البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

قراءة الجمهور : بضم القاف والدّال. وقرأ مجاهد : وابن كثير : بسكون الدال حيث وقع ، وفيه لغة فتحها. وقرأ أبو حيوة : القدوس ، بواو. والروح هنا : اسم الله الأعظم الذي كان به عيسى عليه‌السلام يحيي الموتى ، قاله ابن عباس ، أو الإنجيل ، كما سمى الله القرآن روحا ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (١) قاله ابن زيد ، أو الروح التي نفخها تعالى في عيسى عليه‌السلام ، أو جبريل عليه‌السلام ، قاله قتادة والسدّي والضحاك والربيع ، ونسب هذا القول لابن عباس ، قاله ابن عطية ، وهذا أصح الأقوال. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان بن ثابت «أهج قريشا وروح القدس معك» ، ومرة قال له : «وجبريل معك». انتهى كلامه. قالوا : ويقوي ذلك قوله تعالى : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٢). وقال حسان :

وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس له كفاء

وتسمية جبريل بذلك ، لأن الغالب على جسمه الروحانية ، وكذلك سائر الملائكة ، أو لأنه يحيا به الدين ، كما يحيا البدن بالروح ، فإنه هو المتولي لإنزال الوحي ، أو لتكوينه روحا من غير ولادة. وتأييد الله عيسى بجبريل عليهما‌السلام لإظهار حجته وأمر دينه ، أو لدفع اليهود عنه ، إذ أرادوا قتله ، أو في جميع أحواله. واختار الزمخشري أن معناه : بالروح المقدسة ، قال : كما يقال حاتم الجود ، ورجل صدق. ووصفها بالقدس كما قال : وروح منه ، فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة. انتهى كلامه. وقد تقدّم معنى القدس أنه الطهارة أو البركة. وقال مجاهد والربيع : القدس من أسماء الله تعالى ، كالقدّوس. قالوا : وإطلاق الرّوح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى اسم الله الأعظم مجاز ، لأن الرّوح هو الريح المتردد في مخارق الإنسان في منافذه. ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك ، إلا أن كلا منها أطلق الرّوح عليه على سبيل التشبيه ، من حيث أن الرّوح سبب للحياة ، فجبريل هو سبب لحياة القلوب بالعلوم ، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها ، والاسم الأعظم سبب لأن يتوصل به إلى تحصيل الأغراض. والمشابهة بين جبريل والرّوح أتم ، ولأن هذه التسمية فيه أظهر ، ولأن المراد من أيدناه : قوّيناه وأعناه ، وإسنادها إلى جبريل حقيقة ، وإلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز. ولأن اختصاص عيسى بجبريل من آكد وجوه الاختصاص ، إذ لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك ، لأنه هو الذي بشر مريم بولادته ، وتولد

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٥٢.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١١٠.

٤٨١

عيسى بنفخه ، ورباه في جميع الأحوال ، وكان يسير معه حيث سار ، وكان معه حيث صعد إلى السماء.

(أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) : الهمزة أصلها للاستفهام ، وهي هنا للتوبيخ والتقريع. والفاء لعطف الجملة على ما قبلها ، واعتنى بحرف الاستفهام فقدم ، والأصل فأكلما. ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف ، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها ، كأنه قال : ولقد آتينا يا بني إسرائيل ، آتيناكم ما آتيناكم. فكلما جاءكم رسول. ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف ، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق. وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها) (١) ، فأغنى عن إعادته. والناصب لها قوله : (اسْتَكْبَرْتُمْ). والخطاب في جاءكم يجوز أن يكون عاما لجميع بني إسرائيل ، إذ كانوا على طبع واحد من سوء الأخلاق ، وتكذيب الرسل ، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم ، والشك والارتياب فيما أتوهم به ، أو يكون عائدا إلى أسلافهم الذين فعلوا ذلك. وسياق الآيات يدل عليه أو إلى من بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أبنائهم ، لأنهم راضون بفعلهم ، والراضي كالفاعل. وقد كذبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به ، وسقوه السم ليقتلوه ، وسحروه. وبما : متعلق بقوله : جاءكم ، وما موصولة ، والعائد محذوف ، أي لا تهواه. وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بحق ، ومنه هذه الآية. وأسند الهوى إلى النفس ، ولم يسند إلى ضمير المخاطب ، فكان يكون بما لا تهوون إشعارا بأن النفس يسند إليها غالبا الأفعال السيئة ، (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (٢) ، (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) (٣) ، (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) (٤). استكبرتم : استفعل هنا : بمعنى تفعل ، وهو أحد معاني استفعل. وفسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكبر بأنه سفه الحق وغمط الناس. والمعنى قيل : استكبرتم عن إجابته احتقارا للرسول. أو استبعادا للرسالة ، وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الذي هو محل النقائص ونتيجة الإعجاب. وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق ، وإن ذلك كان يتكرر منهم بتكرر مجيء الرسل إليهم ، وهو كما ذكرنا استكبار بمعنى التكبر ، وهو مشعر بالتكلف والتفعل ، لذلك لا أنهم يصيرون بذلك كبراء عظماء ، بل يتفعلون ذلك ولا يبلغون حقيقته ، لأن الكبرياء إنما هي لله تعالى ، فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٥٣.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٣٠.

(٤) سورة يوسف : ١٢ / ١٨.

٤٨٢

(فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) : ظاهره أنه معطوف على قوله : استكبرتم ، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط ، حيث لا يقدرون على قتله ، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله. وتهيأ لهم ذلك ، ويضمن أن من قتلوه فقد كذبوه. واستغنى عن التصريح بتكذيبه للعلم بذلك ، فذكر أقبح أفعالهم معه ، وهو قتله. وأجاز أبو القاسم الراغب أن يكون (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) معطوفا على قوله : (وَأَيَّدْناهُ) ، ويكون قوله : أفكلما مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار. والأظهر في ترتيب الكلام الأول ، وهذا أيضا محتمل ، وأخر العامل وقدّم المفعول ليتواخى رؤوس الآي ، وثم محذوف تقديره : ففريقا منهم كذبتم ، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ، ولأنه المشترك بين الفريقين : المكذب والمقتول.

(وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) : وأتى بفعل القتل مضارعا ، إما لكونه حكيت أنه الحال الماضية ، إن كانت أريدت فاستحضرت في النفوس ، وصور حتى كأنه ملتبس به مشروع فيه ، ولما فيه من مناسبة رؤوس الآي التي هي فواصل ، وإما لكونه مستقبلا ، لأنهم يرومون قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك سحروه وسموه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند موته : «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري». وكان في ذلك على هذا الوجه تنبيه على أن عادتهم قتل أنبيائهم ، لأن هذا النبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد أمروا بالإيمان به والنصر له ، يرومون قتله. فكيف من لم يكن فيه تقدم عهد من الله؟ فقتله عندهم أولى. قال ابن عطية عن بني إسرائيل : كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ، ثم تقوم سوقهم آخر النهار. وروي سبعين نبيا ، ثم تقوم سوق نقلهم آخر النهار.

