القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

قانون

قالوا (١) : القرآن متواتر ، فما نقل آحادا ليس بقرآن ، لأنّه ممّا يتوفّر الدّواعي على نقله ، وما هو كذلك ، فالعادة تقضي بتواتر تفاصيله. أمّا الصغرى فلما تضمّنت من التحدّي والإعجاز ، ولكونه أصل سائر الأحكام. وأمّا الثانية (٢) فظاهرة.

أقول : أمّا تواتر القرآن في الجملة ووجوب العمل بما في أيدينا اليوم فممّا لا شكّ فيه ولا شبهة تعتريه ، لكن تواتر جميع ما نزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، غير معلوم ، وكذا وجوب تواتره.

أمّا الثاني (٣) : فلأنّه إنّما يتمّ لو انحصر طريق المعجزة وإثبات النبوّة لمن سلف وغبر فيه. ألا ترى أنّ بعض المعجزات ممّا لم يثبت تواتره ، وأيضا يتمّ لو لم يمنع المكلّفون على أنفسهم اللّطف كما منعوه في شهود الإمام عليه‌السلام.

وأمّا الأوّل ـ أعني تواتر جميع ما نزل ـ فيظهر توضيحه برسم مباحث.

الأوّل : أنّهم اختلفوا في وقوع التحريف والنقصان في القرآن وعدمه ، فعن أكثر الأخباريين أنّه وقع فيه التحريف والزّيادة والنقصان ، وهو الظاهر من الكليني

__________________

(١) جماعة منهم البهائي في «الزبدة» ص ٨٦ ، وكذا العلّامة في «النهاية» والحاجبي ، والعضدي في «المختصر» و «شرحه». هذا والمعني من القرآن هو ما بين الدفتين مما نزل على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) اي الكبرى.

(٣) أعني وجوب تواتر جميع ما نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقديم ذلك على الأوّل أعني تواتر جميع ما نزل مع كون الأقل أولى بالتقديم من جهة كون الثاني أقلّ أبحاثا بالنسبة الى الأوّل.

٣٢١

وشيخه علي بن إبراهيم القمّي والشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي صاحب «الاحتجاج».

وعن السيّد والصّدوق والمحقّق الطبرسي وجمهور المجتهدين عدمه. وكلام الصّدوق في اعتقاداته يعرب عن أنّ المراد بما ورد في الأخبار الدالّة على أنّ في القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسلام كان زيادة لم تكن في غيره ، أنّها كانت من باب الأحاديث القدسية لا القرآن ، وهو بعيد.

والأدلّة على الأوّل على ما ذكره الفاضل السيّد نعمة الله رحمه‌الله في رسالته «منبع الحياة» (١) وجوه :

منها : الأخبار المستفيضة (٢) بل المتواترة ، مثل ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا سئل عن المناسبة بين قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ.)(٣) فقال : لقد سقط بينهما أكثر من ثلث القرآن(٤).

وما روي عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)(٥) قال عليه‌السلام : كيف يكون هذه الامّة خير أمّة وقد قتلوا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ليس هكذا نزلت وإنّما

__________________

(١) ص ٦٦.

(٢) حتى عند الفريقين فإنّ عند المخالفين أيضا استفاضة الأخبار على ما رواه السيّد عليخان في شرحه «رياض السالكين» «للصحيفة السجادية». راجع ٧ / ٤٣٠ و ٥ / ٣٩١.

(٣) النساء : ٤.

(٤) ومثله في تفسير «الصافي» ١ / ٤٢٠ أيضا عند تفسير الآية.

(٥) آل عمران : ١١٠.

٣٢٢

نزولها : كنتم خير أئمّة ، أي الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام (١).

ومنها : الأخبار المستفيضة في أنّ آية الغدير هكذا نزلت : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)(٢). إلى غير ذلك ممّا لو جمع لكان كتابا كثير الحجم.

ومنها : أنّ القرآن كان ينزل منجّما (٣) على حسب المصالح والوقائع ، وكتّاب الوحي كانوا أربعة عشر رجلا من الصّحابة وكان رئيسهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد كانوا في الأغلب ما يكتبون إلّا ما يتعلّق بالأحكام ، وإلّا ما يوحى إليه في المحافل والمجامع.

وأمّا الذي كان يكتب ما ينزل عليه في منازله وخلواته فليس هو إلّا أمير المؤمنين عليه‌السلام لأنّه عليه‌السلام كان يدور معه صلى‌الله‌عليه‌وآله كيفما دار ، فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف. فلمّا مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى لقاء حبيبه وتفرّقت الأهواء بعده ، جمع أمير المؤمنين عليه‌السلام القرآن كما انزل وشدّه بردائه وأتى به إلى المسجد ، فقال لهم : هذا كتاب ربّكم كما انزل.

فقال عمر : ليس لنا فيه حاجة ، هذا عندنا مصحف عثمان.

فقال عليه‌السلام : لن تروه ولن يراه أحد حتّى يظهر القائم عليه‌السلام. إلى أن قال (٤) : وهذا القرآن كان عند الأئمّة عليهم‌السلام يتلونه في خلواتهم وربّما اطلعوا عليه لبعض خواصّهم.

