القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

احتياج حدود الدلالات الى قيد الحيثيّة ، ولا بأس أن نشير إليه ، وإن كان خروجا عن مقتضى المبحث.

فاعلم أنّ العلّامة الحلّي قدس‌سره في «شرح منطق التجريد» بعد ما أورد الإشكال المشهور على حدود الدّلالات بقوله : واعلم أنّ اللّفظ قد يكون مشتركا بين المعنى وجزئه أو بينه وبين لازمه ، وحينئذ يكون لذلك اللّفظ دلالة على ذلك الجزء من جهتين ، فباعتبار دلالته عليه من حيث الوضع يكون مطابقة ، وباعتبار دلالته عليه من حيث دخول في المسمّى يكون تضمّنا وكذا في الالتزام ، فكان الواجب عليه ، ـ يعني على المصنّف ـ أن يقيّد في الدّلالات الثلاث بقوله : من حيث هو كذلك ، وإلّا اختلّت الرّسوم.

قال : ولقد أوردت عليه قدّس الله روحه هذا الإشكال.

فأجاب : بأنّ اللّفظ لا يدلّ بذاته (١) على معناه ، بل باعتبار الإرادة والقصد. واللّفظ حين يراد منه معناه المطابقيّ ، لا يراد منه معناه التضمّني ، فهو إنّما يدلّ على معنى واحد لا غير ، وفيه نظر (٢) ، انتهى.

وحاصل ما ذكره ذلك المحقّق (٣) ، كما نقل عنه بالمعنى في موضع آخر (٤) : إنّ دلالة اللّفظ لمّا كانت وضعيّة ، كانت متعلّقة بإرادة اللّافظ إرادة جارية على قانون الوضع ، فاللّفظ إن أطلق وأريد به معنى ، وفهم منه ذلك المعنى ، فهو دالّ عليه ، وإلّا فلا. فالمشترك إذا أطلق وأريد به أحد المعنيين ، لا يراد به المعنى الآخر ، ولو أريد

__________________

(١) أي مجرّد عن اعتبار الارادة.

(٢) وجه النظر نمنع كون الدّلالة تابعة للارادة ، بل تابعة للوضع.

(٣) وهو المحقق الطوسي المذكور.

(٤) وانّ الناقل بالمعنى هو التفتازاني في «المطوّل» : ص ٥٠٩ في أوّل فن علم البيان ، ولكنّه بعد نقل هذا الكلام كما هو المذكور هنا قال : وفيه نظر.

٢١

أيضا لم يكن تلك الإرادة على قانون الوضع ، لأنّ قانون الوضع أن لا يراد بالمشترك إلّا أحد المعنيين ، فاللّفظ أبدا لا يدلّ إلّا على معنى واحد ، فذلك المعنى إن كان تمام الموضوع له فمطابقة ، وإن كان جزءه ، فتضمّن ، وإلّا فالتزام.

وتوضيحه : أنّ التكلّم بالألفاظ الموضوعة (١) لمّا كان مقتضاه أن تكون صادرة على طبق قانون الوضع ، فلا بدّ أن يراد منها ما أراده الواضع على حسب ما أراده. ومن المحقّق انّ وضع المشترك لكلّ واحد من معانيه ، مستقلّ غير ملتفت فيه الى معناه الآخر ، فلم يحصل الرّخصة من الواضع إلّا في استعماله في حال الانفراد ، فلم يوجد مادّة يتوهّم استعمال المشترك في معنييه حتّى يقال : إنّه اتّحد مصداق الدّلالة المطابقيّة والتضمّنيّة مثلا ، حينئذ (٢) فإمّا يستعمل اللّفظ في الكلّ ، أو في الجزء على سبيل منع الجمع ، وفي صورة استعماله في الكلّ ، لم يرد منه إلّا الكلّ ، وكون الجزء أيضا معنى آخر له لا يستلزم جواز إرادته منه حتّى يدلّ عليه أيضا ، فلا دلالة للّفظ حين إرادة الكلّ على المعنى الآخر الذي هو الجزء.

وأمّا مجرّد تصوّره (٣) حينئذ ، فلا يستلزم كونه مدلولا له بالفعل على ما قدّمنا (٤) ، لكون ذلك خلاف مقتضى الوضع ، وحينئذ فلا يراد من اللّفظ إلّا معنى واحد ، فإن اعتبر دلالته على ذلك المعنى بتمامه ، فمطابقة ، وإن اعتبر دلالته على جزئه من جهة كون الجزء في ضمن الكلّ ، فتضمّن ، وإن اعتبر دلالته على لازم له إن كان له لازم بمعنى الانتقال من أصل المعنى الى ذلك اللّازم ، فهو التزام.

__________________

(١) وهذا أيضا من كلام الناقل بالمعنى الى قوله : فلنفصّل الكلام.

(٢) أي حين إذ كان اللّفظ مشتركا بين الكلّ والجزء.

(٣) أي مجرّد تصوّر ذلك مع قطع النظر عن كونه مرادا أم لا ، حين إرادة الكلّ ، لا يستلزم كون ذلك الجزء مدلولا مطابقيا له بالفعل حتى يتوهم اتّحاد المصداقين.

(٤) في قوله : انّ تصوّر معنى المشترك ليس عين تصوّر ما عيّن له اللّفظ ... الخ.

٢٢

ولا يخفى أنّ الدّلالة على الجزء بهذا المعنى ، يعني في ضمن الكلّ ، هو معنى التضمّن ، لا إذا استعمل اللّفظ في الجزء مجازا كما يتوهّم ، وكذلك في الالتزام.

وأمّا استعماله في الجزء منفردا إذا وضع له بوضع على حدة ، فهو مطابقة جزما.

