القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

الكتاب بخبر الواحد يستلزم تخصيص أدلّة خبر الواحد بهذه الأخبار ، فيلزم عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لأنّ ما يستلزم ثبوته انتفاؤه ، فهو باطل ، وذلك لما عرفت من ضعف الاستدلال بهذه الأخبار. فالقول بتخصيص الكتاب بخبر الواحد مخصوص بغير هذه الأخبار في المخالفة الخاصّة (١) ، فإنّها إمّا مهجورة أو مخصوصة بصورة المناقضة والمنافاة رأسا.

وأمّا الجواب عن الثاني : فعن الشقّ الأوّل من الترديد ، بأنّ المسلّم من التخصيص والذي ندّعيه هو الفرد الخاصّ ، يعني التخصيص في الأفراد لا جميع أفراده أو ما يشملهما.

وعن الشقّ الثاني (٢) : فبإبداء الفارق بالإجماع المدّعى في النسخ أوّلا ، وبأنّ التخصيص أغلب وأشيع وأرجح من النّسخ لكمال وضوح ندرته وغلبة التخصيص ثانيا.

وقد يتمسّك في إبداء الفرق ، بأنّ التخصيص أهون من النّسخ لأنّه دفع لبعض المدلول قبل العمل به ، والنّسخ رفع للمدلول المعمول عليه (٣).

وقد يوجّه ذلك : بأنّ حدوث الحادث محتاج الى العلّة ويكفي في بقائه علّة

__________________

ـ المذكورة يندفع ما قيل : انّ القبول بتخصيص الكتاب بالخبر يستلزم عدمه وما هو كذلك فهو باطل.

(١) قال في الحاشية : يعني في بيان حكم المخالفة بعنوان التخصيص لا المخالفة بعنوان العموم ورفع حكم الكتاب كليّا ورأسا. والحاصل أنّ هذه الأخبار تدلّ على شيئين أحدهما : وجوب طرح ما خالف الكتاب بعنوان الخصوص. والثاني : طرح وجوب ما خالفه بعنوان التناقض.

(٢) والمراد بالشق الثاني هو قول المستدلّ وانّ العلّة في التخصيص ... الخ.

(٣) راجع حاشية السلطان على «المعالم» : ص ٣٠٣.

١٦١

الوجود ، فدفع حصوله بسبب عدم ثبوت علّته أسهل من دفع ما ثبت ، لعدم احتياجه في الثبوت الى علّة أخرى ، وهو مع أنّه لا معنى له في أحكام الله تعالى وأفعاله ، ولا يصعب عليه شيء أبدا ، وأنّه موقوف على إثبات عدم احتياج البقاء الى المؤثّر الجديد ، وهو ممنوع.

وانّ حصول ما لم يكن في الواقع والخارج ليس بأقلّ من بقاء ما ثبت ، فهو مردود بأنّه لا يرجع الى محصّل ، إذ الإشكال في أنّ خاصّ الخبر إذا ورد مع عامّ الكتاب ، فهل يقتضي معاملة أهل اللسان في فهم الألفاظ حمله على النّسخ ، أو التخصيص ، وأيّهما أرجح؟

وكون أحدهما أصعب في نفس الأمر عن الآخر مع عدم أقلّيته بالنسبة الى الآخر [كالتخصيص] لا يوجب فهمه من اللّفظ وحمله عليه.

نعم خصوص شيوع التخصيص وأرجحيّته يوجب ترجيحه ، فبطل القول بعدم الفرق بذلك (١).

وربّما يقال (٢) في بيان الفرق بين النسخ والتخصيص : إنّ في النسخ يراد دلالة اللّفظ على جميع الأزمنة وإن لم يكن وقوع المدلول مرادا ، بخلاف التخصيص ، فإنّه لا يراد منه إلّا البعض أوّلا.

فظهر بذلك أنّه لا رفع في التخصيص أصلا ، بخلاف النسخ ، فإنّ فيه رفعا في الجملة.

وفيه : أنّ ذلك تحكّم من قائله ، فإنّ إمكان إرادة الدّلالة في العامّ ووجود

__________________

(١) وليس بما ذكر.

(٢) القائل هو سلطان العلماء في حاشيته على «المعالم» : ص ٣٠٣.

١٦٢

المصلحة في ذلك أيضا قائم إن أريد مجرّد الإمكان ، وإن أريد الفعليّة في النّسخ دون التخصيص فهو أيضا ممنوع ، لإمكان (١) أن يكون المراد في النسخ أيضا الحكم في بعض الأزمان مجازا ولكن تأخّر بيانه ، فالفرق بذلك مشكل.

احتجّ المفصّلون بما يرجع حاصله بعد التحرير : الى أنّ الخاصّ ظنّي والعامّ قطعيّ ، فلا يقاومه إلّا مع ظهور ضعف فيه ، وذلك عند الفرقة الأولى بأن يخصّص مرّة بدليل قطعيّ ، وعند الفرقة الثانية بأن يخصص بمخصّص منفصل. وذلك لأنّ العامّ عند الفرقة الأولى يصير بذلك مجازا في الباقي ، وعند الفرقة الثانية بهذا. والدلالة المجازيّة أضعف من الدلالة الحقيقية كما سيجيء في باب التراجيح.

