القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

روايتهم. ومثل عليّ بن محمّد بن رباح (١) وعليّ بن أبي حمزة (٢) وإسحاق بن جرير (٣) من الواقفية ، الذين كانوا على الحقّ ثمّ توقّفوا ، وروى عنهم ثقات الأصحاب وصرّح أجلّاء المتأخّرين بقبول روايتهم مع جهل التاريخ ، فيمكن الوثوق على روايتهم لأجل ما ذكر ، لأنّ المعهود من حال أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام كمال اجتنابهم عن الواقفية وأمثالهم من فرق الشيعة ، وكان معاندتهم معهم وتبرّيهم عنهم أزيد منها عن العامّة ، سيّما الواقفية ، حتّى أنّهم كانوا يسمّونهم الممطورة ـ أي الكلاب التي أصابها المطر ـ ويتنزّهون عن صحبتهم والمكالمة معهم ، وكان أئمّتهم عليهم‌السلام يأمرونهم باللّعن عليهم والتبرّي عنهم ، فرواية ثقاتهم وأجلّائهم عنهم ، قرينة على أنّ الرّواية كانت حال الاستقامة ، وأنّ الرّواية عن أصلهم المعتمد المؤلّف قبل فساد العقيدة أو المأخوذ عن المشايخ المعتمدين من أصحابنا ، ككتب علي بن الحسن الطّاطري ، فإنّ الشيخ ذكر في «الفهرست» انّه روى كتبه عن الرّجال الموثوق بهم وبروايتهم.

قال المحقّق البهائي في كتاب «مشرق الشمسين» (٤) : والظاهر أنّ قبول المحقّق (طاب ثراه) (٥) رواية عليّ بن أبي حمزة مع شدّة تعصّبه في مذهبه

__________________

(١) ابن عمر بن رباح كان ثقة في الحديث واقفا في المذهب صحيح الرواية كما قال النجاشي.

(٢) البطائني وقد مرّ ذكره وهو المقصود هنا ، وليس المقصود علي بن ابي حمزة الثمالي لأنّه ثقة فاضل.

(٣) بن عبد الله البجلي فالأقوى عندي التوقف كما في «الخلاصة».

(٤) «وإكسير السّعادتين» ص ٥٧.

(٥) في «المعتبر».

٤٨١

الفاسد ، مبنيّ على ما هو الظاهر من كونها منقولة عن أصله ، وتعليله رحمه‌الله يشعر بذلك ، فإنّ الرّجل من أصحاب الأصول.

وكذلك قول العلّامة (١) بصحّة رواية إسحاق بن جرير عن الصادق عليه‌السلام ، فإنّه ثقة من أصحاب الاصول أيضا ، وتأليف أمثال هؤلاء اصولهم كان قبل الوقف ، لأنّه وقع في زمن الصادق عليه‌السلام ، فقد بلغنا عن مشايخنا (قدّس الله أرواحهم) أنّهم من دأب أصحاب الأصول ، أنّه إذا سمعوا من أحد الأئمّة حديثا بادروا إلى إثباته في أصولهم لئلّا يعرض لهم نسيان لبعضه ، أو كلّه بتمادي الأيّام وتوالي الشّهور والأعوام.

__________________

(١) في «المنتهى» كما نقل الشيخ البهائي في «مشرق الشمسيين» ص ٥٨.

٤٨٢

قانون

تعرف عدالة الرّاوي بالملازمة والصّحبة المتأكّدة (١) حتّى يظهر سريرته (٢) علما أو ظنّا ، وباشتهارها بين العلماء وأهل الحديث ، كالصّدوق ، فإنّ علماء الرّجال لم يذكروا له توثيقا ، واشتهاره بذلك كفانا من غيره.

وبشهادة القرائن الكثيرة المتعاضدة ، مثل كونه مرجع العلماء (٣) والفقهاء ، وكونه ممّن يكثر عنه الرّواية من لا يروي إلّا عن عدل ، ونحو ذلك من القرائن. وبالتزكية من العالم بها ، إمّا بأن يقول : هو عدل ، أو ما يشمله ، أو يقبل شهادته إن كان ممّن يرى العدالة شرطا أو نحو ذلك.

واختلفوا في أنّ الواحد هل يكفي في التزكية أو لا بدّ من المتعدّد؟ على قولين ، وبنى كثير منهم ذلك على أنّ التزكية رواية أو شهادة ، فعلى الأوّل يكفي دون الثاني.

ولا بدّ في ذلك من تمهيد مقدّمة : وهو أنّ الرّواية والشهادة والفتوى (٤) كلّها من

__________________

(١) المراد بالملازمة عدم التفارق مطلقا ، ومن الصحبة هو المصاحبة مع وجود التفارق أحيانا ، والمتأكدة أي المتكرّرة.

(٢) هنا بمعنى الملكة الباطنية.

(٣) المراد من العلماء هنا إمّا الفقهاء ، فالعطف للتفسير أو المراد علماء الرّجال أو المراد علماء الحديث أي الرّواة أو المراد مطلق العلماء ولو كانوا من أهل الأصول الدينية أو الفقهيّة ، ويحتمل ذلك الوجه أيضا فيما مرّ من قوله بين العلماء ، هذا على ما أفاده في الحاشية.

(٤) الرّواية في اللّغة الحكاية ، والفتوى في اللّغة هو ما أفتى به الفقيه من أخبار عن مسائل ، والشهادة إخبار بما شاهده عن اليقين.