فعلى ما مرّ من التحقيق ، فاللّفظ إمّا مستعمل في الكلّ سواء اعتبر فيه الدّلالة التضمنيّة أو الالتزامية أم لا.

وإمّا مستعمل في الجزء ، فلا يمكن تصادق الدّلالة التضمنيّة الحاصلة في الصورة الأولى (١) مع المطابقية التي هي الدّلالة على هذا الجزء بعينه من جهة وضعه له على حدة واستعماله فيه ، إذ تلك الدّلالة التضمنيّة لا تنفكّ من المطابقية التي هي في ضمنه ، وهو أحد معنيي المشترك ، ولا يجوز مع إرادته إرادة المعنى الآخر الذي هو ذلك الجزء بعينه بوضع مستقلّ.

وظهر أيضا أنّه لا ينتقض كلّ واحد من التضمّن والالتزام بالآخر ، بأن يكون جزء أحد المعنيين لازما للآخر أو بالعكس (٢) ، فإنّ صدق كلّ منهما على الآخر يستلزم جواز إرادة كلّ واحد من المطابقيين.

فلنفصّل الكلام ليتّضح المرام.

فنقول : إنّ المعترض يقول : إنّ اللّفظ المشترك بين الكلّ والجزء إذا اطلق على الكلّ ، كان دلالته على الجزء تضمّنا ، مع أنّه يصدق عليها أنّها دلالة اللّفظ على تمام ما وضع له ، فينتقض بها حدّ المطابقة.

__________________

(١) أيّ في صورة استعمل اللّفظ الموضوع المشترك للكلّ والجزء في الكلّ.

(٢) قال في الحاشية : لا يخفى انّ المراد بالعكس هو أن يكون لازم أحد المعنيين جزء للآخر ، والفرق بين الصورتين هو أن يعتبر في صورة الأصل انتقاض حدّ التضمن بالالتزام على مذاق هؤلاء الجماعة ، وفي صورة العكس العكس ، فلا يرد حينئذ القول بأنّه لا فائدة في قوله أو بالعكس.

٢٣

وإذا أطلق على الجزء كان دلالته عليه مطابقة ويصدق عليها أنّها دلالة اللّفظ على جزء ما وضع له اللّفظ ، وكذا الحال في الملزوم واللّازم.

وأقول : إنّا لا نسلّم أنّ دلالة اللّفظ على الجزء في ضمن الكلّ وبتبعيّته كما هو معنى دلالة التضمّن يصدق عليها أنّها دلالة اللّفظ على تمام ما وضع له ، وإن كان ذلك تمام الموضوع له بوضع آخر ، لأنّ الدلالة على تمام الموضوع له إنّما هو تابع جواز الإرادة الجارية على قانون الوضع. وقد ذكرنا انّ المشترك إذا أريد منه أحد معانيه ، فلا يجوز إرادة الآخر معه. مثلا في حوالينا رستاق (١) مسمّى بالكزّاز مشتمل على قرى كثيرة أحدها مسمّاة بالكزّاز ، فإذا أطلق الكزّاز وأريد منه ذلك الرّستاق ، فانفهام تلك القرية إنّما هو بالتّبع وفي ضمن انفهام الكلّ ، ولا ريب إنّه حينئذ لا يدلّ على تلك القرية الخاصّة بخصوصها ، ولا يجوز إرادتها أيضا ، فهو غير مدلول اللفظ بالاستقلال حينئذ.

نعم لو جاز إرادة المعنيين ولم تخالف لقانون [القانون] الوضع لاحتاج حينئذ الى قيد الحيثيّة. والقول بأنّ تلك القرية من حيث إنّه جزء أحد المعنيين المطابقيّين مدلول تضمّني ، ومن حيث إنّه نفس أحدهما ، فهو مطابقى.

قوله (٢) : وإذا اطلق على الجزء كان دلالته عليه مطابقة ... الخ.

قلنا : لا نسلّم حينئذ صدق أنّه دلالة اللفظ على جزء ما وضع له الذي هو الدلالة التضمّنيّة ، إذ المراد بها دلالته عليه في ضمن الكلّ وتبعيّته ، وهو موقوف على جواز

__________________

(١) الرّستاق : فارسي معرّب والجمع الرساتيق وهي السواد. ويستعمل الرستاق في الناحية اي طرف الاقليم ، وعن بعضهم الرستاق مولّد وصوابه رزداق وأيضا فيه رسداق.

(٢) أي قول المعترض.

٢٤

إرادة الكلّ الذي ذلك المعنى جزءه ، وهو ممنوع لما ذكرنا (١).

وممّا ذكر ، يظهر الكلام في الملزوم واللّازم.

وبالجملة ، فلزوم كون الدلالة المطابقية مطابقة لإرادة اللّافظ الجارية على قانون الوضع ، كاف في دفع انتقاض حدّ كلّ واحد من الدّلالات بالآخر.

وممّا ذكرنا ، ظهر أنّ مراد المحقّق الطوسي رحمه‌الله من قوله : لا يراد منه معناه التضمّني ، فيما نقله العلامة رحمه‌الله عنه ، لا يراد منه معناه التضمّني الحاصل بسبب ذلك المطابقي بإرادة مستقلّة مطابقيّة أخرى ، بالنظر الى وضعه الآخر.

ومن قوله : فهو إنّما يدلّ على معنى واحد لا غير ، انّه لا يدلّ إلّا على معنى مطابقي واحد كما لا يخفى ، فإذا دلّ على أحد المطابقيّين الذي هو الكلّ وتبعه فهم الجزء ضمنا ، فلا يدلّ على المطابقيّ الآخر الذي هو الجزء بالاستقلال ، ومن ذلك تقدر على توجيه آخر ما نقله عنه (٢) الناقل بالمعنى في توضيحه.

