القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

وقد عرفت إمكان اجتماع الحيثيّات وافتراقها ، فتأمّل فيما ذكرنا بعين الإنصاف تجده حقيقا بالقبول.

وأمّا الدّليل على كفاية الظنّ بعدم وجود المخصّص بعد الفحص ، فهو الدليل على كفاية الظنّ في مطلق معارضات الأدلّة ، وهو أنّ ضرورة بقاء التكليف وعدم السّبيل الى تحصيل الأحكام الواقعيّة بعنوان اليقين يفيد جواز العمل به وإن فرض إمكان الوصول إليه في بعضها (١) ، لأنّ الحكم الذي يمكن أن يحصل فيه العلم ، إن كان مركّبا أو كان جزء للعبادات المركّبة ، فتحصيل العلم بالجزء ليس تحصيلا للعلم بالكلّ ، وما بعضه ظنّي فكلّه ليس بعلميّ جزما ، كما هو واضح ، وتحصيل العلم بالكلّ في غاية البعد وإن كان بسيطا أو كان هو نفس المركّب أيضا ، فاستفراغ الوسع في تحصيله إنّما يمكن بعد تتبّع جميع الأدلّة ، وهو مستغرق للأوقات غالبا ، مفوّت للمقصود ، مع أنّه عسر عظيم وحرج شديد ، وهما منفيّان في الدّين بالإجماع والآيات والأخبار ، فثبت كفاية العمل بالظنّ مطلقا (٢).

فنقول فيما نحن فيه : إنّ العلم بعدم المخصّص في العامّ غير ممكن غالبا ، وتحصيل ما يمكن العلم فيه مستلزم لتفويت العمل بأكثر العمومات.

وبهذا التقرير (٣) ، يندفع ما قد يتوهّم أنّ ذلك يقتضي جواز العمل بالظنّ في

__________________

(١) إمكان وصول اليقين في بعض الأحكام.

(٢) في مطلق الأدلّة بالنسبة الى المعارضات سواء مما يمكن تحصيل العلم فيه أم لا ، وسواء كان ما يمكن تحصيل العلم فيه مركبا أو جزء للعبادات المركبة أو بسيطا أو نفس مركب. وسواء كان احتمال المعارض في العام أو غيره من سائر الأدلّة ، هذا كما في الحاشية.

(٣) من كفاية الظّن في مطلق معارضات الأدلّة بحيث ثبت منه كفاية العمل بالظنّ مطلقا.

٨١

البعض دون البعض ، وأنّ العمل بالظنّ إنّما هو فيما إذا لم يمكن تحصيل القطع ، وهو مخالف لما هو المعهود من طريقتهم في الفقه من جواز العمل بالظنّ وإن أمكن تحصيل العلم في بعض الأحكام أيضا ، فإنّ المراد في هذا الاستدلال أنّ العمل بالظنّ في الكلّ إنّما هو لأجل أنّ تحصيل العلم فيما يمكن فيه من الصّور النادرة يوجب تفويت العمل بالأكثر والعسر والحرج ، لا انّه لا يجوز العمل بالظنّ إلّا فيما لا يمكن القطع.

وأمّا ما يمكن أن يوجّه للقول بلزوم تحصيل القطع بعدم المخصّص في العمل على العامّ ، فهو أنّ العمل بالظنّ مشروط بعدم إمكان تحصيل اليقين ، وهو ممكن ، لأنّ ما يعمّ البحث فيه (١) وكان ممّا يبتلى به عموما ، فالعادة تقتضي باطلاع الباحثين عليه وتنصيصهم على وجوده وعدمه.

وأمّا الذي ليس بهذه المثابة فالمجتهد بعد البحث يحصل له القطع بذلك ، إذ لو كان مخصّص لذكروه.

وفيه مع ما فيه من منع حصول القطع في المقامين (٢) ، إذ غاية الأمر عدم الوجدان وهو لا يدلّ على عدم الوجود. إنّ اشتراط العمل بالظنّ بعدم إمكان تحصيل اليقين لا دليل عليه ، إذ اليقين بحكم الله الواقعي لا يحصل بالقطع بعدم المخصّص ، إذ عدم المخصّص لو سلّم القطع به في نفس الأمر أيضا ، فكيف يحصل القطع بأنّ المراد من العامّ هو جميع الأفراد ، بل لعلّه كان في مقام الخطاب قرينة

__________________

(١) فيبحث فيه عموم الفقهاء لأنّه محل لابتلاء عموم المكلّفين ، فلا بد حينئذ ان يبحث عنه كل فقيه في عصره.

(٢) أي فيما يعمّ البحث فيه وفيما لا يعمّ البحث فيه كليهما.

٨٢

حاليّة أفهمت إرادة البعض مجازا ، مع ما في سند العامّ ودلالته من غير جهة العموم والخصوص أيضا وجوه من الاحتمال تمنع عن القطع بحكم الله تعالى الواقعي. وهكذا الكلام في سائر الأدلّة بالنسبة الى المعارض.

وبالجملة ، وجود المعارض وعدمه ، أحد أسباب الخلل كما أشرنا سابقا (١). فدعوى أنّه بعد حصول القطع بعدم المعارض والمخصّص يحصل القطع بحكم الله ، جزاف من القول ، وإمكان سدّ جميع الخلل في المتن والسّند وسائر كيفيّات الدّلالة لم نر الى الآن سبيلا الى التمكّن عنه. ودعوى اشتراط قطعيّة بعض مقدّمات الدّليل إذا أمكن مع عدم إفادة الدليل إلّا الظنّ ، ترجيح بلا مرجّح.