وجوابه (٢) : يظهر ممّا مرّ ، فإنّ القطعيّة إنّما كانت في المتن لا في الدلالة ، والتخصيص إنّما يقع في الدلالة ، فلا ينافي قطعيّة المتن.

وحجّة المتوقّف : تصادم أدلّة الطرفين ، وعدم المرجّح.

وجوابه : أنّا قد بيّنا إثبات المرجّح.

__________________

(١) لاحتمال ذلك ، فلم يتحقق الفعلية في النسخ.

(٢) راجع جواب صاحب «المعالم : ص ٣٠٦.

١٦٣

قانون

إذا ورد عامّ وخاصّ متنافيا الظاهر (١) فإمّا أن يعلم تاريخهما بالاقتران أو تقدّم الخاصّ أو تقدّم العامّ أو يجهل تاريخهما ، وإن كان بجهالة تاريخ أحدهما ، فهذه أقسام أربعة.

واعلم أنّ مراد الأصوليين بالعام والخاصّ في هذا المبحث هو العامّ والخاصّ المطلقان ، فإنّ العامّين من وجه لا يمكن أن يكون موضوعا لهذا المبحث ، لأنّه لا يقال لهما العامّ والخاصّ على الإطلاق ، بل هما عامّان من وجه ، وخاصّان من وجه ، ولأنّ الأدلّة المذكورة في هذا المبحث لا تنطبق إلّا على الأوّل كما لا يخفى على من تأمّلها. فقد تراهم يجعلون في طيّ هذه الأدلّة ؛ الخاصّ بيانا للعامّ ويفرّعون الكلام فيه على جواز تأخير البيان ، وهو لا يتمّ في الثاني (٢) ، إذ كلّ منهما متّصف بما اتّصف به الآخر من استعداد البيانيّة والمبينيّة وصيرورة أحدهما بيانا للآخر في بعض الأوقات ، وتخصيصه للآخر ليس بذاته ، بل إنّما هو بضميمة المرجّحات الخارجية التي قدّمته على الآخر.

وأيضا قولهم في الصّورة الآتية : بني العامّ على الخاصّ اتّفاقا أو على الأقوى أو نحو ذلك (٣) ، لا يجري في الثاني (٤) ، إذ لو أريد من بناء العامّ على الخاصّ في

__________________

(١) والغرض من هذا القيد الاحتراز عما هو متوافقي الظاهر ، بأن يكون كلاهما مشتملين على حكم الإباحي أو التحريمي.

(٢) وهو العموم من وجه.

(٣) مثل ان يحتمل البناء وعدمه في مقام الشك.

(٤) في العموم من وجه.

١٦٤

الثاني بناء كلّ منهما على الآخر فيلزم تساقطهما جميعا وبطلانهما رأسا كما لا يخفى ، وإن أريد بناء أحدهما على الآخر ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح ، ولا مرجّح في أنفسهما كما هو المفروض ، أي من حيث محض العموم والخصوص ، والاعتماد على المرجّحات الخارجيّة ليس من جهة بناء العامّ على الخاصّ ، بل من جهة ترجيح أحدهما على الآخر في مادّة التعارض.

وبالجملة ، المعارضة بين العامّين بالمعنى الثاني مثل المعارضة بين المتناقضين ، لا بدّ فيه من ملاحظة المرجّحات الخارجيّة في التخصيص ، يعني بعد ملاحظة المقاومة ونفي رجحان أحدهما على الآخر أوّلا لاشتراك هذا المعنى بين المعنيين (١).

وقد غفل بعض الأعاظم (٢) هنا وعمّم البحث ، واستشهد ببعض الشواهد الذي لا يشهد له بشيء. ومنشأ اختلاط الأمر عليه اختلاط مباحث التخصيص ومبحث كيفيّة بناء العامّ على الخاصّ في بعض الكتب الأصوليّة ، وأنت خبير بأنّهما مقامان متفاوتان فصّل بينهما في كثير من كتب الاصول. فمن الشواهد الذي ذكره (٣) : أنّ محقّقي الأصوليّين استدلّوا في هذه المسألة على جواز تخصيص الكتاب بالكتاب بآيتي عدّة الحامل والمتوفّى عنها زوجها (٤) ، مع أنّ بينهما عموما من وجه.

__________________

(١) المطلق ومن وجه.

(٢) وهو الفاضل المدقّق الشيرواني كما في الحاشية.

(٣) وهو بعض الأعاظم المذكور ، ذكر من الشواهد على تعميم البحث.

(٤) الأولى قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) الطلاق : ٤. والثانية قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) البقرة : ٢٣٤.

١٦٥

وفيه ما لا يخفى ، إذ ذكر ذلك ابن الحاجب ومن تبعه في مقام بيان جواز تخصيص الكتاب بالكتاب ، وكلامهم هذا في مقام الردّ على الظاهريّة حيث منعوا ذلك محتجّين بقوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ،)(١) والتخصيص بيان ، فيجب أن يكون بالسنّة.