وبالتأمّل فيما ذكرنا لك ، يظهر أنّ كثيرا من الناظرين غفلوا عن مراده (٣) واعترضوا عليه بأمور (٤) لا يرد عليه ، مثل إلزامه بامتناع الاجتماع بين الدّلالات الثلاث لما ذكره من امتناع أن يراد بلفظ واحد أكثر من معنى واحد.

ويندفع : بأنّ مراده اجتماع الدّلالات الثلاث التي تتوقّف على الإرادة ، وهي الدّلالات المطابقيّات ، والتضمّن ، والالتزام ، ليس في هذا القبيل ، ومثل أنّه يلزمه أن تكون الدلالة التضمّنية والالتزاميّة موقوفتين على الإرادة من اللّفظ.

__________________

(١) من أنّه إذا أريد من المشترك أحد معنييه لا يجوز إرادة آخر معه.

(٢) المراد بآخر ما نقله عنه هو قوله : فاللّفظ أبدا لا يدلّ الّا على معنى واحد ... الخ.

(٣) مراد المحقق الطوسي قدس‌سره.

(٤) راجع كلام التفتازاني في «المطوّل» : ص ٥٠٧ بتمامه حتى تطلع على الاعتراضات بتمامها.

٢٥

ويندفع : بما مرّ أيضا ، إذ مطلق الدّلالة لا يتوقّف عنده على الإرادة ، ومثل ما قيل : إنّه بعد تسليم عدم ورود ما ذكر أنّه لا يفيد في هذا المقام (١) لأنّ اللفظ المشترك بين الجزء والكلّ إذا أطلق وأريد به الجزء ، لا يظهر أنّه مطابقة أو تضمّن ، وكذا المشترك بين اللّازم والملزوم.

ويندفع : بأنّه لا ريب أنّه حينئذ مطابقة كما يظهر ممّا تقدّم (٢).

هذا ما وصل إليه فهمى القاصر في تحقيق المرام ، وبعد هذا كلّه ، فالمتّهم إنّما هو فكري والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم.

إذا تقرّر ذلك فلنعد الى ما كنّا فيه.

فنقول : إنّهم قيّدوا الألفاظ بالمفردة ، ومقتضاه أنّ الغرض من وضع الألفاظ المركّبة هو إفادة معانيها ، ولا يلزم فيها الدّور ، لمنع توقّف إفادة الألفاظ المركّبة لمعانيها على العلم بكونها موضوعة لها ، وقد يستند ذلك المنع بأنّا متى علمنا كون كلّ واحد من تلك الألفاظ المفردة موضوعا لمعناه ، وعلمنا أيضا كون حركات تلك الألفاظ المفردة دالّة على النّسب المخصوصة لتلك المعاني ، فإذا توالت الألفاظ (٣) بحركاتها المخصوصة على السّمع ، ارتسمت تلك المعاني المفردة مع نسب بعضها الى بعض في ذهن السّامع ، ومتى حصلت المعاني المفردة مع نسبة بعضها الى بعض ، حصل العلم بالمعاني المركّبة لا محالة.

أقول : وتحقيق المقام ، إنّ المركّبات لا وضع لها بالنظر الى أشخاصها ، بل وضع المركّبات من حيث إنّها مركّبات ، نوعيّ.

__________________

(١) في مقام الحدود والتعاريف.

(٢) من أنّ التضمنية تبعيّة غير مرادة.

(٣) المخصوصة.

٢٦

وفائدة الوضع النوعيّ إفادة معاني أشخاصها ، فمن تحقّق نوع التركيب في ضمن فرد خاصّ يعرف التركيب الخاصّ. فالمركّب من حيث اشتماله على الألفاظ المفردة ، حكمه ما تقدّم ، ومن حيث اشتماله على النوع المعيّن من التركيب ، حكمه إفادة تحقّق هذا النوع في ضمن هذا الشّخص منه ، فهيئة تركيب الفعل مع الفاعل والمفعول أيضا مثلا على النهج المقرّر في الإعراب والتقديم والتأخير ، موضوعة لإفادة صدور الفعل عن الفاعل ووقوعه على المفعول ، فإذا تشخّص في مادّة ضرب زيد عمرو ، أفادت صدور الضرب عن زيد ووقوعه على عمرو ضرورة حصول الكليّ في ضمن الفرد.

وأمّا فهم معنى الضرب وزيد وعمرو فقد تقدّم الكلام فيه (١). وقد يحصل من جهة الهيئة التركيبيّة تفاوت في أوضاع المفردات ، كما في صورة التوصيف والتقييد والاستثناء ونحو ذلك. فالمعتبر في وضع المركّب هو ما اقتضاه الهيئة التركيبيّة ، لا خصوص وضع المفردات.

الثانية :

الاستثناء من النفي إثبات ، وبالعكس (٢). خلافا للحنفيّة في الموضعين (٣).

__________________

(١) من أنّه لإفادة المتصوّر أو فهم معانيها المرادة.

(٢) اجماعا كما عن العلامة في «التهذيب» : ص ١٤٠. والمقصود بالعكس أي والعكس بالعكس. وهو الاستثناء من الإثبات نفي.

(٣) المذكور في كتب الحنفيّة بأنّ الاستثناء من الاثبات ليس نفيا ولا من النفي اثباتا ، بل هو تكلّم بالباقي. ومعناه أنّه اخراج المستثنى ، وحكم على الباقي من غير حكم على المستثنى هذا ما ذكره التفتازاني في «شرح الشرح». ونقل في «المحصول» : ٢ / ٥٤٨ بين الحكم بالنفي وبين الحكم بالإثبات واسطة وهي عدم الحكم ، وذكر ـ

٢٧

وقيل : إنّ خلافهم إنّما هو في الاوّل (١).