كما رواه ثقة الإسلام الكليني عطّر الله مرقده بإسناده إلى سالم بن سلمة ، قال : قرأ

__________________

(١) ومثله في «العياشي» ١ / ٢١٩ و «القمي» ١ / ١١٨ ، كما في «تفسير الصافي» ١ / ٣٧٠.

(٢) كما في «تفسير الصافي» ٢ / ٥١.

(٣) أي مقسّطا. ومنه نجّم عليه الدين اي قسّطه.

(٤) أي السيّد نعمة الله.

٣٢٣

رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرأها الناس. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «مه كفّ عن هذه القراءة ، واقرأ كما يقرأها الناس حتّى يقوم القائم عليه‌السلام ، فإذا قام قرأ كتاب الله على حدّه ، وأخرج المصحف الذي كتبه عليّ عليه‌السلام» (١).

وقد يوجّه هذا الحديث (٢) وأمثاله ممّا يدلّ على ثبوت شيء آخر نقص من هذا القرآن الذي في أيدينا ، بأنّ المراد ما نقص المعنى وتغييره إلى ما ليس مراده تعالى أو نقص ما فسّروه به. يعني أنّهم عليهم‌السلام كتبوا في مصاحفهم تفسير الآيات وأصحابهم كانوا يتلفّظون بها فمنعوهم عن ذلك أو أنّ أصحابهم كانوا يفسّرون الآيات بشيء لم يكن إظهاره صلاحا لوقتهم ، فأمروهم بالكفّ عن ذلك حتّى يظهر القائم عليه‌السلام فيظهره ، لا أنّه كان شيء في القرآن داخلا فأخرجوه ، وهو بعيد ، بل لا يمكن جريانه في كثير من تلك الأخبار بوجه من الوجوه.

ثمّ قال السيّد (٣) بعد نقل الحديث : وهذا الحديث وما بمعناه قد أظهر العذر في تلاوتنا من هذا المصحف (٤) والعمل بأحكامه.

ثمّ ذكر حكاية طبخ عثمان ما عدا مصحفه من مصاحف كتّاب الوحي ، فلو لا حصول المخالفة بينهما لما ارتكب هذا الأمر الشنيع الذي صار من أعظم المطاعن عليه.

ثمّ نقل عن كتاب «سعد السعود» (٥) للسيّد بن طاوس رحمه‌الله أنّه نقل عن محمّد

__________________

(١) «اصول الكافي» : ج ٢ ، باب النوادر / ٢٨٣ / ح ٢٣.

(٢) وهذا الكلام أيضا من السيّد.

(٣) الفاضل المتقدم ذكره نعمة الله الجزائري.

(٤) وهذا إشارة الى ما ورد عن الامام عليه‌السلام : كفّ عن هذه القراءة واقراء كما يقرأها الناس.

(٥) ص ٢٧٩.

٣٢٤

بن بحر الرّهني من أعاظم علماء العامّة في بيان التفاوت في المصاحف التي بعث بها عثمان إلى أهل الأمصار قال : اتّخذ عثمان سبع نسخ ، فحبس منها بالمدينة مصحفا ، وأرسل إلى أهل مكّة مصحفا ، وإلى أهل الشام مصحفا ، وإلى أهل الكوفة مصحفا ، وإلى أهل البصرة مصحفا ، وإلى أهل اليمن مصحفا ، وإلى أهل البحرين مصحفا (١) ، ثمّ عدّد ما وقع فيها من الاختلاف بالكلمات والحروف ، مع أنّها كلّها بخطّ عثمان ، فكيف حال ما ليس بخطّه.

ثمّ ذكر السيّد الاختلاف في القرآن الواقع في أزمان القرّاء ، وذلك أنّ المصحف الذي دفع إليهم خال من الإعراب والنقط كما هو الآن موجود في المصاحف التي هي بخطّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وأولاده المعصومين عليهم‌السلام وقد شاهدنا عدّة منها في خزانة الرّضا عليه‌السلام(٢).

نعم ذكر جلال الدّين السيوطي في كتابه الموسوم ب «المطالع السعيدة» : أنّ أبا الأسود الدؤلي أعرب مصحفا واحدا في خلافة معاوية.

وبالجملة لمّا دفعت إليهم المصاحف على ذلك الحال تصرّفوا في إعرابها ونقطها وإدغامها وإمالتها ونحو ذلك من القوانين المختلفة بينهم على ما يوافق مذاهبهم في

__________________

(١) واعلم أنّ أبا عمر الدّاني أحد علماء القراءات المتوفى سنة ٤٤٤ وصاحب كتاب «التيسير في القراءات السبع» و «المقنع في رسم القرآن» و «المحكم في نقد المصاحف» قال في المقنع ، جعلها على أربع نسخ ، وقد قيل : انّه جعله سبع نسخ. وأما السيوطي فيرى أنّ المشهور أنّها خمسة كما في «الاتقان» ١ / ١٠٤ انتهى. وأقول : واذا أضفنا إليها المصحف الذي حبسه لنفسه في المدينة أصبحت ستة لأن المذكور ما بعثه.