وأجابوا (٢) عن ذلك : بالمعارضة بقوله تعالى في صفة القرآن : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ،)(٣) وبأنّ معنى البيان منه صلى‌الله‌عليه‌وآله تلاوته للآية المخصّصة ، وبأنّ بيانه مختصّ بالمشتبه ، ومع وجود المخصّص من الكتاب ، لا اشتباه.

ويندفع كلام الظاهريّة بمحض إثبات مطلق التّخصيص وإن كان بمعاونة المرجّح الخارجيّ ، وإطلاق التّخصيص على قصر أحد العامّين (٤) من وجه على بعض أفراده بسبب العامّ (٥) الآخر ، لا يوجب كون مطلق البحث في بناء العامّ على الخاصّ بقول مطلق أعمّ من المقامين كما لا يخفى.

هذا (٦) على مذهب العامّة ، وأمّا الإماميّة فلمّا كان مذهبهم اعتبار أبعد الأجلين ، فيجمعون بين الآيتين على غير صورة التخصيص المصطلح بأنّ المراد أنّ المتوفّى عنها زوجها تتربّص أربعة أشهر وعشرا ، إلّا إذا كانت حاملا ولم تضع حملها بعد ؛ فتصبر حتّى تضع ، والحامل تصبر حتّى تضع الحمل إلّا إذا كان متوفّى

__________________

(١) النحل : ٤٤.

(٢) منهم العلّامة في «التهذيب» : ص ١٤٦.

(٣) النحل : ٨٩.

(٤) وهو عموم آية الوفاة حيث إنّها مقصورة على غير وأولات الأحمال.

(٥) أي عموم آية وأولات الاحمال.

(٦) أي قصر أحد العامين من وجه على الآخر.

١٦٦

عنها زوجها ولم يبلغ مدة وضعه له أربعة أشهر وعشرا ، فتصبر بعد الوضع حتى يتمّ الشّهور ، وهذا ليس معنى التخصيص المصطلح كما لا يخفى على المتدبّر البصير. والذي دعاهم الى ذلك إجماعهم وأخبارهم المستفيضة ، مع أنّ الظاهر من آية أولات الأحمال ؛ المطلّقات فلا تعارض.

وأمّا العامّة ، فبنوا أمرهم في ذلك أوّلا على ترجيح عموم آية أولات الأحمال بسبب دلالة اللّفظ واقترانها بالحكمة (١) وغير ذلك ، ثمّ خصّصوا بها الآية الأخرى ، وتمام الكلام فيها في الفروع ، مع أنّ تمثيل ابن الحاجب ونظرائه لا يصير حجّة على أحد.

وامّا المحقّقون منّا مثل العلّامة في «التهذيب» (٢) وغيره فقد مثّلوا لجواز تخصيص الكتاب بالكتاب بآية القروء (٣) وآية أولات الأحمال. وكلامهم هذا ظاهر في العامّ والخاصّ المطلقين ، فإنّ الظاهر من آية أولات الأحمال ، المطلّقات وهي أخصّ من آية ذوات القروء مطلقا.

ومنها : أنّه استشهد (٤) بكلام صاحب «المعالم» في حواشيه على كتابه ،

__________________

(١) أي بسبب دلالة لفظ وأولات الأحمال على العموم حيث إنّه جمع مضاف الى الأحمال. هذا والمراد بجزء الحكمة المقترنة بها انّ المصلحة في العدّة هي حفظ المياه والأنساب عن الاختلاط وهي معلومة بالوضع ، وبعد خروج المولود وبراءة الرّحم فلا وجه للتربّص.

(٢) ص ١٤٦ ، وكذا في «مبادي الوصول الى علم الاصول» ص ١٤١ ، والشيخ في «العدة» ١ / ٣٤٠ ، والرازي في «المحصول» ٢ / ٥٧٣.

(٣) بقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) البقرة : ٢٢٨.

(٤) أي ومن الشواهد التي استشهد بها ذلك المدقّق والذي عبّر عنه ببعض الأعاظم.

١٦٧

وسيجيء الإشارة إليه (١) ، والى أنّه لا دلالة فيها على المطلوب بوجه.

وبالجملة ، لا مسرح لجعل موضوع هذا القانون القدر المشترك بينهما بوجه ، فلنرجع الى تفصيل الكلام في الأقسام الأربعة ونقول :

القسم الأوّل : وهو ما علم اقترانهما ، وهو قد يتصوّر في القول والفعل والفعلين مع احتمال إرادة القولين المتّصلين من دون تراخ أيضا ، إن جعلنا المقارنة أعمّ من الحقيقة.

والحقّ فيه بناء العامّ على الخاصّ ، من دون نقل خلاف إلّا عن بعض الحنفيّة ، فقالوا : إنّ حكم المقارنة والجهل بالتاريخ واحد (٢) ، وهو ثبوت حكم التعارض في قدر ما يتناولانه فيرجع الى المرجّحات الخارجيّة. وهذا قولهم في المقارنة الحقيقيّة دون القولين المتّصلين عرفا ، فالخاصّ المتأخّر مخصّص عندهم فيها والعامّ المتأخّر ناسخ (٣).

لنا : ما مرّ مرارا من الفهم العرفي والرّجحان النفس الأمري والشيوع والغلبة ، واحتمال التجوّز في الخاصّ مرجوح (٤) بالنسبة إليه.