وأمّا في الثاني مثل : له عليّ عشرة إلّا ثلاثة ، فهم أيضا يقولون بإفادة النفي.

وربّما اعتذر لذلك (٢) ، بأنّ قولهم بذلك إنّما هو لأجل مطابقته لأصل البراءة لا لأجل إفادة اللّفظ ، وقد أشرنا الى مثل ذلك (٣) في مبحث المفاهيم.

وكيف كان ، فالمختار الإفادة في المقامين للنّقل عن أهل اللّغة ، والتبادر ، ولأنّ كلمة التوحيد يفيده بلفظه اتّفاقا.

والقول : بأنّ دلالتها شرعيّة ظاهر الفساد ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقبل ذلك من أهل البادية الغير المطّلعين بحال الشّرع ، ولو لا أنّهم يريدون به ذلك ، لما قبله منهم.

واستدلّ الحنفيّة بقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٤) ، و «لا نكاح إلّا بوليّ»(٥).

__________________

ـ الشهيد في «التمهيد» : ص ١٩٨ اختار الرّازي في «المعالم» مذهب أبي حنيفة ، وفي «المحصول» مذهب غيره.

(١) هذا ناظر الى ما ذكره شارح «الشرح» بعد قول العضدي : انّ الاستثناء من الإثبات نفي اتفاقا ، حيث قال : المشهور من كلام الشافعيّة انّ هذا ، أعني ما ذكره العضدي وفاقا ، وإنّما الخلاف في كونه من النفي إثباتا.

(٢) يعني ربما اعتذر بعضهم لهذا الفرق بأنّ قول الحنفية بإفادة النفي في مثل : له عليا عشرة إلّا ثلاثة ، إنّما هو لأجل مطابقته لأصل البراءة لا لأجل دلالة اللّفظ كما هو المراد ، فعدم ثبوت الثلاثة في المثال إنّما هو بحكم البراءة الأصليّة لا بسبب دلالة اللّفظ على عدم الثبوت ، هذا كما في الحاشية.

(٣) قد أشار في ذيل مفهوم الوصف الى كلام الفاضل التوني حيث أنكر على القوم قولهم بحجّية المفاهيم إذ ما قالوا من الحكم في جانب المفهوم إنّما جاء من قبل أصل البراءة فراجع في ذلك المقام في «الوافية» : ص ٢٣٢.

(٤) «التهذيب» : ١ / ٤٩ ح ١٤٤ ، «الوسائل» : ١ / ٣١٥ ح ٨٢٩.

(٥) «مستدرك الوسائل» : ١٤ / ٣١٧ ح ١٦٨١٣.

٢٨

والوجه في تقريره ، أنّه لو كان كما قلتم ، لزم ثبوت الصلاة بمجرّد الطهور ، وحصول النكاح بمجرّد حصول الوليّ ، مع أنّ حصول الصلاة والنكاح يتوقّف على أمور شتّى.

وجوابه : أنّه لمّا لم يجز استثناء الطهور عن الصلاة للمخالفة ، فلا بدّ من تقدير ، إمّا في جانب المستثنى ، يعني لا صلاة صحيحة إلّا صلاة متلبّسة بطهور ، أو المستثنى منه يعني لا صلاة صحيحة بوجه من الوجوه إلّا باقترانها بالطهور. والمطلوب نفي إمكان الصحّة بدون الطّهور ، والاستثناء يقتضي إمكان الصحّة معه ، كما هو مقتضى الشرطيّة ، وحينئذ ، فالحصر بالنسبة الى أحوال عدم الطهور ، وإن جامع جميع الكمالات المتصوّرة للصلاة لا الى سائر شروط الصّحّة حتى يلزم انحصار جهة الصّحّة في الطهور ، فيصير سببا للصحّة ، ويلزم المحذور.

وقد يوجّه بإرادة المبالغة في المدخليّة والحصر الادّعائي ، وما ذكرناه أوجه.

وبالجملة ، فهذا النّوع من التركيب ظاهر فيما ذكرناه (١) ، وهو عين ما جعلناه حقيقة في الاستثناء.

سلّمنا عدم الظهور ، لكنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، والمجاز خير من الاشتراك وقد أثبتنا الحقيقة فيما ادّعيناه بالتبادر ، فلا يضرّ الاستعمال في غيره. ومن ذلك يظهر (٢) الجواب عمّا استدلّ بعضهم (٣) بقوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً)(٤) ، فإنّه استثناء منقطع ، أو المراد إخبار عن حال

__________________

(١) من كون الاستثناء من النفي اثباتا.

(٢) بأنّ الاستعمال أعم من الحقيقة.

(٣) بعض الحنفيّة.

(٤) النساء : ٩٢.

٢٩

المؤمن أنّه لا يفعل ذلك ، إلّا خطأ أو المراد الرّخصة فيما حصل له الظنّ بالجواز ، كما إذا حسبه المؤمن صيدا وقتله ، أو حربيا بسبب اختلاطه معهم (١). ولا ينحصر الخطاء فيما لو لم يكن فيه قصد حتّى لا يصحّ الاستثناء من عدم الرّخصة (٢).

الثالثة :

اختلفوا في تقرير الدّلالة في الاستثناء من جهة كونه تناقضا بحسب الظاهر (٣).

فقيل : إنّ المراد بالعشرة مثلا في قولنا : له عليّ عشرة إلّا ثلاثة هو معناه الحقيقي ، ثم أخرج الثلاثة بحرف الاستثناء ، ثمّ أسند الحكم الى الباقي ، أعني السّبعة. فليس في الكلام إلّا إسناد واحد ، فلا تناقض ، اختاره العلّامة وأكثر المتأخّرين (٤).

والأكثرون ومنهم السّكاكي في «المفتاح» على أنّ المراد بالعشرة هو السّبعة ، وحرف الاستثناء قرينة المجاز.