(٢) وكذا أنّا شاهدته في العام ١٤٠٥ للهجرة في مشهد المقدّسة ، وذكر لي بالأمس القريب بأنّه لا زال موجودا.

٣٢٥

اللّغة والعربية ، كما تصرّفوا في النحو وصاروا إلى ما دوّنوه من القواعد المختلفة.

قال محمّد بن بحر الرّهني : إنّ كلّ واحد من القرّاء قبل أن يتجدّد القارئ الذي بعده كانوا لا يجيزون إلّا قراءة ، ثمّ لمّا جاء القارئ الثاني انتقلوا عن ذلك المنع إلى جواز قراءة الثاني ، وكذلك في القراءات السبع فاشتمل كلّ واحد على إنكار قراءته ، ثمّ عادوا إلى خلاف ما أنكروه ، ثمّ اقتصروا على هؤلاء السّبعة ، مع انّه قد حصل في علماء المسلمين والعاملين [والعالمين] بالقرآن أرجح منهم ، مع أنّ زمان الصّحابة ما كان هؤلاء السّبعة ولا عددا معلوما من الصّحابة للناس يأخذون القراءات عنهم.

ثمّ ذكر قول الصّحابة لنبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله على الحوض : «كيف خلّفتموني في الثّقلين من بعدي؟» فيقولون : «أمّا الأكبر فحرّفناه وبدّلناه وأمّا الأصغر فقتلناه ، ثمّ يذادون عن الحوض» (١).

وأمّا الدليل على الثاني فقوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)(٢) ولا دلالة فيه أصلا كما لا يخفى.

وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). (٣)

وفيه : أنّه لا يدلّ على عدم التغيير في القرآن الذي بأيدينا ، فيكفي كونه محفوظا عند الأئمّة عليهم‌السلام في حفظ أصل القرآن في مصداق الآية.

ولا ريب أنّ ما في أيدينا أيضا محفوظ من أن يتطرّق إليه نقص آخر أو زيادة ،

__________________

(١) «تفسير القمي» : ١ / ١٠٩ ، البحار : ٣٧ / ٣٤٦.

(٢) فصّلت : ٤٢.

(٣) الحجر : ٩.

٣٢٦

مع احتمال أن يراد من قوله تعالى : (لَحافِظُونَ)، لعالمون ، وأنّ القول بجواز التبديل فتح لباب الكلام على إعجاز القرآن وعلى استنباط الأحكام منه.

وفيه : أنّه لم يخرج بذلك عن كونه معجزا لبقاء الاسلوب والبلاغة اللّذين هما مناط الإعجاز بحالهما ، بل سائر وجوه الإعجاز أيضا مع أنّه لم يدلّ الإخبار على حصول الزّيادة.

وادّعى على عدمها أيضا الإجماع الشيخ والطبرسي في «التبيان» و «مجمع البيان» (١) والذي له مدخليّة في الإخراج عن حدّ الإعجاز هو الزّيادة غالبا.

وكذلك (٢) لم يظهر وقوع التحريف في آيات الأحكام ، مع أنّه لو وقع فليس بأعظم من غيبة الإمام عليه‌السلام.

وما ورد من الأخبار الدالّة على وجوب التمسّك بالكتاب والأمر باتّباعه وعرض الأخبار على كتاب الله ، ونحو ذلك.

وفيه : أنّ ما ورد من هذه الأخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينافي ما ذكرنا ، فإنّه أمر أيضا بالتمسّك بالأوصياء مع أنّهم صاروا ممنوعين عن التبليغ كما هو حقّه.

وأمّا ما ورد من الأئمّة عليهم‌السلام فلا ينافي تجويزهم العمل بها من باب التقيّة وحكم الله الظاهري كما سنقول في القراءات السّبع المتواترة ما يقرب من ذلك ، أو نقول : انّا لا نلتزم تغيير الأحكام فيما ذكر في الكتاب الذي بأيدينا اليوم ، بل هي صحيحة وإن كان لا ينافي ذلك حذف بعض الكلمات عنه ، كذكر أسماء أهل البيت عليهم‌السلام

__________________

(١) راجع «مجمع البيان» مقدّمة الكتاب ١ / ١٤ ، وكذا مقدّمة المؤلّف في «التبيان» ١ / ٣.

(٢) هذا جواب عن الجزء الثاني.

٣٢٧

والمنافقين ، وعدم ذكر بعض الأحكام أيضا ، بل الظاهر من بعض الأصحاب دعوى الإجماع على عدم وقوع تحريف وتغيير في الكتاب يوجب تغيير الحكم.

الثاني : أنّ المشهور كون القراءات السّبع متواترة ، وهي المروية عن مشايخها السّبعة ، وهم نافع وأبو عمرو والكسائي وحمزة وابن عامر وابن كثير وعاصم (١) ، وادّعى على تواترها الإجماع (٢) ، جماعة من أصحابنا.