__________________

(١) في طيّ القسم الثالث من أقسام مسألة ورود العام بعد ورود الخاص.

(٢) أي عنده وإلّا فحكم الجهل بالتاريخ عندنا غير هذا كما سيجيء.

(٣) وهذا بناء على جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وإلّا فهو مشكل بناء على أنّ المصلحة في النسخ قبل حضور وقت العمل.

(٤) كما لو حمل النهي في نحو : أكرم القوم ولا تكرم زيدا ، على قلّة الرّجحان كما هو المتعارف في مكروهات العبادات ، بالإضافة الى باقي الأفراد الى غير ذلك من المحامل. ولكن أنت خبير بما في العبارة من حيث خصّ احتمال التجوّز المعارض للتخصيص في التجوّز فى الخاص ، مع أنّه ربما يعارضه التجوّز في العام كما في آيتي المسارعة والخيرات.

١٦٨

وقد يستشكل : بأنّ الأخبار (١) وردت في تقديم ما هو مخالف العامّة أو ما هو موافق الكتاب ونحو ذلك ، وهو يقتضي تقديم العامّ لو كان هو الموافق للكتاب أو المخالف للعامّ أو نحو ذلك.

وفيه : أنّ المبحث منعقد لملاحظة العامّ والخاصّ من حيث العموم والخصوص لا بالنظر الى المرجّحات الخارجية ، إذ قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العامّ من جهة مرجّح خارجي وهو خارج عن المتنازع.

وممّا ظهر لك من اتّفاق العلماء ـ إلّا من شذّ منهم (٢) ـ على بناء العامّ على الخاصّ في صورة الاقتران من جهة محض العموم والخصوص ، يتّضح لك بطلان تعميم المبحث بحيث يشمل العامّ والخاصّ من وجه لما ذكرنا سابقا (٣).

القسم الثاني : وهو ما علم تقدّم العامّ وتراخي زمان صدور الكلام المشتمل على الخاصّ ، فإمّا أن يكون ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ فيكون ناسخا لا تخصيصا للزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

__________________

(١) في حاشية : ولعلّه من الشيرواني أيضا ، وذكر سلطان المحققين في تعليقاته على «المعالم» ص ٣٠١ في طيّ قول المصنّف به : قد وردت روايات تدلّ على أنّه إذا وردت إليكم روايات منّا متخالفة فاعملوا بما يخالف مذهب العامّة. وهذا يقتضي انّ الخاص لو كان موافقا لمذهب العامّة يقدّم العام عليه ، إلّا أن يحمل التخالف في الروايات المذكورة على ما لا يمكن الجمع بينهما ، ويجب طرح أحدهما فيطرح ما هو موافق للعامة. وفيما نحن فيه يمكن الجمع بينهما بحمل العام على الخاص. انتهى.

(٢) كبعض الحنفيّة.

(٣) من أنّ كل واحد منهما من جهة العموم والخصوص مع قطع النظر عن المرجّحات الخارجة ، بل للبناء على الآخر فيلزم حينئذ تساقطهما جميعا وبطلانهما رأسا.

١٦٩

وقد يستشكل (١) ذلك في أخبارنا المرويّة عن أئمتنا عليهم‌السلام فإنّه إذا كان الخاصّ في كلامهم فيلزم وقوع النّسخ بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو باطل لانقطاع الوحي بعده.

وبهذا يظهر إشكال آخر أورده بعضهم (٢) أيضا ، وهو أنّه يلزم عدم جواز العمل بأخبار الآحاد المخصّصة للكتاب أو الأخبار النبويّة رأسا ، للزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

والأوّل : مدفوع : بأنّ لزوم النسخ إنّما هو إذا علم أنّ هذا البيان والتخصيص كان من الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد حضور وقت العمل ، لا مجرّد تراخي رواية الإمام عليه‌السلام من حيث هو عن زمان العامّ ، فإنّ الأئمة عليهم‌السلام حاكون عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا مؤسّسون للشريعة ، فلا بدّ في لزوم الحكم بالنسخ من إثبات أنّ الخبر الخاصّ من حيث إنّه ناسخ ، متأخّر عن زمان العمل بالعامّ وهو غير معلوم ، بل خلافه معلوم لاتّفاقهم ظاهرا على أنّ الأحكام الكلّيّة بعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله باقية الى يوم القيامة ، وإن لم يمتنع عقلا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر خلفاءه بأنّ الحكم الفلاني باق بعدي الى الزّمان الفلاني ثمّ ينسخ ، فعليكم بإجرائه الى ذلك الحين وإخفاء غايته ، ثمّ بيان الغاية عند انتهاء المدّة.

وبذلك ظهر الجواب عن إشكال لزوم تأخير البيان أيضا.

والحاصل ، أنّ الأئمة عليهم‌السلام ، يظهرون ما وصل إليهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وينشرون ما وقع في زمانه ويبيّنون ما أراده الله في كتابه وما رام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من سنّته ، فحالهم مع الأمّة كحال الفقيه مع مقلّده. وقد أشار الى بعض ما ذكرنا الفاضل المدقّق

__________________

(١) المستشكل الذي أراده المصنّف هو سلطان العلماء كما يظهر من بعض كلماته في حاشيته على «المعالم» ص ٣٠٢.

