القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

نعم ، يرد عليه أنّه لا يدلّ على جواز استثناء الأكثر لجواز التساوي.

وقد يقرّر الاستدلال على وجه آخر ، وهو أن يضمّ الى الآية الأولى قوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ.)(١) بتقريب أنّ كلمة من بيانيّة ، والغاوون المتّبعون للشيطان ، وإذا كان أكثر الناس غير مؤمن بحكم الآية الثانية (٢) ، فيكون متّبعو الشيطان الغاوون أكثر الناس.

وردّ : بأنّ المراد من قوله تعالى : (عِبادِي)(٣) هم المؤمنون ، لكون الإضافة للتّشريف فيكون المستثنى منقطعا ، فلا إخراج.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أكثريّة الغاوين ، لأنّ من العباد الملائكة والجنّ وكلّ الغاوين أقلّ من الملائكة.

وأجيب : بأنّ المنقطع مجاز ، ومتى أمكن الحمل على الحقيقة ، فلا يصار الى المجاز ، ولذلك يحمل قول القائل : له عليّ ألف درهم إلّا ثوبا ، على قيمة الثوب ، وكون الإضافة للتشريف ممنوع.

وصرّح المفسّرون بأنّ المراد من العباد بنو آدم (٤).

__________________

(١) يوسف : ١٠٣.

(٢) والمراد من الآية الثانية قوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ.) ويمكن أن يكون المراد منها قوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.) وكون أنّ الأكثر حينئذ غير مؤمن بناء على قول الخصم من لزوم بقاء الأكثر. هذا ما أفاده في الحاشية.

(٣) الحجر : ٤٢.

(٤) بل كما في «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام : والله ما أراد بهذا إلّا الأئمّة وشيعتهم كما في «تفسير الصافي» : ٣ / ١١٣. وفي «تفسير العيّاشي» : ٢ / ٢٦٣ عن أبي بصير قال : ـ

٤١

الثاني : إجماع العلماء على أنّ من قال : له عليّ عشرة إلّا تسعة ، يلزم بواحد.

فلو لا صحّته لحكموا بإلغاء الاستثناء وألزموه بعشرة كما في المستغرق.

الثالث : قوله تعالى في الحديث القدسي : «كلّكم جائع إلّا من أطعمته» (١). ووجه الاستدلال واضح.

ثمّ إنّ لي إشكالا في هذا المقام لم يسبقني إليه فيما أعلم أحد من الأعلام وتحقيقا في المخلص عنه من مواهب كريم المنعام ، ولكنّه لا ينفع لما يرد من جهته على الأقوام ، وهو أنّهم ذكروا الاختلاف في منتهى التخصيص ، وذهب المحقّقون من الجمهور الى أنّه لا بدّ من بقاء جمع يقرب من مدلول العامّ ، ثم ذكروا الاختلاف في هذه المسألة وأسندوا القول بوجوب بقاء الأكثر الى شاذّ من العامّة ، وجواز استثناء الأكثر الى أكثر المحقّقين ، فإن كان وجه التفرقة الفرق بين المتّصل والمنفصل ، وأنّ الكلام في المبحث السّابق كان فيما كان المخصّص فيه منفصلا ، وفي هذا المبحث في المستثنى ، فهذا ينافي نقل القول بالفرق بين المتّصل والمنفصل ثمّة بين الأقوال.

وإن قلت : إنّا نمنع كون الاستثناء تخصيصا ، والكلام في المبحث السّابق إنّما كان في التخصيص.

قلت : مع أنّه ينافي نقل القول بالتفصيل المذكور ثمّة ، فيه : إنّ جمهور الأصوليين

__________________

ـ سمعت جعفر بن محمّد عليهما‌السلام وهو يقول : نحن أهل بيت الرحمة وبيت النعمة وبيت البركة ، ونحن في الأرض بنيان وشيعتنا عرى الإسلام وما كانت دعوة إبراهيم إلّا لنا ولشيعتنا ، ولقد استثنى الله إلى يوم القيامة إلى ابليس فقال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) وكذا في «البرهان» و «البحار» وغيرهما.

(١) «صحيح مسلم» : ٨ / ١٧ ، «مستدرك الحاكم» : ٤ / ٢٤١ ، «سنن البيهقي» : ٦ / ٩٣.

٤٢

قائلون بكون الاستثناء تخصيصا لما عرفت من أنّهم قائلون بكون المراد من العامّ هو الباقي ، والاستثناء قرينة له ، وهذا معنى التخصيص.

فعلى هذا يلزم أن يكون مختار الأكثرين في الاستثناء لزوم بقاء الأكثر ، وكون المخرج أقلّ ، وكيف يجتمع هذا (١) مع اختيارهم جواز استثناء الأكثر. وكيف يجمع بين أدلّتهم في المقامين ، وما تحقيق الحال.

والذي يختلج بالبال ، أنّهم قد غفلوا عمّا بنوا عليه الأمر لظاهر هذه الأدلّة (٢).

والتحقيق ما حقّقوه في المبحث السّابق كما اخترناه وشيّدناه.

وأما الجواب عن ذلك الأدلّة ، فيتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي :

إنّا قد بيّنا لك في أوائل الكتاب أنّ وضع الحقائق شخصيّة ، ووضع المجازات نوعيّة.

