القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

وفيه : أنّ عدم جواز إخراج السّبب إنّما هو لأجل أنّه بمنزلة المنصوص عليه المقطوع به ، وبأنّه لو لم يخصّ بالسّبب لما كان لنقل السّبب فائدة ، مع أنّهم بالغوا في ضبطه وتدوينه ، وليس ذلك إلّا لأجل الاختصاص به.

وفيه : أنّ الفوائد كثيرة :

منها : معرفة شأن ورود الحكم.

ومنها : معرفة كون هذا الفرد بمنزلة المقطوع به لئلّا يخرج بالاجتهاد.

ومنها : معرفة السّير والقصص ، وغير ذلك من الفوائد.

وبأنّ من حلف : والله لا تغذّيت ، بعد قول القائل : تغذّ عندي ، لا يحنث بكلّ تغذّ ، بل إنّما يحنث بالتغذّي عنده فقط ، فلو لم يكن السّبب مخصّصا لحصل الحنث بكلّ تغذّ ، وهو باطل بالاتّفاق.

وفيه : أنّ العرف دلّ على هذا التخصيص كما أشرنا إليه سابقا.

١٤١

قانون

اختلفوا في جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة بعد اتّفاقهم على جوازه (١) في مفهوم الموافقة ، والأكثر على الجواز (٢).

حجّة الأكثرين : أنّه دليل شرعيّ عارض بمثله ، وفي العمل به جمع بين الدليلين ، فيجب.

واحتجّ الخصم : بأنّ الخاصّ إنّما يقدّم على العامّ (٣) بكون دلالته على ما تحته أقوى من دلالة العامّ على ذلك ، والمفهوم أضعف دلالة من المنطوق ، فلا يجوز حمله عليه.

وقد أجيب (٤) عنه مرّة : بأنّ الجمع بين الدليلين أولى من إبطال أحدهما ، وإن كان أضعف.

وأخرى (٥) : بمنع كون العامّ أقوى ، بل لا يقصر المفهوم الخاصّ غالبا عن العامّ

__________________

(١) أي على جواز تخصيص العام بمفهوم الموافقة وهناك من مذهب الى لا ريب فيه.

وهذا كتخصيص عموم قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) (النساء : ٢٤) بمفهوم قوله : والذي تزوّج المرأة في عدتها وهو يعلم لم تحلّ له أبدا. والمراد بمفهوم الموافقة في الخبر هو عدم حليّة ذات البعل أبدا لمن تزوجها وهو يعلم بحالها.

(٢) وهو المختار عند صاحب «الفصول» : ص ٢١٢ ، بل عند كثيرين ، ومذهب صاحب «المعالم» : ص ٣٠٤ على الأقوى فيه.

(٣) والمقصود من التقديم أي حمل العام عليه.

(٤) المجيب هو صاحب «المعالم» : ص ٣٠٤.

(٥) وأجاب صاحب «المعالم» : ص ٣٠٤ أيضا على ما احتجّ به المخالف.

١٤٢

المنطوق ، سيّما مع شيوع تخصيص العمومات.

أقول : وفي أوضاع الحجّتين والجوابين مع ملاحظة ما قرّروه في باب التعادل والتّرجيح تشويش واضطراب. وذلك لأنّهم ذكروا في باب التعادل ، أنّ تعادل الأمارتين (١) وتساويهما من جميع الوجوه ، يوجب التخيير أو التساقط ، والرّجوع الى الأصل أو التوقّف على اختلاف الآراء ، وأنّ ذلك إنّما هو بعد فقد المرجّحات وعدم إمكان الجمع بين الدليلين. وكأنّه لا خلاف بين العلماء في وجوب الجمع بين الدّليلين مع الإمكان ، وأنّ التخيير وغيره من الأقوال إنّما هو بعد فرض عدم الإمكان. وممّن صرّح بكون ذلك إجماع العلماء ، الفاضل ابن الجمهور (٢) في «عوالي اللّئالئ» ، حيث قال بعد ذكر مقبولة عمر بن

__________________

(١) ومرادهم تعادلهما في المرجّحات السنديّة التي نص عليها في الأخبار العلاجية.

والكلام فيما نحن فيه من جهة المرجّحات الدلالية وعدمها ، فما نحن فيه في مقام الصغرى ، ومسألة التعادل في مقام الكبرى.

(٢) قد يطلق ابن جمهور على ابي الحسن على بن محمد بن جمهور صاحب كتاب الواحدة المعروف وأما المقصود هنا هو الشيخ الشمس الدين محمد بن عليّ بن إبراهيم بن الحسن بن أبي جمهور الاحسائي ويطلق عليه ابن جمهور. في «رياض العلماء» يطلق في الأغلب على شمس الدين بن علي بن ابراهيم بن أبي جمهور كذا بخطه على ظهر بعض مؤلّفاته.

وهو فقيه متكلم محدّث معاصر للكركي وتلميذ لعلي بن هلال الجزائري ذو فضائل جمّة لكن التصرّف الغالي المفرط قد أبطل حقه كما قال من ترجم له. وقد ذكره الاسترآبادي في «الفوائد المدنية» والمجلسي في اجازات «البحار» والحر العاملي في موضعين من «أمل الآمل». له مؤلّفات منها : كتاب «غوالي اللئالي» ـ و «نثر اللّئالى» ـ و «المجلي في مرآة المنجي» في العرفان والاخلاق ـ و «معين الفكر» في شرح الباب الحادي عشر.