٤٨٣

أفراد الخبر المقابل للإنشاء. والشّهادة في اللّغة إخبار عن اليقين ، وعلى ما عرّفها الفقهاء إخبار جازم بحقّ لازم للغير من غير الحاكم ، فحكم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفائه عليهم‌السلام ، والحاكم ليس بشهادة.

وقال الشهيد رحمه‌الله في «القواعد» (١) : الشّهادة والرّواية تشتركان في الجزم وتنفردان في أنّ المخبر عنه إذا كان أمرا عامّا لا يختصّ بمعيّن فهو الرّواية ، كقوله : «لا شفعة فيما لا يقسم» (٢) ، فإنّه شامل لجميع الخلق إلى يوم القيامة ، وإن كان لمعيّن ، فهو الشّهادة ، كقوله عند الحاكم : أشهد بكذا لفلان.

وقد يقع لبس بينهما في صور :

الأولى : رؤية الهلال ، فإنّ الصوم مثلا لا يتشخّص بمعيّن ، فهو رواية ، ومن اختصاصه بهذا العامّ دون ما قبله وما بعده (٣) ، بل بهذا الشهر ، فهو كالشهادة ، ومن ثمّ اختلف في التعدّد.

الثانية : المترجم عند الحاكم من حيث إنّه يصير عامّا للترجمة ، ومن إخباره عن كلام معيّن ، والأقوى (٤) التعدّد في الموضعين.

الثالثة : المقوّم من حيث إنّه منصوب لتقويمات لا نهاية له ، فهو رواية ، ومن أنّه إلزام لمعيّن (٥).

__________________

(١) «القواعد والفوائد» للشهيد الأوّل ١ / ٢٤٧.

(٢) أي فيما لا يقبل التقسيم.

(٣) أي من الأهلّة الماضية والآتية.

(٤) اي الأقوى انّها من باب الشهادة.

(٥) في كلّ واقعة.

٤٨٤

الرابعة : القاسم من حيث نصبه لكلّ قسمة (١) ، ومن حيث التعيين في كلّ قضيّة(٢).

الخامسة : المخبر عن عدد الرّكعات والأشواط ، من أنّه لا يخبر عن إلزام حكم لمخلوق ، بل للخالق سبحانه وتعالى ، فهو كالرّواية ، ومن أنّه إلزام لمعيّن لا يتعدّاه.

السادسة : المخبر بالطهارة أو النجاسة ترد فيه الشّهادة (٣) ، ويمكن الفرق بين قوله : طهّرته ونجّسته لاستناده إلى الأصل هناك (٤) ، وخلافه في الإخبار بالنجاسة ، أمّا لو كان ملكه فلا شكّ في القبول.

السابعة : المخبر عن دخول الوقت.

الثامنة : المخبر عن القبلة.

التاسعة : الخارص (٥).

والأقرب في هذه الخمسة (٦) الاكتفاء بالواحد إلّا في الإخبار بالنجاسة ، إلّا أن تكون يده ثابتة عليه بإذن المالك.

__________________

(١) فهو عام حينئذ.

(٢) فهو خاص حينئذ.

(٣) فلا يقبل على قول بعض ، او المراد انّه لا يقبل قول واحد فيه.

(٤) فيقبل في الطهارة لأصالة الطهارة ولا يقبل في النجاسة.

(٥) أي الكاذب ، والخرص هو الكذب يقال خرص يخرص بالضمّ خرصا وتخرّص أي كذّب ، ومنه قوله تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) والخرص بالفتح حزر ما على النخل من الرطب تمرا ، يقال كم خرص أرضك ، وهو من الخرص الظنّ ، لأنّ الحزر إنّما هو تقدير بظنّ.

(٦) وفي الثالث والرابع لا قوّة عند الشهيد لأحد الطرفين ، كما في الحاشية.

٤٨٥

أمّا المفتي ، فلا خلاف في أنّه لا يعتبر فيه التعدّد ، وكذا الحاكم ، لأنّه ناقل عن الله تعالى إلى الخلق ، فهو كالرّاوي ولأنّه وارث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام الذي هو واحد.

وأمّا قبول الواحد في الهديّة (١) ، وفي الإذن في دخول دار الغير فليس من باب الشهادة ، لا لأنّه رواية إذ هو خاص ، بلّ شهادة ، لكن اكتفي فيها بالواحد عملا بالقرائن المفيدة للقطع ، ولهذا قبل وإن كان صبيّا ، ومنه إخبار المرأة في إهداء العروس إلى زوجها.

ولو قيل : بأنّ هذه الأمور قسم ثالث خارج عن الشّهادة والرّواية ، وإن كان مشبها للرواية (٢) ، كان قويّا وليس إخبارا ، ولهذا لا يسمّى الأمين المخبر عن فعله شاهدا ولا راويا مع قبول قوله وحده [كقوله] : هذا مذكّى أو ميتة لما في يده. وقول الوكيل : بعت ، أو أنا وكيل ، أو هذا ملكي. انتهى ما أردنا ذكره (٣).

أقول : ولا يخفى على المتأمّل في كلامه رحمه‌الله (٤) ، ما فيه من المسامحة في البيان ، واشتباه ما هو المقصود من الرّواية والشهادة ووجه التفرقة بينهما وحكمهما. فإنّ من يقول بأنّ الواحد يكفي في الرّواية دون الشّهادة ، إن أراد بالرّواية الخبر المصطلح الذي هو واحد من أدلّه الفقه بناء على حجّية خبر الواحد لا مطلق الخبر المقابل للإنشاء ، فهو لا يتمّ لأنّه لا معنى حينئذ للتفريعات التي ذكروها من حكاية رؤية الهلال ، والمترجم وغيرهما ممّا ذكروه ، ولا لجعل التذكية رواية بهذا المعنى

__________________

(١) بأن يقول : انّ هذه هدية فلان إليك.