ونزيدك هاهنا أنّ الحقيقة والمجاز يعرضان للمركّبات كما يعرضان للمفردات ، ووضع المركّبات قاطبة نوعيّة ، حقيقية كانت أو مجازيّة. والأوضاع النوعيّة إنّما هو للقدر المستفاد من تتبّع كلماتهم من الرّخصة ، فالاستثناء مثلا تركيب وضع بالوضع النوعي للإخراج ، بمعنى أنّه لا يتوقّف على سماع كلّ واحد من أفراده كما يتوقّف في الحقائق المفردة ، والقدر الذي يستفاد من الرّخصة في ذلك النوع إنّما هو المتّبع ، نظير ما بيّناه في العلائق المجازيّة ، ألا ترى إنّهم يحكمون (٣) بأنّ الاستثناء المنقطع مجاز ، فعلم أنّه في المتّصل حقيقة ، وكذلك يحكمون بأنّ

__________________

(١) أي لزوم بقاء الأكثر وكون المخرج أقلّ في الاستثناء على ما هو مختارهم في المبحث السّابق.

(٢) والتي ذكرت هنا أي فيما نحن فيه.

(٣) هذا شاهد لثبوت الوضع الحقيقي في الاستثناء منه.

٤٣

الاستثناء من النفي إثبات بعنوان الحقيقة لأجل التبادر وبالعكس ، وهكذا. والقدر الذي تيقّن ثبوته من أهل اللّغة هنا هو لزوم الإخراج عن متعدّد في الجملة ، وأمّا أنّه يكفي في ذلك أيّ إخراج يكون ، أم لا بدّ أن يكون على وجه خاصّ من كون المخرج أقلّ من الباقي ، فلا بدّ من إقامة الدّليل عليه وإثبات الرّخصة فيه من جهة أهل اللّغة.

وكما أنّ الحقيقة والمجاز في المفردات يرجع الى النقل والتبادر وعدم صحّة السّلب وأمثالها ، فكذلك في المركّبات كما عرفت في نظرائه (١). ومجرّد الاستعمال لا يثبت الحقيقة كما حقّقناه في محلّه وبيّنّا أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، فمجرّد الاستعمال في إخراج الأكثر لا يدلّ على كونه حقيقة فيه ، والمقصود الأصليّ للأصولي هو ذلك (٢) لا مطلق الاستعمال.

فحينئذ نقول : القدر الثابت المتيقّن هو ما لو كان المخرج أقلّ ، وكون ما لو كان المخرج أكثر من الباقي ممّا رخّص فيه من العرب بعنوان الوضع الحقيقي ممنوع. وعدم الثبوت ، دليل على العدم لكون الوضع توقيفيا ، وحينئذ فالصّور المشكوكة مثل ما لو كان المخرج أكثر ، فيمكن كونها من أفراد الحقيقة ، وكونها من أفراد المجاز ، بأن يستعمل الاستثناء فيه بعلاقة مشابهته (٣) أو إدّعاء القلّة فيه للمبالغة في التحقير وإن كان كثيرا ونحو ذلك (٤) ، فلا يثبت كونها (٥) حقيقة ، مع أنّه لا يبعد

__________________

(١) كنظراء الاستثناء او نظراء هذا المقام حيث اشتبه فيه حال الوضع.

(٢) أي اثبات كون الاستعمال حقيقة فيه.

(٣) تشبيه الكثير بالقليل.

(٤) كادعاء الكثرة في المستثنى منه.

(٥) اي الصورة المشكوكة.

٤٤

أن يدّعى التبادر فيما لو كان المخرج أقلّ ، وهو علامة الحقيقة.

ولا ريب أنّ أهل العرف يعدّون مثل قول القائل : له عليّ مائة إلّا تسعة وتسعين ، مستهجنا ركيكا ، لا لأنّه إطالة مملّة ، بل لمخالفته لما بلغهم من الاستعمال.

نعم ، قد يقال ذلك في موضع السّخرية والتمليح ، بل وكذلك : له عليّ عشرة إلّا تسعة ، فضلا عن قوله : إلّا تسعة ونصفا ، وثلثا.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه ، أنّ المستثنى في معرض النسيان غالبا ، لقلّته ، وأنّ الغالب الوقوع في الاستثناء البدائي ، كما هو الغالب في ألسنة العوامّ هو إخراج القليل ، وليس ذلك إلّا لمطابقته لأصل وضع الاستثناء.

وحينئذ فقد ظهر لك بحمد الله تعالى أنّ التحقيق هو ما حقّقناه سابقا ، من لزوم بقاء جمع قريب من المدلول ، وغفلة الأكثرين إنّما حصل من جهة الأمثلة المذكورة ، وقد عرفت أنّ مجرّد الاستعمال لا يدلّ على الحقيقة كما هو محطّ نظر الأصولي (١).

والحاصل ، أنّه لم يثبت كون الاستثناء حقيقة في غير إخراج الأقلّ ، ولم يثبت جواز التجوّز في المستثنى منه في غير استعماله في الأكثر كما بيّناه آنفا (٢) ، فلا بأس علينا أن نجيب من الأمثلة المذكورة التي استدلّ بها الأكثرون.

ونقول : يمكن دفع الأوّل (٣) بمنع الدلالة من جهة أنّ ظاهر العامّ قابل لأصناف كثيرة ، فإخراج صنف منه يكون أفراده أكثر من سائر الأصناف لا يستلزم كون

__________________

(١) وتعرّض في «الفصول» : ص ١٩٤ لهذا القول.

(٢) وقد تعرّض في «الفصول» : ص ١٩٤ لهذا القول ، فراجعه.

(٣) المراد من قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي).