والقاضي أبو بكر على أنّ مجموع عشرة إلّا ثلاثة اسم لسبعة ، كلفظ سبعة.

وأوسط الأقوال أوسطها (٥) لبطلان القولين الآخرين ، ولا رابع.

أمّا بطلان الأوّل ، فلأنّه يستلزم أن لا يكون الاستثناء من النّفي إثباتا ، كما هو

__________________

(١) راجع «الذريعة» : ١ / ٢٤٧ ، و «العدة» : ١ / ٣١٨ ، و «التهذيب» : ص ١٣٩ لزيادة الإفادة.

(٢) في قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ).

(٣) وهذا لورود حكمين مختلفين نفيا واثباتا على المستثنى.

(٤) كالحاجبي.

(٥) أي وأوجه الأقوال أوسطها أو وأوسط الأقوال أوجهها.

٣٠

مذهب الحنفيّة ، وهو خلاف التحقيق ، كما مرّ. فيلزم حينئذ أن لا يثبت في ذمّة من قال : ليس له عليّ شيء إلّا خمسة شيء ، لأنّ الخمسة مخرجة عن شيء قبل إسناد النفي الى شيء ، فهي في حكم المسكوت عنه ، بل يلزم أن لا يكون الاستثناء من الإثبات أيضا نفيا.

وأيضا فلو أشير الى عشرة مجتمعة شخصيّة ، وقيل : خذ هذه العشرة إلّا ثلاثة منه ، فلا يتصوّر هناك إخراج إلّا من الحكم ، فإنّ المفروض أنّه لا يخرج أشخاص الثلاثة من جملة العشرة ، بل المراد إخراجها عنها بحسب الحكم ، فلا بدّ من القول بإخراجها عن الحكم المتعلّق بالمجموع ، والمفروض أنّه لا حكم إلّا الإسناد الموجود في الكلام.

فإن قلت : هذا كرّ على ما فررت منه (١) من لزوم التّناقض ، وكيف المناص عن ذلك على ما اخترت؟

قلت : وإنّي أظنّك غافلا عن حقيقة التخصيص ، وملتبسا عليك أمره بالبداء ، فإنّك إن أردت من الإخراج في قولهم : الاستثناء هو إخراج ما لولاه لدخل ، هو الإخراج الحقيقي عن الحكم الصادر عن المتكلّم بعنوان الجزم ، فهو لا يتحقّق إلّا في صورة البداء والاستدراك ، كما لو سها المتكلّم وغفل عن حال المخرج ثمّ تذكّره بعد إيقاع الحكم على المخرج منه ، أو جهل بكونه داخلا وحكم بالمجموع ثمّ علم فأخرج. وأنت خبير بأنّ أمثال ذلك لا يتصوّر في كلمات الله وأمنائه في

__________________

(١) أي عدم تصوّر الاخراج قبل الاسناد في المثال المذكور رجوع الى التناقض الذي فررت منه ، فكيف المناص على مقالتك من اختيار أوسط الأقوال. أو يقال : انّ هذه الايرادات الواردة على قول العلّامة واردة عليك أيضا فكيف المناص.

٣١

الأحكام الشرعيّة ، والتخصيص المذكور (١) في ألسنة الاصوليّين والفقهاء ليس ذلك جزما.

فإن قلت : فعلى هذا (٢) ، فيكون الهيئة الاستثنائية استعارة تمثيليّة في التخصيص المصطلح فيكون مجازا ، وهو بعيد.

قلت : كون معنى الاستثناء ذلك ، لا يوجب التجوّز في الهيئة الاستثنائية كما لا يخفى.

وإن أردت (٣) من الإخراج أعمّ من الإخراج الواقعي ، بأن يكون المراد الإخراج عمّا هو في صورة الثابت ، وإن لم يكن ثابتا في نفس الأمر ، فلا تناقض أيضا ، وهو المراد في التخصيص.

وبيانه : أنّ القائل يسند الحكم أوّلا بالباقي ، ولكن يؤدّيه بلفظ الإسناد الى الكلّ لنكتة ثم يجيء بلفظ دالّ على الإخراج ، للقرينة على إرادة الباقي. ويظهر بذلك أنّه أراد به الإخراج عمّا هو ظاهر المراد ، لا عن نفس المراد ، وذلك بعينه مثل قولك : رأيت أسدا يرمي ، فلا يريب أحد في أنّ المراد بالأسد حقيقة فيه هو الرّجل الشجاع ، ويرمي للعدول عمّا هو ظاهر المراد من لفظ الأسد ، ولا يمكن فيه إرادة الحيوان المفترس إلّا على جعل الاستعارة من باب المجاز العقليّ كما هو مذهب السّكاكي بجعل الأسد شاملا للأسد الادّعائي مع أنّه أيضا مجاز لغوي ، كما لا يخفى ، والمراد به غير ما هو مدلوله اللّغوي جزما ، كما لا يخفى.

__________________

(١) أي التخصيص في كلامهم لا يراد من الاخراج الحقيقي.

(٢) أي بعد ما ذكرنا من عدم ارادة الاخراج الحقيقي في التخصيص.

(٣) عطف على قوله السابق : فإنّك إن أردت من الاخراج ... الخ.

٣٢

وأمّا النكتة التي أشرنا إليه ، فهو أنّ المتكلّم إذا أراد النسبة الى الباقي ، فذكره بعنوان الحقيقة يستلزم تعداد أسامي الباقي ، وهو متعذّر غالبا أو متعسّر (١) ، فلا بدّ أن يجعل مقامه شيئا يتمكّن به عن ذلك ، فيطلق عليه نفس العامّ مجازا ، مع نصب قرينة عليه ، وهو الاستثناء وما يجري مجراه من المخصّصات المتّصلة ، أو يأتي باسم آخر للباقي إن كان له اسم ، كما هو موجود في الأعداد ، والعدول في الأعداد من الإسم الى ذكر العامّ. وقرينة الإخراج أيضا لا بدّ أن يكون لنكتة كما في قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً)(٢) ، مع التمكّن عن قوله : تسع مائة وخمسين عاما ، وهو أنّ عدد الألف ممّا يضرب به المثل للكثرة ، والمقام مقام بيان طول المكث.

