البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

المريد إقامة المواصلات وإدامة التوسل بفنون القربات ، واثقا بأن ما تقدمه من صدق المجاهدات ستزكو ثمرته في آخر الحالات ، وأنشدوا :

سابق إلى الخير وبادر به

فإنما خلفك ما تعلم

وقدم الخير فكل امرئ

على الذي قدمه يقدم

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) : سبب نزولها اختصام نصارى نجران ويهود المدينة ، وتناظرهم بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقالت اليهود : (لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) ، وقالت النصارى : (لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) ، وكفروا بالتوراة وموسى ، قاله ابن عباس. والضمير في وقالوا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولفهم في القول ، لن يدخل الجنة ، لأن القول صدر من الجميع ، باعتبار أن كل فريق منهما قال ذلك ، لا أن كل فرد فرد قال ذلك حاكما على أن حصر دخول الجنة على كل فرد فرد من اليهود والنصارى ، ولذلك جاء في العطف بأو التي هي للتفصيل والتنويع ، وأوضح ذلك العلم بمعاداة الفريقين ، وتضليل بعضهم بعضا ، فامتنع أن يحكم كل فريق على الآخر بدخول الجنة ، ونظيره في لف الضمير ، وفي كون أو للتفصيل قوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) ، إذ معلوم أن اليهودي لا يأمر بالنصرانية ، ولا النصراني يأمر باليهودية ، ولما كان دخول الجنة متأخرا ، جاء النفي بلن المخلصة للاستقبال ، ومن فاعلة بيدخل ، وهو من الاستثناء المفرّغ ، والمعنى : لن يدخل الجنة أحد إلا من. ويجوز أن تكون على مذهب الفراء بدلا ، أو يكون منصوبا على الاستثناء ، إذ يجيز أن يراعى ذلك المحذوف ، ويجعله هو الفاعل ، ويحذفه ، وهو لو كان ملفوظا به لجاز البدل والنصب على الاستثناء ، فكذلك إذا كان محذوفا وحمل أولا على لفظ من ، فأفرد الضمير في كان ، ثم حمل على المعنى ، فجمع في خبر كان فقال : (هُوداً أَوْ نَصارى). وهود : جمع هائد ، كعائد وعود. وتقدم مفرد النصارى ما هو أنصران أم نصري. وفي جواز مثل هذين الحملين خلاف ، أعني أن يكون الخبر غير فعل ، بل صفة يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء نحو : من كان قائمين الزيدون ، ومن كان قائمين الزيدان. فمذهب الكوفيين وكثير من البصريين جواز ذلك. وذهب قوم إلى المنع ، وإليه ذهب أبو العباس ، وهم محجوجون بثبوت ذلك في كلام العرب كهذه الآية ، فإن هودا في الأظهر جمع هائد ، وهو من الصفات التي يفصل بينها وبين مؤنثها بالتاء ، وكقول الشاعر :

وأيقظ من كان منكم نياما

٥٦١

فنيام : جمع نائم ، وهو من الصفات التي يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء ، وقدم هودا على نصارى لتقدمها في الزمان. وقرأ أبي : إلا من كان يهوديا أو نصرانيا ، فحمل الاسم والخبر معا على اللفظ ، وهو الإفراد والتذكير.

(تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) : جملة من مبتدأ وخبر معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم. وتلك يشار بها إلى الواحدة المفردة ، وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث ، فحمله الزمخشري على الجمع قال : أشير بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردّوهم كفارا ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم ، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم. انتهى كلامه. وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر ، لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء ، فقد انفصلت وكملت واستقلت في النزول ، فيبعد أن يشار إليها. وأما ما ذهب إليه في الوجه الثاني ففيه مجاز الحذف ، وفيه قلب الوضع ، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ ، وأمانيهم خبر. فقلب هو الوضع ، إذ قال : إن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه. وفيه أنه متى كان الخبر مشبها به المبتدأ ، فلا يجوز تقديمه ، مثل : زيد زهير ، نص على ذلك النحويون. فإن تقدم ما هو أصل في أن يشبه به ، كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة ، إذ جعل الفرع أصلا والأصل فرعا كقولك : الأسد زيد شجاعة ، والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) ، أي تلك المقالة أمانيهم ، أي ليس ذلك عن تحقيق ولا دليل على من كتاب الله ولا من أخبار من رسول ، وإنما ذلك على سبيل التمني. وإن كانوا هم حازمين بمقالتهم ، لكنها لما لم تكن عن برهان ، كانت أماني ، والتمني يقع بالجائز والممتنع. فهذا من الممتنع ، ولذلك أتى بلفظ الأماني ، ولم يأت بلفظ مرجوّاتهم ، لأن الرجاء يتعلق بالجائز ، تقول : ليتني طائر ، ولا يجوز ، لعلني طائر ، وإنما أفرد المبتدأ لفظا ، لأنه كناية عن المقالة ، والمقالة مصدر يصلح للقليل والكثير ، فأريد بها هنا الكثير باعتبار القائلين ، ولذلك جمع الخير ، فطابق من حيث المعنى في الجمعية. وقد تقدّم شرح الأماني في قوله : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) (١) ، فيحتمل أن يكون المعنى : تلك أكاذيبهم وأباطيلهم ، أو تلك مختاراتهم وشهواتهم ، أو تلك تلاواتهم.