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) : الضمير في قالوا عائد على اليهود ، وهم أبناء بني إسرائيل الذين كانوا بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا ذلك بهتا ودفعا لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات ، وأعجزتهم عن مدافعة الحق المعجزات. نزلوا عن رتبة الإنسانية إلى رتبة البهيمية. وقرأ الجمهور : غلف ، بإسكان اللام. وتقدم الكلام على سكون اللام ، أهو سكون أصلي فيكون جمع أغلف؟ أم هو سكون تخفيف فيكون جمع غلاف؟ وأصله الضم ، كحمار وحمر. قال ابن عطية : وهنا يشير إلى أن التخفيف من التثقيل قلما يستعمل إلا في الشعر. ونص ابن مالك على أنه يجوز التسكين في نحو : حمر جمع حمار ، دون ضرورة. وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وابن هرمز ، وابن محيصن ، غلف : بضم اللام ، وهي مروية عن أبي عمرو ، وهو جمع غلاف ، ولا يجوز أن يكون في هذه القراءة جمع أغلف ،

٤٨٣

لأن تثقيل فعل الصحيح العين لا يجوز إلا في الشعر. يقال غلفت السيف : جعلت له غلافا. فأما من قرأ : غلف بالإسكان ، فمعناه أنها مستورة عن الفهم والتمييز. وقال مجاهد : أي عليها غشاوة. وقال عكرمة : عليها طابع. وقال الزجاج : ذوات غلف ، أي عليها غلف لا تصل إليها الموعظة. وقيل معناه : خلقت غلفا لا تتدبر ولا تعتبر. وقيل : محجوبة عن سماع ما تقول وفهم ما تبين. ويحتمل على هذه القراءة أن يكون قولهم هذا على سبيل البهت والمدافعة ، حتى يسكتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويحتمل أن يكون ذلك خبرا منهم بحال قلوبهم ، لأن الأول فيه ذم أنفسهم بما ليس فيها ، وكانوا يدفعون بغير ذلك ، وأسباب الدفع كثيرة. وأما من قرأ بضم اللام فمعناه أنها أوعية للعلم ، أقاموا العلم مقام شيء مجسد ، وجعلوا الموانع التي تمنعهم غلفا له ، ليستدل بالمحسوس على المعقول.

ويحتمل أن يريدوا بذلك أنها أوعية للعلم ، فلو كان ما تقوله حقا وصدقا لوعته ، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي. ويحتمل أن يكون المعنى : أن قلوبنا غلف ، أي مملوءة علما ، فلا تسع شيئا ، ولا تحتاج إلى علم غيره ، فإن الشيء المغلف لا يسع غلافه غيره. ويحتمل أن يكون المعنى : أن قلوبهم غلف على ما فيها من دينهم وشريعتهم ، واعتقادهم أن دوام ملتهم إلى يوم القيامة ، وهي لصلابتها وقوّتها ، تمنع أن يصل إليها غير ما فيها ، كالغلاف الذي يصون المغلف أن يصل إليه ما بغيره. وقيل : المعنى كالغلاف الخالي لا شيء فيه.

(بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) : بل : للإضراب ، وليس إضرابا عن اللفظ المقول ، لأنه واقع لا محالة ، فلا يضرب عنه ، وإنما الإضراب عن النسبة التي تضمنها قولهم : إن قلوبهم غلف ، لأنها خلقت متمكنة من قبول الحق ، مفطورة لإدراك الصواب ، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه. ثم أخبر تعالى أنهم لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم ، وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الذي هو الكفر. (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) : انتصاب قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي فإيمانا قليلا يؤمنون ، قاله قتادة. وعلى مذهب سيبويه : انتصابه على الحال ، التقدير : فيؤمنونه ، أي الإيمان في حال قلته. وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف ، أي فزمانا قليلا يؤمنون ، لقوله تعالى : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) (١). وجوزوا أيضا انتصابه بيؤمنون على أن أصله فقليل يؤمنون ، ثم لما أسقط الباء تعدى إليه الفعل ، وهو قول معمر. وجوّزوا أيضا أن يكون حالا من الفاعل الذي هو الضمير في يؤمنون ، المعنى : أي فجمعا قليلا يؤمنون ، أي المؤمن منهم

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٧٠.

٤٨٤

قليل ، وقال هذا المعنى ابن عباس وقتادة ، وملخصه : أن القلة إما للنسبة للفعل الذي هو المصدر ، أو للزمان ، أو للمؤمن به ، أو للفاعل. فبالنسبة إلى المصدر : تكون القلة بحسب متعلقه ، لأن الإيمان لا يتصف بالقلة والكثرة حقيقة. وبالنسبة إلى الزمان : تكون القلة فيه لكونه قبل مبعثه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قليلا ، وهو زمان الاستفتاح ، ثم كفروا بعد ذلك. وبالنسبة إلى المؤمن به : تكون القلة لكونهم لم يبق لهم من ذلك إلا توحيد الله على غير وجهه ، إذ هم مجسمون ، وقد كذبوا بالرسول وبالتوراة. وبالنسبة للفاعل : تكون القلة لكون من آمن منهم بالرسول قليلا. وقال الواقدي : المعنى أي لا قليلا ولا كثيرا ، يقال قل ما يفعل ، أي ما يفعل أصلا. وقال ابن الأنباري : إن المعنى فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا. وقال المهدوي : مذهب قتادة أن المعنى : فقليل منهم من يؤمن ، وأنكره النحويون وقالوا : لو كان كذلك للزم رفع قليل. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم ، وما ذهبوا إليه من أن قليلا يراد به النفي صحيح ، لكن في غير هذا التركيب ، أعني قوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) ، لأن قليلا انتصب بالفعل المثبت ، فصار نظير : قمت قليلا ، أي قياما قليلا. ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت ، وجعلت قليلا منصوبا نعتا لمصدر ذلك الفعل ، يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا وعدم وقوعه بالكلية. وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم : أقل رجل يقول ذلك ، وقل رجل يقول ذلك ، وقلما يقوم زيد ، وقليل من الرجال يقول ذلك ، وقليلة من النساء تقول ذلك. وإذا تقرر هذا ، فحمل القلة هنا على النفي المحض ليس بصحيح. وأما ما ذكره المهدوي من مذهب قتادة ، وإنكار النحويين ذلك ، وقولهم : لو كان كذلك للزم رفع قليل. فقول قتادة صحيح ، ولا يلزم ما ذكره النحويون ، لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه ، ولم يرد شرح الأعراب فيلزمه ذلك. وإنما انتصاب قليلا عنده على الحال من الضمير في يؤمنون ، والمعنى عنده : فيؤمنون قوما قليلا ، أي في حالة قلة. وهذا معناه : فقليل منهم من يؤمن. وما في قوله : ما يؤمنون ، زائدة مؤكدة ، دخلت بين المعمول والعامل ، نظير قولهم : رويد ما الشعر ، وخرج ما أنف خاطب بدم. ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية ، لأنه كان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر. والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول ، وهو أن يكون المعنى : فإيمانا قليلا يؤمنون ، لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان ، وعلى الهيئة ، وعلى المفعول ، وعلى الفاعل ، ولموافقته ظاهر قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً). وأما قول العرب : مررنا بأرض قليلا