والحاصل ، أنّ مقتضى إرادة التخصيص اللّائق بكلام الله وأوليائه الذي هو محطّ نظر الأصوليّ ، هو إسناد الحكم الى الباقي في نفس الأمر ، مع تأديته بلفظ قابل للإخراج ، ثمّ الإخراج بملاحظة ظاهر الإرادة وإن لم يكن إخراج في نفس الأمر أصلا.

وما ذكره بعض المدقّقين (٣) في رفع التناقض حيث قال : ولك أن تريد أنّه مخرج عن النسبة الى المتعدّد ، بأن تريد جميع المتعدّد وتنسب الشيء إليه فتأتي بالاستثناء لإخراجه عن النّسبة ، ولا تناقض ، لأنّ الكذب صفة النسبة المتعلّقة

__________________

(١) قال في الحاشية : لا يخفى انّ هذا على تقدير عدم الاسم للباقي وإلا فلا بد فيه من نكتة اخرى ، وسيأتي أنّه إن كان له اسم كما هو موجود في الاعداد ... الخ.

(٢) العنكبوت : ١٤.

(٣) المراد ببعض المدققين هو الفاضل عصام الدّين في حاشيته على «شرح الكافية» ، واختاره شريف العلماء وجمع من تلاميذه كما عن الحاشية.

٣٣

للاعتقاد ، ولم ترد بالنسبة (١) إفادة الاعتقاد ، بل قصدت النسبة لتخرج عنه شيئا ثمّ تفيد الاعتقاد ، فإن أراد به ما ذكرنا فهو ، وإلّا فلا تركّب في النسبة المستفادة من الكلام ليفكّك ويجعل بعضها متعلّقا للإخراج وبعضها متعلّقا للاعتقاد ، مع أنّه لا يتأتّى حينئذ على ما هو التحقيق من كون الاستثناء من النّفي إثباتا وبالعكس ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وممّا حقّقناه (٢) ، ظهر أنّه لا وجه للإيرادات التي أوردوها على المذهب المختار من لزوم الاستثناء المستغرق في قولك : اشتريت الجارية إلّا نصفها ، لو أردت بالجارية نصف كلّها ، والتسلسل لو أريد ما بقي من النصف بعد الإخراج وهو الرّبع.

وإذا كان المراد بالنّصف الرّبع فيكون المراد بالرّبع المستثنى منه الثّمن ، وهلمّ جرّا ، ومن أنّ ضمير نصفها عائد الى الجارية بكمالها قطعا ، وأنّ المراد إلّا نصف كلّها ، فيكون المراد من الجارية كلّها إلّا نصفها ، وذلك لأنّ المراد بالجارية مع انضمام الاستثناء إليه وهو القرينة نصفها لا المراد بالجارية وحدها. وبعد ملاحظة الانضمام فلا يبقى استثناء آخر ليلزم المحذور(٣).

وأمّا إرجاع الضمير الى كلّ الجارية.

فجوابه : أنّ الإخراج إذا كان من ظاهر المراد لا نفس الأمر على ما حقّقناه ، فالضمير أيضا يعود الى ظاهر المراد من اللّفظ على سبيل الاستخدام (٤).

__________________

(١) اي النسبة الى تمام المتعدّد.

(٢) من كون المراد من لفظ العام أوّلا هو الباقي مجازا والاستثناء قرينة له وأنّ الإخراج ناظر الى الظاهر ، فهو إخراج صوري بالنسبة الى ظاهر المعنى.

(٣) كالتسلسل أو الاستغراق.

(٤) حيث يراد من لفظ الجارية النصف هو من الضمير تمامها.

٣٤

ويظهر ممّا ذكر ، الجواب عن سائر الإيرادات التي لم نذكرها أيضا.

ثمّ إنّ هذا القول الذي أبطلناه كما ترى ، مخصوص في كتبهم بالاستثناء أو المخصّص المتّصل.

وزاد بعضهم (١) تجويز هذا القول في المخصّص المنفصل أيضا ، وقال : إنّه لا يمتنع أن يراد بلفظ العامّ ؛ الاستغراق ، ويسند الحكم الى بعضه بمعونة الخارج من سمع أو عقل.

ودعوى قبحه دون التجوّز باللّفظ عن معنى لا يعلم إلّا بعد الاطّلاع على سمع أو عقل خارج ، تحكّم. فإنّ الكلام إنّما هو في تصرّف المتكلّم في أنّه هل تصرّف في معنى اللّفظ وأحال العلم به الى الخارج ، أو تصرّف في الحكم وأحال الأمر إليه ، ولزوم الإغراء بالجهل مشترك.

وأقول : مضافا الى ما مرّ من بطلان هذا القول في المخصّص المتّصل المستلزم لبطلان ذلك بطريق أولى (٢).

إنّ من مفاسد هذا القول (٣) لزوم اللّغو في إرادة الحكيم ، فإنّ إرادة الاستغراق من اللّفظ حينئذ لا فائدة فيه ، بل هو غلط.

__________________

(١) وهو المدقق الشيرواني ، ويظهر من الفاضل التوني أيضا ، كذا في الحاشية المنسوبة الى المصنّف.