وبعضهم ألحق بها القراءات الثلاث الباقية أيضا ، ومشايخها أبو جعفر ويعقوب وخلف (٣) وهو المشهور بين المتأخّرين.

وممّن صرّح بكونها متواترة ، الشهيد في «الذّكرى» (٤) ، والشهيد الثاني في

__________________

(١) نافع المدني : (٧٠ ـ ١٦٩ ه‍) ابن عبد الرحمن بن أبي نعيم ، أبو رويم الليثي وأصله من اصبهان.

أبو عمرو بن العلاء : (٦٨ ـ ١٥٤ ه‍) زبان بن العلاء التميمي المازني البصري.

الكسائي : (١١٩ ـ ١٨٩ ه‍) الكوفي أبو الحسن ، علي بن حمزة.

حمزة : (٨٠ ـ ١٥٦ ه‍) الكوفي ، أبو عمارة ، حمزة بن حبيب الزيات التيمي ولاء.

ابن عامر : (٨ ـ ١١٨ ه‍) الدمشقي ، عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة اليحصبي.

ابن كثير : (٤٥ ـ ١٢٠ ه‍) المكي ، عبد الله أبو معبد العطار الداري الفارسي.

عاصم : (... ـ ١٢٧ وقيل غير ذلك ه) الكوفي ، أبو بكر ، عاصم بن أبي النجود الأسدي بالولاء.

(٢) راجع «شرح الألفية» ص ١٣٧ ، وهو ينقل عن صاحب «الذكرى» تواترها.

(٣) أبو جعفر : (... ـ ١٣٠ ه‍) يزيد بن القعقاع المخزومي المدني.

يعقوب : (١١٧ ـ ٢٠٥ ه‍) أبو محمد ، يعقوب بن اسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي البصري مولى الحضرميين.

خلف : (١٥٠ ـ ٢٢٩ ه‍) أبو محمد الأسدي البزار البغدادي.

(٤) وقد نقل ذلك عنه الشهيد في «شرح الألفية» ص ١٣٧.

٣٢٨

«روض الجنان» بعد نقل الشهرة عن المتأخّرين ، وشهادة الشهيد على ذلك. قال : ولا يقصر ذلك عن ثبوت الإجماع بخبر الواحد ، فيجوز القراءة بها مع أنّ بعض محقّقي القرّاء من المتأخّرين أفرد كتابا في أسماء الرّجال الّذين نقلوها في كلّ طبقة ، وهم يزيدون عمّا يعتبر في التواتر ، فيجوز القراءة بها إن شاء الله تعالى (١).

انتهى كلامه.

وبعضهم زاد على ذلك (٢) وهو مهجور.

وأنكر الزمخشري تواتر السّبعة ووافقه على ذلك جماعة من الأصحاب. قال السيّد الفاضل المقدّم ذكره (٣) بعد اختياره عدم التواتر : وقد وافقنا عليه السيّد الأجل عليّ بن طاوس في مواضع من كتاب «سعد السّعود» وغيره ، وصاحب «الكشّاف» (٤) عند تفسير قوله تعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ،)(٥) ونجم الأئمّة الرّضي رحمه‌الله (٦) في موضعين من «شرح الرّسالة» ، أحدهما عند قول ابن الحاجب ، وإن عطف على الضمير المجرور اعيد الخافض. ثمّ إنّ ظاهر الأكثر أنّها متواترة إن كانت جوهريّة ، أي من قبيل جوهر

__________________

(١) روض الجنان : ص ٢٦٤ الطبعة القديمة ، والطبعة الجديدة دفتر تبليغات المجلد الثاني : ص ٧٠٠.

(٢) فجعلها أربع عشرة ، بزيادة أربع قراءات على العشر التي عرفت وهي : للحسن البصري المتوفى ١١٠ ه‍ ، ومحمّد بن عبد الرضا المعروف بابن محيصن المتوفى ١٣٣ ، ويحيى بن المبارك اليزيدي المتوفى ٢٠٢ ، ومحمّد بن أحمد الشنبوذي المتوفى ٣٨٨.

(٣) الفاضل المتقدم ذكره السيد نعمة الله الجزائري.

(٤) راجع «الكشّاف» ٢ / ٦٨ ، وحاشيته هناك ، والمصدّرة بقال محمود.

(٥) الانعام : ١٣٧.

(٦) ومن الأواخر على ما نقل الفاضل الآقا محمد باقر والسيّد علي صاحب الرياض.

٣٢٩

اللّفظ ، ك : ملك ومالك ، ممّا يختلف خطوط المصحف والمعنى باختلافه لأنّه قرآن ، وقد ثبت اشتراط التواتر فيه.

وأمّا إن كانت أدائيّة ، أي من قبيل الهيئة ، كالإمالة والمدّ واللّين ، فلا ، لأنّ القرآن هو الكلام ، وصفات الألفاظ ليست كلاما ، ولأنّه لا يوجب ذلك اختلافا في المعنى ، فلا يتعلّق فائدة مهمّة بتواتره.

أقول : والظاهر أنّ مراد الأصحاب ممّن يدّعي تواتر السّبعة أو العشرة هو تواترها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله تعالى كما يشير إليه ما سننقله عن «شرح الألفية». ويشكل ذلك بعد ما عرفت ما نقلناه في القانون [المبحث] السّابق (١).