٤٨٥

ما تنبت ، وأنهم يريدون لا تنبت شيئا ، فإنما ذلك لأن قليلا انتصب على الحال من أرض ، وإن كان نكرة ، وما مصدرية ، والتقدير : قليلا إنباتها ، أي لا تنبت شيئا ، وليست ما زائدة ، وقليلا نعت لمصدر محذوف ، تقدير الكلام : تنبت قليلا ، إذ كان التركيب المقدر هذا لما صح أن يراد بالقليل النفي المحض ، لأن قولك : تنبت قليلا ، لا يدل على نفي الإنبات رأسا ، وكذلك لو قلنا : ضربت ضربا قليلا ، لم يكن معناه ما ضربت أصلا.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ) : الضمير عائد على اليهود ، ونزلت فيهم حين كانت غطفان تقاتلهم وتهزمهم ، أو حين كانوا يلقون من العرب أذى كثيرا ، أو حين حاربهم الأوس والخزرج فغلبتهم. (كِتابٌ) : هو القرآن ، وإسناد المجيء إليه مجاز. (مِنْ عِنْدِ اللهِ) : في موضع الصفة ، ووصفه بمن عند الله جدير أن يقبل ، ويتبع ما فيه ، ويعمل بمضمونه ، إذ هو وارد من عند خالقهم وإلههم الذي هو ناظر في مصالحهم. (مُصَدِّقٌ) : صفة ثانية ، وقدّمت الأولى عليها ، لأن الوصف بكينونته من عند الله آكد ، ووصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله. لا يقال : إنه يحتمل أن يكون (مِنْ عِنْدِ اللهِ) متعلقا بجاءهم ، فلا يكون صفة للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما. وفي مصحف أبيّ مصدقا ، وبه قرأ ابن أبي عبلة ونصبه على الحال من كتاب ، وإن كان نكرة. وقد أجاز ذلك سيبويه بلا شرط ، فقد تخصصت بالصفة ، فقربت من المعرفة. (لِما مَعَهُمْ) : هو التوراة والإنجيل ، وتصديقه إما بكونهما من عند الله ، أو بما اشتملا عليه من ذكر بعث الرسول ونعته.

(وَكانُوا) : يجوز أن يكون معطوفا على جاءهم ، فيكون جواب لما مرتبا على المجيء والكون. ويحتمل أن يكون جملة حالية ، أي وقد كانوا ، فيكون الجواب مرتبا على المجيء بقيد في مفعوله ، وهم كونهم يستفتحون. وظاهر كلام الزمخشري أن قوله : وكانوا أليست معطوفة على الفعل بعد لما ، ولا حالا لأنه قدّر جواب لما محذوفا قبل تفسيره يستفتحون ، فدل على أن قوله : وكانوا ، جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله :ولما. (مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل المجيء ، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة.

(يَسْتَفْتِحُونَ) : أي يستحكمون ، أو يستعلمون ، أو يستنصرون ، أقوال ثلاثة. يقولون ، إذا دهمهم العدو : اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان ، الذي نجد نعته في التوراة. واختلفوا في جواب ولما الأولى ، فذهب الأخفش والزجاج إلى أنه محذوف لدلالة المعنى عليه ، واختاره الزمخشري وقدره نحو : كذبوا به واستهانوا بمجيئه ،

٤٨٦

وقدره غيره : كفروا ، فحذف لدلالة كفروا به عليه ، والمعنى قريب في ذلك. وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ) ، جواب لما الأولى ، وكفروا ، جواب لقوله : فلما جاءهم. وهو عنده نظير قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ) (١). قال : ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواو لا تصلح في موضعها. وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو : كفروا به ، وكرر لما لطول الكلام ، ويقيد ذلك تقريرا للذنب وتأكيدا له. وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد. وأما قول الفراء فلم يثبت من لسانهم ، لما جاء زيد ، فلما جاء خالد أقبل جعفر ، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته ، ولا حجة في هذا المختلف فيه ، فالأولى أن يكون الجواب محذوفا لدلالة المعنى عليه ، وأن يكون التقدير : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) كذبون ، ويكون التكذيب حاصلا بنفس مجيء الكتاب من غير فكر فيه ولا رويّة ، بل بادروا إلى تكذيبه. ثم قال تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ) ، أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم ، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث قد قرب وقت بعثه ، فكانوا يخبرون بذلك.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) : وما سبق لهم تعريفه للمشركين. (كَفَرُوا بِهِ) : ستروه وجحدوه ، وهذا أبلغ في ذمهم ، إذ يكون الشيء المعروف لهم ، المستقر في قلوبهم وقلوب من أعلموهم به كيانه ونعته يعمدون إلى ستره وجحده ، قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢). وقال أبو القاسم الراغب : ما ملخصه الاستفتاح ، طلب الفتح ، وهو ضربان : إلهي ، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم المؤدية إلى الثواب ، ومنه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) (٣) ، فعسى الله أن يأتي بالفتح. ودنيوي ، وهو النصرة بالوصول إلى اللذات البدنية ، ومنه (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (٤). فمعنى يستفتحون : أي يعلمون خبره من الناس مرّة ، ويستنبطون ذكره من الكتب مرة. وقيل : يطلبون من الله بذكره الظفر. وقيل : كانوا يقولون إنا ننصر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عبدة الأوثان. وكل ذلك داخل في عموم الاستفتاح. انتهى. وظاهر قوله : ما عرفوا أنه الكتاب ، لأنه أتى بلفظ ما ، ويحتمل أنه يراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن ما قد يعبر بها عن صفات من يعقل ، ويجوز أن يكون المعنى : ما عرفوه من الحق ، فيندرج فيه معرفة نبوّته وشريعته وكتابه ، وما تضمنه.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٨.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ١٤.

(٣) سورة الفتح : ٤٨ / ١.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٤٤.

٤٨٧

(فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) : لما كان الكتاب جائيا من عند الله إليهم ، فكذبوه وستروا ما سبق لهم عرفانه ، فكان ذلك استهانة بالمرسل والمرسل به. قابلهم الله بالاستهانة والطرد ، وأضاف اللعنة إلى الله تعالى على سبيل المبالغة ، لأن من لعنه الله تعالى هو الملعون حقيقة. (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) (١)؟ (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (٢). ثم إنه لم يكتف باللعنة حتى جعلها مستعلية عليهم ، كأنه شيء جاءهم من أعلاهم ، فجللهم بها ، ثم نبه على علة اللعنة وسببها ، وهي الكفر ، كما قال قبل : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) ، وأقام الظاهر مقام المضمر لهذا المعنى ، فتكون الألف واللام للعهد ، أو تكون للعموم ، فيكون هؤلاء فردا من أفراد العموم. قال الزمخشري : ويجوز أن تكون للجنس ، ويكون فيه دخولا أوليا. ونعني بالجنس العموم ، وتخيله أنهم يدخلون فيه دخولا أوليا ليس بشيء ، لأن دلالة العلة على إفراده ليس فيها بعض الإفراد أولى من بعض ، وإنما هي دلالة على كل فرد فرد ، فهي دلالة متساوية. وإذا كانت دلالة متساوية ، فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء.