٤٥

نفس الأصناف الباقية أقلّ (١). والمقصود هنا إخراج الصّنف ، يعني أفراد صنف خاصّ من حيث إنّها أفراد ذلك الصّنف الخاص. فظاهر الآية استثناء صنف من الأصناف لا أفراد من جميع الأفراد ، وأكثريّة الصّنف لا تستلزم أكثريّة الأفراد.

وبالجملة إذا لوحظ الصّنف الواحد بالنسبة الى العامّ القابل للأصناف ، فهو أقلّ من الباقي ، وإن فرض كونه بالنسبة الى الأفراد أكثر من الباقي ، وذلك يختلف باختلاف الحيثيّات والاعتبارات فيه أنّ عموم الجمع أفرادي لا أصنافي.

والذي يؤيّد ما ذكرنا (٢) ، انّ المقصد الأصليّ لله تعالى لمّا كان هو الهداية والرّشاد ، فجعل الغاوين مخرجا ، جعلا لما ليس موافقا للغرض الأصليّ ، كالقليل الذي لا يعتنى به ، وفي إبليس بالعكس ، بل ذلك المعنى إنّما يلاحظ بالنسبة الى قابلية العامّ ، لا فعلية تحقّق الأصناف فيه ، ففي كلّ واحد من الآيتين استثناء أقلّ من الأكثر.

ويوضّح ما بيّنا ، أن لو فرض أنّك أضفت جماعة من العلماء والشعراء والظرفاء ، وكان عدد كلّ واحد من العلماء والشعراء ثلاثة ، وعدد الظرفاء مائة ، فإذا قيل : جاء الأضياف إلّا الظرفاء فيمكن تصحيحه بما ذكرنا ، لأنّ الباقي حينئذ أكثر (٣). وأمّا لو قيل : جاء الأضياف إلّا زيدا وعمرا وبكرا وخالدا الى آخر المائة من الظرفاء لعدّ قبيحا.

__________________

(١) وقد أجاب على هذا الاعتراض في «الفصول» : ص ١٩٤.

(٢) من كون المراد من الآية اخراج صنف واحد من الأصناف المتصوّرة من ظاهر العام ، وان كان اطّراد ذلك الصنف المخرج بالنسبة الى سائر الأصناف أكثر ... الخ.

(٣) وهو أيضا تكملة للاعتراض والذي أجابه في «الفصول» راجعه.

٤٦

ودفع الثاني (١) : بأنّ اتفاقهم على إلزام الواحد لا يدلّ على اتّفاقهم على صحّة الاستثناء أو كونه حقيقة ، فإنّ فتوى الأكثرين لعلّه مبنيّ على تجويزهم ذلك (٢) ، وبناء الباقين (٣) على أنّ الإقرار عبارة عمّا يفهم منه اشتغال الذمّة بعنوان النصوصيّة ولو كان بلفظ غلط أو لفظ مجازي (٤) ، ولما كان الأصل براءة الذمّة حتى يحصل اليقين بالاشتغال ، فمع قابليّة اللفظ للدلالة على المراد وانفهام المعنى عنه بمعونة المقام ، أو بسبب التشبيه بالاستثناء مع قرينة واضحة ، لا يحكم باشتغال الذمّة بالعشرة لكون اللّفظ غلطا (٥). كما انّ في قولهم : له عليّ عشرة إلّا تسعة بالرّفع لا يحكم باشتغال الذمّة بالعشرة ، لكون الاستثناء غلطا ، بخلاف الاستثناء المستغرق ، فإنّه لغو بحث فيؤخذ بأوّل الكلام ويترك آخره.

ودفع الثالث (٦) : بأنّ المراد ـ والله يعلم ـ لعلّه أنّه : لا يقدر على الإطعام إلّا أنا ، فكلّكم يبقى على صفة الجوع لو أراد الإطعام من غيري. وهذا معنى واضح على من كان له ذوق سليم وسليقة مستقيمة ، فلا دلالة فيه على مطلبهم.

إذا تمهّد هذا ، فنقول : لمّا كان موضوع المسألة في الأقوال المذكورة في المسألة

__________________

(١) من أجابتهم بإجماع العلماء ... الخ.

(٢) أيّ استثناء الأكثر.

(٣) وهم الّذين يقولون بجواز استثناء الأقلّ دون غيره.

(٤) راجع «الفصول» : ص ١٩٤ الذي تعرّض لهذا القول.

(٥) قال في الحاشية : لعلّ عدم الحكم بذلك بالنسبة الى بناء الباقين لا بالنسبة الى فتوى الأكثرين أيضا ، وإلّا فالمحقّق القائل بكفاية صحة الاستثناء سواء كان الباقي أقلّ أو أكثر كما صرّح به في «الشرائع» في كتاب الإقرار قال فيه : إذا قال له عليّا عشرة إلّا درهم بالرفع كان إقرارا بالعشرة ولو قال إلا درهما بالنصب كان إقرارا بتسعة. راجع «شرائع الإسلام» : ٣ / ٦٩٢.

(٦) من اجابتهم في الحديث القدسي : كلكم جائع إلّا من أطعمته.

٤٧

مختلفة ، فلا بدّ من تحرير محلّ النزاع بحيث يصحّ ورود الأقوال عليه ، وذلك لأنّ بعض القائلين بالحقيقة (١) يريدون كون العامّ مع المخصّص حقيقة في الباقي (٢) ، وبعضهم يريدون (٣) كون نفس العامّ حقيقة ، وهؤلاء أيضا مختلفون في التقرير.

فلا بدّ أن يقال في تقرير محلّ النزاع : إنّ لفظ العامّ في هذا التركيب هل استعمل في معنى مجازيّ أم لا؟

فذهب الأكثرون (٤) : الى كون العامّ مجازا في الباقي.