١٤٣

حنظلة (١) الواردة في ذكر المرجّحات : انّ كلّ حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك أوّلا البحث عن معناهما وكيفيّات دلالة ألفاظهما ، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدّلالات ، فاحرص عليه واجتهد في تحصيله ، فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء ، فإذا لم

__________________

(١) محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما ـ إلى أن قال : ـ فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال : فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل [ليس يتفاضل ـ كما في رواية الفقيه ـ] واحد منهما على صاحبه ، قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ـ إلى أن قال : ـ فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة ، قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهما بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال : ما خالف العامّة ففيه الرّشاد. فقلت : جلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر ، قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات. راجع «الوسائل» ج ٧ ص ١٠٦ باب ٩ حديث ١ وباب ١٢ حديث ٩.

١٤٤

تتمكّن من ذلك أو لم يظهر لك وجهه فارجع الى العمل بهذا الحديث (١). انتهى.

فعلى هذا ، إذا تعارض دليلان من الأدلّة مثل خبرين جامعين لشرائط القبول أو ظاهر آيتين أو نحو ذلك ، فلا بدّ أوّلا من ملاحظة الجمع والعمل بهما إمّا بالتخصيص أو بالتقييد إذا كان بينهما عموم وخصوص أو إطلاق وتقييد ، أو بحمل أحدهما على بعض الأفراد وحمل الأخير على بعض آخر إذا كان بينهما تناقض أو نحو ذلك ، ومع العجز عن ذلك لمانع خارجي ، مثل التناقض في قضيّة شخصيّة أو إجماع على عدمه ، فيرجع الى المرجّحات ، ومع التساوي ، فالأقوال المذكورة (٢).

فقولهم : بالجمع مع عدم ملاحظة المرجّحات تمسّكا بكونه جمعا بين الدليلين ، ينافي تعليل تقديم الخاصّ على العامّ بكونه أقوى ، كما في حجّة الخصم.

وكذلك قول المجيب الأوّل وغيره بالجمع بين الدليلين وإن كان أحدهما أضعف ، ينافي رجوعهم الى المرجّحات واعتبار القوّة والضعف في المقامات ، مثل تخصيص القرآن بخبر الواحد وغيره من مقامات الجمع ، فإنّهم يعتبرون التّرجيحات أيضا.

فالمناص (٣) عن هذا الإشكال (٤) وتحقيق المقام ومحصّل ما ذكروه في قاعدة التعادل والترجيح مع تحرير منّي وتصحيح على ما اقتضاه الحال والمقام :

__________________

(١) «عوالي اللئالي» : ٤ / ١٣٦.

(٢) أيّ من التخيير وغيره من الأقوال على اختلاف الآراء على ما عرفت.

(٣) أي المنجى أو الملجأ والمفرّ قال تعالى : (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ.)

(٤) ولقد أشار الى أكثر هذه التحقيقات الفاضل البهبهاني في الفائدة الثالثة والعشرين من «فوائده» : ص ٢٣٣ ، وأشار الى الى أنّه ألّف رسالة في قواعد الجمع منفردة ، وأشار إليه في حواشي «المعالم» أيضا.

١٤٥

إنّ مرادهم في مقام لزوم الجمع مع الإمكان من عدم الرّجوع الى المرجّحات الخارجيّة ، إنّما هو بالنسبة (١) الى الهجر والترك والإسقاط ، لا بالنسبة الى إرجاع أحدهما الى الآخر ، فإنّ إرجاع أحد الدّليلين الى الآخر أو إرجاعهما الى ثالث ، يقتضي إخراج اللّفظ عن الحقيقة الى المجاز ، إذ العمل بالمتخالفين مع بقائهما على حقيقتهما ممّا لا يمكن بالضّرورة.

فكما يمكن إخراج العامّ عن حقيقة العموم ، يمكن إخراج الخاص عن حقيقة الخصوص أيضا ، فلا بدّ في توجيه التأويل الى أحدهما دون الآخر من مرجّح ، فلا ينافي عدم الرّجوع الى المرجّحات فيما أمكن فيه الجمع من جهة القبول مطلقا (٢) والإسقاط مطلقا ، وجوب الرّجوع اليها في إرجاع التأويل الى أحدهما دون الآخر (٣).

ومرادهم من العمل بالدليلين ، العمل بهما على ما هو مقتضى مدلولهما إمّا بالحقيقة أو بالمجاز الذي يصحّ في محاورات أهل اللّسان ، وهو ما وجد فيه العلاقة المصحّحة المقبولة عند أهل البيان ، والقرينة الصّارفة عن الحقيقة والمعيّنة لذلك المعنى المجازي كذلك ، بأن تكون موجودة في اللّفظ (٤) أو مقارنة معها ، أو كاشفة عن كون اللّفظ مقترنة حين التكلّم بقرينة تدلّ على هذا المعنى ، ولا يكفي في

__________________

(١) أي عدم الرّجوع انّما هو لو أوجب الرّجوع الى المرجّحات ترك أحد الدليلين رأسا.