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) : تقدّم الكلام على بئس ، وأما ما فاختلف فيها ، ألها موضع من الإعراب أم لا. فذهب الفرّاء إلى أنه بجملته شيء واحد ركب ، كحبذا ، هذا نقل ابن عطية عنه. وقال المهدوي : قال الفرّاء يجوز أن تكون ما مع بئس بمنزلة كلما ، فظاهر هذين النقلين أن ما لا موضع لها من الإعراب ، وذهب الجمهور إلى أن لها موضعا من الإعراب. واختلف ، أموضعها نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى أن موضعها نصب على التمييز ، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة ، وفاعل بئس مضمر مفسر بما ، التقدير : بئس هو شيئا اشتروا به أنفسهم ، وأن يكفروا هو المخصوص بالذم ، وبه قال الفارسي في أحد قوليه ، واختاره الزمخشري. ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص بالذم محذوفا ، واشتروا صفة له ، والتقدير : بئس شيئا شيء اشتروا به أنفسهم ، وأن يكفروا بدل من ذلك المحذوف ، فهو في موضع رفع ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو أن يكفروا. وذهب الكسائي في أحد قوليه إلى ما ذهب إليه هؤلاء ، من أن ما موضعها نصب على التمييز ، وثم ما أخرى محذوفة موصولة هي المخصوص بالذم ، التقدير : بئس شيئا الذي اشتروا به أنفسهم. فالجملة بعد ما المحذوفة صلة لها ، فلا موضع لها من الإعراب. وأن يكفروا على هذا القول بدل ، ويجوز على هذا القول أن يكون خبر

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦٠.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٢.

٤٨٨

مبتدأ محذوف ، أي هو كفرهم. فتلخص في قول النصب في الجملة بعد ما أقوال ثلاثة : أن يكون صفة لما هذه التي هي تمييز فموضعها نصب ، أو صلة لما المحذوفة الموصولة فلا موضع لها ، أو صفة لشيء المحذوف المخصوص بالذم فموضعها رفع ، وذهب سيبويه إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل بئس ، فقال سيبويه : هي معرفة تامة ، التقدير : بئس الشيء ، والمخصوص بالذم على هذا محذوف ، أي شيء اشتروا به أنفسهم. وعزى هذا القول ، أعني أن ما معرفة تامة لا موصولة ، إلى الكسائي. وقال الفراء والكسائي ، فيما نقل عنهما : إن ما موصولة بمعنى الذي ، واشتروا : صلة ، وبذلك قال الفارسي ، في أحد قوليه ، وعزى ابن عطية هذا القول إلى سيبويه قال : فالتقدير على هذا القول : بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ، كقولك : بئس الرجل زيد ، وما في هذا القول موصولة. انتهى كلامه ، وهو وهم على سيبويه. وذهب الكسائي فيما نقل عنه المهدوي وابن عطية إلى أن ما وبعدها في موضع رفع ، على أن تكون مصدرية ، التقدير : بئس اشتراؤهم. قال ابن عطية : وهذا معترض ، لأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير. انتهى كلامه. وما قاله لا يلزم إلا إذا نص على أمر مرفوع ببئس ، أما إذا جعله المخصوص بالذم ، وجعل فاعل بئس مضمرا والتمييز محذوفا ، لفهم المعنى. التقدير : بئس اشتراء اشتراؤهم ، فلا يلزم الاعتراض ، لكن يبطل هذا القول الثاني عود الضمير في به على ما ، وما المصدرية لا يعود عليها ضمير ، لأنها حرف على مذهب الجمهور ، إذ الأخفش يزعم أنها اسم. والكلام على هذه المذاهب تصحيحا وإبطالا يذكر في علم النحو.

اشتروا هنا : بمعنى باعوا ، وتقدم أنه قال : شرى واشترى : بمعنى باع ، هذا قول الأكثرين. وفي المنتخب إن الاشتراء هنا على بابه ، لأن المكلف ، إذا خاف على نفسه من العقاب ، أتى بأعمال يظن أنها تخلصه ، وكأنه قد اشترى نفسه بها. فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم ، ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم ، فذمهم الله عليه. قال : وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول ، يعني بالأول أن يكون بمعنى باع ، وهذا الذي اختاره صاحب المنتخب ، يرد عليه قوله تعالى : (بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، فدل على أن المراد ليس اشتراؤهم أنفسهم بالكفر ، ظنا منهم أنهم يخلصون من العقاب ، بل ذلك كان على سبيل البغي والحسد ، لكونه تعالى جعل ذلك في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاتضح أن قول الجمهور أولى.

(أَنْ يَكْفُرُوا) : تقدم أن موضعه رفع ، إما ، على أن يكون مخصوصا بالذم عند من

٤٨٩

جعل ما قبله من قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ) غير تام ، وفيه الأعاريب التي في المخصوص بالذم ، إذا تأخر ، أهو مبتدأ ، والجملة التي قبله خبر مبتدأ محذوف على ما تقرر قبل؟ وأجاز الفراء على هذا التقدير أن يكون بدلا من الضمير في به ، فيكون في موضع خبر. (بِما أَنْزَلَ اللهُ) : هو الكتاب الذي تقدّم ذكره ، وهو القرآن. وفي ذلك من التفخيم إن لم يحصل مضمر ، بل أظهر موصولا بالفعل الذي هو أنزل المشعر بأنه من العالم العلوي ، ونسب إسناده إلى الله ، ليحصل التوافق من حيث المعنى بين قوله : (كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وبين قوله : (بِما أَنْزَلَ اللهُ). ويحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل ، إذ كفروا بعيسى وبمحمد صلوات الله وسلامه عليهما ، والكفر بهما كفر بالتوراة. ويحتمل أن يراد الجميع من قرآن وإنجيل وتوراة ، لأن الكفر ببعضها كفر بكلها. (بَغْياً) : أي حسدا ، إذ لم يكن من بني إسرائيل ، قاله قتادة وأبو العالية والسدّي. وقيل : معناه ظلما ، وانتصابه على أنه مفعول من أجله وظاهره أن العامل فيه يكفروا ، أي كفرهم لأجل البغي. وقال الزمخشري : هو علة اشتروا ، فعلى قوله يكون العامل فيه اشتروا. وقيل : هو نصب على المصدر لا مفعول من أجله ، والتقدير : بغوا بغيا ، وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه.

(أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) : أن : مع الفعل بتأويل المصدر ، وذلك المصدر المقدر منصوب على أنه مفعول من أجله ، أي بغوا لتنزيل الله. وقيل : التقدير بغيا على أن ينزّل الله لأن معناه حسدا على أن ينزّل الله ، أي على ما خص الله به نبيه من الوحي ، فحذفت على ، ويجيء الخلاف الذي في أنّ وأن ، إذا حذف حرف الجر منهما ، أهما في موضع نصب أم في موضع خفض؟ وقيل : أن ينزّل في موضع جر على أنه بدل اشتمال من ما في قوله : بما أنزل الله ، أي بتنزيل الله ، فيكون مثل قول الشاعر :

أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص

وقرأ أبو عمرو وابن كثير : جميع المضارع مخففا من أنزل ، إلا ما وقع الإجماع على تشديده ، وهو في الحجر ، (وَما نُنَزِّلُهُ) (١) ، إلا أن أبا عمرو شدد على أن ننزل آية في الأنعام ، وابن كثير شدد (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) (٢) ، و (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً) (٣) ، وشدد الباقون المضارع حيث وقع إلا حمزة والكسائي فخففا ، (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) (٤) ، في آخر لقمان ، (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) (٥) ، في الشورى. والهمزة

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٢١.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٢.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٣.