وقيل : حقيقة مطلقا (٥).

وقيل : حقيقة إن كان الباقي غير منحصر (٦) أي له كثرة يعسر العلم بقدرها ، وإلّا فمجاز.

وقيل : حقيقة إن خصّص بغير مستقلّ (٧) كالشّرط والصّفة والغاية والاستثناء ، ومجاز إن خصّص بالمستقلّ من عقل أو سمع (٨).

__________________

(١) كالقاضي أبو بكر الباقلّاني ومن تبعه. في «المعالم» ص ٢٧٦ وإذا خصّ العام وأريد به الباقي فهو مجاز مطلقا على الأقوى وفاقا للشيخ والمحقق والعلّامة في أحد قوليه وكثير من أهل الخلاف.

(٢) كما في الاستثناء على ما مرّ في مذهبهم من أنّ مجموع عشرة إلّا ثلاثة هو اسم للسبعة.

(٣) كالعلّامة وابن الحاجب ومن تبعهم في «المعالم» ص ٢٧٦ : وإذا خصّ العام وأريد به الباقي فهو مجاز مطلقا على الأقوى وفاقا للشيخ والمحقّق والعلّامة في أحد قوليه وكثير من أهل الخلاف.

(٤) وهم السّكاكي ومن تبعه وهو المختار.

(٥) وذكره في «المعالم» : ص ٢٧٦ وهو قول الحنابلة.

(٦) وهو قول أبي بكر الرّازي. راجع «المحصول» ٢ / ٥٣٢.

(٧) وهو قول أبي الحسن البصري ومن تبعه.

(٨) وهو القول الثاني للعلّامة اختاره في «التهذيب» كما عن «المعالم» : ص ٢٧٧ ، راجع «التهذيب» : ص ١٣٧.

٤٨

وظاهر هؤلاء أنّهم يريدون أنّ مجموع التركيب حقيقة في إرادة الباقي ، وهكذا ما في معناه من التفصيلين اللّذين بعده ، فلا يكون العامّ بنفسه حقيقة ولا مجازا.

وقيل : حقيقة إن خصّص بشرط أو استثناء لا صفة وغيرها (١).

وقيل : حقيقة إن خصّص بلفظيّ اتّصل أو انفصل (٢).

وقيل : حقيقة في تناوله ، ومجاز في الاقتصار عليه (٣).

والأوّل أقرب (٤).

لنا (٥) : أنّه لو كان حقيقة في الباقي كما كان في الكلّ ، لزم الاشتراك ، والمفروض خلافه.

__________________

(١) ذكره في هداية المسترشدين : ٣ / ٢٨٨.

(٢) هكذا نقله العضدي أيضا من غير انتسابه الى أحد من العلماء. وهو من جملة المذاهب الكثيرة الّتي أشار إليها في «المعالم» : ص ٢٧٧ ، وقال : فلا جدوى في التعرّض لها. وقد ذكر بعضها في «هداية المسترشدين» : ٣ / ٢٨٨.

(٣) وهو لفخر الدّين الرّازي في «البرهان» وذكره عنه في «هداية المسترشدين» : ٣ / ٢٨٨ ، واعلم انّ الأقوال المزبورة بكاملها استفدناها مما أفادوه في كتبهم كما عرفت من قبل ، ومن «المعالم» : ص ٢٧٦ ، ومن في الحاشية. وقال في الحاشية أيضا وهاهنا قول ثامن نقله العضدي عن القاضي عبد الجبّار وهو حقيقة إن خصّص بشرط أو صفة لا استثناء وغيره ونقله عنه في «هداية المسترشدين» : ٣ / ٢٨٨. ولكن قال التفتازاني هذا بخلاف ما اختاروه في عمدة الأدلّة حيث قال : والصحيح أنّه يصير مجازا بأي شيء خصّص ، لأنّه استعمل اللّفظ في غير ما وضع له بقرينة اتصلت أو انفصلت استقلت أو لا ، وهو بهذا الاعتبار يرجع الى القول الأوّل المختار.

(٤) وهو الذي ذهب إليه الأكثرون والسّكاكي ومن تبعه.

(٥) وهو للشيخ حسن في «المعالم» : ص ٢٧٧.

٤٩

وقد يقال (١) : إنّ إرادة الاستغراق باقية ، فلا يراد به الباقي حتى يلزم الاشتراك على تقدير كونه حقيقة. فإنّ المراد بقول القائل : أكرم بني تميم الطّوال ، عند الخصم : أكرم من بني تميم من قد علمت من صفتهم أنّهم الطّوال سواء عمّهم الطّول أو خصّ بعضهم ، ولذلك نقول : وأمّا القصار منهم فلا تكرمهم ، ويرجع الضمير الى بني تميم لا الى الطّوال منهم. وكذلك معنى : أكرم بني تميم الى اللّيل أو إن دخلوا الدّار ، الحكم على جميعهم ، غايته أنّه ليس في جميع الأزمنة في الأوّل ، وعلى جميع الأحوال في الثاني. وكذا : أكرم بني تميم إلّا الجهّال منهم ، الحكم على كلّ واحد بشرط اتّصافه بالعلم. وأنت خبير بأنّ ذلك كلّه تكلّفات باردة ، وتجشّم حمل الهيئة التركيبية على خلاف وضعه مع استلزامه التجوّز في بعض المفردات أيضا ، ليس بأولى من حمل العامّ فقط على المعنى المجازي. ولا ريب أنّ الهيئة المفسّرة مغايرة للهيئة المفسّرة وكلّ منهما موضوع لمعنى ، وأوّل (٢) معنى قولنا : رأيت أسدا يرمي ، مع قولنا : رأيت شجاعا مثلا ، الى أمر واحد لا يقتضي اتّحادهما ، وكذلك تأدية التراكيب الحقيقية لمعنى واحد لا يوجب اتّحادها في الدلالة.