(٢) قال في الحاشية : والأولى ان يقول للشهادة.

(٣) من «القواعد والفوائد».

(٤) كلام الشهيد.

٤٨٦

مطلقا (١) كما لا يخفى.

وإن قيل : أنّ المراد مقابلة الشّهادة بسائر أفراد الخبر ، والغرض من الرّواية هو سائر أفراد الخبر ، فيشمل الخبر المصطلح وغيره أيضا.

ففيه : أنّه لا معنى (٢) حينئذ لاشتراط كون المخبر عنه في الخبر عامّا ، وفي الشهادة خاصّا ، إذ قد يكون المخبر عنه في الخبر خاصّا مع كونه غير شهادة ، كإخبار زيد بمجيء ولده من السّفر مثلا ، مع أنّ أكثر الروايات إخبار عن الخاص لأنّه إخبار عن سماع خاصّ أو رؤية خاصّة ، فإنّ قول الرّاوي : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كذا ، والإمام كذا ، إخبار عن جزئي حقيقي.

وإن اعتبر نفس إلزام الحقّ في الشّهادة ، فلا وجه (٣) لتخصيص الفرق بالتخصيص والتعميم كما يظهر منه رحمه‌الله في أوّل كلامه ، ولا لتخصيص الحقّ بالمخلوق (٤) في الشّهادة كما يظهر من أواسط كلامه ، إذ قد يكون الشّهادة في حقّ الله تعالى كالشّهادة على شرب الخمر لإجراء الحدّ ، وجعله رحمه‌الله الأمور المذكورة أخيرا قسما ثالثا أيضا ينافي إرادة المعنى الأعمّ أيضا.

والظّاهر (٥) أنّ مرادهم من الرّواية هنا مطلق الخبر غير الشهادة ، لا الخبر المصطلح ، فالتقرير الواضح حينئذ أن يقال : إنّ كلّ خبر يسمع فيه الواحد ، إلّا الشّهادة ، وهو إخبار جازم عن حقّ لازم للغير عن غير الحاكم.

__________________

(١) أي أصلا وهو قيد للنفي.

(٢) وهذا هو الايراد الأوّل.

(٣) وهذا هو الايراد الثاني.

(٤) وهذا هو الايراد الثالث ، فهو أيضا مردود ان اعتبر ذلك.

(٥) قال في الحاشية : وهذا هو تحقيق المصنّف.

٤٨٧

ووجهه : أنّ أقوال المسلمين وأفعالهم محمولة على الصّدق والصّحة كما حقّق في محلّه (١) ، وذلك يقتضي الاكتفاء بالواحد في الجميع ، وذلك فيما لا يسري حكمه إلى غير المخبر واضح.

وأمّا إذا أوجب تكليفا للغير ، فيعارضه أصالة البراءة عن التكليف ، فلا بدّ في إثبات التكليف من ظنّ بالصدّ أزيد من أصل كونه قول المسلم ، لرفع الظنّ الحاصل بأصل البراءة ، وهو إمّا بعدالة الرّاوي علاوة على الإسلام ، أو بالتثبّت المحصّل للظنّ بالصّدق ، فهذا خبر مثبت للتكليف. وإن كان مع ذلك معارضا بفعل مسلم آخر أو قوله وكان (٢) في واقعة خاصّة فقد ينبغي فيه التعدّد كما في الشّهادة ، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة أدلّة حجّية خبر الواحد ، هل تفيد حجّية الخبر المصطلح أو مطلق خبر الواحد. وقد عرفت أنّ آية النفر ظاهرة في الفتوى ، غايته دخول الخبر المصطلح فيه أيضا ، وأمّا غيرهما (٣) فلا.

وأمّا آية النبأ فهو وإن كان أعمّ من ذلك ، لكنّه ينافي ما ذكروه من اشتراط عموم المخبر عنه في الخبر ، فإنّه أعمّ من ذلك ، بل حكاية وليد (٤) الّتي هو شأن نزول الآية ، واقعة خاصّة ، وهي بالشهادة أشبه.

وكيف كان فالشهادة داخلة فيه ، ولذلك استدلّ الفقهاء في ردّ شهادة الفاسق والمخالف بهذه الآية ، وحينئذ فلا دلالة فيها على قبول الواحد ، اذ مقتضاها لا بدّ أن يكون : إن كان عادلا لا يجب التوقّف من حيث تحصيل الصّدق ، بل يجوز العمل به

__________________

(١) للأخبار وظاهر حال المسلم وظاهر العرف الجاري.

(٢) كأنّه عطف تفسيري.

(٣) كالتزكية.

(٤) بن عقبة.