(٤) سورة لقمان : ٣١ / ٣٤.

(٥) سورة الشورى : ٤٢ / ٢٨.

٤٩٠

والتشديد كل منهما للتعدية. وقد ذكروا مناسبات لقراءات القراء واختياراتهم ولا تصح. (مِنْ فَضْلِهِ) : من لابتداء الغاية ، والفضل هنا الوحي والنبوة. وقد جوّز بعضهم أن تكون من زائدة على مذهب الأخفش ، فيكون في موضع المفعول ، أي أن ينزل الله فضله. (عَلى مَنْ يَشاءُ). على متعلقة بينزل ، والمراد بمن يشاء : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم ، وكان من العرب ، وعز النبوة من يعقوب إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام كان في إسحاق ، فختم في عيسى ، ولم يكن من ولد إسماعيل نبي غير نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فختمت النبوة على غيرهم ، وعدموا العز والفضل. و (مِنْ) هنا موصولة ، وقيل نكرة موصوفة. و (يَشاءُ) على القول الأول : صلة ، فلا موضع لها من الإعراب ، وصفة على القول الثاني ، فهي في موضع خفض ، والضمير العائد على الموصول أو الموصوف محذوف تقديره يشاؤه. (مِنْ عِبادِهِ) : جار ومجرور في موضع الحال ، تقديره كائنا من عباده ، وأضاف العباد إليه تشريفا لهم ، كقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (١) ، (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) (٢).

(فَباؤُ) : أي مضوا ، وتقدم معنى باؤوا. (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) : أي مترادف متكاثر ، ويدل ذلك على تشديد الحال عليهم. وقيل : المراد بذلك : غضبان معللان بقصتين : الغضب الأول : لعبادة العجل ، والثاني : لكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس. أو الأول : كفرهم بالإنجيل ، والثاني : كفرهم بالقرآن ، قاله قتادة. أو الأول : كفرهم بعيسى ، والثاني : كفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الحسن وغيره ، أو الأول : قولهم عزير ابن الله ، وقولهم يد الله مغلولة ، وغير ذلك من أنواع كفرهم ، والثاني : كفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) : الألف واللام في الكافرين للعهد ، وأقام المظهر مقام المضمر إشعارا بعلة كون العذاب المهين لهم ، إذ لو أتى ، ولهم عذاب مهين ، لم يكن في ذلك تنبيه على العلة ، أو تكون الألف واللام للعموم ، فيندرجون في الكافرين. ووصف العذاب بالإهانة ، وهي الإذلال ، قال تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣). وجاء في الصحيح ، في حديث عبادة ، وقد ذكر أشياء محرّمة فقال : «فمن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له». فهذا العذاب إنما هو لتكفير السيئات ، أو لأنه يقتضي الخلود خلودا لا ينقطع ، أو لشدته وعظمته واختلاف أنواعه ، أو لأنه جزاء على تكبرهم عن اتباع

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٣.

(٣) سورة النور : ٢٤ / ٢.

٤٩١

الحق. وقد احتج الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر ، لأنه ثبت تعذيبه ، واحتج بها المرجئة على أن الفاسق لا يعذب لأنه ليس بكافر.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) : الأخبار عمن بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود ، وسياق الآية يدل على أن المراد آباؤهم ، لأنهم هم الذين قتلوا الأنبياء ، وحسن ذلك أن الراضي بالشيء كفاعله ، وأنهم جنس واحد ، وأنهم متبعون لهم ومعتقدون ذلك ، وأنهم يتولونهم ، فهم منهم. (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، الجمهور : إنه القرآن ، وقال الزمخشري : مطلق فبما أنزل الله من كل كتاب. (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) : يريدون التوراة ، وما جاءهم من الرّسالات على لسان موسى ، ومن بعده من أنبيائهم ، وحذف الفاعل هنا للعلم به ، لأنه معلوم أنه لا ينزل الكتب الإلهية إلا الله أو لجريانه في قوله : (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، فحذف إيجازا إذ قد تقدم ذكره ، وذمّوا على هذه المقالة لأنهم أمروا بالإيمان بكل كتاب أنزله الله ، فأجابوا بأن آمنوا بمقيد ، والمأمور به عام ، فلم يطابق إيمانهم الأمر.

(وَيَكْفُرُونَ) : جملة استؤنف بها الإخبار عنهم ، أو جملة حالية ، العامل فيها قالوا : أي وهم يكفرون. (بِما وَراءَهُ) ، أي بما سواه ، وبه فسر (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (١) ، و (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) (٢) ، أي بما بعده ، قاله قتادة ، أي ويكفرون بما بعد التوراة ، وهو القرآن ، أو بما وراءه ، أي بباطن معانيها التي وراء ألفاظها ، ويكون إيمانهم بظاهر لفظها. (وَهُوَ الْحَقُ) ، هو : عائد على القرآن ، أو على القرآن والإنجيل ، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا. (مُصَدِّقاً) : حال مؤكدة ، إذ تصديق القرآن لازم لا ينتقل. (لِما مَعَهُمْ) : هو التوراة ، أو التوراة والإنجيل ، لأنهما أنزلا على بني إسرائيل ، وكلاهما غير مخالف للقرآن ، وفيه رد عليهم ، لأن من لم يصدق ما وافق التوراة ، لم يصدق بها. وإذا دل الدليل على كون ذلك منزلا من عند الله ، وجب الإيمان به ، فالإيمان ببعض دون بعض متناقض. (قُلْ) : أي قل يا محمد ، وقل يا من يريد جدالهم. (فَلِمَ) : الفاء : جواب شرط مقدر ، التقدير : إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم (تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ)؟ لأن الإيمان بالتوراة واستحلال قتل الأنبياء لا يجتمعان ، فقولكم : إنكم آمنتم بالتوراة كذب وبهت ، لا يؤمن بالقرآن من استحل محارمه. وما استفهامية حذفت ألفها لأجل لام الجر. ويقف البزيّ بالهاء فيقول : فلمه ، وغيره يقف : فلم بغير هاء ، ولا يجوز هذا الوقف إلا للاختبار ، أو

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٤.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٧.

٤٩٢

لانقطاع النفس. وجاء يقتلون بصورة المضارع ، والمراد الماضي ، إذ المعنى : قل فلم قتلتم ، وأوضح ذلك أن هؤلاء الذين بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصدر منهم قتل الأنبياء ، وأنه قيد بقوله (مِنْ قَبْلُ) ، فدل على تقدم القتل.