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : لما تقدم منهم الدعوى بأنه لن يدخل الجنة إلا من ذكروا ، طولبوا بالدليل على صحة دعواهم. وفي هذا دليل على أن من ادعى نفيا أو

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧٨.

٥٦٢

إثباتا ، فلا بد له من الدليل. وتدل الآية على بطلان التقليد ، وهو قبول الشيء بغير دليل. قال الزمخشري : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ، وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل. إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم ، أي أوضحوا دعوتكم. وظاهر الآية أن متعلق الصدق هو دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة. وقيل : صادقين في إيمانكم. وقيل : في أمانيكم. وقيل معنى صادقين : صالحين كما زعمتم ، وكل ما أضيف إلى الصلاح والخير أضيف إلى الصدق. تقول : رجل صدق ، وصديق صدق ، ودالة صدق ، ومنه : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) (١). وقيل : معناه إن كنتم موقنين بما أخذ الله ميثاقه وعهوده ، ومنه : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).

(بَلى) : رد لقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) ، والكلام فيها كالكلام الذي تقدّم في قوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) (٢) ، وقبل ذلك : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (٣) ، وكلاهما فيه نفي وإيجاب ، إلا أن ذلك استثناء مفرّغ من الأزمان ، وهذا استثناء مفرّغ من الفاعلين. وأبعد من ذهب إلى أن بلى رد لما تضمن قوله : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) من النفي ، لأن معناه لا برهان لكم على صدق دعواكم ، فأثبت ببلى أن لمن أسلم وجهه برهانا ، وهذا ينبو عنه اللفظ.

(مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) : الكلام في : من ، كالكلام في : من ، من قوله : (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) ، والأظهر أنها مبتدأة ، وجوّزوا أن تكون فاعلة ، أي يدخلها من أسلم ، وإذا كانت مبتدأة ، فلا يتعين أن تكون شرطية. فالجملة بعدها هي الخبر ، وجواب الشرط (فَلَهُ أَجْرُهُ). وإذا كانت موصولة ، فالجملة بعدها صلة لا موضع لها من الإعراب ، والخبر هو ما دخلت عليه الفاء من الجملة الابتدائية ، وإذا كانت من فاعلة فقوله : (فَلَهُ أَجْرُهُ) جملة اسمية معطوفة على ذلك الفعل الرافع لمن. والوجه هنا يحتمل أن يراد به الجارحة خص بالذكر ، لأنه أشرف الأعضاء ، أو لأنه فيه أكثر الحواس ، أو لأنه عبر به عن الذات ومنه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٤) ، ويحتمل أن يراد به الجهة ، والمعنى : أخلص طريقته في الدين لله. وقال مقاتل : أخلص دينه. وقال ابن عباس : أخلص عمله لله. وقيل : قصده. وقيل : فوّض أمره إلى الله تعالى. وقيل : خضع وتواضع. وهذه أقوال متقاربة في المعنى ، وإنما يقولها السلف على ضرب المثال ، لا على أنها متعينة يخالف بعضها بعضا. وهذا

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٨١.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٨٢.

(٤) سورة القصص : ٢٨ / ٨٨.

٥٦٣

نظير ما يقوله النحوي : الفاعل زيد من قولك ، قام زيد ، وآخر يقول : جعفر من خرج جعفر ، وآخر يقول : عمرو من انطلق عمرو ، وهذا أحسن ما يظن بالسلف رحمهم‌الله ، فيما جاء عنهم من هذا النوع.

(وَهُوَ مُحْسِنٌ) : جملة حالية ، وهي مؤكدة من حيث المعنى ، لأن من أسلم وجهه لله فهو محسن. وقد قيد الزمخشري الإحسان بالعمل ؛ وجعل معنى قوله : (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) : من أخلص نفسه له ، لا يشرك به غيره ، وهو محسن في عمله ، فصارت الحال هنا مبينة ، إذ من لا يشرك قسمان : محسن في عمله ، وغير محسن ، وذلك منه جنوح إلى مذهبه الاعتزالي من أن العمل لا بد منه ، وأنه بهما يستوجب دخول الجنة ، ولذلك فسر قوله : (فَلَهُ أَجْرُهُ) الذي يستوجبه ، وقد فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقيقة الإحسان الشرعي حين سئل عن ماهيته فقال : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وقد فسر هنا الإحسان بالإخلاص ، وفسر بالإيمان ، وفسر بالقيام بالأوامر ، والانتهاء عن المناهي.

(فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) : العامل في عند هو العامل في له ، أي فأجره مستقر له عند ربه ، ولما أحال أجره على الله أضاف الظرف إلى لفظة ربه ، أي الناظر في مصالحة ومربيه ومدبر أحواله ، ليكون ذلك أطمع له ، فلذلك أتى بصفة الرب ، ولم يأت بالضمير العائد على الله في الجملة قبله ، ولا بالظاهر بلفظ الله. فلم يأت فله أجره عنده ، لما ذكرناه ، ولقلق الإتيان بهذه الضمائر ، ولم يأت فله أجره عند الله ، لما ذكرنا من المعنى الذي دل عليه لفظ الرب. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : جمع الضمير في قوله : (عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) حملا على معنى من ، وحمل أوّلا على اللفظ في قوله : (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، وهذا هو الأفصح ، وهو أن يبدأ أولا بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى. وقد تقدم تفسير هذه الجملة. وقراءة ابن محيصن : فلا خوف ، برفع الفاء من غير تنوين ، باختلاف عنه. وقراءة الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب وغيرهم : فلا خوف ، بالفتح من غير تنوين ، وتوجيه ذلك ، فأغنى عن إعادته هنا.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) ، قيل : المراد عامة اليهود وعامة النصارى ، فهذا من الإخبار عن الأمم السالفة ، وتكون أل للجنس ، ويكون في ذلك تقريع لمن بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفريقين ، وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ كذبوا بالرسل وبالكتب قبله. وقيل : المراد يهود المدينة ونصارى نجران ، حيث تماروا عند الرسول وتسابوا ، وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوّة عيسى ، وأنكرت النصارى

٥٦٤

التوراة ونبوّة موسى. فتكون حكاية حال ، وأل للعهد ، أو المراد بذلك رجلان : رجل من اليهود ، يقال له نافع بن حرملة ، قال لنصارى نجران : لستم على شيء ، وقال رجل من نصارى نجران لليهود : لستم على شيء ، فيكون قد نسب ذلك للجميع ، حيث وقع من بعضهم ، كما يقال : قتل بنو تميم فلانا ، وإنما قتله واحد منهم ، وذلك على سبيل المجاز والتوسع ، ونسبة الحكم الصادر من الواحد إلى الجمع. وهو طريق معروف عند العرب في كلامها ، نثرها ونظمها. ولما جمعهم في المقالة الأولى ، وهي : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ، فصلهم في هذه الآية ، وبين قول كل فريق في الآخر. وعلى شيء : في موضع خبر ليس ، ويحتمل أن يكون المعنى : على شيء يعتد به في الدين ، فيكون من باب حذف الصفة ، نظير قوله :

لقد وقعت على لحم

أي لحم منيع ، وأنه ليس من أهلك ، أي من أهلك الناجين ، لأنه معلوم أن كلا منهم على شيء ، أو يكون ذلك نفيا على سبيل المبالغة العظيمة ، إذ جعل ما هما عليه ، وإن كان شيئا كلا شيء. هذا والشيء يطلق عند بعضهم على المعدوم والمستحيل ، فإذا نفى إطلاق اسم الشيء على ما هم عليه ، كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به ، وصار كقولهم أقل من لا شيء.

(وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) : جملة حالية ، أي وهم عالمون بما في كتبهم ، تالون له. وهذا نعي عليهم في مقالتهم تلك ، إذ الكتاب ناطق بخلاف ما يقولونه ، شاهدة توراتهم ببشارة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وصحة نبوّتهما. وإنجيلهم شاهد بصحة نبوة موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ، إذ كتب الله يصدق بعضها بعضا. وفي هذا تنبيه لأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن من كان عالما بالقرآن ، يكون واقفا عنده ، عاملا بما فيه ، قائلا بما تضمنه ، لا أن يخالف قوله ما هو شاهد على مخالفته منه ، فيكون في ذلك كاليهود والنصارى. والكتاب هنا قيل : هو التوراة والإنجيل. وقيل : التوراة ، لأن النصارى تمتثلها.

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) : الذين لا يعلمون : هم مشركو العرب في قول الجمهور. وقيل : مشركو قريش. وقال عطاء : هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى. وقال قوم : المراد اليهود ، وكأنه أعيد قولهم : أي قال اليهود مثل قول النصارى ، ونفى عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فجعلوا لا يعلمون. والظاهر القول الأول. وقال الزمخشري : أي