٤٨٨

حينئذ في الجملة ، وإن كان من جهة كونه أحد شطري البيّنة ، وذلك لا يفيد إلّا جواز العمل في الجملة ، لا خصوص العمل إذا كان واحدا مطلقا (١) كما هو المطلوب. وإرادة المعنيين معا بالنسبة إلى الشهادة وغير الشهادة استعمال اللّفظ في المعنى الحقيقيّ والمجازيّ ، وهو باطل كما حقّقناه سابقا ، وجعل الأصل والظّاهر من الآية العمل بالواحد ، والقول بأنّ الشّهادة مخرج بالدليل مع كون الآية واردة فيما هو من باب الشهادة على ما هو شأن نزول الآية محلّ إشكال ، سيّما وهو مستلزم لتخصيص المنطوق بالخبر أيضا ، لأنّ الظنّ الحاصل بالتثبّت لا يفيد في الشّهادة.

وأمّا الإجماع فهو ظاهر في الخبر المصطلح.

وأمّا الدّليل الخامس ، فهو لا يفيد الاعتماد على الواحد من جهة أنّه خبر الواحد ، بل لأنّه ظنّ ، ولا مناص عن الظنّ عند انسداد باب العلم.

فالحقّ والتحقيق ، أنّ هذا البناء باطل ، إذ ليس ذلك (٢) من باب الخبر المصطلح ، ولا دليل على كفاية الواحد بالخصوص في غير الشّهادة من أقسام الخبر ، ولا دليل على كونه من باب الشّهادة لعدم صدق تعريفها عليه عند التأمّل ، فإنّ المراد من التزكية ليس إثبات حقّ لازم للمخلوق أو للخالق ، وإفادته لذلك بالأخرة بعد العمل بالرّواية بسبب التعديل ، مشترك الورود في الخبر والشهادة ، مع أنّ العلم معتبر في الشّهادة غالبا ، بخلاف ما نحن فيه ، لاستحالة العلم بالعدالة عادة.

سلّمنا أنّه شهادة ، لكن لا دليل على وجوب التعدّد في مطلق الشهادة ، فإنّ بعض الأصحاب قد اعتبر الواحد في بعض الموادّ (٣) ، بل اعتبروا المرأة الواحدة أيضا

__________________

(١) أي في جميع الأخبار حتى في الشهادة والتزكية وغيرهما.

(٢) اي التزكية.

(٣) كما في الهلال.

٤٨٩

في بعض الأحيان (١) ، ولا دليل على عدم كون التزكية ممّا يقبل فيه الواحد ، فالأولى أن يقال : إنّ ذلك من باب الظّنون الاجتهادية المرجوع إليها عند انسداد باب العلم ، وليس من باب الشهادة ولا الرّواية المصطلحة.

ثمّ إنّه يمكن توجيه كلام الشهيد حيث قال : وينفردان في أنّ المخبر عنه ... الخ.

بأنّ المراد أنّ العموم إنّما يوجد في الرواية دون الشهادة ، لا أنّ المخبر عنه في الرّواية دائما يكون عامّا. ويلزمه أنّ الشهادة دائما مخصوصة ، وهو كذلك.

ومراده بيان أحد المميّزات لا الجميع حتّى يرد أنّ بينهما فرقا آخر ، وهو أنّ الشهادة إخبار بحقّ لازم للغير البتة ، ولا يلزم أن يوجد ذلك في الرواية ، بل لا يوجد فيها إلّا على سبيل التبعية والاستلزام كالفتوى.

وأمّا قوله : إنّ الصوم مثلا لا يتشخّص لمعيّن ، فلا وجه له ، لأنّ الإخبار عن رؤية الهلال الجزئي المتشخّص لا عموم فيه بالضرورة ، وذلك يوجب إثبات حقّ الله تعالى وهو الصوم الخاصّ الحاصل في الشّهر الخاصّ على عباده ، كإثبات الحدّ على شارب الخمر.

وتوهّم عموم الصائم والمفطر (٢) مدفوع ، بأنّ المراد بالعموم والخصوص هنا : أنّ أكثر الرّوايات مفيد للحكم لموضوع مفروض وإن لم يتحقّق ولم يتصوّر تحقّقه كالفتاوى ، فقوله عليه‌السلام : «لا شفعة فيما لا يقسّم» (٣). يعني كلّما وجد ما لا يقسّم فحكمه

__________________

(١) كما في الوصية والاستهلال.

(٢) الصائم في هلال شهر رمضان والمفطر في هلال شوال.

(٣) في البخاري كتاب الشفعة الحديث ٢١٣٨ ـ ٢ / ٧٨٧ ، وفي «المستصفى» ٢ / ٨٤ ـ

٤٩٠

أنّه لا شفعة فيه ، لا أنّ الأملاك الموجودة الغير المقسومة حكمه كذا ، بخلاف رؤية الهلال فإنّه يثبت الصّوم والإفطار لواجدي الشرائط من الحياة والعقل والبلوغ وغيرها بالفعل ، بل لأهل البلاد الخاصّة ، بخلاف مثل : يجب الصّوم للرؤية والفطر للرؤية (١) ، وكذلك الشّهادة على الوقف العامّ ، فإنّ المصلحة العامّة مصلحة خاصّة ورد عليها الوقف بالخصوص ، فهو حقيقة متعيّن من حيث المورد وإن لزمه الشيوع والاستمرار بالتّبع في أفراد الموقوف عليه وأشخاصه ، وكذلك الشّهادة على النسب ، فإنّها تثبت شيئا معيّنا خاصّا ولكن الانتساب إلى آخر الأبد يتبعه.

وأمّا المترجم فهو أيضا إخبار عن جزئي معيّن مشخّص.

وتوجيه كلامه في العموم هنا بأن يقال : مراد المترجم أنّ كلّ من يقول بمثل هذا الكلام فمراده هذا ولا يخفى بعده.