(٢) وجه الأولويّة ، انّ في مخصّص المتصل لمّا كان المتكلّم مشغول بالكلام فليس لكلامه ظهور إلّا بعد الفراغ منه ، فيتصوّر القول بأنّ الاخراج قبل الإسناد ، بخلاف المنفصل فإنّ الحكم بحسب الظاهر قد ورد على الأفراد ، فبعيد فيه تصوّر الاخراج قبل الإسناد.

(٣) أي القول في المخصّص المنفصل لا مطلقا ، وهنا جملة من الاعتراضات الواردة.

٣٥

فإنّا قد بيّنّا لك في المقدّمة الأولى أنّ الغرض من وضع الألفاظ هو تركيب معانيها وتفهيم التراكيب والأحكام المتعلّقة بمفاهيم تلك الألفاظ ، فإذا لم يرد في الكلام إسناد الى نفس مفهوم العامّ ، ولا إسناده الى شيء (١) ، سواء كان إسنادا تامّا أو ناقصا ، فما الفائدة في إرادتها؟

فإن قلت : ذكر العامّ وإرادة مفهومه أوّلا لأجل إحضاره في ذهن السّامع ، ثمّ إسناد الحكم الى بعضه وإخراج بعض آخر منه.

قلت : إنّما يتمّ هذا لو جعل العامّ في الكلام موضوعا لأن يحمل عليه هذان الحكمان (٢) ، مثل أن يقال : كلّ إنسان إمّا كاتب أو غير كاتب ، وأين هذا ممّا نحن فيه. وليس معنى قولنا : أكرم العلماء إلّا زيدا ، العلماء يجب إخراج زيد من جملتهم وإكرام الباقي ، فإنّه لا خلاف في صحّته وكونه حقيقة حينئذ.

ودعوى كون (٣) معنى هذا التركيب هو ما ذكرنا ، يحتاج الى الإثبات (٤).

والذي هو محطّ نظر أرباب البلاغة في أداء المعاني وإيهاماتهم ، إنّما هو بعد تصحيح اللّفظ ، بل جعله فصيحا أيضا.

نعم ، ملاحظة اعتباراتهم في البلاغة يتمّ فيما اخترناه كما أشرنا من جعل الإسناد أوّلا متوجّها الى العامّ ، ثم نصب القرينة على خلافه للنكتة التي ذكرنا وغيرها.

__________________

(١) أي لم يرد في الكلام اسناد مفهوم العام الى شيء سواء كان ذلك الإسناد ناقصا نحو الإسناد الإضافي أو تاما بأن يكون جملة خبريّة.

(٢) أي الإخراج والإبقاء.

(٣) أي لو ادعي انّ معنى أكرم العلماء إلّا زيد ، معناه يجب إخراج زيد من جملة العلماء وإكرام الباقي.

(٤) واثباته يكون بالتبادر ونحوه.

٣٦

وحاصل الكلام وفذلكة (١) المرام ، أنّ علينا متابعة وضع الواضع أو رخصته في نوع المجاز ، والذي نفهمه من اللّفظ كون لفظ العامّ موردا للإسناد ، ومقتضاه كون مفهومه موردا للإسناد ، وليس في الكلام إسناد آخر يتعلّق بالباقي ، فلا بدّ من التصرّف في لفظ العامّ بمعونة قرينة المخصّص.

والعضديّ أسّس هنا أساسا جديدا في تحقيق المقام ، وبه أخرج كلام القوم عن ظاهره ، وردّ الأقوال الثلاثة الى اثنين.

وحاصله ؛ أنّ هنا مفهومين ، أحدهما عشرة موصوفة بأنّها اخرجت عنها الثلاثة ، وثانيهما الباقي من العشرة بعد إخراج الثلاثة.

فإن قلنا إنّ قولنا : عشرة إلّا الثلاثة ، معناه (٢) الحقيقي المفهوم الأوّل ؛ فيكون مجازا في السّبعة كما هو مذهب الجمهور.

وإن قلنا : إنّ معناه الحقيقي هو الثاني ، فيكون حقيقة في السّبعة ، لا بمعنى إنّه وضع له وضعا واحدا ، بل على أنّه يعبّر عنه بلازم مركّب. ثمّ ردّ القول الثالث الذي هو مختار ابن الحاجب والعلّامة والمتأخّرين الى أحد هذين القولين.

وطريق الردّ على ما فهمه التفتازاني (٣) ، أنّ القول الثالث بيان لمعاني مفردات

__________________

(١) ويقال فذلك حسابه : أنهاه وفرغ منه ، مخترعة من قوله إذا أجمل حسابه راجع القاموس ص ٨٥٥ في مادة فذلك.

(٢) اي المتبادر من هذا المركب.

(٣) فالتفتازاني على ما في الحاشية يقول وهذا اعتراف بحقيّة الأوّل ورجوع الأخيرين إليه كلاهما صحيح فعلى اعتبار المعنى بملاحظة المركب يرجع اليها الأوّل ، وعلى اعتباره بملاحظة المفردات يرجع الأخيران إليه فيصح كل من قول العضدي والتفتازاني باعتبار.

٣٧

الهيئة التركيبية ، قال : وعلى أيّ حال فالمفردات مستعملة في معانيها في معانيها الحقيقية ، إنّما الخلاف في المركّب ، فعند الجمهور مجاز في السّبعة ، وعند القاضي حقيقة فيه.

هذا وقد ظهر لك بما حرّرنا ، أنّ الجمهور لا يقولون بذلك ، بل يقولون : بمجازيّة لفظ العشرة التي هو أحد المفردات في السّبعة ، مع أنّ تفسير قولهم : بأنّهم يريدون بالمركّب العشرة الموصوفة بالإخراج المذكور ، مناف لوضع الاستثناء ، والمتبادر من الإخراج وغير ذلك أيضا.