فإن قلت : إنّ ما ذكرت يوجب الاكتفاء بمطلق الظّواهر في حكم الله الظّاهري ، فلا يجب البحث عن المعارض أصلا فضلا عن تحصيل القطع.

قلت : إنّ المراد من الظّاهر هو الرّاجح الدلالة ، المرجوح خلافه ، وبعد ملاحظة احتمال المعارض احتمالا راجحا لا يبقى ظهور في دلالته.

نعم ، الظّواهر في نفسها مع قطع النظر عن احتمال المعارض لها ظهور في مدلولاتها ، هو لا يكفي لنا.

نعم إنّما هو يكفي لأصحاب الأئمة عليهم‌السلام والحاضرين مجلس الخطاب ومن قاربهم وشابههم.

فدليلنا على المطلوب ، هو ما يظهر من ملاحظة مجموع الأدلّة بعد البحث والفحص ، لا كلّ واحد ممّا يمكن أن يصير دليلا ، ولكن لا يجب في الحكم بذلك الظهور القطع بعدم المعارض ، بل يكفي الظنّ.

__________________

(١) في مقدمة هذا الأصل.

٨٣

ثمّ إنّ بعض أفاضل المتأخرين (١) خبط خبطا عظيما ، وتبعه بعض أفاضل من تأخّر عنه (٢) ، وهو أنّه منع عن لزوم تحصيل القطع والظنّ كليهما في طلب المعارض في جميع الأدلّة سواء كان العامّ أو غيره ، واستدلّ على ذلك بوجوه :

الأوّل :

انّ أحدا من المنازعين والمباحثين في المسائل من أصحاب الأئمة والتابعين لم يطلب في المسألة التوقّف من صاحبه حتى يبحث وينقّب عن المعارض والمخصّص ، بل سكت أو تلقّى بالقبول ، وإلّا لنقل إلينا فصار إجماعا على عدم البحث عن المخصّص والمعارض.

وزاد بعضهم (٣) على ذلك أيضا وقال : وأيضا الأصول الأربع مائة لم تكن موجودة عند أكثر أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، بل كان عند بعضهم واحد وعند الآخر اثنان أو الثلاثة وهكذا ، والأئمّة عليهم‌السلام كانوا يعلمون بأنّ كلّا منهم يعمل في الأغلب بما عنده ولا يتمّ البحث عن المخصّص إلّا بتحصيل جميعها ، فلو كان واجبا لأمرهم الأئمة عليهم‌السلام بتحصيل الكلّ ، ونهوهم عن العمل ببعضها.

والجواب عن الأوّل : بعد تسليم هذه الدّعوى يظهر ممّا مرّ ، من التفاوت الظّاهر بين زماننا وزمان الأئمة عليهم‌السلام. وهذا الكلام يجري في خطاب الأئمة عليهم‌السلام مع أصحابهم أيضا ، حيث لم يسأل الأصحاب عنهم عليهم‌السلام عن المخصّص ، وقرّروهم على معتقدهم من العموم.

__________________

(١) وهو المدقّق الشيرواني.

(٢) وهو السيد صدر الدّين في «شرح الوافية» كما عن الحاشية.

(٣) وهو الفاضل التوني في «الوافية» : ص ١٣٠.

٨٤

ونزيد توضيحا ونقول : إنّ الاستدلال بالعموم غالبا ليس في جميع الأفراد ، وكذلك خطاب الأئمّة عليهم‌السلام بالنسبة الى أصحابهم ، فإنّه قد يكون الحاضر في ذهن الأصحاب هو طائفة من أفراد العامّ المطابق لخطاب الإمام عليه‌السلام وكان ذلك موضع حاجته وبيّن الخصوص في موضع آخر.

وكذلك المنازعين والمباحثين كان نزاعهم في طائفة من أفراد العامّ وكانوا غافلين عن العامّ ، فباستدلال صاحبه بذلك ، كان يسكت ، وذلك لا ينافي تخصيص العامّ بالنسبة الى غير تلك الأفراد ، إذ العام المخصّص حجّة في الباقي كما مرّ تحقيقه.

فمرادنا من قولنا : إنّه يجب في العمل بالعامّ البحث عن المخصّص ، العمل به في جميع الأفراد.

ويندفع الإشكال الطارئ من جهة شيوع التّخصيص وغلبته بالتفحّص عن المخصّص في الجملة ، فإذا ظهر وجود مخصّص ما ، فلا دليل على وجوب التفحّص أزيد من ذلك لا ظنّا ولا قطعا ، لأصالة الحقيقة إلّا مع احتمال وجود مخصّص آخر راجح على عدمه بالخصوص ، وليس ذلك من باب أصل التخصيص الرّاجح بسبب الغلبة ، بل من جهة مطلق وجود المعارض للدليل ، فافهم ذلك وتأمّل حتّى يتحقّق لك أنّ دعوى مثل ذلك الإجماع (١) لا أصل لها ولا حقيقة ، مع أنّه ورد في الأخبار ما يدلّ على ذلك (٢) مثل رواية سليم بن قيس الهلالي في «الكافي» عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام حيث أجاب عن اختلاف أصحاب رسول

__________________

(١) ذلك الاجماع المدعى على عدم وجوب الفحص.

(٢) أي على وجوب الفحص عن المعارض.