وأمّا القاسم والمقوّم فيظهر توجيه العموم ممّا ذكرنا في المترجم ، والتوجيه فيهما أظهر من المترجم.

وأمّا قوله الخامس المخبر عن عدد الرّكعات والأشواط ... الخ.

ففيه : ما قدّمناه ، من عدم انحصار الشّهادة في حقّ الخلق.

ثمّ إنّ تحقيق هذه المسائل ، والتكلّم في كلّ واحد منها ، ليس وظيفة هذا الكتاب ، وحظّ الأصولي في هذا الباب ، التفرقة بين الشّهادة وغيرها من الأخبار حتّى يجعل الشّهادة أصلا ويطلب فيها العدد ، وهو مشكل ، إذ ما ذكروه من

__________________

ـ «وإنّما الشفعة فيما لم يقسم» وكنت قد أتيت على مثل هذا الحديث بكلام تفصيلي من قبل في هذا الكتاب ص ٢١٣.

(١) لرواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام : إذ رأيتم الهلال فصوموا واذ رأيتموه فافطروا وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية. كما في «الوسائل» كتاب الصوم الباب ٣ ـ ح ١٣٣٤٠ ـ أو لغيرها من الروايات.

٤٩١

المميّزات للشهادة كثيرا ما يتخلّف عن العدد ، فدعوى لزوم العدد في الشّهادة إلّا ما أخرجه الدّليل ، ليس بأولى من دعوى كفاية مطلق الخبر ، إلّا ما أثبته الدّليل ، فالمتّبع هو ما اقتضاه الأدلّة في خصوصيات المقامات : إلّا أن يتمسّك بالاستقراء وتتبّع موارد الأحكام (١) ، فإنّه يقتضي كون الأصل فيها العدد وأنّ ما اكتفي فيه بالواحد فإنّما خرج بدليل خاصّ.

بقي الكلام في الفرق بين الفتوى والحكم ، وهو أنّ الفتوى هو إخبار عن الله تعالى بأنّ حكمه في هذه القضيّة كذا ، ومن خواصّه عدم المنع من مخالفته من المجتهد والمقلّد. أمّا المجتهد فظاهر ، وأمّا المقلّد ، فلأنّ له أن يستفتي عن آخر ، ومع التعدّد فيختار الأعلم ثمّ الأورع ، ومع التساوي يتخيّر.

والحكم هو إنشاء إطلاق أو إلزام في المسائل الاجتهادية وغيرها (٢) مع تقارب المدارك فيها ممّا يتنازع فيه الخصمان بمصالح المعاش ، هكذا عرّفه الشهيد في «القواعد» (٣). وحكمه أنّه لا يجوز لغيره نقضه وإن كان مجتهدا مخالفا له في الرأي ، لاستلزام ذلك عدم استقرار الأحكام ، والمصلحة في شرع الأحكام هو حصول النظام ، وذلك (٤) ينافيه.

وقال في «القواعد» (٥) : فبالإنشاء يخرج الفتوى لأنّها إخبار ، والإطلاق والإلزام نوعا الحكم ، وغالب الأحكام إلزام. ومثّل للإطلاق بإطلاق مسجون لعدم ثبوت الحقّ عليه ، وبإطلاق حرّ من يد من ادّعى رقّه بلا بيّنة ، وغير ذلك. قال :

__________________

(١) الشرعية الواردة في الأخبار.

(٢) أي الاجماعية او الأصولية العملية الفقاهية الأربعة كما في الحاشية.

(٣) في القاعدة [١١٤] من «القواعد والفوائد» ١ / ٣٢٠.

(٤) النقض له.

(٥) ١ / ٣٢٠.

٤٩٢

وبتقارب المدارك في المسائل الاجتهادية يخرج ما ضعف مدركه جدّا كالعول والتعصيب (١) وقتل المسلم بالكافر ، فإنّه لو حكم به حاكم وجب نقضه ، وبمصالح المعاش تخرج العبادات ، فإنّه لا مدخل للحكم فيها ، فلو حكم الحاكم بصحّة صلاة زيد لم يلزم صحّتها ، بل إن كانت صحيحة في نفس الأمر فذلك ، وإلّا فهي فاسدة. وكذا الحكم بأنّ مال التجارة لا زكاة فيه ، وأنّ الميراث لا خمس فيه ، فإنّ الحكم به لا يرفع الخلاف ، بل لحاكم غيره أن يخالفه في ذلك.

نعم ، لو اتّصل بها (٢) أخذ الحاكم ممّن حكم عليه بالوجوب مثلا ، لم يجز نقضه. فالحكم المجرّد عن اتّصال الأخذ إخبار كالفتوى ، وأخذه للفقراء حكم باستحقاقهم ، فلا ينقض إذا كان في محلّ الاجتهاد.

ولو اشتملت الواقعة على أمرين أحدهما من مصالح المعاد والآخر من مصالح المعاش ، كما لو حكم بصحّة حجّ من أدرك اضطراري المشعر وكان نائبا ، فإنّه لا أثر له في براءة ذمّة النائب في نفس الأمر ، ولكن يؤثّر في عدم رجوعهم عليه بالأجرة ، انتهى (٣). وسيجيء تحقيق الكلام في أواخر الكتاب.

إذا تمهّد هذا فنقول : ذهب الأكثرون إلى كفاية المزكّي الواحد في الرّواية وهو مذهب العلّامة في «التهذيب» (٤) ، وذهب المحقّق (٥) ومن تبعه إلى أنّه لا يقبل

__________________

(١) في الميراث كما هو مذهب العامّة والمبني على الاستحسان أو غير ذلك.