٥٦٥

مثل ذلك الذي سمعت على ذلك المنهاج. قال : الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب ، كعبدة الأصنام ، والمعطلة ونحوهم قالوا : لكل أهل دين ليسوا على شيء ، وهو توبيخ عظيم لهم ، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم. والظاهر أن الكاف من كذلك في محل نصب ، إما على أنها نعت لمصدر محذوف تقديره : قولا مثل ذلك القول ، (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، أو على أنه منصوب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه قال ، التقدير : مثل ذلك القول قاله ، أي قال القول الذين لا يعلمون ، وهذا على رأي سيبويه. وعلى الوجهين تنتصب الكاف بقال ، وانتصب على هذين التقديرين مثل قولهم على البدل من موضع الكاف. وقيل : ينتصب مثل قولهم على أنه مفعول بيعلمون ، أي الذين لا يعلمون مثل مقالة اليهود والنصارى ، قالوا : مثل مقالتهم ، أي توافق الذين لا يعلمون مقالات النصارى ، واليهود مع اليهود والنصارى في ذلك ، أن من جهل قول اليهود والنصارى وافقهم في مثل ذلك القول. وجوّزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء ، والجملة بعده خبر ، والعائد محذوف تقديره : مثل ذلك قاله الذين. ولا يجوز لقال أن ينصب مثل قولهم نصب المفعول ، لأن قال قد أخذ مفعوله ، وهو الضمير المحذوف العائد على المبتدأ ، فينتصب إذ ذاك مثل قولهم على أنه صفة لمصدر محذوف ، أو على أنه مفعول ليعلمون ، أي مثل قولهم يعني اليهود والنصارى. قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى. انتهى ما قالوه في هذا الوجه ، وهو ضعيف لاستعمال الكاف اسما ، وذلك عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، مع أنه قد تؤوّل ما ورد من ذلك وأجاز ذلك ، أعني أن تكون اسما في الكلام ، ويحذف الضمير العائد على المبتدأ المنصوب بالفعل ، الذي لو قدر خلوه من ذلك الضمير لتسلط على الظاهر قبله فنصبه ، وذلك نحو : زيد ضربته. نص أصحابنا على أن هذا الضمير لا يجوز حذفه إلا في الشعر ، وأنشدوا :

وخالد يحمد ساداتنا

بالحق لا يحمد بالباطل

أي : يحمده ساداتنا. وعن بعض الكوفيين في جواز حذف نحو : هذا الضمير تفصيل مذكور في النحو.

(فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) : أي يفصل ، والفصل : الحكم ، أو يريهم من يدخل الجنة عيانا ، ومن يدخل النار عيانا ، قاله الزجاج ، أو يكذبهم جميعا ويدخلهم النار ، أو يثيب من كان على حق ، ويعذب من كان على باطل. وكلها أقوال متقاربة. والظرفان والجار الأول معمولان ليحكم ، وفيه متعلق بيختلفون.

وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة أشياء منها : افتتاحها بحسن النداء ، وإثبات وصف

٥٦٦

الإيمان لهم ، وتنبيههم على تعلم أدب من آداب الشريعة ، بأن نهوا عن قول لفظ لإيهام ما إلى لفظ أنص في المقصود ، وأصرح في المطلوب. ثم ذكر ما للمخالف من العذاب الذي يذله ويهينه. ثم نبه على أن هذا الذي أمرتم به هو خير ، وأن الكفار لا يودّون أن ينزل عليكم شيء من الخير. ثم ذكر أن ذلك ليس راجعا لشهواتهم ، ولا لتمنيهم ، بل ذلك أمر إلهي يختص به من يشاء ، وأنه تعالى هو صاحب الفضل الواسع. ولما كان صدر الآية فيه انتقال من لفظ إلى لفظ ، وأن الثاني صار أنص في المقصود بين أن ما يفعله الله تعالى من النسخ ، فإنما ذلك لحكمة منه ، فيأتي بأفضل مما نسخ أو بما ماثله. وإن من كان قادرا على كل شيء ، فله التصرّف بما يريد من نسخ وغيره. ونبه المخاطب على علمه بقدرة الله تعالى ، وبملكه الشامل لسائر المخلوقات ، وإنما نحن ما لنا من دونه من مانع يمنعنا منه. فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ، ثم أنكر على من تعلقت إرادته بأن يسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سؤالا غير جائز ، كسؤالات قوم موسى له. ثم ذكر أن من آثر الكفر على الإيمان ، فقد خرج عن قصد المنهج. ثم ذكر أن الكثير من أهل الكتاب يودون ارتدادكم ، وأن الحامل لهم على ذلك الحسد. ثم أمروا بالموادعة والصفح ، وغيا ذلك بأمر الله ، فإذا أتى أمر الله ارتفع الأمر بالعفو والصفح.

ثم اختتم الآية بذكر قدره الله تعالى على كل شيء ، لأن قبله وعدا بتغيير حال ، فناسب ذلك ذكر القدرة. ثم أمرهم بما يقطع عنهم تلفت أقوال الكفار ، وهي الصلاة والزكاة ، وأخبر أن ما قدمتموه من الخير فإنه لا يضيع عند الله ، بل تجدوه مذخورا لكم. ثم اختتم ذلك حيث نبه على أن ما عمل من الخير هو عند الله ، بذكر صفة البصر التي تدل على مشاهدة الأشياء ومعاينتها. ثم نعى على اليهود والنصارى من دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة ، وأن ذلك أكذوبة من أكاذيبهم المعروفة ، وأنهم طولبوا بإقامة البرهان على دعوى الاختصاص. ثم ذكر أن من انقاد ظاهرا وباطنا لله تعالى فله أجره وهو آمن ، فلا يخاف مما يأتي ولا يحزن على ما مضى. ثم أخذ يذكر مقالات النصارى واليهود بعضهم في بعض ، وأنها مقالة من أظهر التبرّؤ مما جاءت به الرسل وأفصحت عنه الكتب المنزلة ، وذلك كله على جهة العناد ، لأنهم تالون للكتب عالمون بما انطوت عليه ، فصاروا في الحياة الدنيا على مثل حالهم في الآخرة. كما أخبر تعالى عنهم بقوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (١). ثم ذكر أن مقالتهم تلك ، وإن كانوا عالمين ،

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢٥.