٨٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي آخرها : «فإنّ أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل القرآن ، منه ناسخ ومنسوخ وخاصّ وعامّ ومحكم ومتشابه ، وقد كان يكون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الكلام له وجهان وكلام عامّ وخاصّ مثل القرآن. الى أن قال : فما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصّها وعامّها» (١) ، الحديث. وفي معناها غيرها ، وظاهرها لزوم معرفة الجميع.

فبعد ملاحظة أنّ في الآيات والأخبار عامّا وخاصّا ولا يندفع الاختلاف والحيرة إلّا بملاحظتها ، وإنّا مأمورون بمعرفة العامّ والخاصّ ، فكيف يقال : إنّا لم نؤمر بالبحث عن الخاصّ ، وأحاديث الأئمة عليهم‌السلام مثل أحاديث الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد قال الصادق عليه الصلاة والسلام في رواية داود بن فرقد المرويّة في «معاني الأخبار» : «أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ الكلمة لتصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان يصرف كلامه كيف يشاء ولا يكذّب» (٢).

ويدلّ على المطلوب أيضا الأخبار المستفيضة الدالّة على عرض الأخبار المتخالفة على الكتاب. ولا ريب أنّ موافقة الكتاب وعدمها لا يعلم إلّا بعد معرفة عامّ الكتاب وخاصّه ، ومعرفة ذلك في فهم الكتاب لازم كما يستفاد من الأخبار ، فيستلزم ذلك لزوم معرفة عامّ الخبر عن خاصّه أيضا ، وهو معنى البحث عن المخصّص.

وأمّا الجواب عمّا زاده بعضهم (٣) ، فنقول مضافا الى ما ظهر ممّا تقدّم : إنّ

__________________

(١) «الكافي» ١ : ٥٠ ح ١ ، «الوسائل» : ٢٧ / ٢٠٧ ، ح ٣٣٦١٤.

(٢) «معاني الأخبار» : ١ / ١.

(٣) الفاضل في «الوافية».

٨٦

الأحاديث المجتمعة عندنا من الكتب الأربعة وغيرها ، أكثر ممّا كان عند كلّ واحد من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام من تلك الأصول بلا شكّ ولا ريب ، ومع ذلك فالفروع المتكثّرة في كتب الفقهاء الخالية عن النصوص أكثر ممّا وجد فيه النصّ بمراتب شتّى ، وما لم يذكروه في كتب الفروع وما يتجدّد يوما فيوما أضعاف مضاعف ما ذكروه ، بل لا يتناهى ولا يعدّ ، فلو كان يلزم عليهم تبليغ أحكام الجميع بالخصوص ، فيلزم أنّهم ـ العياذ بالله ـ قصّروا في ذلك لعدم تبليغ ذلك بالخصوص في الجميع جزما.

فظهر أنّهم اكتفوا في جميع ذلك بالأصول الملاقاة إلينا بقولهم : «علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا» (١).

وهذا من أقوى الأدلّة على جواز العمل بالظنّ في الأحكام الشرعيّة ، إذ غاية ما في الباب جعل الفرع من جزئيّات أصل وقاعدة ، ولا ريب أنّ دلالة العامّ والقاعدة على جزئيّاتهما ظنّيّة.

فنقول : إنّ الواجد للأصل والأصلين (٢) من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام كان عالما بالأصول الأصليّة التي هي أمّهات المسائل مثل أصل البراءة ، وعدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، وعدم العسر والحرج ، وعدم التكليف بما لا يطاق ، وأصالة الإباحة فيما لا ضرر فيه ، وقبح الظلم والعدوان ، والإضرار ، ونحو ذلك ، وبيّنوا لهم في جواب مسائلهم كثيرا من الخصوصيّات وكثيرا من العمومات الواردة في الكليّات ، ولم يظهر من حالهم أنّ تلك العمومات الثابتة في الأصل والأصلين كانت أبكارا لم يصلها أيدي التخصيص ، فلعلّ الرّواة كانوا يعلمون أنّ مرادهم عليهم‌السلام

__________________

(١) «الوسائل» : ٢٧ / ٦١ ح ٣٣٢٠١.

(٢) للكتاب والكتابين.

٨٧

من تلك العمومات الاستدلال على الباقي بعد التخصيص كما أشرنا (١) ، وأنّ الخاصّ بيّن له من خارج ، والتنصيص (٢) على جميع الجزئيّات ليس بواجب على ما بيّنا ، واحتمال وجود مخصّص آخر غير ما فهموه لا يضرّ كما بيّنا ، لأنّ الظنّ بالعدم (٣) كاف ، بل يكفي أصالة العدم حينئذ ، ولم يظهر من حال صاحب الأصل أو الأصلين أنّه يظنّ بوجود خاصّ أو معارض في سائر الأصول ، وعلى فرض الثبوت إنّه كان متمكّنا من الرّجوع إليه ولم يفعل ، وعلى فرض ذلك ، إنّ الإمام عليه‌السلام اطّلع عليه وقرّره ، وكلّ ذلك دعاوي لا بيّنة عليها ، بخلاف زماننا ، فإنّ وجود المعارض في جملة الأخبار مما لا يدانيه ريب ولا يعتريه شكّ ، فكيف يقاس بزمان أصحاب الأئمة عليهم‌السلام.

ولعمري إنّ أمثال هذه الكلمات ممّن تتبّع الأخبار وعرف طريقة الفقه والفقهاء ممّا يقضي منه العجب.

وممّا ذكرنا ، ظهر أنّ عدم أمر الإمام عليه‌السلام بتحصيل سائر الكتب لم يكن لأجل أنّ الفحص عن المخصّص أو المعارض لا حاجة إليه مع قيام الاحتمال الرّاجح ، إذ لعلّه يعتمد على ذلك بأنّه إذا أشكل عليه الأمر في العامّ يرجع الى الإمام عليه‌السلام.