(٢) أي الفتوى.

(٣) كلام الشهيد.

(٤) ص ٢٣٥.

(٥) في «المعارج» ص ١٥٠ ، وتبعه الشيخ حسن في «المعالم» ص ٣٥٦ ، حيث ذهب إلى أنّ قول المحقّق هو الحق.

٤٩٣

فيه (١) إلّا ما يقبل في تزكية الشّاهد ، وهو شهادة عدلين. وعن بعض العامّة (٢) عدم اعتبار التعدّد فيهما (٣).

فلنقدّم الكلام في معنى هذا النّزاع ، ثمّ نتعرّض إلى ذكر أدلّة الأقوال ، فإنّه غير محرّر في كلام القوم.

وأقول : إنّ حجّية خبر الواحد ، إمّا من حيث أنّه ظنّ ، كما هو مقتضى الدّليل الخامس ، أو من حيث هو خبر ، كما هو مقتضى آية النبأ ، أو من حيث أنّه الخبر المصطلح ، أعني المرويّ عن المعصوم عليه‌السلام كما هو مقتضى الاستدلال بالإجماع.

ثمّ إنّ اشتراط العدالة لا معنى له على الأوّل إلّا باعتبار إعلام طرق الظنّ والتنبيه عليها ، والتنبيه على أنّ خبر الفاسق لا يفيد الظنّ ، كما أشرنا إليه سابقا.

وأمّا على الثاني ، فمقتضاه قبول خبر العدل مطلقا ، سواء كان رواية مصطلحة أو شهادة أو غيرهما ، ولذلك استدلّ الأصحاب بآية النبأ على اشتراط عدالة الشّاهد أيضا ، ومقتضاه قبول خبر العدل الواحد في التزكية مطلقا (٤).

ولمّا ثبت من دليل خارجي اشتراط التعدّد في نفس الشّهود ، فيرجع الكلام هنا في أنّ التزكية شهادة أم لا ، وبعد ثبوت كونها شهادة فلا فرق بين الرّاوي والشّاهد ،

__________________

(١) أي في تزكية الرّاوي.

(٢) في «المحصول» ٣ / ١٠٢٧ ، وكذا في «المستصفى» ١ / ١٦٠ ، قال القاضي أبو بكر : لا يشترط في الشهادة العدد في تزكية الشاهد ولا في تزكية الراوي وإن كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكّي. وقال قوم : يشترط في الشهادة دون الرّواية.

وهو الأظهر كما قال الرّازي.

(٣) أي في تزكية الرّاوي وتزكية الشاهد.

(٤) أي سواء أفاد الظنّ أم لا أو المراد من الاطلاق هو قوله سواء كان رواية مصطلحة أو شهادة أو غيرهما هذا كما في الحاشية.

٤٩٤

وكذا مع عدمه ، فالقول بالتفصيل لا معنى له ، إذ عدالة الرّاوي إن ثبت بتزكية الواحد فهو عدل يجوز قبول شهادته أيضا والاقتداء به ، وإلّا فلا يقبل في قبول الرّواية أيضا ، لأنّ معنى العدالة شيء واحد ، ولا معنى لكون الشّخص عادلا بالنسبة إلى أمر دون أمر.

وأمّا ما يفهم من كلام الشيخ في «العدّة» (١) من الفرق بين عدالة الرّاوي وغيره ، فمع أنّ مراده أنّ مجرّد الوثوق بالصدق كاف ، لا إنّ محض ذلك عدالة ، وإن كان فاسقا بالجوارح فلا ينفع في محلّ النزاع ، إذ هو مطرح نظر جميع العلماء ، فلا بدّ أن يوافق مذاق الجميع ، فيرجع الكلام في هذا الفرق أيضا إلى أنّ المدار هو حصول الظنّ ، وأنّ مجرّد حصول الظنّ يكفي في الرّواية وهو رجوع إلى الوجه الأوّل ، أعني الاعتماد على الدّليل الخامس وجعل المعيار هو مطلق الظنّ ، ولا يفيد ذلك إثبات اشتراط العدالة في الخبر من حيث إنّه خبر.

والحاصل ، أنّ سبيل العلم بالأحكام الشرعية إذا كان منسدّا ، فالمدار على الظنّ ، والظنّ يحصل بالخبر بمجرّد تعديل واحد. وأمّا إثبات حقوق الله أو حقوق الناس فالمدار فيهما [فيه] على العلم أو البيّنة أو اليمين ، فلم ينحصر المناص فيهما في العمل بمطلق الظنّ (٢) ، فمثل إخبار الطبيب عن إنبات اللّحم وشدّ العظم للرضاع ، وعن كون الصّوم مضرّ للمريض ، وإخبار أهل الخبرة بالقيمة والأرش ونحو ذلك ، فهي مثل الفتوى فيكفي فيها الواحد ، ولا وجه للحكم بوجوب الاثنين ، كما وقع من بعض الفقهاء.

__________________

(١) ١ / ١٥٢.

(٢) وإنّما يلزم فيها من الشاهدين وغير ذلك من الأمور التعبديّة.