(٢) من غير النظر إلى كون أحدهما أقوى والآخر أضعف ، بل يعمل عليهما بمقتضى مدلولهما حقيقة أو مجازا.

(٣) أي في أحد المدلولين لا في كليهما ، سيّما لما عرفت من العمل بالدليلين مع بقائهما على حقيقتهما ممّا لا يمكن هذا ما قال رحمه‌الله في الدرس كما افاد في الحاشية.

(٤) أي لفظ العامّ.

١٤٦

ذلك مجرّد احتمال اللّفظ لذلك (١).

وكذلك معنى إرجاع أحدهما الى الآخر ، إبقاء أحدهما على حقيقته ، وإرجاع الآخر إليه كذلك (٢).

ومعنى إرجاعهما الى ثالث ، إثبات القرينة للتجوّز في كليهما ، بحيث يحصل من التجوّز فيهما معنى ثالث.

مثال الأوّل (٣) : العامّ والخاصّ المطلقان ، فإنّ العمل بالخاصّ يوجب العمل بالدليلين في الجملة ، أمّا في الخاصّ فبحقيقته ، وأمّا في العامّ فبمجازه المتعارف وهو التخصيص. ومجرّد وقوع العامّ والخاصّ المتنافي الظاهر في كلام متكلّم واحد أو متكلّمين كانا في حكم واحد ، قرينة على إرادة التخصيص ، سيّما وفيه إشارات من كلام الشّارع أيضا بأنّ في كلامه عامّا وخاصّا ولا بدّ من معرفتهما.

ومثال الثاني (٤) : إرجاع عامّين متنافيين الى خاصّين ، وذلك يحصل بين المتناقضين مثل : أنّه ورد في الأخبار أنّ الأمّ أحقّ بحضانة الولد الى سبع سنين ، وورد أيضا أنّ الاب أحقّ بحضانته الى سبع سنين ، فالجمع بينهما بأنّ المراد بالولد في الأوّل الأنثى ، وفي الثاني الذّكر عمل بالدليلين ، وإخراج لكليهما عن حقيقتهما بالتخصيص ، لكنّ الخاصّ هنا في الأخبار غير ظاهر ، فيشكل الاعتماد بهذا الجمع لإخراج اللّفظ عن الحقيقة ، وعدم تنزيله على مجاز متعارف عند أهل اللّسان ، لعدم القرينة عليه ، إلّا أن يجعل الشّهرة بين الأصحاب قرينة على أنّهما لعلّهما كانتا مقترنتين بقرينة مفهمة لذلك.

__________________

(١) التجوّز.

(٢) أي على ما مرّ بالمجاز.

(٣) وهو ما مرّ من معنى إرجاع أحدهما إلى الآخر.

(٤) وهو ما مرّ من معنى إرجاعهما إلى ثالث.

١٤٧

وأمّا الذي وجد فيه القرينة من الأخبار ، فأمره واضح ، مثل : الأخبار الواردة في أنّ العاري يصلّي قائما ويومي ، والأخبار الواردة في أنّه يصلّي قاعدا ، فالمشهور أنّ الأخبار الأوّلة محمولة على الأمن من المطّلع ، والثاني على العدم ، وبهذا التفصيل رواية صحيحة كالمخصّص لكليهما وهي قرينة لذلك الحمل.

وأمّا مطلق الحمل كيفما اتّفق كما يذهب إليه بعض من أفرط في التأويل (١) ، فلا دليل عليه ، مثل : إنّ بعضهم إذا رأى خبرا ورد بلفظ الأمر وآخر بلفظ النّهي في ذلك بعينه ، فيجعل الأمر بمعنى الإذن والنهي بمعنى مطلق المرجوحيّة ويثبت بذلك الكراهة ، وهو خارج عن مدلول كليهما ، فإذا لم يكن قرينة على ذلك حاليّة أو مقاليّة ، فلا يجوز ذلك بمجرّد انّه جمع بين الدليلين ، ولا يكون عملا بكلام الشّارع لا بحقيقته ولا مجازه ، أمّا الحقيقة فظاهر ، وأمّا المجاز ، فلأنّ المجاز هو المعنى الذي أفهمه القرينة ، وهو مسبوق بوجود القرينة والعلم بها ، ومجرّد احتمال وجود قرينة توجب فهم المخاطبين المشافهين ، كذلك (٢) لا يجوز الحكم بإرادة ذلك ، ولا يورث الظنّ بإرادة ذلك. فهذا ممّا لا يمكن فيه الجمع والعمل بالدليلين ولا بدّ من التخيير بعد اليأس عن الترجيح ، مع أنّ هذا ليس عملا بالدّليل ، بل هو ذكر احتمال في معنى الدّليل.

فالتحقيق في جواب حجّة الخصم منع كون المفهوم أضعف من العامّ المنطوق مطلقا ، سيّما مع غلبة تخصيص العمومات وشيوعه ، ومع التساوي (٣) فيحمل العامّ

__________________

(١) راجع الفائدة الثالثة والعشرين من «الفوائد» : ص ٢٣٤ للوحيد البهبهاني فإنّ فيها فوائد في مقام التأويل.