٥٦٧

فهي مماثلة لمقالة من لا يعلم ، ثم ختم ذلك بالوعيد الذي يتضمن الحكم وفصل الباطل من الحق ، وأنه تعالى هو المتولي ذلك ليجازيهم على كفرهم.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)

المنع : الحيلولة بين المريد ومراده. ولما كان الشيء قد يمنع صيانة ، صار المنع متعارفا في المتنافس فيه ؛ قاله الراغب. وفعله : منع يمنع ، بفتح النون ، وهو القياس ، لأن لام الفعل أحد حروف الحلق. المساجد : معروفة ، وسيأتي الكلام على المفرد أول ما يذكر في القرآن ، إن شاء الله. السعي : المشي بسرعة ، وهو دون العدو ، ثم يطلق على الطلب ، كما قال امرؤ القيس :

٥٦٨

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل

وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

فسره الشراح بالطلب.

الخراب : ضد العمارة ، وهو مصدر خرب الشيء يخرب خرابا ، ويوصف به فيقال : منزل خراب ، واسم الفاعل : خرب ، كما قال أبو تمام :

ما ربع مية معمورا يطيف به

غيلان أهي ربا من ربعها الخرب

والخرب : ذكر الحبارى ، يجمع على خربان. المشرق والمغرب : مكان الشروق والغروب ، وهما من الألفاظ التي جاءت على مفعل ، بكسر العين شذوذا ، والقياس الفتح ، لأن كل فعل ثلاثي لم تكسر عين مضارعه ، فقياس صوغ المصدر منه ، والزمان والمكان مفعل ، بفتح العين. أين : من ظروف المكان ، وهو مبني لتضمنه في الاستفهام معنى حرفه ، وفي الشرط معنى حرفه ، وإذا كان للشرط جاز أن تزيد بعده ما ، ومما جاء فيه شرطا بغير ما قوله : أين تضرب بنا العداة تجدنا وزعم بعضهم أن أصل أين : السؤال عن الأمكنة. ثم : ظرف مكان يشار به للبعيد ، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة ، وهو لازم للظرفية ، لم يتصرف فيه بغير من يقول : من ثم كان كذا. وقد وهم من أعربها مفعولا به في قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) (١). بل : مفعول رأيت محذوف. واسع : اسم فاعل من وسع يسع سعة ووسعا ، ومقابلة ضاق ، إلا أن وسع يأتي متعدّيا : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٢) ، (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (٣). الولد : معروف ، وهو فعل بمعنى مفعول ، كالقبض والنقض ، ولا ينقاس فعل بمعنى مفعول ، وفعله : ولد يلد ولادة ووليدية ، وهذا المصدر الثاني غريب. القنوت : القيام ، ومنه أفضل الصلاة طول القنوت ، أي القيام والطاعة والعبادة والدعاء. قنت شهرا : دعا. البديع : النادر الغريب الشكل. بدع يبدع بداعة فهو بديع ، إذا كان نادرا ، غريب الصورة في الحسن ، وهو راجع لمعنى الابتداع ، وهو الاختراع والإنشاء. قضى : قدّر ، ويجيء بمعنى أمضى. قضى يقضي قضاء. قال :

__________________

(١) سورة الإنسان : ٧٦ / ٢٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٥.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٦.

٥٦٩

سأغسل عني العار بالسيف جالبا

عليّ قضاء الله ما كان جالبا

قال الأزهري : قضى على وجوه ، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه ، قال أبو ذؤيب :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السوابغ تبّع

وقال الشماخ في عمر :

قضيت أمورا ثم غادرت بعدها

بوائق في أكمامها لم تفتق

فيكون بمعنى خلق : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (١) ، وأعلم : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) (٢) ، وأمر : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٣) ، وألزم ، ومنه قضى القاضي ، ووفى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) (٤) ، وأراد : (إِذا قَضى أَمْراً) (٥). لو لا : حرف تحضيض ، وجاء ذلك في القرآن كثيرا ، وحكمها حكم هلا ، وتأتي أيضا حرف امتناع لوجود ، وأحكامها بمعنييها مذكورة في كتب النحو ، ومنها أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا ، وتلك لا يليها إلا الاسم ، على خلاف في إعرابه. الجحيم : إحدى طبقات النار ، أعاذنا الله منها. وقال الفراء : الجحيم : النار على النار. وقال أبو عبيد : النار المستحكمة المتلظية. وقال الزجاج : النار الشديدة الوقود ، يقال جحمت النار تجحم : اشتدّ وقودها. وهذه كلها أقوال يقرب بعضها من بعض. وقال ابن فارس : الجاحم : المكان الشديد الحر ، ويقال لعين الأسد : جحمة ، لشدة توقدها ، ويقال لشدة الحر : جاحم ، قال :

والحرب لا يبقى لجا

حمها التخيل والمراح

الرضا : معروف ، ويقابله الغضب ، وفعله رضي يرضى رضا بالقصر ، ورضاء بالمد ، ورضوانا ، فياؤه منقلبة عن واو يدل على ذلك الرضوان ، والأكثر تعديته بعن وقد جاء تعديته بعلى ، قال :

إذا رضيت عليّ بنو قشير

وخرج على أن يكون على بمعنى عن ، أو على تضمين رضي معنى عطف ، فعدى بعلى كما تعدى عطف. الملة : الطريقة ، وكثر استعمالها بمعنى الشريعة ، فقيل : الاشتقاق

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ١٢.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٤.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٣.