الثاني (٤) : قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...) الخ (٥). وجه الاستدلال ، أنّه

__________________

(١) سابقا من كفاية في وجوده في الجملة.

(٢) أي وجود نص خاص.

(٣) اي بعدم المخصّص.

(٤) مما استدلّ به بعض المتأخّرين على عدم وجوب البحث عن المخصّص.

(٥) الحجرات : ٦.

٨٨

نفى بالمفهوم ، التثبّت عند مجيء العدل ، والبحث عن المخصّص تثبّت وأيّ تثبّت.

وفيه : أنّ الظّاهر من الآية لزوم التثبّت في خبر الفاسق الّذي يفهم منه مراده بعنوان القطع أو الظنّ في أنّه هل هو صادق أو كاذب ، والتفحّص والبحث عن المراد من خبر العدل إذا كان محتملا لغير ظاهره احتمالا (١) مساويا له ، ليس تثبّتا في أنّه هل هو صادق فيه أو كاذب.

والحاصل ، أنّ خبر العدل لا يتأمّل في قبوله من حيث احتمال الكذب ، بل التأمّل والتثبّت إنّما هو في فهم المراد ، ولم يظهر من الآية نفيه كما لا يخفى.

لا يقال : أنّ هذا تقييد في خبر العدل والأصل عدمه ، وإطلاق الآية يقتضي عدم التثبّت في خبر العدل مطلقا ، لا في نفي الكذب فقط.

لأنّا نقول : إنّا نمنع الإطلاق بالنسبة الى هذا المعنى (٢) حتّى نطالب بدليل التقييد ، بل نقول : المتبادر من الآية المقيّد (٣) ، وإنكاره مكابرة ، مع أنّه يرد على

__________________

(١) واطلاق الظاهر هنا مع الحكم بالاجمال والاحتمال باعتبار ظهوره في نفسه لو لا الاحتمال المذكور المصادقة له الحاصل من القرائن والأمارات الخارجية. وملاحظة مورد الآية أيضا تدل على أنّ الظاهر من الآية هو ما استظهره المصنف كما لا يخفى لوجود التبادر. هذا ما في الحاشية.

(٢) وهو احتمال المخصّص.

(٣) وأشار الميرزا الطباطبائي في حاشيته الى أنّ مراده أنّه لا إطلاق في الآية بالنسبة الى محلّ الكلام حتى يلزم التقييد ، وملخص توضيحه : انّ معنى قوله تعالى فلا تبينوا خبر العدل عدم وجوب الفحص عن خبره ، والفحص عن الخبر هو الفحص عن مطابقته للواقع. مثلا إذا أخبر العدل بموت زيد فبمقتضى مفهوم الآية الشريفة هو الحكم بمطابقة هذا الحكم للواقع ، وأما انّ العدل هل أراد من لفظ الموت الحقيقي أو أراد ـ

٨٩

المستدلّ النقض بمجمل خبر العدل.

فإن قيل : إنّ المجمل خرج بالاتّفاق وبحكم العقل ، للزوم التحكّم من حمل الكلام على بعض المحتملات ولا اتّفاق هنا ، فلا يحكم العقل بعدم جواز ترجيح العموم لوجود المرجّح من تبادر العموم لأصالة الحقيقة.

وأيضا القول بكون العامّ مثل المجمل رجوع عن القول بكون ألفاظ العامّ حقيقة في العموم.

قلنا : حصول الإجمال من جهة تساوي احتمال إرادة الخصوص لأصالة الحقيقة ، لا ينافي القول بكونها حقيقة في العموم كما في المجاز المشهور عند من يتساوى عنده احتماله مع الحقيقة ، والتبادر الحاصل في المجاز المشهور للمعنى الحقيقي كما أنّه بعد قطع النظر عن الشهرة ، فكذلك المسلّم من التبادر هنا هو بعد قطع النظر عن شيوع غلبة التّخصيص ، مع أنّ هنا فرقا آخر ، وهو أنّ العامّ بعد ثبوت التّخصيص في الجملة يكون ظاهرا في الباقي كما مرّ ، بخلاف المجمل والمشترك.

ولئن سلّمنا إطلاق الآية حتّى بالنسبة الى الدّلالة فنقول : إنّ ما ذكرناها من الأدلّة على المختار (١) يقيّدها ، وإلّا فلا ريب أنّه يصدق على كلّ من خبري

__________________

ـ الغشوة مجازا ، وأنّه هل أراد من زيد نفسه او ابنه أو غلامه ، فالآية لا تدل على عدم الفحص عن ذلك ، لأنّ عدم الفحص عن الخبر فرع معرفة انّ الخبر ما هو ونحن الآن في مقام تشخيص الخبر أنّه هل هو موت زيد أو غشوته. وبالجملة الآية تدل على ترك فحص الخبر ، ومن المعلوم انّه بعد تشخيص موضوع الخبر لا دلالة فيها على تعيين نفس الخبر ، نعم يصح الاستدلال بها في نفي المعارض السّندي وسيجيء في محلّه إن شاء الله تعالى.

(١) وهو وجوب الفحص.

٩٠

العدلين المتعارضين ، ولا ريب أنّه لا يمكن العمل حينئذ مطلقا.

