(٣) هذا قياس من الشكل الأوّل.

(٤) أي من لابديّته دخول شخص المعصوم في الاشخاص.

٢٣٥

المطلوب ، وكذا إن خرج منهم بعض من يعرف بشخصه ونسبه مع العلم الإجمالي باتّفاق الباقين ، ولكنّ الإنصاف أنّ على هذه الطريقة لا يمكن الاطّلاع على الإجماع في أمثال زماننا (١) إلّا على سبيل النّقل ، وإن قال بعضهم : إنّ المراد من موافقة الإمام عليه‌السلام موافقة قوله لقولهم لا دخول شخصه في أشخاصهم ، حتّى يستبعد ذلك في الإمام المنتظر عليه‌السلام.

وثانيها : ما اختاره الشيخ رحمه‌الله في «عدّته» (٢) بعد ما وافق القوم في الطريقة السّابقة ، والظاهر أنّ له موافقا من أصحابنا أيضا ممّن تقدّم عليه وممّن تأخّر في هذه الطريقة ، وهي أنّه اعتمد في ذلك على ما رواه أصحابنا من الأخبار المتواترة ، من أنّ الزّمان لا يخلو من حجّة (٣) ، كي إن زاد المؤمنون شيئا ردّهم وإن نقّصوا أتمّه لهم ، ولو لا ذلك لاختلط على النّاس أمورهم.

ويظهر ثمرة هذه الطريقة حيث لم يحصل العلم بالطريقة الأولى كما لو وجد في الإماميّة قول ولم يعرف له دليل ولم يعرف له مخالف أيضا ، ولكن لم يعرف مع ذلك أيضا كونه قول الإمام ومختاره.

فقال حينئذ : إنّا نعلم انّه قول الإمام عليه‌السلام ومختاره ، لأنّه لو لم يكن كذا لوجب عليه أن يظهر القول بخلاف ما أجمعوا عليه لو كان باطلا ، فلمّا لم يظهر ظهر أنّه حقّ.

ويظهر ذلك منه في مواضع وبعض عباراته في «العدّة» (٤) هو هذا : إذا ظهر قول

__________________

(١) ربما لعدم الامكان من رؤية صاحب العصر والزمان عليه‌السلام.

(٢) راجعه ٢ / ٦٠٣

(٣) كما في «أصول الكافي» كتاب الحجة الباب ٥٨ ، ح ١ ـ والباب ٦١ ، ح ٤ وأحاديث كثيرة في الباب ٦٢ و ٦٣ وغيرهما هناك في كتاب الحجة.

(٤) ٢ / ٦٣١

٢٣٦

بين الطائفة ولم يعرف له مخالف ولم نجد ما يدلّ على صحّة ذلك القول ولا على فساده ، وجب القطع على صحّة ذلك القول وأنّه موافق لقول المعصوم عليه‌السلام ، لأنّه لو كان قول المعصوم مخالفا له لوجب أن يظهره ، وإلّا كان يقبح التكليف الذي ذلك القول لطف فيه ، وقد علمنا خلاف ذلك.

وقال قبل ذلك في مقام آخر (١) وهو ، فيما لو اختلف الإماميّة على قولين لا يجري فيهما التخيير كالوجوب والحرمة مثلا ، وكان أحدهما قول الإمام عليه‌السلام ولم يشاركه أحد من العلماء فيه ، وكان الجميع متّفقين على الباطل ، فقال : ومتى اتّفق ذلك (٢) وكان على القول الذي انفرد به الإمام دليل من كتاب أو سنّة مقطوع بها ، لم يجب عليه الظّهور والدّلالة على ذلك ، لأنّ ما هو موجود من الكتاب والسنّة كاف في باب إزاحة التكليف ، ومتى لم يكن على القول الذي انفرد به دليل على ما قلناه يعني على النحو الذي فرضه من الكتاب أو السنّة المقطوع بها وجب عليه الظهور وإظهار الحقّ وإعلام بعض ثقاته حتّى يؤدّي الحقّ إلى الأمّة ، بشرط أن يكون معه معجزة تدلّ على صدقه ، وإلّا لم يحسن التكليف.