(٤) سورة القصص : ٢٨ / ٢٩.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ٤٧.

٥٧٠

من أمللت ، لأن الشريعة تبتني على متلو ومسموع. وقيل : من قولهم طريق ممل ، أي قد أثر المشي فيه. الخسران والخسارة : هو النقص من رأس المال في التجارة ، هذا أصله ، ثم يستعمل في النقص مطلقا ، وفعله متعد ، كما أن مقابله متعد ، وهو الربح. تقول : خسر درهما ، كما تقول : ربح درهما. وقال : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) : نزلت في نطوس بن اسبيسيانوس الرومي ، الذي خرب بيت المقدس ، ولم يزل خرابا إلى أن عمر في زمان عمر بن الخطاب. وقيل في مشركي العرب : منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام ، قاله عطاء ، عن ابن عباس ، أو في النصارى ، كانوا يودون خراب بيت المقدس ، ويطرحون به الأقذار. وروي عن ابن عباس ، وقال قتادة والسدي ، في الروم الذين أعانوا بخت نصر على تخريب بيت المقدس : حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكريا ، على نبينا وعليه‌السلام ، قال أبو بكر الرازي : لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بخت نصر كان قبل مولد المسيح عليه‌السلام بدهر طويل. وقيل في بخت نصر ، قاله قتادة ، وقال ابن زيد وأبو مسلم : المراد كفار قريش حين صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسجد الحرام. وعلى اختلاف هذه الأقوال يجيء الاختلاف في تفسير المانع والمساجد.

وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد ، والعموم وإن كان سبب نزوله خاصا ، فالعبرة به لا بخصوص السبب.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه جرى ذكر النصارى في قوله : (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) (١) ، وجرى ذكر المشركين في قوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) (٢) ، وفي أي نزلت منهم كان ذلك مناسبا لذكرها تلي ما قبلها. ومن : استفهام ، وهو مرفوع بالابتداء. وأظلم : أفعل تفضيل ، وهو خبر عن من. ولا يراد بالاستفهام هنا حقيقته ، وإنما هو بمعنى النفي ، كما قال : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣)؟ أي ما يهلك. ومعنى هذا : لا أحد أظلم ممن منع. وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن ، وهذا أول موارده ، وقال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (٤).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١١٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١١٣.

(٣) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٣٥.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٢١ و ٩٣.

٥٧١

وقال : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) (١)؟ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) (٢)؟ إلى غير ذلك من الآيات. ولما كان هذا الاستفهام معناه النفي كان خبرا ، ولما كان خبرا توهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها سبق إلى ذهنه التناقض فيها ، لأنه قال المتأول في هذا : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، وقال في أخرى : لا أحد أظلم ممن افترى ، وفي أخرى : لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها. فتأول ذلك على أن خص كل واحد بمعنى صلته ، فكأنه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله ، وكذلك باقيها. فإذا تخصصت بالصلات زال عنده التناقض. وقال غيره : التخصيص يكون بالنسبة إلى السبق ، لما لم يسبق أحد إلى مثله ، حكم عليها بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم ، سالكا طريقتهم في ذلك ، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية ، أو الافترائية. وهذا كله بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي ، وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى. وإنما هذا نفي للأظلمية ، ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية ، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق. لو قلت : ما في الدار رجل ظريف ، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل ، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يكن تناقضا ، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية. وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية. وصار المعنى : لا أحد أظلم ممن منع ، وممن افترى ، وممن ذكر. ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية. ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر. كما أنك إذا قلت : لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد ، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر ، بل نفى أن يكون أحد أفقه منهم. لا يقال : إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وسعى في خرابها ، ولم يفتر على الله الكذب ، أقلّ ظلما ممن جمع بينهما ، فلا يكون مساويا في الأظلمية ، لأن هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار ، فهم متساوون في الأظلمية ، وإن اختلفت طرق الأظلمية. فكلها صائرة إلى الكفر ، فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به ، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم ، وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة ، فنقول : الكافر أظلم من المؤمن ، ونقول : لا أحد أظلم من الكافر. ومعناه : أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره. ومن في قوله : ممن منع ، موصولة بمعنى الذي. وجوّز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة. أن يذكر : يحتمل أن يكون مفعولا

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٧.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٥٧.