فظاهر ، أنّ المراد من الآية ، أنّ خبر العدل من حيث إنّه خبر العدل لا يجب فيه التّفحّص عن الصدق والكذب ، وإن وجب فيه من حيث إنّه يعارضه خبر عدل آخر فضلا عمّا كان التثبّت من جهة فهم المراد.

الثالث :

آية النّفر (١). وجه الاستدلال ، أنّه تعالى أوجب الحذر عند إنذار الواحد ولم يقيّده بالبحث عن المخصّص.

ويظهر الجواب عنه أيضا ممّا مرّ.

ثمّ إنّ مناط القول المختار ، أنّه لا يحصل الظنّ بإرادة المعنى الحقيقي للعامّ إلّا بعد الفحص ، لا إنّه يحصل الظنّ بسبب أصالة الحقيقة ، ولكن لا يكتفى بهذا الظنّ ، بل يوجب الظنّ الزّائد ، بل نقول : إنّ أصالة الحقيقة إن أفاد الظنّ فإنّما يفيد بعد قطع النظر عن شيوع التّخصيص ، والمفروض انّه غير منفكّ ، فلا معنى لمقابلة مختارنا بأنّا نكتفي بالظنّ الحاصل من أصالة الحقيقة ، بل لا بدّ أن يقال : إنّ الظنّ حاصل مع شيوع التخصيص أيضا.

وجوابه : المنع.

ثمّ إنّ مطلق الظنّ كاف (٢) ، وإلّا فيشكل الأمر لتفاوت مراتب الظنون ، بل تفاوت مراتب الظنّ المتاخم للعلم أيضا.

__________________

(١) (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة : ١٢٢.

(٢) فلا يلزم الظنّ المتاخم للعلم.

٩١

فلو قلنا باشتراطه (١) ، لزم الحرج الشديد مع أنّها غير ميسّر غالبا ، وما أمكن تحصيله فيه ، فيجري فيه الكلام (٢) الذي ذكرناه في تحصيل العلم.

ثمّ إنّ الظاهر أنّه يكفي في تحصيل الظنّ تتبّع كلّ باب بوّبوه في كتب الأخبار لكلّ مطلب وكلّ ما يظنّ وجود ما له مدخليّة في المسألة فيه من سائر الأبواب ، وإن كان في كتاب آخر ، مثل أنّ ملاحظة أبواب لباس المصلّي في كتاب الصلاة ؛ له مدخليّة في أحكام الطهارة وغسل الثياب ، وملاحظة كتاب الصوم له مدخليّة في أحكام الاستحاضة والحيض ونحو ذلك ، وهكذا.

وقد صار الآن تتبّع ذلك سهلا عندنا من جهة تأليف الكتب المبوّبة مثل «الكافي» و «التهذيب» و «الإستبصار» وزاد في ذلك إعانة كتاب «الوافي» للفاضل الكاشاني وكتاب «وسائل الشيعة» لمحمّد بن الحسن الحرّ العاملي عظّم الله أجورهم (٣).

ولا بدّ في الفحص عن المخصّص من ملاحظة الكتب الفقهيّة سيّما الاستدلاليّة منها ليطّلع على موارد الإجماع أيضا ، وذلك ممّا يعين على الاطلاع بحال الأخبار وخصوصها وعمومها أيضا ، سيّما ملاحظة كتب المتأخرين من أصحابنا مثل «المعتبر» و «المنتهى» و «المختلف» و «المسالك» و «المدارك» وغيرها. ولا يجب تتبّع جميع كتب الأخبار من أوّلها الى آخرها في كل مسألة ، وكذلك الكتب الفقهيّة ، مع أنّه مما يوجب العسر الشديد والحرج الوكيد.

__________________

(١) اي باشتراط الظنّ المتاخم للعلم أو أقوى الظنون.

(٢) من لزوم تفويت العمل بالأكثر ولزوم العسر والحرج والضّرر.

(٣) ولم يذكر مثل كتاب «من لا يحضره الفقيه» من الكتب القديمة ، لأنّه ليس في مقام الحصر ، وكذا من الكتب الحديثة لأنّه لم يدركها.

٩٢

المقصد الثالث

فيما يتعلّق بالمخصّص

قانون

إذا تعقّب المخصّص عمومات متعدّدة ، جملا كانت أو غيرها ، متعاطفة بالواو أو غيرها ، وصحّ عوده الى كلّ واحد ، فلا خلاف في أنّ الأخيرة مخصّصة به جزما ، وإنّما الخلاف في غيرها ، وفرضوا الكلام في الاستثناء ثمّ قاسوا عليه غيره.

فذهب الشيخ والشافعية (١) : الى أنّ الاستثناء المتعقّب للجمل المتعاطفة ظاهر في رجوعه الى الجميع ، وفسّره العضدي (٢) بكلّ واحد.

وأبو حنيفة وأتباعه الى أنّه ظاهر في العود الى الأخيرة (٣).

والسيّد رحمه‌الله الى أنّه مشترك بينهما فيتوقّف الى ظهور القرينة (٤).

والغزالي الى الوقف ، فلا يدرى أنّه حقيقة في أيّهما (٥).

__________________

(١) مذهب الشيخ كما في «العدة» : ص ٣٢٠ ، ومذهب الشافعي كما عن «المحصول» : ٢ / ٥٦٦ ، و «الذريعة» : ١ / ٢٤٩.

(٢) وقول الشافعي فسّره العضدي بكل واحد من الجمل موردا للإخراج على البدل ، وليس بكون المجموع موردا له.