(٢) أي بالتجوّز.

(٣) أي إذا ثبت التساوي لا أقلّ فهو في محل دفع ما يقال من أنّ مجرّد عدم الأضعفيّة لا ينفع إلّا في مقام ذكر التفصيل.

١٤٨

على الخاصّ لا لمحض الجمع بين الدّليلين حتّى يرد أنّه لا دليل عليه كما بيّنا ، بل لأنّ اجتماعهما مع تساويهما ، قرينة لإرادة ذلك في العرف ، سيّما مع غلبة التّخصيص وشيوعه.

وأمّا ما يقال من الرّجوع الى مراتب الظنّ (١) باعتبار الموارد ، فحيثما حصل في المفهوم ظنّ أقوى من العامّ فيخصّص به ، وإلّا فلا ، فهو خروج عن طريقة أرباب الفنّ ورجوع الى القرائن ، ومحطّ نظر الأصولي هو ملاحظة المقام خاليا عن القرائن ، وإلّا فمع الالتفات الى المرجّحات الخارجة ، فيعتبر ذلك في إرجاع التأويل الى أحد الدليلين دون الآخر مع ثبوتهما ، أو إليهما معا مع التساوي والإمكان أو التخيير بينهما أيضا.

فنقول : مع كون الخاصّ أقوى ، فلا إشكال في ترجيح الخاصّ وإرجاع العامّ إليه وإخراجه عن حقيقته.

وأمّا مع كون العامّ أقوى ، فلا يجوز إذا كان العامّ أقوى من جهة الاعتضاد ، أو كان المفهوم أضعف من جهة خصوص المقام.

وأمّا مع التساوي فالمرجّح للتخصيص هو شيوع التّخصيص ، وكونه خيرا من سائر المجازات لأجل ما ذكروه في تعارض الأحوال ، من أنّ الغفلة عنه (٢) لا يوجب ترك المراد رأسا ، بخلاف سائر المجازات ، فليس الاعتماد في التخصيص بمحض أنّه جمع بين الدّليلين كما ظنّه بعض المحقّقين (٣) ، لإمكان ذلك

__________________

(١) رد على سلطان المحققين حيث قال في حاشية «المعالم» ص ٣٠٠ : الأظهر التفصيل بمراتب الظنّ الحاصل بالمفهوم ... الخ.

(٢) عن الخاص.

(٣) وهو سلطان العلماء راجع حاشيته على «المعالم» : ص ٣٠٠.

١٤٩

بإبقاء العامّ على حقيقته وتأويل الخاصّ بمجاز آخر ، فالاعتماد هنا أيضا على المرجّح ، فمع وجود المرجّح في أحد الطرفين وموافقته لمحاورات أهل اللّسان من مراعاة شرائط المجاز ، لا يجوز التجوّز في الطرف الآخر ، فرجع مآل الكلام جملة الى ما يترجّح في النظر ويحصل به الظنّ من الأمارتين بعد ملاحظة قواعد اللّفظ وفهم المعاني. فهذا أيضا يرجع الى ملاحظة التراجيح وبعد العجز عنه يرجع الى التخيير أو التوقّف. فالتخصيص والتقييد وأمثالهما أيضا في الحقيقة يرجع الى الإثبات والإسقاط ، إلّا أنّ في ذلك إثبات البعض ، وإسقاط البعض ، وفيما لا يمكن الجمع إسقاط الكلّ وإثبات الكلّ ، مع أنّ القول بأنّ التخصيص فيما نحن فيه عمل بالدليلين مشكل ، بل هو إلقاء أحدهما وإعمال الآخر. فإنّ التخالف إنّما هو في بعض مدلول العامّ ونفس الخاصّ ، ولا ريب أنّ مع العمل بالخاصّ يلغى ذلك البعض (١) ، وإن لوحظ مجموع مدلول اللّفظ في الجانبين ، فلا يخفى أنّ المفهوم أيضا ليس تمام مدلول اللّفظ ، بل بعضه (٢) كما أشار إليه بعض الأعلام ، فلا مناص عن ملاحظة المرجّحات في الكلّ ، أعني في العمل بالدليلين معا (٣) في الجملة ، وفي طرح أحدهما (٤) ، ويشهد به إطلاق الأخبار (٥) الواردة في علاج الأخبار المختلفة ، وسيجيء تمام الكلام في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.

وفذلكة المقام في ضابطة الجمع والترجيح أنّ التخالف الحاصل بين الدليلين

__________________

(١) وهو أحد طرفي المتناقضين.

(٢) والبعض الآخر هو المنطوق.

(٣) فيما يمكن الجمع.

(٤) فيما لم يكن الجمع.

(٥) من دون تقييد بغير عموم الخصوص فاطلاقها يشمل الترجيح.

١٥٠

سبب لأن يكون العمل بأحدهما تركا لظاهر الآخر وحقيقته ، أو تركا لظاهرهما معا ، ومع ترك الظاهر إمّا يحصل قرينة على إرادة خلاف الظاهر من نفس المتعارضين ، أو الخارج ، فبذلك يندرج في الدّلالة المجازيّة المتعارفة ويكون هذا أيضا مع القرينة من جملة الظواهر ، أو لا تحصل (١) ومع ذلك (٢) فإمّا يمكن تأويل هناك بمعنى احتمال ينزل عليه المخالف ولو لم يكن ظاهرا ، أو لا يمكن.