قال ابن عطية : وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر. ألا ترى أن حاضري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم ، بقي لهم من قتل الأنبياء جزء ، وفي إضافة أنبياء إلى الله تشريف عظيم لهم ، وأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله أن يعظم أجلّ تعظيم ، وأن ينصر ، لا أن يقتل. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قيل : إن نافية أي ما كنتم مؤمنين ، لأن من قتل أنبياء الله لا يكون مؤمنا ، فأخبر تعالى أن الإيمان لا يجامع قتل الأنبياء ، أي ما اتصف بالإيمان من هذه صفته. قيل : والأظهر أن إن شرطية ، والجواب محذوف ، التقدير : فلم فعلتم ذلك؟ ويكون الشرط وجوابه قد كرر مرتين على سبيل التوكيد ، لكن حذف الشرط من الأول وأبقى جوابه وهو : فلم تقتلون؟ وحذف الجواب من الثاني وأبقى شرطه. وقال ابن عطية : وإن كنتم : شرط ، والجواب متقدم. ولا يتمشى قوله هذا إلا على مذهب من يجيز تقدم جواب الشرط ، وليس مذهب البصريين إلا أبا زيد الأنصاري والمبرد منهم. ومعنى مؤمنين : أي بما أنزل إليكم ، أو متحققين بالإيمان صادقين فيه ، أو مؤمنين بزعمكم. وأجرى هذا القول مجرى التهكم بهم والاستهزاء ، كما تقول لمن بدا منه ما لا يناسبه : فعلت كذا وأنت عاقل ، أي بزعمك.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) : أي بالآيات البينات ، وهي الواضحة المعجزة الدالة على صدقه. وقيل : التسع ، وهي : العصا ، والسنون ، واليد ، والدم ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر. وهي المعنى بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) (١). (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ، وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) : تقدم تفسير هذه الجمل ، وإنما كررت هنا لدعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم ، وهم كاذبون في ذلك. ألا ترى أن اتخاذ العجل ليس في التوراة؟ بل فيها أن يفرد الله بالعبادة ، ولأن عبادة غير الله أكبر المعاصي ، فكرر عبادة العجل تنبيها على عظيم جرمهم. ولأن ذكر ذلك قبل ، أعقبه تعداد النعم بقوله : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) (٢) ، و (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) (٣). وهنا أعقبه التقريع والتوبيخ. ولأن في

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٥٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٦٤.

٤٩٣

قصة الطور ذكر توليهم عما أمروا به ، من قبول التوراة وعدم رضاهم بأحكامها اختيارا ، حتى ألجئوا إلى القبول اضطرارا ، فدعواهم الإيمان بما أنزل إليهم غير مقبولة. ثم في قصة الطور تذييل لم يتقدم ذكره. والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أو تعظيمه ، كررته. وفي هذا التكرار أيضا من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم ، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف.

(وَاسْمَعُوا) أي : اقبلوا ما سمعتم ، كقوله : سمع الله لمن حمده ، أو اسمعوا متدبرين لما سمعتم ، أو (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) (١). لأن فائدة السماع الطاعة ، قاله المفضل. والمعنى في هذه الأقوال الثلاثة قريب. قال الماتريدي : معنى اسمعوا : افهموا. وقيل : اعملوا ، ووجهه أن السمع يسمع به ، ثم يتخيل ، ثم يعقل ، ثم يعمل به إن كان مما يقتضي عملا. ولما كان السماع مبتدأ ، والعمل غاية ، وما بينهما وسائط ، صح أن يراد بعض الوسائط ، وصح أن يراد به الغاية. (قالُوا) : هذا من الالتفات ، إذ لو جاء على الخطاب لقال : قلتم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) : ظاهره أن كلتا الجملتين مقولة ، ونطقوا بذلك مبالغة في التعنت والعصيان. ويؤيده قول ابن عباس : كانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) (٢) ، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا). وقيل : القول هنا مجاز ، ولم ينطقوا بشيء من الجملتين ، ولكن لما لم يقبلوا شيئا مما أمروا به ، جعلوا كالناطقين بذلك. وقيل : يعبر بالقول للشيء عما يفهم به من حاله ، وإن لم يكن نطق. وقيل : المعنى سمعنا بآذاننا وعصينا بقلوبنا ، وهذا راجع لما قاله الزمخشري ، قال : قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك. فإن قلت : فكيف طابق قوله جوابهم؟ قلت : طابقه من حيث أنه قال لهم اسمعوا ، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة ، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة ، انتهى كلامه. والقول الأوّل أحسن ، لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره ، لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه. (وَأُشْرِبُوا) : عطف على قالوا سمعنا وعصينا. فيكون معطوفا على قالوا ، أي خذوا ما آتيناكم بقوّة ، قلتم كذا وكذا وأشربتم ، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات ، بل إخبار من الله عنهم بما صدر منهم من عبادة العجل ، أو الواو للحال ، أي وقد أشربوا والعامل قالوا ، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقع حالا ، والقول الأول هو الظاهر. (فِي قُلُوبِهِمُ) : ذكر مكان الإشراب ،

__________________

(١) سورة التغابن : ٦٤ / ١٦.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٤٦.

٤٩٤

كقوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) (١). (الْعِجْلَ) : هو على حذف مضافين ، أي حب عبادة العجل من قولك : أشربت زيدا ماء ، والإشراب مخالطة المائع الجامد ، وتوسع فيه حتى صار في اللونين ، قالوا : وأشربت البياض حمرة ، أي خلطتها بالحمرة ، ومعناه أنه داخلهم حب عبادته ، كما داخل الصبغ الثوب ، وأنشدوا :

إذا ما القلب أشرب حب شيء

فلا تأمل له عنه انصرافا

وقال ابن عرفة : يقال أشرب قلبه حب كذا ، أي حل محل الشراب ومازجه. انتهى كلامه. وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل ، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها ، ولهذا قال بعضهم :

جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي

فأصبح لي عن كل شغل بها شغل

وأما الطعام فقالوا : هو مجاور لها ، غير متغلغل فيها ، ولا يصل إلى القلب منه إلا يسير ، وقال :

تغلغل حبّ عثمة في فؤادي

فباديه مع الخافي يسير

وحسن حذف ذينك المضافين ، وأسند الإشراب إلى ذات العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه ، وإن كان المعنى على ما ذكرناه من الحذف. وقيل : معنى اشربوا : أي شدّ في قلوبهم حب العجل لشغفهم به ، من أشربت البعير : إذا شددت حبلا في عنقه. وقيل : هو من الشرب حقيقة ، وذلك أنه نقل أن موسى عليه‌السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم : اشربوا ، فشرب جميعهم. فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه ، وهذا قول يردّه قوله : (فِي قُلُوبِهِمُ). وروي أن الذين تبين لهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن. وبناؤه للمفعول في قوله : وأشربوا ، دليل على أن ذلك فعل بهم ، ولا يفعله إلا الله تعالى. وقالت المعتزلة : جاء مبنيا للمفعول لفرط ولوعهم بعبادته ، كما يقال : معجب برأيه ، أو لأن السامري وإبليس وشياطين الإنس والجنّ دعوهم إليه ، ولما كان الشرب مادّة لحياة ما تخرجه الأرض ، نسب ذلك إلى المحبة ، لأنها مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال. (بِكُفْرِهِمْ) : الظاهر أن الباء للسبب ، أي الحامل لهم على عبادة العجل هو كفرهم السابق ، قيل : ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع ، يعنون أن يكون للحال ، أي مصحوبا بكفرهم ، فيكون ذلك كفرا على كفر.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٠.