(٢) لعلّ المراد هو السيد صدر الدّين. وفي حاشية هو الفاضل الشيرواني.

١٧٠

الشيرواني في حاشيته الفارسيّة على «المعالم».

فعلى هذا ، فلو فرض أنّ أحد الرّواة سمع العامّ من إمامه وتأخّر سماع الخاصّ عنه عن زمان حضور وقت العمل به من دون مانع ومن دون عذر ظاهر ، فلا بدّ أن يكون ظهور كونه مكلّفا بالعامّ الى ذلك الحين من جهة اخرى غير النّسخ مثل تقيّة أو ضرورة أو نحو ذلك ، علمها الإمام ولم يعلمها الرّاوي ، ولا يلزم بمجرّد ذلك القول بالنسخ حتى يلزم المحذور ، فتأخير بيان الزّمان ونهايته أيضا قد يكون من غير جهة النّسخ ، فليفهم ذلك.

وإن كان ورود الخاصّ قبل حضور وقت العمل بالعامّ فالأقوى كونه مخصّصا ، لجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما سنحقّقه.

وأمّا من لا يقول بجوازه (١) ، فإمّا يجعله ناسخا إن قال بجواز النّسخ قبل حضور وقت العمل ، أو يجعله كالمتعارضين ، ويرجع الى المرجّحات الخارجية (٢) إن لم يقل بجوازه.

القسم الثالث : وهو ما علم تقدّم الخاصّ ، فالأقوى وفاقا لأكثر المحقّقين أنّ العامّ يبنى على الخاصّ (٣). وذهب جماعة منهم السيّد

__________________

(١) بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.

(٢) كالسندية.

(٣) قال في الحاشية في قوله : إذ العام ينبئ على [عن] الخاص يعني مطلقا سواء كان ورود العام قبل حضور وقت العمل بالخاص أو بعده. فان قلت : ما الفرق بين الخاص المتأخر والعام المتأخر في صورة ورودهما بعد حضور وقت العمل ، حيث حكم في الأوّل بكونه ناسخا دون الثاني. قلت : الفرق في غاية الوضوح وهو انّه لو كان مخصّصا في الأوّل يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا يلزم ذلك في الثاني. وأيضا الحكم ـ

١٧١

والشيخ (١) الى كونه ناسخا للخاصّ.

لنا : رجحان التّخصيص بما مرّ ، وترجيح الرّاجح واجب.

واستدلّ أيضا : بأنّ فيه الجمع بين الدليلين في الجملة ، فلو عمل بالعامّ لزم إلغاء الخاصّ إن كان ورود العامّ قبل حضور وقت العمل به ، ونسخه إن كان بعده ، والتخصيص أولى منهما.

وفيه : أنّ مجرّد الجمع لا يصير دليلا على اختيار التخصيص ، لإمكانه بغيره ، بأن يرتكب تجوّز في جانب الخاص ، فلا بدّ من ذكر مرجّح التخصيص ووجه اختياره على غيره ، وقد عرفت أنّ التخصيص الذي ثبت رجحانه هو التّخصيص في أفراد العامّ لا في أزمانه ، فلا ينافي ما ذكرنا كون النسخ نوعا من التخصيص أيضا.

واستدلّ أيضا : بأنّا لو لم نخصّص العامّ (٢) وألغينا الخاصّ لزم إبطال القطعي بالظني وهو باطل بالضّرورة (٣).

__________________

ـ بالنسخ في الثاني مستلزم لإلغاء الخاص بالكليّة والحكم به في الأوّل لا يستلزم الغاء العام بالكلّيّة كما لا يخفى.

(١) راجع «الذريعة» ١ / ٣١٥ و «العدة» ١ / ٣٩٣ ، وفي «المعالم» ص ٣٠٨ : عزاه المحقق إلى الشيخ وهو الظاهر من كلام علم الهدى ، وأمّا في حاشية المولى محمد صالح المازندراني ص ١٧٩ علق على عبارة «المعالم» الأخيرة بقوله : ليس في «الذريعة» ما يدلّ على أنّ مذهبه في هذا القسم هو النسخ ، غير هذا القول بناء العام على الخاص له شرط لا بدّ من اعتباره وهو أن يكونا واردين معا والحال واحدة ، لأنّ تقدم أحدهما على الآخر يقتضي النسخ.

(٢) هكذا ذكره العضدي في جواز تخصيص الكتاب بالكتاب في الأصل ، وصاحب «المعالم» في هذا المقام كما في الحاشية.

(٣) لأنّه ترجيح المرجوح.

١٧٢

بيان الملازمة : إنّ دلالة الخاصّ على مدلوله قطعيّ ، ودلالة العامّ محتمل لجواز أن يراد به الخاصّ. ومرجع هذا الاستدلال الترجيح من جهة قوّة الدّلالة بسبب النصوصيّة وإن لم يكن قطعيّا في معناه كما أشرنا إليه مرارا (١) ، ولا بأس به.