وأمّا إرجاع الضمير الى بني تميم ، فجوابه يظهر ممّا مرّ (٣) في قولك : اشتريت الجارية إلّا نصفها.

وأمّا قوله : أكرم بني تميم الى اللّيل الى آخره ، فهو من غرائب الكلام ، إذ التخصيص هنا ليس متوجّها الى بني تميم ، بل الى زمان الإكرام المستفاد من

__________________

(١) في الجواب ، وهذا من العضدي.

(٢) وهو مصدر من آل يؤول بمعنى رجع.

(٣) بأن يراد من لفظ بني تميم معناه المجازي ، ومن الضمير الرّاجع إليه معناه الحقيقي كما هو طريق الاستخدام.

٥٠

الإطلاق ، وكذلك : إن دخلوا ، إن لم يرد به الداخلين منهم.

والمثال المناسب لتخصيص الغاية : أكرم الناس الى أن يفسقوا أو أن يجهلوا. وغرابة تفسير الاستثناء بما ذكره لا يحتاج الى البيان.

وما يقال أيضا : إنّ هذا (١) إنّما يتمّ لو كان اللّفظ مستعملا في الباقى ، أمّا إذا كان مستعملا في العموم وإرادة الباقي طرأ بعد التخصيص ، بمعنى أنّ الإسناد وقع الى الباقي بعد إخراج البعض من العامّ ، فلا يلزم الاشتراك ولا المجاز ، فلا يتمّ الدّليل. فيظهر ضعفه ممّا قدّمناه (٢) في المقدّمة الثالثة ، سيّما في المخصّصات المنفصلة ، كما نقلنا جريان القول فيه عن بعضهم (٣).

وممّا حقّقناه ثمّة ، يظهر لك أنّه لا يمكن أن يقال أيضا : انّ هذا إنّما يتمّ لو بطل القول بكون المجموع حقيقة في الباقي ، إذ مقتضاه (٤) كون كلّ من المفردات حقيقة في معناه أو عدم كون واحد منها حقيقة ولا مجازا ، فلا يتمّ القول بكون العامّ مجازا في الباقي.

حجّة القول بكونه حقيقة في الباقي مطلقا (٥) : أنّ اللّفظ كان متناولا له حقيقة بالاتّفاق ، والتناول باق على ما كان عليه ، لم يتغيّر ، إنّما طرأ عدم تناول الغير.

وأنّ الباقي يسبق الى الفهم حينئذ ، وذلك دليل الحقيقة (٦).

__________________

(١) أي كونه مجازا.

(٢) في ردّ القول الأوّل.

(٣) وهو المدقق الشيرازي كما في الحاشية.

(٤) مقتضى كون المجموع حقيقة في الباقي.

(٥) بأي مخصّص كان.

(٦) ذكر في «المعالم» : ص ٢٧٧ كلا الحجّتين.

٥١

والجواب عن الأوّل : أنّه إن أراد من تناوله حقيقة ثبوت التناول في نفس الأمر ، فهو لا يثبت الحقيقة المصطلحة المبحوث عنها ، وإن أراد تناولها بعنوان الحقيقة المصطلحة ، فنمنع ذلك أوّلا قبل التّخصيص (١) إذ المتّصف بالحقيقة هو اللّفظ باعتبار تناوله للجميع لا للباقي ، وكون الباقي داخلا في المعنى الحقيقي لا يستلزم كون اللّفظ حقيقة فيه ، لا من جهة أنّ الباقي جزء المجموع وأنّ الدلالة التضمّنيّة ليست بنفس المعنى الحقيقي ، بل هو تابع له كما صرّح به علماء البيان وجعلوه (٢) من الدلالة العقليّة لا الوضعيّة ، حتّى يقال (٣) : أنّ الخاصّ ليس بجزء للعامّ ، بل لأنّ دلالة العامّ على كلّ واحد من الأفراد منفردا ، غير الموضوع له الحقيقي ، بل الموضوع له هو كلّ فرد بدون قيد الانفراد ولا قيد الاجتماع ، لا بمعنى إرادة كلّ فرد لا بشرط الانضمام ولا عدمه حتّى يقال : أنّه لا ينافي كونه حقيقة في المنفرد ، بل بمعنى أنّ الوضع إنّما ثبت في حال إرادة جميع الأفراد بعنوان الكلّي التفصيليّ الأفرادي ، كما حقّقناه في مبحث استعمال المشترك في معنييه. فافهم ذلك فإنّه لا ينافي ما حقّقناه سابقا من أنّ دلالة العامّ على أفراده دلالة تامّة.

وممّا ذكرنا ، يظهر أنّه لا معنى للتمسّك بالاستصحاب (٤) ، إذ لم يكن تناول العامّ للباقي في حال تناوله للجميع بعنوان الحقيقة حتى يستصحب ، بل لأنّه كان تابعا للمدلول الحقيقي وهو الجميع.

ثمّ لو سلّمنا كونه حقيقة ، فإنّما يثبت ذلك في حال كونه في ضمن الجميع ، وقد

__________________

(١) أي نمنع تناول اللفظ العام للباقي بعنوان الحقيقة المصطلحة قبل التخصيص.

(٢) أي المدلول التضمني.