نعم إن كان مرادهم تواترها عن الأئمّة عليهم‌السلام بمعنى تجويزهم عليهم‌السلام قراءتها والعمل على مقتضاها ، فهذا هو الذي يمكن أن يدّعى معلوميّتها من الشارع ، لأمرهم بقراءة القرآن كما يقرأ الناس وتقريرهم لأصحابهم على ذلك.

وهذا لا ينافي عدم علميّة صدورها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ووقوع الزّيادة والنقصان فيه والإذعان بذلك ، والسّكوت عمّا سواه أوفق بطريقة الاحتياط.

وأمّا الاستدلال على كون السّبع من الله تعالى بما ورد في الأخبار أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، فهو لا يدلّ على المطلوب.

وقد ادّعى بعض العامّة تواترها ، واختلفوا في معناه على ما يقرب من أربعين قولا.

__________________

(١) وهو حكاية ابقاء مصحف عثمان وطبخ غيره من مصاحف كتّاب الوحي ، وحكاية أنّ عثمان أرسل سبع مصاحف الى أهل الأمصار وكلها بخطه فوجد فيها اختلاف كثير وغير ذلك ممّا ذكر في القانون السّابق.

٣٣٠

وقال ابن الأثير في «نهايته» في الحديث : «نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها كاف شاف» ، أراد بالحرف اللّغة ، يعني على سبع لغات من لغات العرب ، أي انّها متفرّقة (١) في القرآن ، فبعضه بلغة قريش ، وبعضه بلغة هذيل ، وبعضه بلغة هوازن ، وبعضه بلغة يمن (٢) ، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه ، على أنّه قد جاء في القرآن ما قرئ بسبعة ، وعشرة ، كقوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ،)(٣)(وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.)(٤)

وممّا يبيّن ذلك قول ابن مسعود : إنّي قد سمعت القرّاء (٥) فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علّمتم إنّما هو كقول أحدكم : هلم وتعال وأقبل. وفيه أقوال غير ذلك هذا أحسنها (٦). انتهى كلامه ، وعن «القاموس» مثل ذلك. مع أنّ الكليني روى في الحسن كالصحيح عن الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ الناس يقولون أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف. فقال : «كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد» (٧).

والظاهر أنّه عليه‌السلام كذّبهم لأجل فهمهم من النزول على سبعة أحرف النزول على القراءات السّبع كما هو الظاهر من قوله عليه‌السلام : «نزل على حرف واحد من عند

__________________

(١) في الأصل : مفرّقة.

(٢) في الأصل : اليمن.

(٣) الفاتحة : ٤.

(٤) المائدة : ٦٠. فحمزة قرأها (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) وأما الباقون (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ،) بل نقل عن ابن جني في «المحتسب» ١ / ١٤ ـ ٢١٥ انّ لها عشر قراءات. ونقل عن ابن خالويه تسع عشرة قراءة لتلك الآية في كتابه «المختصر لشواذ القرآن» ص ٣٣.

(٥) في الأصل : القراءة.

(٦) النهاية في غريب الحديث والأثر : ١ / ٣٦٩ ، القاموس المحيط : ٣ / ١٢٧.

(٧) «الكافي» : ٢ / ٦٣ ح ١٣.

٣٣١

الواحد». فلا ينافي صحّة الخبر إذا اريد منه اللّغات السّبع أو البطون السّبعة أو نحو ذلك ، مثل ما روى أصحابنا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كلّ قسم منها كاف شاف وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص» (١).

ومثلها روى العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وكذلك ما رووه أيضا (٢) عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرّواة»(٣).

ويؤيّد ما ذكرنا أنّ المراد بالسّبعة ليس القراءات السّبع ، ما رواه في «الخصال» (٤) عن الصّادق عليه‌السلام قال له حمّاد : إنّ الأحاديث تختلف عنكم ، قال : فقال : «إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف وأدنى ما للإمام عليه‌السلام أن يفتي على سبعة وجوه. ثمّ قال : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٥)». وما رواه العامّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انّ القرآن نزل على سبعة أحرف لكلّ آية منها ظهر وبطن ولكلّ حرف حدّ ومطلع» (٦). وفي رواية اخرى : «إنّ للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن».

__________________

(١) «التفسير الصافي» : ١ / ٥٩.

(٢) في بعض النسخ ما رواه وهو أي روى الراوي وفي بعض النسخ ما رووه بصيغة الجمع فيكون حينئذ ضمير الجمع للأصحاب.

(٣) «الكافي» ٤ / ٤٣٩ باب ٤٧١ ح ١٢.

(٤) «الخصال» : ٣٥٨ ح ٤٣ ، «بحار الأنوار» : ٨٩ / ٤٩ ح ١٠.

(٥) ص : ٣٩.

(٦) كنز العمال : ٢ / ٥٣ ح ٣٠٨٦.