وترك صاحب «المعالم» الاستدلال به ، وقال في «الحاشية» : إنّما عدلنا عنه في الأصل لأنّه لا يتمّ إلّا في بعض صور المعارضة ، وهو ما يكون فيه الخاصّ خاليا من جهة عموم ليكون قطعيّ الدّلالة ، إذ لو كان له عموم من جهة أخرى ، لم يكن قطعيّا ، فليتأمّل ، انتهى.

والظاهر أنّه أراد ممّا يكون فيه الخاصّ خاليا من جهة عموم ما كان جزئيّا حقيقيا مثل المثال الذي سنذكره (٢) ، فإنّ الخاصّ الكليّ أيضا عام وظاهر في معناه لا قطعيّ ، وحسب الفاضل المدقّق انّه أراد بذلك ما كان الخاصّ أعمّ من وجه من العامّ ، وجعل ذلك شاهدا على دعواه من عموم محلّ النزاع ، بل جعله صريحا في ذلك ، وأنت خبير بما فيه.

أمّا أوّلا : فلأنّه لا وجه لجعل المعارضة بين العامّ والخاصّ المطلقين من بعض صور المعارضة (٣) مشعرا بقلّته ، بل هو الأغلب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مقتضى ذلك أن يكون الدّليل الذي ذكره في الأصل من أنّ العمل بالعام يقتضي إلغاء الخاصّ دون العكس جاريا في المعنيين ، وهو ممّا لا

__________________

(١) من الموضع الذي أشار فيه الى هذا المطلب هو قانون جواز تخصيص الكتاب بالكتاب.

(٢) في الوجه الذي سنذكره من وجوه النسخ وهو الوجه الأوّل منها والمثال هو إذا قال القائل : اقتل زيدا ثم قال : لا تقتل المشركين.

(٣) كما في عبارة صاحب «المعالم» كما عن الحاشية.

١٧٣

مساغ له (١) في العامّ والخاصّ من وجه ، لعدم الفرق بينهما.

فلنرجع الى الجواب عمّا أورده صاحب «المعالم» على الدّليل ، ونقول : إنّ عموميّة الخاصّ لا تنفي نصوصيّته وقطعيّته بالنسبة الى فرد ما من الخاصّ ، بخلاف العامّ ، فإنّه لا قطع فيه إلّا على دلالته على فرد ما من العامّ ، مع أنّ احتمال التجوّز في الجزئي الحقيقي أيضا قائم ، وكذا في الخاصّ والعامّ بالنسبة الى غير التخصيص من سائر المجازات ، فالمراد بالقطعيّة هنا قطعيّة إرادة فرد ما منه بعد فرض أنّ المراد هو المدلول الحقيقي في الجملة ، فلا وجه لترك هذا الدّليل في مقام الاستدلال.

احتجّ القائل بالنسخ بوجهين (٢) [بوجوه] :

الأوّل : أنّ قول القائل : اقتل زيدا ، ثمّ لا تقتل المشركين ، بمثابة أن يقول : لا تقتل زيدا ولا عمروا ولا بكرا الى آخر الأفراد ، ولا شكّ أنّ هذا ناسخ ، فكذا ما هو بمثابته. وجوابه : المنع عن التساوي ، فإنّ التنصيص يمنع التّخصيص بخلاف ما إذا كان بلفظ العامّ ، واحتمال غير التخصيص من النسخ وغيره حينئذ مرجوح لما مرّ مرارا فتعيّن التخصيص.

والثاني : أنّ المخصّص للعامّ بيان ، فكيف يتقدّم عليه.

وجوابه : أنّ المقدّم ذات البيان ، وأمّا وصف البيانيّة فهو متأخّر.

وما قيل (٣) : إنّ وصف البيانيّة حينئذ مقارن للعامّ ، فهو وهم ، لأنّ وصف البيانيّة

__________________

(١) لا بمعنى جريان له.

(٢) ونقلهما في «المعالم» ص ٣٠٨ ، وذكر المصنّف أجوبتها كما في «المعالم» ولكن بتصرّف منه في العبارات مع زيادة.

(٣) ردّ على الفاضل المازندراني حيث قال في عنوان قوله ويتأخر وصف كونه بيانا : الأصوب أن يقول ويقارن وصف كونه بيانا.

١٧٤

من حيث هي يتوقّف على تقدّم ما يحتاج الى البيان ، وكيف كان فالبيان بوصف البيانيّة متأخّر عمّا يحتاج الى البيان طبعا ، وإن تقدّم عليه وصفا من حيث الذّات.

القسم الرابع : وهو ما جهل التاريخ ، والمعروف من مذهب الأصحاب العمل بالخاصّ وهو الأقوى لأنّه لا يخرج عن أحد الأقسام السّابقة ، وقد عرفت في الكلّ رجحان تقديم الخاصّ ، إمّا من جهة كونه ناسخا (١) لوروده بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، أو لكونه مخصّصا كما مرّ مفصّلا.

ثمّ إنّ الكلام في هذه المقامات (٢) إذا كان الخاصّ ممّا يجوز نسخ العامّ به واضح ، وكذلك فيما لا يجوز مع العلم بالتاريخ.