(٣) وكذا في «المحصول» : ٢ / ٥٥٦ ، و «الذريعة» : ١ / ٢٤٩ ، وفي «العدة» : ١ / ٣٢١ إلى أنّه مذهب أبو الحسن الكرخي وأكثر أصحاب أبي حنيفة.

(٤) كما في «الذريعة» : ١ / ٢٤٩ ، ونقله في «العدة» : ١ / ٣٢١ ، و «المعالم» : ص ٢٨٦.

(٥) كما ذكر في «المستصفى» : ٢ / ٦٨.

٩٣

وهذان القولان (١) متوافقان لقول أبي حنيفة في الحكم (٢) وإن تخالفا في المأخذ ، لأنّ الاستثناء يرجع على القولين الى الأخيرة فيثبت حكمه فيها ولا يثبت في غيرها كقول أبي حنيفة. لكن هؤلاء (٣) لعدم ظهور تناولها (٤) ، وأبو حنيفة لظهور عدم تناولها ، هكذا قرّره العضدي وجماعة من الأصوليّين ، وليس مرادهم محض الموافقة في تخصيص الأخيرة. فإنّ قول الشافعي أيضا موافق له في ذلك ، ولا أنّ غير الأخيرة باق على العموم على القولين محمول على ظاهرها ليتّحدا في تمام الحكم مع قول الحنفيّة لينافي التوقّف والاشتراك ، بل مرادهم بيان موافقة القولين لقول أبي حنيفة من جهة لزوم تخصيص الأخيرة (٥) وعدم تخصيص غيرها ، وعدم التخصيص أعمّ من القول بالعموم ، فعدم تخصيص الغير عند أبي حنيفة بحمله على العموم ، والعمل على ظاهر اللّفظ ، ومأخذه الحمل على أصل الحقيقة ، وعندهما بالتوقّف في التخصيص وعدمه بسبب عدم معرفة الحال ، ومأخذه إمّا تصادم الأدلّة أو الإجمال الناشئ عن الاشتراك ، فيظهر ثمرة

__________________

(١) قال في الحاشية : يعني مذهب الوقف ومذهب الاشتراك موافقان لمذهب الحنفيّة في الحكم وهو أنّه إنّما يفيد الإخراج عن مضمون الجملة الأخيرة دون غيرها ، لكن عندهما لعدم الدليل في الغير وعندهم لدليل العدم ، وهذا معنى اختلاف المأخذ هكذا قرّره التفتازاني.

(٢) وهو الحكم بتعليق الاستثناء على الأخير والحكم في البواقي على العموم.

(٣) القائلون بالقولين.

(٤) للاستثناء.

(٥) وقد ردّ صاحب «الفصول» : ص ٢٠٢ هذا الرأي وثمرة الخلاف الآتية بعد أن صرّح بتوهّم قائله.

٩٤

الخلاف (١) بين الحنفيّة وبينهما في أمرين :

أحدهما : أنّ غير الأخيرة في التخصيص غير معلوم الحال عندهما ، ومعلوم العموم عند الحنفيّة.

وثانيهما : أنّه لو استعمل في الإخراج عن غير الأخيرة أيضا كان مجازا عند الحنفيّة حقيقة عند السيّد محتملا لها عند الغزالي.

والعجب من الفاضل المدقّق الشيرواني حيث نفى الإشكال في موافقة القولين الأخيرين للقول الثاني في تمام الحكم ، وقال : يجب أن لا يعمل في غير الأخيرة أصحابهما إلّا على العموم ، لأنّ له صيغة خاصّة به دالّة عليه دلالة معتبرة ، ولم يتحقّق في الكلام دلالة أخرى يعارضها ، ومجرّد احتمال المعارض لا يكفي في الصّرف عنها ، وإلّا كان ذلك قائما على تقدير عدم الاستثناء أيضا ، والمفروض أنّ أصحاب المذهبين بحثوا ونقّبوا في المسألة الى آخر ما ذكره.

وفيه : أنّه لم يظهر من كلام الأصوليّين نسبة ذلك (٢) الى صاحب القولين ، ولا يظهر من كلامهم في بيان الموافقة إرادة ما ذكره ، بل كلامهم على ما ذكرنا أدلّ وأوفق.

ومرادهم مجرّد نسبة المخصّص الى الجمل من حيث ثبوت التخصيص لا من حيث إرادة العموم من غير الأخيرة وعدمه ، مع أنّ مقتضى تلك الأقوال أنّ

__________________

(١) بين الأقوال الأربعة أنّه على قول الشيخ والشافعية يكون استعمال الاستثناء في الإخراج من الجميع حقيقة ، وفي الإخراج عن الأخيرة خاصة مجازا ، وعلى قول الحنفية بعكس ذلك ، وعلى قول السيد حقيقة فيهما ، وعلى قول الغزالي غير معلوم الحقيقة والمجاز وكذا غير الأخيرة غير معلوم الحال عند الأخيرين ومعلوم العموم عند الثاني ومعلوم الخصوص عند الأوّل ، هذا كما في الحاشية.

(٢) أي العمل بالعموم في البواقي.

٩٥

الخلاف إنّما هو في الهيئة التركيبيّة من الاستثناء المتعقّب للجمل (١) ، كما يظهر من ملاحظة أدلّتهم أيضا كما سيجيء.