٣٣٢

نعم روى في «الخصال» عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن آبائه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أتاني آت من الله فقال : انّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت : يا ربّ وسّع على أمّتي. فقال : إنّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف» (١). وهذه الرّواية مع ضعف سندها أيضا غير واضحة الدّلالة على المطلوب.

وكيف كان فدعوى تواتر السّبعة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله محلّ كلام.

وقد ذكر السيّد المتقدّم ذكره (٢) في بيان منع تواترها أيضا : أنّهم نصّوا على أنّه كان لكلّ قارئ راويان يرويان قراءته.

نعم اتّفق التواتر في الطبقات اللّاحقة ، وأيضا تواترها عنهم (٣) كيف يفيدوهم من آحاد المخالفين استبدّوا بآرائهم كما تقدّم ، وإسنادهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إن ثبت فلا حجّة فيه (٤) ، مع أنّ كتب القراءة والتفاسير مشحونة من قولهم : قرأ حفص كذا ، وعاصم كذا ، وفي قراءة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأهل البيت عليهم‌السلام كذا ، بل ربّما قالوا :في قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كذا كما يظهر من الاختلافات المذكورة في قراءة : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). (٥)

والحاصل ، أنّهم يجعلون قراءة القرّاء قسيمة لقراءة المعصومين عليهم‌السلام ، فكيف يكون القراءات السّبع متواترة من الشارع. انتهى ما ذكره.

أقول : ويمكن أن يقال أنّ الراويين كانا يرويان القراءة عن شيخهم بمعنى أنّ

__________________

(١) الخصال : ٣٥٨ ح ٤٤.

(٢) نعمة الله الجزائري.

(٣) أي عن القرّاء.

(٤) لأنّهم من المخالفين فهم غير عدول.

(٥) الفاتحة : ٧.

٣٣٣

شيخهم كان يقرأ كذا ، يعني أنّ الشيخ كان يختار هذه القراءة من جملة القراءات المتواترة ، فتخصيص الراويين بالنقل إنّما هو لأجل إسناد الاختيار والترجيح ، لا رواية أصل القراءة حتّى يستند في منع حصول التواتر بذلك ، وذلك لا ينافي مخالفتهم للمعصومين أيضا ، لأنّهم كانوا يختارون ما نقل عنهم.

وقد يؤيّد عدم تواتر السّبع أيضا باختلاف القرّاء في ترك البسملة ، فقد نقل متواتر عن قراءة كثير منهم ترك البسملة ، مع أنّ الأصحاب مجمعون على بطلان الصّلاة بتركها (١) ، فكيف يحكمون ببطلان المتواتر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه تأمّل (٢).

وأمّا على ما بنينا عليه من كون ذلك تجويزا عن الأئمّة عليهم‌السلام فيصحّ الجواب باستثناء ذلك كما ورد في الأخبار المستفيضة من كون البسملة جزء ، وانعقد إجماعهم عليه.

ثمّ إنّ الشهيد الثاني رحمه‌الله قال في «شرح الألفية» (٣) : واعلم أنّه ليس المراد أنّ كلّ ما ورد من هذه القراءات متواتر ، بل المراد انحصار المتواتر الآن فيما نقل من هذه القراءات ، فإنّ بعض ما نقل عن السّبعة شاذّ ، فضلا عن غيرهم كما حقّقه جماعة من أهل هذا الشأن ، والمعتبر القراءة بما تواتر من هذه القراءات وإن ركب بعضها في بعض ، ما لم يترتّب بعضه على بعض آخر بحسب العربية فيجب مراعاته كقوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ.)(٤) فإنّه لا يجوز الرّفع فيهما ولا

__________________

(١) عمدا.

(٢) وجه التأمل أنّ مجرّد ترك البسملة من القرآن وجزء من السّورة على مذهب القرّاء ، إذ لعلّ ذلك الترك بسبب تجويزهم التبعيض في السّورة لأنّ البسملة ليست من القرآن رأسا ، هذا كما في الحاشية.

(٣) ص ١٣٧ «المقاصد العلية» للشهيد الثاني وهي «شرح الألفية» للشهيد الأوّل.

(٤) البقرة : ٣٧.

٣٣٤

النصب وإن كان كلّ منهما متواترا بأن يؤخذ رفع آدم من غير قراءة ابن كثير ، ورفع كلمات من قراءته (١) ، فإنّ ذلك لا يصحّ ، لفساد المعنى. ونحوه : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا)(٢) بالتشديد مع الرّفع أو بالعكس (٣). وقد نقل ابن الجوزي (٤) في «النشر» عن أكثر القرّاء جواز ذلك أيضا (٥) واختار ما ذكرناه (٦).

وأمّا اتباع قراءة الواحد من العشرة في جميع السّور فغير واجب قطعا ، بل ولا مستحبّ ، فإنّ الكلّ من عند الله نزل به الرّوح الأمين على قلب سيّد المرسلين تخفيفا عن الامّة وتهوينا على أهل هذه الملّة ، وانحصار القراءات فيما ذكر أمر حادث غير معروف في الزّمن السّابق ، بل كثير من الفضلاء أنكر ذلك خوفا من التباس الأمر وتوهّم أنّ المراد بالسّبعة هي الأحرف التي ورد في النقل أنّ القرآن انزل عليها ، والأمر ليس كذلك (٧) فالواجب القراءة بما تواتر ، انتهى (٨).