(٣) متعلّق بقوله : لا من جهة انّ الباقي جزء الموضوع.

(٤) وإن تمسّك به بعضهم.

٥٢

تغيّر الموضوع.

والجواب عن الثاني (١) : بالمنع من السّبق بلا قرينة ، وبدونها يسبق العموم ، وسبق الغير علامة المجاز (٢).

وما يقال (٣) : إنّ إرادة الباقي معلومة بدون القرينة ، وإنّما المحتاج إليها هو خروج غيره.

ففيه : أنّ العلم بإرادة الباقي إنّما هو لأجل دخوله تحت المراد ، وذلك لا يوجب كونه حقيقة فيه ، إنّما الذي يقتضي كون اللفظ حقيقة هو سبق المعنى والعلم بإرادته على أنّه نفس المراد ، ولا يحصل ذلك فيما نحن فيه إلّا بالقرينة ، وهو معنى المجاز.

واحتجّ من قال بأنّه حقيقة إن بقي غير منحصر : أنّ (٤) معنى العموم حقيقة هو كون اللّفظ دالّا على أمر غير منحصر في عدد (٥).

وأجيب (٦) : بمنع كون معناه ذلك ، بل معناه تناوله للجميع وقد صار الآن لغيره فصار مجازا. مع أنّ الكلام في صيغ العموم لا في نفس العامّ (٧). فكما أنّ كون :

__________________

(١) عن القول الثاني من حجّتي القائلين بأنّه حقيقة مطلقا.

(٢) أي إن سبق الغير والذي هو العموم في حال عدم القرينة ، علامة المجاز في الباقي وعلامة الحقيقة في ذلك الغير ، إذ لو أنّ الباقي أيضا حقيقة لما سبق ذلك الغير الى الفهم.

(٣) راجع «المعالم» : ص ٢٧٨.

(٤) أي بأنّ.

(٥) ذكره في «المعالم» : ص ٢٧٩.

(٦) والمجيب صاحب «المعالم» : ص ٢٧٩.

(٧) قال صاحب «المعالم» ص ٢٧٩ : مثل هذا الاشتباه قد وقع لكثير من الأصوليين في مواضع ككون الأمر للوجوب والجمع للإثنين والاستثناء مجازا في المنقطع ، وهذا من باب اشتباه العارض بالمعروض.

٥٣

افعل ، حقيقة في الوجوب لا يقتضي كون مفهوم الأمر كذلك. وكذلك لا يقتضي كون مفهوم الأمر معتبرا فيه الإيجاب ، كون صيغة : افعل ، حقيقة في الوجوب ، فهكذا ما نحن فيه. ونظير ذلك أيضا أنّ كون الهيئة الاستثنائية حقيقة في المنقطع ؛ لا يقتضي كون الاستثناء حقيقة فيه ؛ ليرد أنّه ليس بإخراج ما لولاه لدخل.

احتجّ القائل بأنّه حقيقة إن خصّ بغير مستقلّ : بأنّ لفظ العامّ حال انضمام المخصّص المتّصل ، ليس مفيدا للبعض ، أعني ما عدا المخرج بالمخصّص ، لأنّه لو كان كذلك لما بقي شيء يفيده المخصّص ، فلا يكون مجازا في البعض ، بل المجموع منه ومن المتّصل يفيد البعض حقيقة.

وفيه : أنّه إن أراد عدم إفادته البعض بخصوصه بحسب الوضع ، فلا كلام لنا فيه. وإن أراد أنّه لا يفيد البعض بحسب إرادة اللّافظ فهو ممنوع ، غاية الأمر عدم الإفادة من حيث هو. وأمّا مع انضمام المخصّص ، فلا ريب في إفادته ذلك كما هو المدار في المجازات ، وأمّا المخصّص فهو يدلّ على إخراج البعض الآخر أيضا.

وأيضا (١) يرجع هذا الكلام الى اختيار مذهب القاضي في رفع التناقض عن الهيئة الاستثنائية ، ولفظ العامّ حينئذ إمّا حقيقة في معناه (٢) والنسبة الى الباقي وقع بعد الإخراج ، وإمّا أنّه ليس بحقيقة ولا مجاز إن قلنا بالوضع الجديد ، وقد عرفت بطلانهما سابقا.

واستدلّ أيضا (٣) : بأنّه لو كان التقييد بما لا يستقلّ موجبا للتجوّز في نحو :

__________________

(١) وهذا أيضا ردّ آخر.

(٢) كما هو القول الأوّل بناء على عدم وضع جديد طارئ على المركب من حيث هو مركب.

(٣) على أنّه حقيقة إن خصّ بغير مستقل ، وقد ذكره في «المعالم» : ص ٢٧٩.

٥٤

الرّجال المسلمون ، و : أكرم بني تميم إن دخلوا ، و : أكرم الناس إلّا الجهّال ، لكان نحو المسلمون للجماعة ، والمسلم للجنس أو العهد ، وألف سنة إلّا خمسين عاما مجازات ، واللّوازم باطلة ، أمّا الأوّلان فإجماعا ، وأمّا الأخير فبالتزام الخصم (١).

بيان الملازمة (٢) : أنّ كلّ واحد من المذكورات يقيّد بقيد هو كالجزء له وقد صار به (٣) لمعنى غير ما وضع له أوّلا ، وهي بدونه للمنقول عنه ، ومعه للمنقول إليه ، ولا يحتمل غيره ، وقد جعلتم ذلك موجبا للتجوّز ، فالفرق تحكّم.