فحينئذ نقول : إن أراد القوم من قولهم : الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، أنّه لا يجوز ردّ كلام الشارع ولو بحمله على محتمل صحيح يناسب سائر كلماته وإن كان بعيدا ، ولم نجعله شرعيّا دفعا للزوم التناقض كما فعله الشيخ رحمه‌الله في «التهذيب» لغرض دعاه الى ذلك ، كما ذكره في أوّل كتابه (٣) فلا غائلة فيه ، إلا أنّه لا يدلّ دليل

__________________

(١) أي لا تحصل قرينة مفهمة لارادة خلاف الظاهر مطلقا ، يعني لا من نفس المتعارضين ولا من الخارج.

(٢) أي ومع عدم حصول القرينة على الوجه المذكور.

(٣) ومن جملة ما قاله : وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتّفق خبر إلّا وبإزائه ما يضاده ، ولا يسلم حديث إلّا وفي مقابلته ما ينافيه حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا وتطرّقوا بذلك الى إبطال معتقدنا ... حتى دخل على جماعة ـ ممّن ليس لهم قوّة في العلم ولا بصيرة بوجوه النّظر ومعاني الالفاظ ـ شبهة ، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لمّا اشتبه عليه الوجه في ذلك وعجز عن حلّ الشبهة فيه. سمعت شيخنا أبا عبد الله ـ أيده الله ـ يذكر أنّ أبا الحسين الهاروني [أبا الحسن الهرويّ] العلوي كان يعتقد الحق ويدين بالإمامة فرجع عنها لما التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب ودان بغيره لما لم يتبيّن وجوه المعاني فيها. فالاشتغال بشرح كتاب يحتوي على تأويل الأخبار المختلفة والاحاديث المتنافية من أعظم المهمّات في الدين ومن أقرب القربات الى الله تعالى لما فيه من كثرة النفع للمبتدى والريّض في العلم.

١٥١

على وجوبه ، مع أنّ الظاهر أنّ لفظ الأولى في كلامهم بمعنى الواجب ، كما في قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.)(١) وإن أرادوا أنّه يجب تنزيل المتخالفين على احتمالين بحيث لا يوجب طرحهما ، ويكون ذلك مستندا شرعيّا ودليلا في جميع الموارد ، حتى في معنى مجازي لم يظهر له قرينة في نفس المتعارضين ولا في الخارج ، بل لمحض احتمال عقليّ لرفع التناقض ، فلا دليل على جواز ذلك فضلا عن وجوبه وجعله مستندا شرعيّا ، فإنّه يؤول الى الخروج عن كلام الشّارع رأسا ، وفي العمل بأحدهما ، عمل بكلامه في الجملة ، فلا بدّ أن يكون مراد القوم من الأولويّة إمّا مطلق الرّجحان ، أو الوجوب فيما يمكن جمع يوافق طريقة متفاهم أهل اللّسان كالتخصيص وغيره ، ويكون غيره داخلا في غير الممكن ، فالمراد من الإمكان ما يعمّ الإمكان بملاحظة العرف.

ثمّ إنّ مجرّد ظهور القرينة من نفس المتعارضين أو غيرهما على مجازيّة أحدهما أو كليهما ، لا يوجب الذّهاب الى الاعتماد عليها وإعمالها ، إلّا إذا لم يوجب ترجيح المرجوح ، فإنّ حمل اللّفظ على المجاز في الحقيقة خروج عن مقتضى الدليل لدليل آخر ، وهو لا يصحّ إلّا إذا تساويا أو ترجّح القرينة على مقتضى حقيقة اللّفظ ، فلا بدّ من ملاحظة التّرجيحات في مقام الإرجاع أيضا كما تراهم يعتبرون ذلك في القانون الآتي وغيره أيضا.

ويظهر بذلك ضعف ما ذكره العضدي وغيره من لزوم الجمع بين الدليلين ، وإن كان بإرجاع الأقوى الى الأضعف.

__________________

(١) الانفال : ٧٥.

١٥٢

وأمّا ظاهر كلام ابن الجمهور ، فنمنع ما ادّعاه من الإجماع بظاهره (١) ، إذ عندنا ما هو أقوى في العمل من ذلك الإجماع المنقول ، من دلالة العقل على قبح ترجيح المرجوح ، مع أنّ الرّواية صريحة في إرادة المتناقضين اللّذين لا يمكن الجمع بينهما ، وسؤال الرّاوي فيهما إنّما هو عنهما ، والسبب ليس مخصّصا للجواب ، ولا يمنع الرّجوع في غير المتناقضين أيضا الى التّرجيحات.

__________________

(١) كما عرفت سابقا في أوّل المبحث.

١٥٣

قانون

لا ريب في جواز تخصيص الكتاب بالكتاب (١) ، ولا بالإجماع (٢) ، ولا بالخبر المتواتر (٣) ، ووجهها ظاهر (٤).