قوله رحمه‌الله : وانحصار القراءات ... الخ متشابه المقصود ، والأظهر أنّه ابتداء تحقيق ، يعني أنّها في الصدر الأوّل لم تكن منحصرة في السّبع والعشر ، بل كانت أزيد من

__________________

(١) من قراءة ابن كثير.

(٢) آل عمران : ٣٧.

(٣) أي بتخفيف كفلها مع نصب زكريا.

(٤) والصحيح أنّه ابن الجزري.

(٥) أي جواز تركب بعض القراءات في بعض مع ترتب بعضه على بعض آخر بحسب العربيّة أيضا.

(٦) أي أنّ ابن الجزري اختار ما ذكرناه.

(٧) أي كما ذهب اليه الكثير من الفضلاء من الانكار والتوهم. راجع «النشر في القراءات العشر» ١ / ١٩.

(٨) إلى هنا ينتهي كلام الشهيد في «شرح الألفية».

٣٣٥

ذلك ، وأنكر كثير منهم ذلك حتّى لا يتوهّم أنّ المرخّص فيه في الصّدر الأوّل إنّما هو هذا القدر كما يشير إليه ما نقلناه عن «النهاية». ثمّ إنّ ما توافقت فيه القراءات فلا إشكال ، والمشهور في المختلفات التخيير لعدم المرجّح ، ويشكل الأمر فيما يختلف به الحكم في ظاهر اللّفظ مثل : يطهرن ويطهّرن ، فإن ثبت مرجّح كما ثبت للتخفيف هنا ، فيعمل عليه.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا (١) وقوع الخلاف في هذه الآية ، وإلّا لتعيّن التخيير في العمل.

وقال العلّامة رحمه‌الله في «المنتهى» : وأحبّ القراءات إليّ (٢) ما قرأه عاصم من طريق أبي بكر بن عيّاش (٣) ، وطريق أبي عمرو بن العلاء ، فإنّها أولى من قراءة حمزة والكسائي لما فيها من الإدغام والإمالة وزيادة المدّ ، وذلك كلّه تكلّف ، ولو قرأ به ، صحّت صلاته بلا خلاف.

الثالث : لا عمل بالشواذّ لعدم ثبوت كونها قرآنا (٤).

__________________

(١) من الاشكال الواقع على المشهور من اختيارهم في المختلفات.

(٢) «منتهى المطلب» ١ / ٢٧٣ ونقله عنه المحقق البهبهاني في «فوائده» ص ٢٨٧ ويبدوا ان هذا الحب اشتهائي فرارا من الكلفة لا حب من جهة الدليل كما في الحاشية.

(٣) شعبة بن عياش بن سالم الكوفي الاسدي النهشلي ولاء (٩٥ ـ ١٩٣ ه‍)

(٤) لاشتراط التواتر في القرآن كما نقل وبهذا أيضا قال النووي في «شرح المهذب» : لا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة لأنّها ليست قرآنا ، لأنّ القرآن لا يثبت إلّا بالتواتر والقراءة الشاذة ليست متواترة ومن قال غيره فغالط او جاهل. وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قراء بالشاذ ونقل ابن عبد البر اجماع المسلمين على أنّه لا يجوز القراءة بالشواذ ولا يصلى خلف من يقرأ بها.

٣٣٦

وذهب بعض العامّة إلى أنّها كأخبار الآحاد يجوز العمل بها (١) ، وهو مشكل لأنّ إثبات السنة بخبر الواحد قام الدّليل عليه بخلاف الكتاب ، وذلك كقراءة ابن مسعود في كفّارة اليمين ، فصيام ثلاثة أيّام متتابعات (٢) ، فهل ينزل منزلة الخبر لأنّها رواية أم لا ، لأنّها لم تنقل خبرا ، والقرآن لا يثبت بالآحاد. ويتفرّع عليه وجوب التّتابع في كفّارة اليمين وعدمه ، ولكن ثبت الحكم عندنا من غير القراءة.

__________________

(١) كأبي حنيفة وردّه الغزالي بقوله : وهذا ضعيف ... وهو ان جعله من القرآن فهو خطاء قطعا راجع «المستصفى» ١ / ١٠١.

(٢) قال تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) المائدة : ٨٩.

٣٣٧

المقصد الثالث

في السنة (١)

وهو قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره الغير العاديات (٢) وفيه مطلبان :

المطلب الأوّل :

في القول

قانون

الحديث هو ما يحكي قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره.

والظاهر أنّ حكاية الحديث القدسي داخلة في السنّة ، وحكاية هذه الحكاية

__________________

(١) السّنّة في اللّغة الطريقة والسيرة ومنه قوله تعالى : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) الاسراء : ٧٧ ، وقوله عليه‌السلام : في زيارة أمين الله عليه‌السلام (مستنة بسنن أوليائك). وفي الاصطلاح هو ما ذكره المصنف في المتن.