فالقول باشتراك تلك الهيئة بين الرّجوع الى الأخيرة فقط ، والرّجوع الى الجميع ، معناه (٢) أنّ تلك الهيئة حقيقة في كلّ واحد منهما ، ومقتضى كونه حقيقة في الرّجوع الى الجميع ، أنّ العموم لم يبق على حاله في واحد منها ، ومقتضى كونه (٣) حقيقة في الرّجوع الى الأخيرة بقاء العموم على حاله في غيرها ، والمفروض أنّ الأمر مردّد حينئذ بين أنّ المراد من اللّفظ هل هو العمومات المخصّصة ، باحتمال إرادة المعنى الأوّل من معنيي المشترك ، أو العمومات الغير المخصّصة ، باحتمال إرادة المعنى الثاني.

والشّك (٤) في أنّ المراد من ذلك اللّفظ هل هو العامّ المخصّص أم العامّ الغير المخصّص ، غير الشكّ في أنّ العام هل خصّ أم لا ، فيجري فيه أصالة عدم التخصيص. وليس ذلك من قبيل العامّ الذي لم يظهر له مخصّص بعد الفحص والبحث حتّى يقال أنّ له صيغة خاصّة دالة على معنى ولم يوجد له معارض ، فكون العامّ مخصّصا أو غير مخصّص (٥) جزء مدلول اللّفظ فيما نحن فيه.

__________________

(١) وتعرّض في «الفصول» : ص ٢٠٢ إلى هذا الكلام.

(٢) راجع «الفصول» أيضا ص ٢٠٢.

(٣) إنّ الضمير في كونه وفيما عطف عليه أيضا يرجع الى الهيئة ، وتذكيره باعتبار تعبير اللّفظ منها ، ويدلّ على ما ذكرنا قوله بعد ذلك : إنّ المراد من اللّفظ هل هو العمومات المخصّصة ... الخ.

(٤) وقد تعرّض صاحب «الفصول» : ص ٢٠٢ لهذه الأقوال.

(٥) هذا أيضا بيان الى وجه الفرق بين المقامين.

٩٦

والشكّ في أنّ المراد أيّ المدلولين لا إنّه أمر خارج عنهما يمكن نفيه بأصالة الحقيقة وأصالة عدم التّخصيص ونحوهما. وظنّي أنّ ذلك واضح لا يحتاج الى مزيد الإطناب ، ويا ليته رحمه‌الله (١) اختار موضع مقايسة (٢) ما نحن فيه بمبحث البحث عن المخصّص مقايسته بجواز العمل بالعامّ المخصّص بالمجمل.

والحاصل ، أنّ القائل بالاشتراك يتوقّف عن الحمل على العموم ، لأنّه لا يظهر إنّه أريد من الهيئة المعنى الذي لازمه تخصيص الكلّ أو أريد منها المعنى الذي لازمه تعميم ما سوى الأخيرة. والمتوقّف يتوقّف لما لم يتعيّن عنده المعنى الحقيقي للهيئة التركيبيّة حتّى يبني على أصل الحقيقة أو الاشتراك ، مع أنّه يعلم إنّ للّفظ حقيقة معيّنة لا بدّ من الحمل عليه ، ولم يبق العمومات على سجيّتها الأصليّة حتى يعرض عن حال المعارضات الخارجيّة رأسا بأصالة العدم.

وهاهنا قول خامس اختاره صاحب «المعالم» رحمه‌الله (٣) وهو القول بالاشتراك المعنوي.

وحاصله ، أنّ الاستثناء موضوع لمطلق الإخراج ، واستعماله في أيّ فرد من أفراد الإخراج ، حقيقة ، غاية الأمر الاحتياج الى القرينة في فهم المراد ، لكون أفراد الكلّيّ غير متناهية.

__________________

(١) المدقق المذكور الّذي نفى الإشكال في موافقة القولين الأخيرين للقول الثاني في الحكم المستفاد من الجمل ، نظرا إلى أنّ اللفظ يدلّ على العموم دلالة معتبرة ، ولم يتحقّق عندهم ما يقتضي التخصيص حيث إنّ التقدير بأنّ أصحاب القولين بحثوا في المسألة فلا يصرف اللفظ عن ظاهره بمجرّد احتمال إرادة خلافه.

(٢) أي كان من المناسب أن لا يقيسه بالبحث الثاني مكان مقايسته بالبحث الأوّل.

(٣) فيه ص ٢٨٦.

٩٧

وظاهر هذا القول ، بل صريحه أنّه لم يعتبر للهيئة التركيبيّة حقيقة جديدة ، وزعم أنّ ذكر الاستثناء وإرادة الإخراج عن كلّ واحد حقيقة ، كما أنّ إرادة الإخراج عن الأخيرة فقط أيضا حقيقة ، فلا يتفاوت الحال بتعقّبه لعامّ واحد أو لعمومات متعدّدة ، وتعيين كلّ فرد من أفراد الإخراج يحتاج الى القرينة لكن لا من قبيل قرينة المشترك اللّفظي ، فإنّه للتعيين لا للتفهيم.

ثمّ إنّه رحمه‌الله (١) مهّد لتحقيق ما اختاره مقدّمة لا بأس بإيرادها مع توضيح منّي وتحرير وإصلاح ، وهي : إنّ الواضع لا بدّ له من تصوّر المعنى في الوضع ، فإن تصوّر معنى جزئيّا وعيّن بإزائه لفظا مخصوصا ك : زيد لولد عمرو أو ألفاظ مخصوصة متصوّرة تفصيلا ك : زيد وضياء الدّين وأبي الفضل له ، أو إجمالا كوضع (٢) ما اشتقّ من الحمد له مثل : محمد وأحمد وحامد ومحمود ، فيكون الوضع خاصّا (٣) لخصوص التصوّر المعتبر فيه ، أعني تصوّر المعنى والموضوع له أيضا خاصّا وهو ظاهر.