٤٩٥

(قُلْ) يا محمد ، أو قل يا من يجادلهم. (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) : تقدم الكلام في بئس ، وفي المذاهب في ما ، فأغنى عن إعادته. وقرأ الحسن ومسلم بن جندب : بهو إيمانكم ، بضم الهاء ووصلها بواو ، وهي لغة ، والضم في الأصل ، لكن كسرت في أكثر اللغات لأجل كسرة الباء ، وعنى بإيمانهم الذي زعموا في قولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) ، وأضاف الأمر إلى إيمانهم على طريق التهكم ، كما قال أصحاب شعيب : أصلواتك تأمرك أن نترك؟ وقيل : ثم محذوف تقديره صاحب إيمانكم ، وهو إبليس. وقيل : ثم صفة محذوفة التقدير إيمانكم الباطل ، وأضاف : الإيمان إليهم لكونه إيمانا غير صحيح ، ولذلك لم يقل الإيمان ، قاله بعض معاصرينا رحمهم‌الله. والمخصوص بالذمّ محذوف بعد ما ، فإن كانت منصوبة ، فالتقدير : بئس شيئا يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل ، فيكون يأمركم صفة للتمييز ، أو يكون التقدير : بئس شيئا شيء يأمركم به إيمانكم ، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذمّ المحذوف ، أو يكون التقدير : بئس شيئا ما يأمركم ، أي الذي يأمركم ، فيكون يأمركم به إيمانكم. والمخصوص مقدر بعد ذلك ، أي قتل الأنبياء ، وكذا وكذا. فيكون ما موصولة ، أو يكون التقدير : بئس الشيء شيء يأمركم به إيمانكم ، فيكون ما تامّة. وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعا من الإعراب.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، قيل : إن نافية ، وقيل : شرطية. قال الزمخشري : تشكيك في إيمانهم ، وقدح في صحة دعواهم. انتهى كلامه. وقال ابن عطية : وقد يأتي الشرط ، والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين ، كما قال الله عن عيسى عليه‌السلام : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) (١) ، وقد علم عيسى عليه‌السلام أنه لم يقله ، وكذلك (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين ، لكنه أقام حجة لقياس بين. انتهى كلامه ، وهو يؤول من حيث المعنى إلى نفي الإيمان عنهم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي إن كنتم مؤمنين فبئس ما يأمركم به إيمانكم. وقيل تقديره : إن كنتم مؤمنين فلا تقتلوا الأنبياء ، ولا تكذبوا الرسل ، ولا تكتموا الحق. وتقدير الحذف الأول أعرب وأقوى.

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) : نزلت فيما حكاه ابن الجوزي عند ما قالت اليهود : إن الله لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه. وقال أبو العالية والربيع :

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٦.

٤٩٦

سبب نزول هاتين الآيتين قولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) (١) ، و (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) (٢) ، و (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) (٣) ، الآيات ، وروي مثله عن قتادة. والضمير في قل ، إما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإما لمن ينبغي إقامة الحجة عليهم منه ومن غيره. وفسروا الدار الآخرة بالجنة ، قالوا : وذلك معهود في إطلاقها على الجنة. قال تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) (٤). ومعلوم أن ما يجعل لهؤلاء هو الجنة ، (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (٥). والأحسن أن يكون ذلك على حذف مضاف دل عليه المعنى ، أي نعيم الدار الآخرة وحظوتها وخيرها ، لأن الدار الآخرة هي موضع الإقامة بعد انقضاء الدنيا. وسميت آخرة لأنها متأخرة عن الدنيا ، أو هي آخر ما يسكن. وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٦). ومعنى : عند الله ، أي في حكم الله ، كقوله تعالى : (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه (هُمُ الْفاسِقُونَ) (٧). وقيل : المراد بالعندية هنا : المكانة والمرتبة والشرف ، لا المكان. ومعنى خالصة : أي مختصة بكم ، لاحظ في نعيمها لغيركم. واختلفوا في إعراب خالصة ، فقيل : نصب على الحال ، ولم يحك الزمخشري غيره ، فيكون لكم إذ ذاك خبر كانت ، ويكون العامل في الحال هو العامل في المجرور ، ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر ، لأنه لا يستقل معنى الكلام به وحده. وقد وهم في ذلك المهدوي وابن عطية ، إذ قالا : ويجوز أن يكون نصب خالصة على الحال ، وعند الله خبر كان. وقيل : انتصاب خالصة على أنه خبر كان ، فيجوز في لكم أن يتعلق بكانت ، لأن كان يتعلق بها حرف الجر ، ويجوز أن يتعلق بخالصة. ويجوز أن تكون للتبيين ، فيتعلق بمحذوف تقديره : لكم ، أعني نحو قولهم : سقيا لك إذ تقديره : لك أدعو.

(مِنْ دُونِ النَّاسِ) : متعلق بخالصة ، ودون هنا لفظ يستعمل للاختصاص ، وقطع الشركة. تقول : هذا ولي دونك ، وأنت تريد لا حق فيه لك معي ولا نصيب. وفي غير هذا المكان يأتي لمعنى الانتقاص في المنزلة أو المكان أو المقدار. والمراد بالناس : الجنس ، وهو الظاهر لدلالة اللفظ وقوله : خالصة. وقيل : المراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون. وقيل :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١١١.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١٨.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٨٠.

(٤) سورة القصص : ٢٨ / ٨٣.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ٣٢.

(٦) سورة النمل : ٢٧ / ٣.

(٧) سورة آل عمران : ٣ / ٨٢.

٤٩٧

المراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس : قالوا ، ويطلق الناس ، ويراد به الرجل الواحد ، وهذا لا يكون إلا على مجاز وتنزيل الرجل الواحد منزلة الجماعة. (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) : أي سلوه باللسان فقط ، وإن لم يكن بالقلب ، قاله ابن عباس. أو تمنوه بقلوبكم واسألوه بألسنتكم ، قاله قوم. أو فسلوه بقلوبكم على أردإ الحزبين من المؤمنين أو منهم. وروي عن ابن عباس وغيره ، وقرأ الجمهور : فتمنوا الموت ، بضم الواو ، وهي اللغة المشهورة في مثل : اخشوا القوم. ويجوز الكسر تشبيها لهذه الواو بواو : ولو استطعنا ، كما شبهوا واو لو بواو اخشوا ، فضموا ، فقالوا : لو استطعنا. وقرأ ابن أبي إسحاق : فتمنوا الموت بالكسر ، وحكى أبو علي الحسن بن إبراهيم بن يزداد ، عن أبي عمرو ، أنه قرأ : فتمنوا الموت ، بفتح الواو ، وحركها بالفتح طلبا للتخفيف ، لأن الضمة والكسرة في الواو يثقلان. وحكى أيضا عن أبي عمرو : واختلاس ضمة الواو.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أن الجنة لكم دون غيركم. وجواب الشرط محذوف ، أي فتمنوا الموت. وعلق تمنيهم على شرط مفقود ، وهو كونهم صادقين ، وليسوا بصادقين في أن الجنة خالصة لهم دون الناس ، فلا يقع التمني : والمقصود من ذلك التحدي وإظهار كذبهم ، وذلك أن من أيقن أنه من أهل الجنة ، اختار أن ينتقل إليها ، وأن يخلص من المقام في دار الأكدار ، وأن يصل إلى دار القرار. كما روي عمن شهد له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة ، كعثمان ، وعليّ ، وعمار ، وحذيفة ، أنهم كانوا يختارون الموت ، وكذلك الصحابة كانت تختار الشهادة. وفي الحديث الصحيح أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليتني أحيا ثم أقتل ثم أحيا فأقتل». لما علم من فضل الشهادة. وقال ، لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة : «يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل». وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال : حبيب جاء على فاقة. وعن عمار ، لما كان بصفين قال : غدا نلقى الأحبة ، محمدا وصحبه. وعن عليّ أنه كان يطوف بين الصفين بغلالة ، فقال له ابنه الحسن : ما هذا بزيّ المحاربين ، فقال : يا بنيّ لا يبالي أبوك ، أعلى الموت سقط ، أم عليه سقط الموت. وكان عبد الله بن رواحة ينشد ، وهو يقاتل الروم :