٤٩٥

وتوضيحه : أنّ الأحكام المتعلّقة بالموضوعات التي ليس بيانها وظيفة الشّارع مثل أن يقول : يجوز الصّلاة في الخزّ أو إنبات اللّحم محرّم أو المرض المضرّ مبيح للإفطار ونحو ذلك ، لا شبهة في أنّها إنّما تعلّقت بما هو في نفس الأمر كذلك ، فإن حصل للمكلّف العلم به ، فهو ، وإلّا فيرجع إلى الظنّ ، لاستحالة التكليف بالمحال. والعدالة من هذا القبيل ، فالمعتبر في الطبيب وأهل الخبرة والمزكّي هو كونه معتمدا بحيث يحصل الظنّ ، فليس ذلك من باب الرّواية ولا من باب الشهادة ، فخبر هؤلاء بالنسبة إلى كون ما ذكروه مطابقا لنفس الأمر بمعتقدهم وبحسب ظنّهم ، واعتبار العدالة في هؤلاء لأجل حصول الاعتماد بعدم كذبهم في ذلك وعدم مسامحتهم في اجتهادهم.

فبهذا يحصل الظنّ ، بل قد يكتفى بما يحصل الظنّ وإن كان أهل الخبرة فاسقا ، بلّ وكافرا أيضا ، بل وظاهر الفقهاء جواز الاعتماد على كلام الأطباء إذا أفاد الوثوق مطلقا وهو مقتضى الأخبار الواردة في مسألة القيام في الصلاة ، ويقتضي [مقتضي] ذلك تخصيص آية التثبّت عند خبر الفاسق بما لم يفد الظنّ ، فالأصل يقتضي الاكتفاء بالواحد في مطلق التزكية ، إلّا أنّ تزكية الشاهد خرج بالدليل من الإجماع كما ادّعى بعضهم ، أو لأجل ما ذكرنا من مقابلة حقّ المسلم ، ولذلك خصّ حمل أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحّة بما لو لم يعارضه مثله أو أقوى منه ، مع تأمّل في الأخير لكون الخبر أيضا قد يكون كذلك كما أشرنا من أنّه أيضا قد يثبت حقّا على أحد بالأخرة.

ولكن يبقى الإشكال الذي أوردناه أوّلا من أنّ العدالة شيء واحد ، والمشروط

٤٩٦

بالعدالة مشروط بمهيّة العدالة ، فمتى ثبت سبب ثبوت العدالة فيتحقّق (١) العدالة في الخارج ويحصل شرط القبول في مشروطها ، فما معنى الفرق وأيّ معنى للإجماع على ثبوت العدالة في الرواية دون الشهادة.

ويمكن دفعه : بأنّ المراد أنّ قبول شهادة العدل موقوف على كون مزكّيه اثنين دون الرّواية ، لا أنّ ثبوت العدل فيها مشروط بتزكية اثنين دون الرّواية ، فهو (٢) شرط لقبول العدلين لا لثبوت العدالة.

وأمّا مثل مترجم القاضي وإخبار المقلّد مثله بفتوى المجتهد وإعلام المأموم الإمام بوقوع ما شكّ فيه ، وإخبار النائب عن إيقاع الحجّ ونحو ذلك ، فيكفي فيه الواحد لأنّه خبر ، ويعتبر فيه العدالة الظنّية الحاصلة من تزكية واحد.

وأمّا مثل الإخبار عن القبلة أو الوقت أو نحو ذلك ، فإن كان المراد الإخبار عن القبلة التي بناء عمل المسلمين عليها في هذا البلد ، وكذا الوقت ، فهو إخبار ، وإن كان المراد الإخبار عن اجتهاده ، فهو مثل ما مرّ من أنّه خبر عن مطابقة ما اجتهد فيه. فالخبر المطلق إمّا فتوى من فقيه أو من هو في معناه من أهل الخبرة ، أو شهادة ، أو مجرّد إخبار عن نفس الأمر ، ويختلف أحكامها حسب ما ذكرنا ، فلاحظ وتأمّل وميّز بينها حتّى لا يختلط عليك الأمر.

وأمّا على الثالث ، فإثبات اشتراط العدالة إمّا من جهة آية النبأ ، وقد مرّ الكلام فيه ، ومقتضاه كفاية المزكّي الواحد ، وإمّا من جهة الإجماع ، والإجماع لم يثبت على أزيد من العدالة الثابتة بمزكّ واحد.

__________________

(١) جواب متى.

(٢) أي كون المزكي اثنين لكل عادل شرط تعبدي لقبول العدلين في الشهادة.

٤٩٧

فلنرجع إلى ذكر أدلّة الأقوال : أمّا على المذهب المختار (١) ، فأمّا بناء على الدليل الخامس (٢) كما هو المعتمد في الاستدلال (٣) ، فظاهر لحصول الظنّ بتزكية الواحد.

وأمّا على غيره (٤) من الأدلّة ، فلآية النبأ ، وتقريبه صدق النبأ على التزكية من جهة الإخبار عن موافقة المعتقد كما بيّنا ، ولكن يخدشه أنّه لا يدلّ إلّا على قبوله في الجملة كما مرّت الإشارة إليه في الشهادة ، إلّا أن يثبت [يتشبّث] بالعموم وإخراج الشهادة بالدليل كما أشرنا سابقا.

وأمّا ما أورد عليه (٥) بأنّه مؤدّ إلى حصول التناقض في مدلول الآية ، لأنّه يدلّ على أنّ قبول خبر الواحد موقوف على انتفاء الفسق في نفس الأمر كما مرّ ، وانتفاء الفسق في نفس الأمر لا يعلم إلّا مع العلم بالعدالة ، فشرطه قبول الخبر هو العلم بالعدالة ، وخبر المزكّي الواحد لا يفيد العلم وإن كان عدلا ، فإن اعتبرنا تزكية العدل الواحد ، فقد علمنا بالخبر مع عدم حصول العلم بعدالة الرّاوي لعدم إفادته العلم ، وهذا تناقض ، فلا بدّ من حملها على ما سوى الإخبار بالعدالة (٦).