ويظهر الحال في الترجيح ممّا مرّ في المباحث السّابقة (٣) وما سيجيء في مبحث النسخ ، فإطلاق الكلام

في هذه المقامات إنّما هو بالنظر الى ملاحظة تقديم كلّ من العامّ والخاصّ على الآخر من حيث العموم والخصوص ، وإلّا فيشكل الأمر فيما يتفاوت الحال فيه من جهة النّسخ ، والتخصيص في صورة جهل التاريخ ، فقد يجوز التخصيص دون النّسخ كما لو كان العام من الكتاب أو السّنة المتواترة ، والخاصّ من أخبار الآحاد وجهل التّاريخ ، فالقول بتقديم العمل بالخاصّ مطلقا يستلزم تجويزه في صورة ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ في نفس الأمر أيضا ، فيشكل الحكم بتقديم الخاصّ في صورة جهل التاريخ بقول مطلق.

__________________

(١) كما في القسم الثاني على أحد الشقين.

(٢) الأربعة المترتبة.

(٣) وهذا المبحث وغيره مما ذكر فيه مرارا انّ التخصيص شائع وأغلب مما سواه.

١٧٥

وربّما يجاب (١) عن هذا الإشكال في الصورة المفروضة (٢) : بأنّ الأصل عدم تحقق شرط النسخ وهو حضور وقت العمل ، فينتفي المشروط فيبقى التخصيص.

وهو معارض بأنّ الأصل عدم تحقّق شرط التّخصيص أيضا ، فإنّ تحقّقه في نفس الأمر أيضا مشروط بورود الخاصّ قبل حضور وقت العمل.

وما قيل (٣) : إنّ الأصل تأخّر الحادث وهو يقتضي ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، فهو معارض بأنّ حضور وقت العمل أيضا حادث والأصل تأخّره.

فالتحقيق في الجواب ، إن أريد تعميم القول بتقديم العمل بالخاصّ في صورة جهل التاريخ ، مع كون الخاصّ ممّا لا يجوز نسخ العامّ القطعيّ به ، أن يقال : إنّ شيوع التخصيص وغلبته ومرجّحاته المتقدّمة يقتضي ترجيح التّخصيص ، بمعنى أنّ الرّاجح في النظر حصول ما يستلزم التخصيص في نفس الأمر لا النّسخ ، بمعنى أنّ الظاهر أنّ الخاصّ ورد قبل حضور وقت العمل ليثبت التّخصيص ، إلحاقا للشيء بالأعمّ الأغلب واتّباعا لمرجّحات التخصيص.

وأمّا من يقول بترجيح النّسخ على التخصيص فيما لو فرض تقدّم الخاصّ على العامّ كما نقلنا عن الشيخ والسيّد ، فهو أيضا يتوقّف في مجهول التّاريخ لدوران

__________________

(١) والمجيب هو صاحب «المعالم» ص ٣١٠.

(٢) وهي صورة كون الخاص محتملا لأن يكون مخصّصا أو ناسخا مردودا كما لو كان العام من الكتاب أو السّنة المتواترة والخاص من أخبار الآحاد وجهل التاريخ.

(٣) وهذا القول لسلطان العلماء وقد ذكره في ترجيح النسخ حينئذ في مقام الاشكال على الأخذ بالتخصيص. راجع تعليقة السلطان : ص ٣٠٢.

١٧٦

الخاصّ بين كونه مخصّصا أو منسوخا ، ويظهر جوابه مما مرّ (١).

ثمّ إنّ ثمرة هذا الإشكال وأثر ذلك في أخبار أئمتنا عليهم‌السلام غير ظاهرة لعدم ورود المنسوخ في كلامهم كما أشرنا سابقا ، ولا الناسخ من حيث إنّه ناسخ ، بل ما يؤثر عنهم عليهم‌السلام إنّما هو حكاية ما علم من سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعاملاته وبياناته في الكتاب وسنّته.

نعم هم عليهم‌السلام ربّما يقولون أنّ هذه الآية نسخت بهذه الآية ، وأمثال ذلك ، فلو ثبت بأخبارهم شيء فإنّما يثبت بها حال ما وقع في زمان الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأمّا الأخبار النبويّة ، فعندنا قليلة جدّا.

وأمّا الكتاب فقد ادّعى السيّد رحمه‌الله (٢) أنّ تاريخ نزول آياته مضبوط لا خلاف فيه.

وذلك في الجميع محلّ نظر.

__________________

(١) من ترجيح التخصيص أيضا.

(٢) في «الذريعة» : ١ / ٣١٦.

١٧٧

الباب الرابع

في

المطلق والمقيّد

قانون

المطلق على ما عرّفه أكثر الأصوليّين : هو ما دلّ على شائع في جنسه (١) ، أي على حصّة محتملة الصّدق على حصص كثيرة ، مندرجة تحت جنس ذلك الحصّة ، وهو المفهوم الكلّي الذي يصدق على هذه الحصّة وعلى غيرها من الحصص ، فيدخل فيه المعهود الذّهني ، ويخرج منه العامّ والجزئي (٢) الحقيقي والمعهود الخارجي (٣). وهذا التعريف يصدق على النّكرة.