وقد أورد عليه بعض المحقّقين (٣) : بأنّه يكفي في إلقاء الخلاف بينهم بأن يظهر القول وإن لم يعرفه العلماء أنّه إمام ، بل يكفي قول الفقيه المعلوم النّسب في ذلك أيضا ، بل يكفي وجود رواية بين روايات أصحابنا دالّة على خلاف ما أجمعوا.

وفيه : نظر (٤) ظاهر ، إذ مناط كلام الشيخ ليس أنّ الإجماع على الخطأ لمّا كان

__________________

(١) وفي «العدة» ٢ / ٦٣٠

(٢) أي اختلاف الإماميّة على قولين ... الخ.

(٣) وهو المحقق المعروف ب : آقا حسين الخوانساري كما في «الحاشية».

(٤) وفي قول المحقق المذكور نظر.

٢٣٧

باطلا وجب على الإمام رفع ذلك ، وهذا يتمّ بنقض الإجماع ولو كان بوجود مخالف ، بل مناط كلامه أنّ لطفه تعالى الدّاعي إلى نصب الإمام أوجب ردع الامّة عن الباطل ، وذلك لا يتمّ إلّا بما يوجب ردعهم ، فلمّا لم يحصل ذلك علم أنّه راض على ما اجتمعوا عليه.

والتحقيق في جوابه : منع ذلك ، وإنّما الواجب على الله نصبه عليه‌السلام ، والواجب عليه عليه‌السلام الإبلاغ والردع عن الباطل إن لم يمنعه مانع ولم يثبت حكمة في غيبته واستتاره عليه‌السلام لا مطلقا.

وبهذا ردّ هذا القول السيّد المرتضى رحمه‌الله (١) وقال : ولا يجب عليه الظهور لأنّه إذا كنّا نحن السّبب في استتاره ، فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرّفه وبما معه من الأحكام ، يكون قد أوتينا من قبل نفوسنا فيه ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدّى إلينا الحقّ الذي عنده.

وحاصل هذا الكلام ؛ هو الذي ذكره المحقّق الطوسي رحمه‌الله في «التجريد» (٢) حيث قال : وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا.

هذا مع أنّا نرى أنّ خلاف مقتضى اللّطف والتبليغ موجودا إلى غير النّهاية ، والأقوال المختلفة في غاية الكثرة مع تعطّل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وإجراء الأحكام والحدود.

وقد يجاب عن وجود الاختلاف في الأقوال : بأنّهم أوقعوا الخلاف وبيّنوا لنا علاجه ، وهو وإن كان كذلك في الغالب ، لكنّ بعض الخلافات الذي لا يمكن ذلك

__________________

(١) فبما ذكرناه من التحقيق من وجوب الابلاغ ردّ السيّد المرتضى قول الشيخ.

(٢) في المقصد الخامس الإمامة ـ المسألة الاولى ـ.

٢٣٨

فيه لا يتمّ فيه ما ذكر ، بل لا يتمّ في الغالب أيضا كما سيجيء.

وقد ينتصر لطريقة الشيخ ردّا على الجواب الذي ذكرنا (١) من أنّ عدم إظهار الإمام المخالفة لعلّه كان لأجل تقيّة أو مصلحة بأنّ هذا هو الذي يذكره العامّة في الردّ على الشّيعة من أنّ الحكمة لعلّها اقتضت خلوّ الزّمان عن الحجّة أيضا ، وبأنّ (٢) ذلك (٣) ينافي كون تقرير المعصوم عليه‌السلام حجّة ، خصوصا تقرير كلّ الشيعة على أمر ، مع أنّ الحكمة إذا اقتضت إبقاءهم على ذلك ، فيكون راضيا بما اتّفقوا عليه حتّى تتغيّر المصلحة فيثبت المطلوب ، مع أنّه يمكنه ردعهم (٤) بأن يظهر بعنوان المجهول النّسب ويلقي الخلاف بينهم ويبيّن لهم. ولا يكفي في ذلك (٥) وجود رواية أو مجتهد معروف مخالف كما توهّم ، لأنّه لا يوجب ردعهم كما هو المعهود من طريقتهم من طرحهم الرّواية الشاذّة والقول النادر.