ففيه : أنّ المراد بالفاسق النفس الأمري ، والعادل النفس الأمري ، هو ما يجوز

__________________

(١) من كفاية المزكّي الواحد.

(٢) وهو لأصحاب الظنّ المطلق.

(٣) على حجية الخبر الواحد.

(٤) وهو لأصحاب الظنّ الخاص.

(٥) والذي أورده هو صاحب «المعالم» ص ٣٥٧.

(٦) في «المعالم» بما سوى العدالة. والى هنا ينتهي كلام صاحب «المعالم» في ص ٣٥٧ والذي نقله المصنف بتصرّف منه في بعض الألفاظ.

٤٩٨

إطلاق العادل والفاسق عليه ، فنفس الأمر هنا مقابل مجهول الحال لا مقابل مظنون الفسق والعدالة. ألا ترى أنّا نكتفي في معرفة العدالة بالاختبار والاشتهار وهما لا يفيدان العلم غالبا ، بل العدلان أيضا لا يفيد العلم ، فمن ظننّاه عادلا بأحد الأمور المذكورة فنقول أنّه عادل ، ويؤيّده قوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ)(١) وكذلك المرض المبيح للتيمّم والإفطار وإنبات اللّحم وشدّ العظم وغير ذلك ، فإنّه يطلق على ما هو مظنون أنّه كذلك. والكلام فيها وفي العدالة على السّواء.

سلّمنا لكن لا ريب أنّ مع انسداد باب العلم يكتفى بالظنّ (٢) في الأحكام والموضوعات جميعا ، مع أنّ اشتراط العلم بالعدالة مستفاد من المنطوق ، فلا مانع من تخصيصه بمفهومها حيث أفاد بعمومه قبول خبر العدل الواحد في التزكية.

وما قيل (٣) : إنّ تخصيص المنطوق بالمفهوم ليس أولى من العكس ، بل العكس أولى(٤).

فيدفعه : أنّ المفهوم إذا كان أقوى بسبب المعاضدات الخارجة ، فيجوز تخصيص المنطوق به ، وهو معتضد بالشهرة وغيره من الامور التي ذكرنا ، مع أنّه مخصّص بشهادة العدلين جزما وهو لا يفيد العلم ، وذلك أيضا يوجب وهنا في

__________________

(١) قال تعالى في الآية الكبيرة في الدّين : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى ...) البقرة ٢٨٢.

(٢) فالظنّ قائم مقام العلم عند الانسداد مطلقا.

(٣) وهو لسلطان العلماء في حاشيته على «المعالم» ص ٣٢٨ ، في مبحث وجوه معرفة الرّاوي.

(٤) اعتبر ان المنطوق أقوى وأولى من المفهوم ، لأنّ المنطوق هو الأصل بينما المفهوم يتبعه فهو تابع للمنطوق.

٤٩٩

عمومه ، وإن كان العامّ المخصّص حجّة في الباقي على التحقيق.

والمشهور بين المتأخّرين في الاستدلال على هذا المذهب (١) ، هو أنّ العدالة شرط في الرّواية (٢) ، وشرط الشيء فرعه ، والاحتياط في الفرع لا يزيد على الاحتياط في الأصل ، وقد اكتفي في الأصل وهو الرّواية بواحد ، فيكفي الواحد في الفرع أيضا ، أعني العدالة ، وإلّا زاد الاحتياط (٣) في الفرع على الأصل ، وأنت خبير بضعف هذا الاستدلال (٤). ويشبه أن يكون مبناه القياس كما ذكره بعض العامّة.

وما يظهر من بعض أصحابنا أنّه قياس الأولوية أيضا ، ممنوع (٥) ، بل لا يبعد دعوى أنّ ثبوت الحكم في الأصل أقوى منه في الفرع ، لأنّ الأصل وهو الرّواية معلوم أنّه ليس بشهادة ، فلا يعتبر فيه التعدّد جزما ، بخلاف الفرع ، لاحتمال كونه شهادة كما ادّعاه صاحب القول الآخر وإن كان ضعيفا على ما اخترناه. وهذا قياس لم يقل به العامّة أيضا.

وما قيل (٦) في دفع ذلك : بأنّ الأصل مشروط بثلاثة : الرّاوي ومزكّييه ، والفرع باثنين وهما المزكّيان ، فالفرع لم يزد على الأصل ، فهو مدفوع بأنّك تقبل رواية

__________________

(١) من كفاية المزكي الواحد في التزكية.

(٢) شرط في قبول الرّواية.

(٣) قال في الحاشية : وفيه أنّ مثله واقع كثيرا كوجوب الحد للزاني فإنّه يثبت بالرّاوي الواحد وشرطه بثبوت الزنى وهو لا يثبت إلّا بأربعة وهكذا.

(٤) وقد ضعفه صاحب «المعالم» ، والفاضل الجواد ، والمازندراني.

(٥) وهذه الأولوية منعها أيضا الفاضل الجواد والمازندراني المولى محمّد صالح في حاشيته ص ٢٤٧.

(٦) في الجواب في دفع الاستدلال.

٥٠٠