__________________

(١) وصرّح بجوازه العلّامة في «التهذيب» ص ١٤٥ ، و «المبادئ» ص ١٤١ ، والمحقّق في المعارج» ص ٩٥ ، وفي الحاشية : الظاهر أنّ هذا ليس باتفاقي بينهم لوقوع الخلاف فيه ، أي مع أنّ ظاهر كلامه كونه اتفاقيا سيّما بملاحظة اقترانه مع ما وقع الاتفاق فيه ، وهو جواز تخصيص الكتاب بالاجماع وبالخبر المتواتر. قال صاحب «الأنيس» في بحث تخصيص الكتاب بالكتاب : والحق جوازه مطلقا ومنعه بعض مطلقا ، وفصّل جمع من العامّة بأنّه إن علم التاريخ ، فإن كان الخاص متأخّرا خصّص العام ، وإن كان متقدما فلا ، بل كان العام ناسخا له. وإن جهل التاريخ فتساقطا ، فيتوقف في مورد الخاص ويطلب فيه دليل. وإن علم المقارنة فبعضهم على أنّ الحكم فيه كالحكم عند العلم بتأخّر الخاص ، وبعضهم على انّ الحكم فيه كالحكم عند جهل التاريخ ، ومثله قال العضدي أيضا ، ولكن باختلاف يسير بزيادة ونقصان. ونسب القول بالتفصيل الى أبي حنيفة والقاضي وإمام الحرمين. وهذا كله كما تراه ينادي بعدم كون جواز تخصيص الكتاب بالكتاب اتفاقيّا.

(٢) أي ولا ريب في جواز تخصيص الكتاب بالإجماع ؛ وذلك مثل آية القذف ، فإنّها تدلّ على وجوب ثمانين جلدة للحرّ والعبد مع أنّهم أوجبوا على العبد نصف الثمانين ، والثمانون مخصوصة بالحرّ. والظاهر انّ المخصّص ، هو الاجماع لا قوله تعالى : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ.) وذلك لأنّها وردت في حقّ الإماء وقياس العبيد عليها باطل ، مع أنّه لو سلّم صحّته لا ينافي ما ذكرنا ؛ غاية الأمر كونه مسندا للإجماع. هذا كما أفاده في الحاشية.

(٣) في «المعالم» : ص ٣٠٥ لم يعبر بعدم الريب كما فعل المصنّف وإنّما قال : لا خلاف ....(٤) من أنّ ما ذكره المانع من عدم الجواز في تخصيصه بالخبر الواحد غير موجود ، ـ

١٥٤

واختلفوا في جوازه بخبر الواحد على أقوال (١) :

ثالثها : التفصيل ، فيجوز إن خصّ قبله بدليل قطعي (٢).

ورابعها : التفصيل أيضا بتخصيصه بما خصّ قبل بمنفصل قطعيّا كان أو ظنيّا.

وخامسها : التوقّف ، وقد ينسب الى المحقّق نظرا الى أنّه قال : الدّليل على العمل بخبر الواحد هو الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة ، ومع وجود الدّلالة القرآنية يسقط وجوب العمل به. وهذا ليس معنى التوقّف ، بل هو نفي للتخصيص كما لا يخفى ، والأظهر الجواز كما هو مذهب أكثر المحقّقين.

واحتجّوا عليه : بأنّهما دليلان تعارضا ، فإعمالهما ولو من وجه ، أولى.

ولا ريب أنّ ذلك لا يحصل إلّا مع العمل بالخاصّ ، إذ لو عمل بالعامّ بطل الخاصّ ولغي بالمرّة.

__________________

ـ فالمقتضى فيها موجود والمانع مفقود ، مضافا الى أنّه واقع ، وذلك كتخصيص قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) بقوله عليه‌السلام : لا يرث القاتل ولا يتوارث أهل ملّتين.

(١) الأوّل لعيسى بن أبان ، والثاني للكرخيّ ، والتوقف للقاضي أبي بكر ، والقول بالثبوت للمحققين منّا ومنهم ، حتى نسب الى الفقهاء الأربعة ، والمرتضى منع منه على ما نقل ، وتحققت من ذلك كما في «الذريعة» حيث قال : والذي نذهب إليه انّ أخبار الآحاد لا يجوز تخصيص العموم بها على كل حال. وقال : فأما المخصّص المنفصل فقد يكون دليلا عقليّا وقد يكون سمعيا ، فالسمعي ينقسم إلى ما يوجب العلم وإلى ما يوجب الظن ، كالقياس وأخبار الآحاد وليس يخرج عن هذه الجملة شيء من المخصّصات. راجع ١ / ٢٤٣ من «الذريعة».

(٢) أي قبل ذلك التخصيص بدليل قطعي مطلقا متصلا كان أم منفصلا.

١٥٥

وبعد ما حقّقنا لك سابقا (١) ، يظهر ما فيه ، لأنّ العامّ كما أنّه يخرج عن حقيقته بالتخصيص بسبب كونه مجازا حينئذ ، ومع ذلك فنقول : إنّه قد عمل به ، فكذلك الخاصّ إن أريد به معنى مجازي أيضا ، بحيث لا يوجب ترك ظاهر العامّ وحقيقته. فمحض كونه جمعا بين الدليلين لا يوجب القول بالتخصيص ، مع ما عرفت من أنّه ليس جمعا بين الدليلين ، بل هو إلغاء لأحدهما ، إذ المعارضة إنّما هو بين ما دلّ عليه العامّ من أفراد الخاصّ وهو ملغى بأجمعه حينئذ ، فلا بدّ من بيان وجه التخصيص واختياره.