ويظهر من جماعة منهم أنّه ما يراد به الماهيّة. منهم الشّهيد الثاني رحمه‌الله «في تمهيد القواعد» (٤) حيث قال في مقام الفرق بين المطلق والعامّ : إنّ المطلق هو الماهيّة لا بشرط شيء ، والعامّ هو الماهيّة بشرط الكثرة المستغرقة.

__________________

(١) وكذا في «المعالم» : ص ٣١٢ ، و «الزبدة» : ص ١٤٣ ، و «الفصول» : ص ٢١٧ ، و «الكفاية» : ١ / ٥٧١.

(٢) وهو المعرفة منه كزيد.

(٣) اي الجنس باعتبار الوجود خارجا.

(٤) ص ٢٢٢.

١٧٨

وصرّح بعضهم (١) بالفرق بين المطلق والنّكرة ، وقد بيّنا ما عندنا في ذلك في مبحث العامّ والخاصّ ، وأنّ التحقيق إمكان الاعتبارين وصحّة الجمع بين التعريفين بملاحظة الحيثيّات ، فراجع ذلك المقام.

وأمّا ما ذكره بعضهم (٢) في وجه جعل المطلق حصّة من الجنس لا نفس الحقيقة ، من أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالأفراد لا بالمفهومات ، فيظهر لك ما فيه ممّا حقّقناه في مبحث جواز تعلّق التكليف والأحكام بالطبائع.

فحينئذ نقول : إنّ البيع مثلا في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٣) مطلق ، وبيع الغرر مقيّد. وكذلك الماء في مثل : «خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء» (٤). والماء القليل ، المفهوم من قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» (٥).

كذلك : صم ولا تصم في السّفر ، ونحو ذلك.

وعرّفوا المقيّد : بما دلّ لا على شائع في جنسه (٦) ، فيدخل فيه المعارف والعمومات.

__________________

(١) المراد بهذا البعض هو الشارح العميدي على ما صرّح به في الحاشية في مبحث العام والخاص.

(٢) وهو صاحب «المعالم» : ص ٣١٣ في الحاشية قال : وإنّما فسّرنا الشائع بالحصر ليندفع ما قد يتوهم من ظاهر كثير من العبارات من أنّ المطلق ما يراد به الماهيّة [الحقيقية من حيث هي هي] ، وذلك لأنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالأفراد لا بالمفهومات.

(٣) البقرة : ٢٧٥.

(٤) «الوسائل» : ١ / ١٣٥ ح ٣٣٠.

(٥) «التهذيب» : ١ / ٣٩ ح ١٧٠ ، «الوسائل» : ١ / ١٥٨ ح ٣٩١ و ٣٩٢.

(٦) ذكره العضدي وقال : ولم أقل هو ما لا يدل على شائع احترازا عما لا يدل أصلا كالمهمل.

١٧٩

ولهم تعريف آخر وهو : ما أخرج من شياع مثل : رقبة مؤمنة (١) ، والاصطلاح الشّائع بينهم هو ذلك.

وعلى هذا فالمطلق هو ما لم يخرج عن هذا الشّياع والنسبة بينهما (٢) عموم من وجه لصدقهما على هذا الرّجل ، وصدق الأوّل على زيد دون الثاني ، والثاني على رقبة مؤمنة دون الأوّل ، وكذا بين المطلق والمعنى الثاني لصدقهما على رقبة مؤمنة ، والأوّل على رقبة دون الثاني ، والثاني على هذا الرّجل دون الأوّل.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الإطلاق والتقييد يؤول من وجه الى التعميم والتّخصيص كما سنشير إليه (٣) ، فجميع ما مرّ في أحكام معارضة العامّ والخاصّ وتخصيص العام بالخاصّ والفرق بين الظنيّ والقطعيّ وعدمه وأقسام معلوميّة التاريخ وجهالته وغير ذلك يجري هاهنا أيضا.

ويزيد هذا المبحث بما سنورده وهو أنّه إذا أورد مطلق ومقيّد فإمّا أن يختلف حكمهما بمعنى كون المحكوم به فيهما مختلفين ، وإن لم يختلف نفس الحكم الشرعي (٤) مثل : أطعم يتيما و : أكرم يتيما هاشميّا ، أو يتّحد حكمهما مثل : أطعم يتيما ، أطعم يتيما هاشميا. أمّا على الأوّل فلا يحمل المطلق على المقيّد إجماعا إلّا

__________________

(١) قال صاحب «المعالم» ص ٣١٢ فإنّها وإن كانت شائعة بين الرقبات المؤمنات لكنها أخرجت من الشياع بوجه ما ، من حيث كانت شائعة بين المؤمنة وغير المؤمنة ، فأزيل ذلك الشياع عنه وقيّد بالمؤمنة فهو مطلق من وجه مقيّد من وجه آخر ، انتهى. واعلم انّ قوله : مطلق من وجه مقيّد من وجه آخر ، انّ رقبة مؤمنة مطلق بالمعنى الأوّل أعني ما دلّ على شائع ، ومقيّد بالمعنى الثاني ، أعني ما أخرج عن شياع.

(٢) أي بين المقيّد بالمعنى الأول والمقيّد بالمعنى الثاني.

(٣) في ذيل قوله : ولنا على المقام الثاني.

(٤) أي بأن يكون أمرين أو نهيين.

١٨٠