وإن تصوّر معنى عامّا تحته جزئيّات إضافية أو حقيقية (٤) فله أن يعيّن لفظا معلوما أو ألفاظا معلومة بالتفصيل أو الإجمال بإزاء ذلك المعنى العامّ ، فيكون الوضع عامّا لعموم التصوّر المعتبر فيه والموضوع له أيضا عامّا.

__________________

(١) في «المعالم» : ص ٢٨٧.

(٢) بالوضع النوعي.

(٣) واطلاق الخاص على الوضع هنا من باب الصفة بحال المتعلّق ، لأنّ نفس الوضع ليس خاصا ، بل الخاص هو المعنى المتصوّر عند الوضع.

(٤) الجزئيات الاضافية كالانسان والفرس تحت الحيوان. والحقيقية كالأفراد الخاصة تحت الانسان.

٩٨

مثال الأوّل : الحيوان ، ومثال الثاني : الإنسان والبشر ، ومثال الثالث : وضع المشتقّات لمعانيها ، مثل : فاعل الذّات قام به الفعل.

والمراد بالوضع الإجمالي هو الوضع النوعي ، وقد يحصل اجتماع الألفاظ التفصيليّة في الأوضاع النوعيّة ، كوضع فعال وفعول للمبالغة ، فيحصل الترادف في الوضع النوعي أيضا. وله أن يعيّن لفظا معلوما أو ألفاظا معلومة بالتفصيل أو الإجمال بإزاء خصوصيات الجزئيّات المندرجة تحته ، لأنّها معلومة إجمالا إذا توجّه العقل بذلك المفهوم العامّ نحوها ، والعلم الإجمالي كاف في الوضع ، فيكون الوضع عامّا ، والموضوع له خاصّا.

مثال الأوّل : الحروف قاطبة ، فإنّ : (من) و (الى) و (على) مثلا لوحظ في وضعها معنى عام نسبي هو الابتداء والانتهاء والاستعلاء ، ووضع تلك الحروف لجزئيّات تلك المعاني. ومثل لفظ : (هذا) و (هو) لكلّ مفرد مذكّر.

ومثال الثاني : (ذي) و (تي) و (تهي) (١) لكلّ مفرد مؤنّث.

ومثال الثالث : الوضع الهيئتي للأفعال التامّة ، فإنّها باعتبار النسبة وضعها حرفي نوعي إجمالي ، وإن كان باعتبار المادّة من القسم الأوّل من هذين القسمين وضعها عامّ والموضوع له عامّ (٢).

__________________

(١) بسكون الهاء وبكسرها باختلاس واشباع قال في الالفية : بذا لمفرد مذكر أشر بذي وذه تي تا على الاثنى اقتصر.

(٢) إذ إنّ الأفعال التامة باعتبار المادة أي المعنى الحدثي وضعها عام والموضوع له فيه أيضا عام ، وذلك لأنّ الحدث كالضرب مثلا أمر كلّي يندرج تحته جزئيّات ، فحينئذ يكون كل من الوضع والموضوع له فيه عاما. وقد صرّح سلطان المحقّقين الى أنّ ما ـ

٩٩

وربّما قيل : إنّ وضع المشتقّات من باب وضع الحروف وأسماء الإشارة ، وهو غلط واضح ، ولا بأس بتفصيل الكلام فيه (١).

فنقول : إنّ وضع المشتقّات كاسم الفاعل والمفعول ، يتصوّر على وجوه : أحدها : أن يقال : إنّ وضع صيغة فاعل مثلا ، أي كلّ ما كان على زنة فاعل من أيّ مادّة بنيت ، إنّما هو لكلّ من قام به تلك المادة المخصوصة.

وبعبارة أخرى : كلّ واحد من الصّيغ المبنيّة على زنة فاعل ، موضوع لمن قام به مبدأ ذلك الواحد ، يعني ضارب موضوع لمن قام به الضّرب ، وقاتل لمن قام به القتل ، وعالم لمن قام به العلم وهكذا.

وعلى هذا فالوضع عامّ والموضوع له عامّ ، لأنّ الواضع تصوّر حين الوضع معنى عامّا وهو كلّ واحد من الذّوات القائمة بها أحداث ، ووضع بإزاء كلّ واحد منها ما بنيت من ذلك الحدث على هيئة فاعل. وهذا من باب الوضع النوعي ، فإنّه قد لوحظ الألفاظ الموضوعة إجمالا في ضمن الهيئة الخاصّة ، فقولنا : هيئة فاعل موضوع لمن قام به مبدأ ما بنيت منه ، في قوّة قولنا : كلّما كان على زنة فاعل ... الخ ، فقد تصوّر الواضع الألفاظ إجمالا عند وضع الهيئة.

والثاني : أن يقال : صيغة فاعل وضعت لمن قام به المبدا ، يعني هذا الجنس من اللّفظ هو ما بنيت على فاعل موضوع لهذا المفهوم الكلّي. وهذا أيضا كسابقه ، لكنّ المراد بالعامّ في الأوّل هو العامّ الأصولي ، وفي الثاني العامّ المنطقي.

لا يقال : أنّ هذا يستلزم كون ضارب وقاتل وعالم مثلا ، موضوعا لهذا المفهوم

__________________

ـ ذكره صاحب «المعالم» من أنّ الأفعال التامة بالنسبة الى الحدث وضعها خاص ، ليس بشيء راجع حاشيته ص ٢٩٩.

(١) في وضع المشتقات.

١٠٠