فالأولى أن يقال : دليلان تعارضا وتساويا ، وأحدهما عامّ والآخر خاصّ ، وفهم العرف وشيوع التخصيص ، وكونه أقلّ استلزاما لمخالفة المراد في نفس الأمر ، كلّها مرجّحة لاختيار تخصيص العامّ بالخاصّ.

وأمّا وجه التساوي (٢) ، فستعرف.

احتجّ المانع (٣) : بأنّ الكتاب قطعيّ وخبر الواحد ظنّي ، والظنّ لا يعارض القطع لعدم مقاومته له فيلغى.

و : بأنّ التخصيص به لو جاز ، لجاز الفسخ ، وهو باطل.

أمّا الملازمة ، فلأنّه تخصيص في الأزمان ، فهو من أفراد التخصيص ، أو أنّ العلّة في التخصيص هو أولويّة تخصيص العامّ من إلغاء الخاصّ ، وهو موجود في النسخ.

وأمّا بطلان التالي فبالاتّفاق.

__________________

(١) من أن مجرّد الجمع بين الدليلين لا يوجب تقدم الخاص.

(٢) بين الكتاب والخبر.

(٣) ونقل هذه الحجج في «المعالم» : ص ٣٠٥.

١٥٦

والجواب عن الأوّل (١) : أنّ الكتاب وأن كان قطعيّ الصّدور ولكنّه ظنّي الدّلالة ، وخاصّ الخبر وإن كان ظنّي الصّدور ولكنّه قطعيّ الدّلالة ، فصار لكلّ قوّة من وجه فتساويا ، فتعارضا ، فوجب الجمع بينهما ، هكذا ذكروه.

وأنت خبير بأنّ الخاصّ أيضا ليس بقطعيّ الدّلالة ، سيّما إذا كان عامّا بالنسبة الى ما تحته ، لاحتمال مجاز آخر غير التخصيص من أنواع المجاز ، مضافا الى احتمال التخصيص فيما كان عامّا أيضا.

نعم ، هو نصّ بالإضافة الى العامّ ، وقطعيّ بهذا المعنى ، وهو لا يستلزم قطعيّته مطلقا ، وقد مرّ توضيح ذلك في مبحث المفهوم والمنطوق.

فالتحقيق في الجواب هو : أنّهما ظنّان تعارضا وتساويا ، ولأجل أنّ التخصيص أرجح أنواع المجاز والفهم العرفي (٢) ، رجّحنا التخصيص.

وأمّا التساوي ، فلأنّ المعيار في الاستدلال هو اللفظ من حيث الدلالة ، لا من حيث هو ، والذي نقطع بصدوره هو لفظ العامّ.

وأما أنّ المراد منه هل هو معناه الحقيقي أم لا ، فهو غير مقطوع به ، فالذي هو قطعيّ الصّدور هو لفظ العامّ لا الحكم عليه بعنوان العموم ، فكون الحكم على العموم مراد الشّارع مظنون ، وكذلك الحكم في الخاصّ على الخصوص مظنون.

والقول بأنّ الخطاب بما له ظاهر وإرادة غيره قبيح ، فثبت وجوب العمل بظاهر القرآن مع قطعيّة المخاطبة به ، إنّما يتمّ بالنسبة الى من يوجّهه الخطاب ،

__________________

(١) وهو لصاحب «المعالم» : ص ٣٠٦. واعلم أنّ كلامه تبعا للعضدي كما عن «الفصول» : ص ٢١٣.

(٢) والفهم العرفي عطف على قوله : انّ التخصيص أرجح أنواع المجاز.

١٥٧

والخطابات الشفاهيّة (١) وما في منزلتها ، مخصوصة بالحاضرين ، كما تقدّم ، وربّما كانت مقترنة (٢) بقرائن تخرجها عن الظاهر قد اختفى علينا كما ظهر في مواضع كثيرة ، ووجوده في غير ما ظهر أيضا محتمل ، فلم يبق القطع بالمراد فيما لم يظهر ، وخبر الواحد المخالف لظاهره يمكن أن يكون من جملة تلك القرائن ، وعدم اقتران القرينة باللّفظ لا يوجب تأخير البيان عن وقت الحاجة ، إذ ربّما كانت مقترنة بها من جهة الحال لا من جهة المقال ، أو كانت مقترنة بالقول منفصلة (٣) عن ظاهر القرآن أو لم تكن مقترنة بها ولم يكن حينئذ وقت الحاجة ونحو ذلك. وشراكتنا للحاضرين في التكليف إنّما هو فيما علم المراد منها أو ظنّ ، فإذا لم يمكن العلم بالمراد وأنّ تكليف الحاضرين أيّ شيء كان ، فلا ريب في الاكتفاء بما ظنّ أنّه مراد ، فأين العلم!