والتحقيق في الجواب : أنّك إن أردت أنّ لفظة مسلم في : المسلمون ، والمسلم حقيقة مع تغيير معناه بسبب القيد فهو ممنوع ، فكيف يدّعى الاتّفاق عليه.

وإن أردت : أنّ المسلمون حقيقة في الجماعة ، والمسلم في الجنس أو العهد ، فهو إنّما يثبت حقيقة المركّب من حيث التركيب لا من حيث إنّه حقيقة في معنى مفرد ، وهو خارج على المبحث.

وبيان ذلك ، أنّ المفردات مختلفة الأوضاع (٤) ، كما أشرنا سابقا ، فوضع الأعلام وأسماء الأجناس ونحوها وضع شخصي ، ووضع الأفعال والمشتقّات والتثنية والجمع ونحوها وضع نوعيّ. كما أنّ وضع المركّبات كلّها نوعيّة ومنقسمة الى الحقيقة والمجاز كما أشرنا ، وكما أنّ كون وضع المركّبات حقيقة ، لا ينافي كون بعض مفرداتها مجازا لما ذكرنا في المقدّمة الأولى ، كذلك كون وضع المفردات النوعيّة حقيقة ، لا ينافي كون بعض أجزائها مجازا. فكما أنّه لا ينافي كون العامّ

__________________

(١) وهو القاضي أبو بكر ظاهرا ، القائل بالحقيقة في الأعداد كما مرّ.

(٢) ذكرها في «المعالم» : ص ٢٧٩.

(٣) بالقيد.

(٤) إذ إنّ بعضها شخصي وبعضها نوعي.

٥٥

مستعملا في المعنى المجازي على ما اخترناه كون الهيئة الاستثنائية حقيقة في الإخراج ، فلا ينافي كون المراد من مثل : مسلمون ، جماعة من أفراد هذا الجنس ، يعني المسلم.

وبعبارة أخرى ، المسلم المتحقّق في ضمن أفراد حقيقة ، كون (١) لفظ المسلم في هذه الكلمة مجازا كما لا يخفى. هذا إن اعتبرنا دلالة الكلمة على الجنس ودلالة علامة الجمع والعهد وتعيين الماهيّة على مدلولها ، وإن جعلناها كلمة واحدة موضوعة بالاستقلال لمجموع هذا المعنى ، فوجه الدّفع أنّ الاستدلال قياس مع الفارق ، لكون المقيس عليه كلمة مستقلّة موضوعة بوضع واحد ، ولم يلاحظ فيها دلالة القيد والمقيّد ، بل وضع مجموع اللّفظ بإزاء مجموع المعنى ، بخلاف المقيس ، فإنّه أريد من كلّ كلمة منه معنى على حدة.

والقول : بأنّ المجموع عبارة عن الباقي بعنوان الحقيقة ، فهو مع بطلانه كما بيّنا سابقا لا يلائم ظاهر الاستدلال من ملاحظة العلّة المستنبطة في قياسه.

والحاصل ، أنّ المستدلّ إن أراد مقايسة المركّبات المذكورة ، التي هي موضوعة بوضع حقيقي نوعيّ لمعان مركّبة معهودة في كونها حقيقة في معانيها التركيبيّة الحقيقيّة على المفردات المشتقّة الموضوعة بالوضع النوعي للمعاني المنحلّة بأجزاء متعدّدة ، مع قطع النظر عن ملاحظة مفرداتها وأجزائها (٢) ؛ فلا ريب أنّه ليس من محلّ النزاع في شيء. وكون كلّ منهما (٣) حقيقة في معانيها ، متّفق عليه.

__________________

(١) مفعول فلا ينافي.

(٢) ملاحظة مفرداتها في المقيس وأجزائها في المقيس عليه.

(٣) من المفردات والمركبات.

٥٦

وإن أراد مقايسة بعض أجزائها ، وهي المقيّدات بباقي الأجزاء في كونها حقيقة على أجزاء المفردات المقيّدة ، فثبوت الحقيقة في المقيس عليه أوّل الدّعوى.

وإن ادّعى في المفردات وضعا مستقلّا ، فلا مناسبة حينئذ بين المقيس والمقيس عليه ، ولا جامع بينهما (١) على ما هو ظاهر الاستدلال.

ومن هذا يظهر جواب من أراد الاستدلال بهذا الدليل على كون العامّ مع المخصّص حقيقة في الباقي ، إذ الفرق واضح بين المقيس والمقيس عليه حينئذ (٢) ، وذلك الوضع لم يثبت في المقيس ، ولا معنى للقياس هنا في إثبات الوضع ، كما لا يخفى ، فإنّ الوضع لم يثبت حينئذ في المقيس عليه من جهة اختلاف المعنى بسبب القيد حتّى يقال أنّه موجود في المقيس ، بل بسبب جعل الواضع ، وهو فيما نحن فيه ، أوّل الكلام.

بقي الكلام في المثال الأخير وجعله مقيسا عليه ، ووجهه ، أنّ الخصم يفرّق بين أسماء العدد وغيرها.

والتحقيق في جوابه : منع الفرق بينهما ، ووجهه ما تقدّم في المقدّمات.

وقد يجاب : بأنّ الخصم لعلّه يقول في المثال المذكور ، بأنّ المراد بالألف تمام المدلول ، وأنّ الإخراج وقع قبل الإسناد والحكم.