وأمّا قول القاضي ، يعني كون مجموع المركّب اسما للسّبعة لا بمعنى كونه موضوعا له بوضع على حدة حتّى يرد عليه أنّه خارج عن قانون اللّغة ، إذ ليس في لغتهم اسم مركّب من ثلاثة ألفاظ يعرب الجزء الأوّل منه وهو غير مضاف ، وأنّه يلزم إعادة الضمير على جزء الإسم في : اشتريت الجارية إلّا نصفها ، مع عدم دلالة فيه ، بل بمعنى التعبير عنه بلازم مركّب كالطائر الولود للخفّاش ، ومثل ذلك أربعة مضمومة الى الثلاثة لها ، ومثل بنت سبع وأربع وثلاث ، لأربعة عشر وهكذا.

فيرد عليه (١) أيضا : أنّه مستلزم لخلاف التحقيق من كون الاستثناء من النفي إثباتا ، وبالعكس. وأنّ ذلك (٢) يتمّ لو كان معنى عشرة إلّا ثلاثة الباقي من العشرة بعد إخراج الثلاثة ، وتبادر منه كما حرّره العضديّ ، وهو ممنوع ، ومستلزم لأن لا يكون الاستثناء تخصيصا أيضا كما لا يخفى.

وتنزيل مذهب الجمهور الذي اخترناه على إرادة العشرة الموصوفة بإخراج الثلاثة عنه كما فهمه العضدي أيضا ، يستلزم وحدة الحكم ، فليس هناك نفي ولا إثبات (٣).

__________________

(١) جواب اما.

(٢) أي قول القاضي.

(٣) علما بأنّ في الاستثناء إثباتا ونفيا.

٣٨

وأنت خبير بأنّ جميع ذلك خروج من الظاهر ومخالف لقواعد العرف والعادة. واستقصاء الكلام في النقض والإبرام على ما ذكره القوم في هذا المقام ، تضييع للأيّام.

الرابعة :

الاستثناء المستغرق لغو (١) اتّفاقا ، سواء ساوى المستثنى منه أو زاد عليه ، فيعمل على الحكم الوارد على جميع المستثنى منه.

واستثناء الأقلّ من النصف صحيح اتّفاقا أيضا.

واختلفوا في جواز استثناء الأكثر والمساوي.

فقيل : بوجوب كونه أقلّ (٢).

وقيل : بجواز المساوي (٣).

والأكثرون على جواز الأكثر (٤) ، ويلزمهم جواز المساوي بطريق الأولى.

__________________

(١) كما في «الزبدة» : ص ١٣٦ ، وفي «تمهيد» الشهيد ص ٢٠٠ : باطل اتّفاقا ، على ما نقله جماعة منهم الرازي والآمدي وأتباعهما ، ولإفضائه إلى اللغو. راجع «المحصول» : ٢ / ٥٤٥ و «الإحكام» : ٢ / ٣١٨.

(٢) أي وجوب كون المستثنى أقلّ من المستثنى منه ، ومقتضاه عدم جواز استثناء الأكثر والمساوي ، فيجوز له عليا عشرة إلّا أربعة دون إلّا خمسة أو ستة ، وهذا القول منسوب الى الحنابلة ، والقاضي كما في الحاشية ، وراجع المستصفى : ٢ / ٦٧ ، و «الفصول» : ١٩٣.

(٣) أي دون جواز أكثر من النصف فيجوز عشرة إلّا خمسة دون إلّا ستة. قال في الحاشية : الظاهر انّه مذهب المحقّق البهائي في حاشية «زبدته» : ص ١٣٧ ، لأنّه بعد أن ذكر في المتن الأقوال الثلاثة المشهورة قال ما أفاده في الحاشية : وهنا مذهب رابع نسبه العلّامة في «النهاية» الى ابن درستويه وهو منع ما فوق النصف.

(٤) وكذا في «المستصفى» : ٢ / ١٦٧ ، وفيه للقاضي : والأشبه أنّه لا يجوز ، لأنّ العرب ـ

٣٩

وقيل : لا يجوز إلّا الأقلّ في العدد دون غيره ، فيجوز : أكرم بني تميم إلّا الجهّال ، وإن كان العالم فيهم واحدا.

واعتبر المحقّق (١) في الجواز أن لا ينتهي الكثرة الى حدّ يقبح استثناؤها عادة ، مثل أن يقال : له عليّ مائة إلّا تسعة وتسعين ونصفا.

احتجّ الأكثرون (٢) بامور :

الأوّل : قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ)(٣). مع قوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.)(٤)

فإن قلنا باشتراط كون المستثنى أقلّ من المستثنى منه ، يلزم أن يكون كلّ من المخلصين والغاوين أقلّ من الآخر ، وهو محال.

فإنّ الآية الثانية تدلّ على أنّ غير المخلصين كلّهم غاوون ولا واسطة ، فيكون الباقي من العباد بعد إخراج الغاوين في الآية الأولى ، هم المخلصين لعدم الواسطة.

وممّا قرّرناه وحرّرناه في وجه الاستدلال ، يظهر لك فساد كلّ ما أورد عليه ، فلا نطيل ببيانه.

__________________

ـ تستقبح استثناء الأكثر وتستحمق قول القائل : رأيت ألفا إلّا تسعمائة وتسعة وتسعين ، بينما ذهب إلى صحّته الغزالي وإن كان مستكرها ، وفي «الذريعة» : ١ / ٢٤٧ : منع منه قوم والأكثر يجوّزونه وفي «التهذيب» : ص ١٣٩ : ويجوز الأكثر للإجماع.

(١) في «المعارج» : ص ٩٤.

(٢) راجع «الذريعة» و «التهذيب» و «الفصول» و «المحصول» وغيرهم.

(٣) الحجر : ٤٢.

(٤) ص : ٨٢ و ٨٣.

٤٠