وممّا ذكرنا (٤) ، يظهر النقض بحصول العلم بمدلول خبر الواحد أيضا لكونه خطابا بما له ظاهر لمخاطبه ، فيحصل من ذلك قوّة أخرى في الخبر أيضا ، مع أنّ جواز العمل بظاهر الكتاب من المسائل الاجتهادية قد خالف فيه الأخباريّون. والتمسّك في حجيّته وإثبات جواز العمل به بالأخبار يحتاج الى دفع الأخبار المعارضة ، وبالإجماع (٥) ، مدفوع بمنعه في موضع النّزاع.

__________________

(١) كالأخبار وما في منزلتها هو القرآن أو من ما في منزلتها هو الفعل او التقرير وذلك لانصراف إطلاق الخطاب الى القول.

(٢) دفع لما يقال من أنّ الظاهر عندهم بعينه هو الظاهر عندنا.

(٣) أو متصلة ولكن قد خفيت علينا.

(٤) من أنّ الخطاب بما له ظاهر وإرادة غيره قبيح ... الخ.

(٥) عطف على قوله : بالأخبار.

١٥٨

فظهر بطلان كلام المحقّق أيضا (١) بالمعارضة بالقلب ، فكما أنّ الإجماع (٢) لم يعلم انعقاده على جواز العمل بخبر الواحد فيما كان هناك عامّ من الكتاب ، فلم يعلم انعقاد الإجماع على حجّية ظاهر الكتاب وعامّه فيما يثبت من الأخبار الخاصّة ما يعارضه ، سيّما والقائلون بجواز التخصيص جماعة كثيرون ، وعدم الاعتناء بمخالفتهم مشكل ، مع أنّ في كون العامّ حقيقة في العموم كلاما (٣) وهو أيضا من المسائل الاجتهادية ، وقد مرّ. وكذلك العامّ المخصّص ، بل سدّ باب تخصيص الكتاب بخبر الواحد يوجب المنع من العمل بخبر الواحد ، إذ قلّما وجد خبر لم يكن مخالفا لظاهر من عمومات الكتاب ، فلا أقلّ من مخالفته لأصل البراءة الثابتة بنصّ الكتاب مثل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(٤) ونحو ذلك (٥) ، مضافا الى ما يظهر ذلك من تتبّع أحوال السّلف من العلماء والصّحابة والتابعين كما أشار إليه بعض الأفاضل.

وبالجملة مع ملاحظة ما ذكروا أضعاف ما ذكر ، ممّا لم يذكر من المضعفات لظاهر الكتاب لا يبقى إلّا مجرّد دعوى حصول ظنّ من ظاهر الكتاب بمراد الله ، ولا ريب أنّ خبر الواحد الجامع لشرائط العمل أيضا ، يورث ذلك الظنّ.

__________________

(١) أي بما ذكرنا من منع التمسّك بالاجماع في موضع النزاع ظهر لك إمكان ردّ قول المحقّق بنفي التخصيص.

(٢) وهذا بيان للمعارضة بالقلب على كلام المحقّق.

(٣) حيث قال بعضهم انّه حقيقة في الخصوص وقال بعضهم مشترك بينهما فلا يكون قطعيا.

(٤) الطلاق : ٧.

(٥) من تخصيص الكتاب بالخبر. هذا وقد ضعّف هذا القول للمصنّف صاحب «الفصول» فيه ص ٢١٣.

١٥٩

فإن قلت (١) : إنّ الأخبار الكثيرة وردت بأنّ الخبر المخالف لكتاب الله يجب طرحه وضربه على الجدار ونحو ذلك (٢) ، فكيف يصحّ الخروج عن ظاهر الكتاب بخبر الواحد.

قلت : تلك الأخبار مختلفة متعارضة ، معارضة بمثلها أو بأقوى منها ، من تقديم العرض على مذهب العامّة والأخذ بما خالفهم ونحو ذلك ، فهي على إطلاقها غير معمول بها ، مع أنّ الظاهر من المخالفة هو رفع حكم الكتاب كليّا وإن كان يتحقّق بسلب البعض أيضا.

سلّمنا ، لكنّها مخصّصة بذلك ، لمعارضتها بما هو أقوى منها من الأدلّة الدالّة على حجيّة خبر الواحد مطلقا ، وما دلّ على جواز تخصيص الكتاب به من الأدلّة أيضا ، إذ قد عرفت أنّ الخاص إنّما يقدّم على العامّ مع المقاومة ، مع أنّ من جملة أدلّة حجّية خبر الواحد هو قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...)(٣) الخ. وآية النفر (٤) ، (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ.)(٥) والعمل بهذه الأخبار يوجب تخصيصها ، وهو كرّ على ما فررت منه.

وممّا ذكرنا (٦) ، يظهر بطلان ما قيل في هذا المقام أيضا من أنّ تخصيص

__________________

(١) راجع حاشية السلطان على «المعالم» : ص ٣٠١.

(٢) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا ورد عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه.

(٣) الحجرات : ٤٩.

(٤) (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة : ١٢٢.

(٥) الحشر : ٧.

(٦) من لزوم تخصيص تلك الأخبار بالصورة المذكورة لعدم المقاومة للعمومات ـ

١٦٠