__________________

(١) ولعل وجه عدم المناسبة بينهما انّ الكلام في المقيس غير الكلام في المقيس عليه حينئذ إذ المراد بالمقيس على ما هو ظاهر الاستدلال هو نفس العام المقيّد بما لا يستعمل ، والمراد بالمقيس عليه على ما هو المفروض منه ادعاء الوضع المستقل في المفردات هو مجموع القيد والمقيّد ، فيقاس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق هذا ما أفاده في الحاشية.

(٢) حين جعل المقيس عليه حقيقة بالوضع الشخصي الافرادي.

٥٧

وفيه : مع ما عرفت من فساد هذه الطريقة ، أنّه (١) مبنيّ على الفرق بين أسماء العدد وغيرها في ذلك (٢) ، وهو غير ظاهر الوجه والقائل.

وحجّة التفصيل الثالث (٣) : هو الحجّة السّابقة ، واستثناء الصّفة وغيرها لكونها عند القائل من قبيل المستقلّ.

وكذلك حجّة التفصيل الرّابع : هو الحجّة السّابقة ، وضعفها غنيّ عن البيان.

وأمّا حجّة القول الأخير ، وهو قول فخر الدّين ، فقال في «البرهان» : والذي أراه اجتماع جهتي الحقيقة والمجاز في اللّفظ ، لأنّ تناوله لبقيّة المسمّيات لا تجوّز فيه ، فهو من هذا الوجه حقيقة في المتناول ، واختصاصه بها وقصوره عمّا عداها ، جهة في التجوّز (٤) ، وضعفه ظاهر ممّا مرّ.

__________________

(١) أي قول الخصم.

(٢) وصاحب هذه الطريقة لا يفرّق.

(٣) وهو الذي ذهب إليه أبو بكر الباقلّاني ، فإنّه في مراتب التفاصيل في المرتبة الثالثة وإن كان في مراتب الأقوال في المرتبة الخامسة.

(٤) أي تجوّز اللفظ.

٥٨

قانون

العامّ المخصّص بمجمل ليس بحجّة اتفاقا (١)، فإن كان مجملا من جميع الوجوه ، ففي الجميع ، مثل قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ.)(٢) ومثل : اقتلوا المشركين إلّا بعضهم.

وإن كان إجماله في الجملة ، ففي قدر الإجمال ، مثل : إلّا بعض اليهود ، فلا إجمال في غير اليهود.

وأمّا المخصّص بمبيّن فالمعروف من مذهب أصحابنا ، الحجيّة في الباقي مطلقا ، ونقل بعض الأصحاب اتّفاقهم على ذلك (٣).

واختلف العامّة (٤) ، فمنهم من قال : بعدم الحجيّة مطلقا.

ومنهم : من خصّ الحجيّة بما لو كان المخصّص متّصلا (٥).

ومنهم من قال : بحجيّته في أقلّ الجمع (٦).

ومنهم من قال : بالحجيّة فيما لو كان العامّ منبئا عن الباقي قبل التخصيص (٧) ،

__________________

(١) وكما في «الفصول» : ص ١٩٩ أيضا.

(٢) المائدة : ١.

(٣) يمكن أن يكون مقصوده الشيخ البهائي الّذي قال في «الزبدة» ص ١٢٨ : العامّ المخصّص بمبيّن حجّة في الباقي ، وفي حاشيته : أصحابنا الإماميّة متّفقون على ذلك.

(٤) وللمخالف خمسة أقوال أمثلها في أقلّ الجمع كما في «الزبدة» : ص ١٢٨.

(٥) وهو مذهب البلخي.

(٦) من الاثنين والثلاث على اختلاف القولين دون ما زاد عليه.

(٧) وهو ابو عبد الله البصري.

٥٩

كالمشركين بالنسبة الى الحربي (١) ، بخلاف مثل السّارق ، فإنّه لا ينصرف الذّهن منه الى من يسرق ربع دينار فما فوقها من الحرز.

ومنهم : من خصّ الحجيّة بما لو كان العامّ قبل التخصيص غير محتاج الى البيان (٢) كالمشركين قبل إخراج الذّمي بخلاف : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ ،)(٣) قبل إخراج الحائض (٤).

لنا : ظهوره في إرادة الباقي بحيث لا يتوقّف أهل العرف في فهم ذلك حتّى ينصب قرينة أخرى عليه غير المخصّص ، ولذلك ترى العقلاء يذمّون عبدا قال له المولى : أكرم من دخل داري ، ثمّ قال : لا تكرم زيدا ، إذا ترك إكرام غير زيد أيضا.

وأيضا ، العامّ كان حجّة في الباقي في ضمن الجميع قبل التخصيص ، بمعنى أنّه كان بحيث يجب العمل على مقتضاه في كلّ واحد من الأفراد ، خرج المخرج بالدّليل ، وبقي الباقي ، فيستصحب (٥) حجّيّته في الباقي.

وأمّا ما ذكره بعضهم (٦) : بأنّه كان متناولا للباقي قبل التخصيص وهو مستصحب.

__________________

(١) كإنبائه عن غيره كما في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (التوبة : ٥) ، فإنّه ينبئ عن الحربي إنبائه على الذمّي وإلّا فلا كما في قوله تعالى : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة : ٣٨) ، فإنّه لا ينبئ عن كون المال نصابا ومخرج عن الحرز.

(٢) وهو مذهب القاضي عبد الجبّار من العامة.

(٣) الانعام : ٧٢.

(٤) راجع «الفصول» : ص ١٩٩.

(٥) فيستصحب الحكم الثابت به.

(٦) يمكن قصوده الشيخ البهائي الّذي قال في «الزبدة» ص ١٢٩ : لنا : بقاء ما كان ، وفي حاشيته أي قبل التخصيص من التناول.

٦٠