وأمّا عدم ردعهم في المسائل الخلافية (٦) وعدم رفع الخلاف من بينهم ، فلأنّه رضي باجتهاد المجتهدين وتقليد المقلّدين ، مع أنّهم أوقعوا الخلاف بينهم ، فيظهر منه في الخلافيّات (٧) أنّه راض بأحد طرفي النقيض لمجتهد ، وبآخر لمجتهد آخر.

__________________

(١) وهو الجواب الوسط.

(٢) عطف على قوله : بأنّ هذا.

(٣) اي عدم صحة طريقة الشيخ.

(٤) ردع الجميع.

(٥) هذا ردّ على المحقق الخوانساري فيما ذكره في الواجب الأوّل.

(٦) هنا جواب على ما ذكره المجيب المحقق حيث قال : مع أنّا نرى خلاف مقتضى اللّطف ... الخ.

(٧) المعمولة بين الأمّة لا المتروكة كما في الحاشية.

٢٣٩

وأمّا فيما اجتمعوا عليه فليس إلّا رضاه بشيء واحد (١) ، فلا يجوز مخالفته.

أقول : فرق بيّن بين الحكمة الباعثة على نصب الإمام وعلى إنفاذه جميع الأحكام ، سيّما إذا تسبّب لعدمه المكلّفون ، فلا يرد نقض العامّة ، وليس هنا مقام بسط الكلام ، وهذا واضح سيّما في مسائل الفروع.

وأمّا كون تقرير المعصوم عليه‌السلام حجّة فهو إنّما يسلّم إذا علم اطّلاعه عليه وتمكّنه من المنع لو كان باطلا ، ولم يمنع ، وهو فيما نحن فيه ممنوع.

وأمّا رضاه على بقائهم على معتقدهم فهو لا ينافي جواز مخالفتهم بدليل دلّ المتأخّر منهم على المخالفة ، إذ ذلك أيضا من باب الرّضا باجتهادهم في حال الاضطرار كما في الخلافيّات ، إذ ليس في كلّ قول من الأقوال المتخالفة حديث أو آية ، بل ربّما اعتمد بعضهم على دليل ضعيف من قياس ونحوه خطأ وغفلة ، ومع ذلك نقول بأنّ الإمام عليه‌السلام راض باجتهاده وبتقليد مقلّده له ، فلعلّ اجتماع هؤلاء أيضا يكون من هذا القبيل ، ولا مانع من مخالفتهم إذا دلّ عليه دليل لمن بعدهم إلّا مخالفتهم للشّهرة.

فهذا الكلام يفيد عدم جواز مخالفة الشّهرة ، وأنّه لا يمكن أن يثبت دليل يترجّح على الشّهرة ، وهو ممنوع لم يقم عليه دليل ولا يفيد إثبات الإجماع كما هو مرادك. والعلم برضا الإمام عليه‌السلام بذلك بالخصوص من حيث هو ، لا من حيث إنّه أيضا من الاجتهادات المعفوّة.

وأمّا ردعهم بعنوان مجهول النّسب ، فمع تجويز رضا الإمام عليه‌السلام باجتهاد المجتهد وعمل المقلّد به كما ذكرت ، فلا دليل على وجوب الرّدع عن هذا الاجتهاد

__________________

(١) وهذا الشيء إمّا القول الآخر الذي انفرد به فلا بد أن يظهر ويظهر خلاف ما اجتمعوا عليه او القول المجمع عليه وهو المطلوب.

٢٤٠