يا حبذا الجنة واقترابها

طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها

وفي قصتي قتل عثمان وسعيد بن جبير ما يدل على اختيارهما الشهادة ، وذلك أن عثمان جاءه جماعة من الصحابة فقالوا له : نقاتل عنك؟ فقال لهم : لا ، وكان له قريب من

٤٩٨

ألف عبد ، فشهروا سيوفهم لما هجم عليهم ، فقال : من أعمد سيفه فهو حرّ. فصبر حتى قتل. وأما سعيد ، فإن الموكلين به ، لما طلبه الحجاج ، لما شاهدوا من لياذ السباع به وتمسحها به ، قالوا : لا ندخل في إراقة دم هذا الرجل الصالح ، قالوا له : طلبك ليقتلك ، فاذهب حيث شئت ، ونحن نكون فداءك. فقال : لا والله ، إني سألت ربي الشهادة ، وقد رزقنيها ، والله لا برحت. وروي عن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي». وذلك أن الله أمر نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت ، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات. ففعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فعلم اليهود صدقه ، فأحجموا عن تمنيه فرقا من الله.

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) : هذا من المعجزات ، لأنه إخبار بالغيب ، ونظيره من الإخبار بالمغيب قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (١) ، وظاهره أن من ادّعى أن الجنة خالصة له دون الناس ممن اندرج تحت الخطاب في قوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) ، لا يمكن أن يتمنى الموت أبدا ، ولذلك كان حرف النفي هنا لن الذي قد ادّعى فيه أنه يقتضي النفي على التأبيد ، فيكون قوله : أبدا ، على زعم من ادعى ذلك للتوكيد. وأما من ادعى أنه بمعنى لا ، فيكون أبدا إذ ذاك مفيدا لاستغراق الأزمان. ويعني بالأبد هنا : ما يستقبل من زمان أعمارهم.

وفي المنتخب ما نصه : وإنما قال هنا : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) ، وفي الجمعة (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) (٢) ، لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك ، لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ، لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، ولن أبلغ في النفي من لا ، فجعلها لنفي الأعظم. انتهى كلامه. قال المهدوي في (كتاب التحصيل) من تأليفه : وهذه المعجزة إنما كانت على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ارتفعت بوفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ونظير ذلك رجل يقول لقوم حدثهم بحديث : دلالة صدقي ، أن أحرّك يدي ولا يقدر أحد منكم أن يحرّك يده ، فيفعل ذلك ، فيكون دليلا على صدقه ، ولا يبطل دلالته أن حركوا أيديهم بعد ذلك. انتهى كلامه ، وقد قاله غيره من المفسرين.

قال ابن عطية : والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت ، إنما كانت أياما كثيرة عند نزول الآية ، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة ، انتهى

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤.

(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ٧.

٤٩٩

كلامه. وكلا القولين ، أعني قول المهدوي وابن عطية ، مخالف لظاهر القرآن ، لأن أبدأ ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم ، كما بيناه. وهل امتناعهم من تمني الموت ، كان لعلمهم أن كل نبي عرض على قومه أمرا وتوعدهم عليه بالهلاك فردوه تكذيبا له ، فإن ما توعدهم به واقع لا محالة؟ أو لعلمهم بصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه لا يقول على الله إلا الحق؟ أو لصرف الله إياهم عن ذلك ، كما قيل في عدم معارضة القرآن بالصرفة؟ أقوال ثلاثة. والظاهر أن ذلك معلل (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). والذي قدمته أيديهم : تكذيبهم الأنبياء ، وقتلهم إياهم ، وقولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (١) ، وقولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) (٢) ، وقولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) (٣) ، واعتداؤهم في السبت ، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم. وهذا التمني الذي طلب منهم ، ونفي عنهم ، لم يقع أصلا منهم ، إذ لو وقع لنقل ، ولتوفرت دواعي المخالفين للإسلام على نقله.

وقد تقدّمت الأقوال في تفسير التمني ، والظاهر أنه لا يعني به هنا العمل القلبي ، لأنه لا يطلع عليه ، فلا يتحدى به ، وإنما عنى به القول اللساني كقولك : ليت الأمر يكون. ألا ترى أنه يقال لقائل ذلك : تمني؟ وتسمى ليت كلمة تمنّ ، ولم ينقل أيضا أنهم قالوا : تمنينا ذلك بقلوبنا ، ولا جائز أن يكون امتناعهم من الإخبار أنهم تمنوا بقلوبهم ، كونهم لا يصدّقون في ذلك ، لأنهم قد قاولوا المسلمين بأشياء لا يصدقونهم فيها ، من الافتراء على الله ، وتحريف كتابه ، وغير ذلك. وقال الماتريدي ما ملخصه : أن المؤمن يقول : إن الجنة له ، ومع ذلك ليس يتمنى الموت. وأجاب : بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند الله من ادعاء بنوّة ومحبة من الله لهم ما جعلته اليهود ، لأن جميع المؤمنين ، غير الأنبياء ، لا يزول عنهم خوف الخاتمة. والخاطئ منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه. فلذلك لم يتمن المؤمنون الموت. ولذلك كان المبشرون بالجنة يتمنونه. وذكروا في ما من قوله : (بِما قَدَّمَتْ) ، أنها تكون مصدرية ، والظاهر أنها موصول ، والعائد محذوف ، وهي كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة. ونسب التقديم لليد مجازا ، والمعنى بما قدّموه ، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفا في الخير والشر. وكثر هذا الاستعمال في القرآن : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (٤) ، (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) (٥) ، (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٦). وقيل :

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٥٣.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٨.

(٣) سورة الماء : ٥ / ٢٤.

(٤) سورة الحج : ٢٢ / ١٠.

(٥) سورة الأنفال : ٨ / ٥١.

(٦) سورة الشورى : ٤٢ / ٣٠.

٥٠٠