(٢) إذ الامور الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام تارة تكون من مقتضى الطبيعة والعادة كصدور الضروريات من الأكل والشرب والحركة ، وتارة ليست من مقتضى الطبيعة لكن وجه صدورها لأجل تكميل العباد وتبليغ الأحكام. فالأمور التي من السنة هي التي من القسم الثاني لا الأوّل. ويمكن القول أنّ غير الأمور الصادرة في مقام التكميل والإبلاغ كلها من العاديات. فالسنّة في طريقة النبي والأوصياء عليهم‌السلام قولا وفعلا وتقريرا في مقام الابلاغ والتكميل.

٣٣٨

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله داخل في الحديث. وأمّا نفس الحديث القدسي (١) فهو خارج عن السنّة والحديث والقرآن. والفرق بينه وبين القرآن ، أنّ القرآن هو المنزل للتحدّي والإعجاز ، بخلاف الحديث القدسي (٢).

وقد يعرّف الحديث (٣) بأنّه : قول المعصوم عليه‌السلام أو حكاية قوله أو فعله أو تقريره ، ليدخل فيه أصل الكلام المسموع عن المعصوم عليه‌السلام. والأنسب بقاعدة النقل هو عدم الدّخول لكون كلامه عليه‌السلام في الأغلب أمرا أو نهيا ، بخلاف حكايته ، فإنّه دائما إخبار.

ونفس الكلام المسموع هو الذي يسمّونه بالمتن ، ومتن الحديث مغاير لنفسه (٤).

__________________

(١) الحديث القدسي : هو الكلام الصادر من الخالق تعالى حكي عن أحد أنبيائه وأوصيائه عليهم الصلاة والسلام ، مثل ما روي من قوله تعالى : الصوم لي وأنا أجزي به. وما روي أيضا : من أنّه تعالى أوحى الى نبي انّه قل لقومك لا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تأكلوا ما أكل أعدائي ولا تشاكلوا ما شاكل به أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم اعدائي. واعلم انّ منها ما اتصل الى أحد الانبياء أو الائمة عليهم الصلاة والسّلام بأن يحكيها عن الله تعالى نبي أو امام ، ومنها ما لا يتصل الى أحد الأئمة والأنبياء ، بل حكاها العلماء مرسلة. وكلام المصنّف حول القسم الأول.

(٢) قال في «مجمع البحرين» ٦ / ٣٧١ : ومما يفرق بين القرآن والحديث القدسي انّ القرآن مختص بالسماع من الروح الأمين والحديث القدسي قد يكون إلهاما أو نفثا في الروع ونحو ذلك. وانّ القرآن مسموع بعبارة بعينها وهي المشتملة على الإعجاز بخلاف الحديث القدسي.

(٣) والحديث في اللّغة بمعنى الخبر.

(٤) وردّه صاحب «الفصول» ص ٢٦٧ باحتمال كون الاضافية بيانية. وقد ردّ في ـ

٣٣٩

ومذهب أصحابنا أنّ ما لا ينتهي إلى المعصوم عليه‌السلام ليس حديثا.

وأمّا العامّة فاكتفوا فيه بالانتهاء إلى أحد الصّحابة أو التابعين أيضا. والكلام فيما يرد على التعريفات وإصلاح طردها وعكسها يشغلنا عنه ما هو أهمّ ، فلنقتصر على ذلك.

ثمّ إنّ الخبر قد يطلق على ما يرادف الحديث ، كما هو مصطلح أصحاب الدراية(١).

وقد يطلق على ما يقابل الإنشاء ، وقد عرفت تعريفه على الأوّل.

وأمّا على الثاني فهو كلام لنسبته خارج يطابقه أو لا يطابقه.

والمراد بالخارج هو الخارج عن مدلول اللفظ وإن كان في الذّهن ليدخل مثل : علمت ، وليس المراد به ثبوته في جملة الأعيان الخارجية لينافي كونها أمرا اعتباريا ، لا أمرا مستقلا موجودا. وأيضا الموجود الخارجي على ما ذكره بعض المحقّقين (٢) هو ما كان الخارج ظرفا لوجوده لا لنفسه ، ولا ريب أنّ الخارج ظرف لنفس النسبة لا لوجودها ، فيقال : زيد موجود في الخارج ، بمعنى أنّ وجود زيد في الخارج لا نفسه.

__________________

ـ الحاشية ردّ صاحب «الفصول» بقوله : ويضعف هذا الردّ بأنّ الأغلب في الاضافة عدم البيانية مع أنّ المتبادر من لفظ متن الحديث كونه غيره ، لكن يمكن ان يدعى التبادر بالعكس.

(١) علم يبحث فيه عن متن الحديث ، ليميّز صحيحه من سقيمه ، والمقصود منه ، ليعرف المقبول منه والمردود ، وهذا بخلاف علم الرجال لأنّ فيه يبحث عن أحوال الرجال لتمييز العادل منهم والثقة في نقله عن غيره.

(٢) وهو الشريف في حاشيته على «المطوّل».

٣٤٠