٥٧٢

ثانيا لمنع ، أو مفعولا من أجله ، فيتعين حذف مضاف ، أي دخول مساجد الله ، أو ما أشبه ذلك ، أو بدلا من مساجد بدل اشتمال ، أي ذكر اسم الله فيها ، أو مفعولا على إسقاط حرف الجر ، أي من أن يذكر. فلما حذفت من انتصب على رأي ، أو بقي مجرورا على رأي. وكنى بذكر اسم الله عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقرّبات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية ، من تلاوة كتبه ، وحركات الجسم من القيام والركوع والسجود والقعود الذي تعبد به ، أو إنما ذكر تعلق المنع بذكر اسم الله تنبيها على أنهم منعوا من أيسر الأشياء ، وهو التلفظ باسم الله. فمنعهم لما سواه أولى. وحذف الفاعل هنا اختصارا ، لأنهم عالم لا يحصون. وجاء تقديم المجرور على المفعول الذي لم يسم فاعله ، لأن المحدث عنه قبل هي مساجد الله ، وهي في اللفظ مذكورة قبل اسم الله ، فناسب تقديم المجرور لذلك. وأضيفت المساجد لله على سبيل التشريف ، كما قال تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) (١) ، وخصّ بلفظ المسجد ، وإن كان الذي يوقع فيه أفعالا كثيرة من القيام والركوع والقعود والعكوف. وكل هذا متعبد به ، ولم يقل مقام ولا مركع ولا مقعد ولا معكف ، لأن السجود أعظم الهيئات الدالة على الخضوع والخشوع والطواعية التامة. ألا ترى إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»؟ وهي حالة يلقي فيها الإنسان نفسه للانقياد التام ، ويباشر بأفضل ما فيه وأعلاه ، وهو الوجه ، التراب الذي هو موطىء قدميه.

قال ابن عطية : وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة ، أو خرّب مدينة إسلام ، لأنها مساجد ، وإن لم تكن موقوفة ، إذ الأرض كلها مسجد. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف قيل مساجد الله؟ وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس ، أو المسجد الحرام؟ قلت : لا بأس أن يجيء الحكم عامّا ، وإن كان السبب خاصا ، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا ، ومن أظلم ممن آذى الصالحين؟ وكما قال الله عزوجل : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (٢) ، والمنزول فيه الأخنس بن شريق. انتهى كلامه. وقال غيره : جمعت لأنها قبلة المساجد كلها ، يعني الكعبة للمسلمين ، وبيت المقدس لغيره. (وَسَعى فِي خَرابِها) : إما حقيقة ، كتخريب بيت المقدس ، أو مجازا بانقطاع الذكر فيها ومنع قاصديها منها ، إذ ذلك يؤول بها إلى الخراب. فجعل المنع

__________________

(١) سورة الجن : ٧٢ / ١٨.

(٢) سورة الهمزة : ١٠٤ / ١.

٥٧٣

خرابا ، كما جعل التعاهد بالذكر والصلاة عمارة ، وذلك مجاز. وقال المروزي : قال ومن أظلم ليعلم أن قبح الاعتقاد يورث تخريب المساجد ، كما أن حسن الاعتقاد يورث عمارة المساجد.

(أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) : هذه جملة خبرية قالوا تدلّ على ما يقع في المستقبل ، وذلك من معجز القرآن ، إذ هو من الإخبار بالغيب. وفيها بشارة للمؤمنين بعلوّ كلمة الإسلام وقهر من عاداه. إلا خائفين : نصب على الحال ، وهو استثناء مفرّغ من الأحوال. وقرأ أبي : إلا خيفا ، وهو جمع خائف ، كنائم ونوّم ، ولم يجعلها فاصلة ، فلذلك جمعت جمع التكسير. وإبدال الواو ياء ، إذ الأصل خوّف ، وذلك جائز كقولهم ، في صوم صيم ، وخوفهم : هو ما يلحقهم من الصغار والذل والجزية ، أو من أن يبطش بهم المؤمنون ، أو في المحاكمة ، وهي تتضمن الخوف ، أو ضربا موجعا ، لأن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين من الضرب ، أقوال. والظاهر أن المعنى : أولئك ما ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا وهم خائفون من الله وجلون من عقابه. فكيف لهم أن يلتبسوا بمنعها من ذكر الله والسعي في تخريبها ، إذ هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)؟ وما هذه سبيله ينبغي أن يعظم بذكر الله فيه ، ويسعى في عمارته ، ولا يدخله الإنسان إلا وجلا خائفا ، إذ هو بيت الله أمر بالمثول فيه بين يديه للعبادة. ونظير الآية أن يقول : ومن أظلم ممن قتل وليا لله تعالى؟ ما كان له أن يلقاه إلا معظما له مكرّما أي هذه حالة من يلقى وليا لله ، لا أن يباشره بالقتل. ففي ذلك تقبيح عظيم على ما وقع منه ، إذ كان ينبغي أن يقع ضده ، وهو التبجيل والتعظيم. ولما لم يقع هذا المعنى الذي ذكرناه للمفسرين ، اختلفوا في الآية على تلك الأقوال التي ذكرناها عنهم. ولو أريد ما ذكروه ، لكان اللفظ : أولئك ما يدخلونها إلا خائفين ، ولم يأت بلفظ : ما كان لهم ، الدالة على نفي الابتغاء. وقيل المعنى : ما كان لهم في حكم الله ، يعني أن الله قد حكم وكتب في اللوح المحفوظ أنه ينصر المؤمنين ويقوّيهم حتى لا يدخل المساجد الكفار إلا خائفين. قال بعض الناس : وفيها دلالة على جواز دخول الكفار المساجد على صفة الخوف ، وليس كما قال ، إذ قد ذكرنا ما دلّ عليه ظاهر الآية. وقيل في قوله : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها) : أن لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر لنا بأن نخيفهم ، وإنما ذهب إلى ذلك لأن الله تعالى قد أخبر أنهم سيدخلون بيت المقدس على سبيل القهر والغلبة بقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما

٥٧٤

دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) (١) ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن ذا السويقتين من الحبشة يهدم الكعبة حجرا حجرا. فلما رأى أن هذا يعارض الآية ، إذا جعلناها خبرا لفظا ، ومعنى حملها على الأمر ودلالتها على الأمر لنا بالإخافة لهم بعيدة جدا ، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه ، بطلت هذه الأقوال. وأما قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) ، فليس ذلك كناية عن يوم القيامة ، وسيأتي الكلام عليه في موضعه ، إن شاء الله تعالى. وقوله : (أُولئِكَ) ، حمل على معنى من في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ) ، ولا يختص الحمل فيها على اللفظ وعلى المعنى بكونها موصولة ، بل هي كذلك في سائر معانيها من الوصل والشرط والاستفهام ، وكلاهما موجود فيها في سائر معانيها في كلام العرب. أما إذا كانت موصوفة نحو : مررت بمن محسن لك ، فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها. وقد تكلمنا قبل على كونها موصوفة. وقال بعض الناس في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ) : الآية ، دليل على منع دخول الكافر المسجد ، ثم ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك ، وهي مسألة تذكر في علم الفقه ، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره على ما فهمهنا نحن من الآية.

(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) : هذا الجزاء مناسب لما صدر منهم. أما الخزي في الدنيا فهو الهوان والإذلال لهم ، وهو مناسب للوصف الأول ، لأن فيه إخمال المساجد بعدم ذكر الله وتعطيلها من ذلك ، فجوزوا على ذلك بالإذلال والهوان. وأما العذاب العظيم في الآخرة ، فهو العذاب بالنار ، وهو إتلاف لهياكلهم وصورهم ، وتخريب لها بعد تخريب (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (٢). وهو مناسب للوصف الثاني ، وهو سعيهم في تخريب المساجد ، فجوزوا على ذلك بتخريب صورهم وتمزيقها بالعذاب. ولما كان الخزي الذي يلحقهم في الدنيا لا يتفاوتون فيه حكما ، سواء فسرته بقتل أو سبي للحربي ، أو جزية للذمي ، لم يحتج إلى وصف. ولما كان العذاب متفاوتا ، أعني عذاب الكافر وعذاب المؤمن ، وصف عذاب الكافر بالعظم ليتميز من عذاب المؤمن. وقيل : الخزي هو الفتح الإسلامي ، كالقسطنطينية وعمورية ورومية ، وقيل : جزية الذمي ، قاله ابن عباس ، وقيل : طردهم عن المسجد الحرام ، وقيل : قتل المهدي إياهم إذا خرج ، قاله المروزي ، وقيل : منعهم من المساجد. قال بعض معاصرينا : إن على كل طائفة من الكفار في الدنيا خزيا. أما اليهود والنصارى ، فقتل قريظة ، وإجلاء بني النضير ، وقتل النصارى وفتح حصونهم وبلادهم ، وإجراء الجزية

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٧.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٦.

٥٧٥

عليهم ، والسيما التي التزموها ، وما شرطه عمر عليهم. وأما مشركوا العرب ، فقتل أبطالهم وأقيالهم ، وكسر أصنامهم ، وتسفيه أحلامهم ، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم ومسقط رؤوسهم ، وإلزامهم خطة الهلاك من القتل إلا أن يسلموا. وقال الفرّاء : معناه في آخر الدنيا ، وهو ما وعد الله به المسلمين من فتح الروم ، ولم يكن بعد. قال القشيري : في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ) الآية ، إشارة إلى ظلم من خرّب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات ، وهي قلوب العارفين وأوطان العبادة بالشهوات ، وهي نفوس العباد وأوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات ، وهي أرواح الواجدين وأوطان المشاهدات بالالتفات إلى القربات ، وهي أسرار الموحدين. (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) : ذل الحجاب ، وفي الآخرة عذاب لاقتناعهم بالدرجات. انتهى ، وبعضه ملخص. وهذا تفسير عجيب ينبو عنه لفظ القرآن ، وكذا أكثر ما يقوله هؤلاء القوم.

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) : قال الحسن وقتادة : أباح لهم في الابتداء أن يصلوا حيث شاءوا ، فنسخ ذلك. وقال مجاهد والضحاك : معناها إشارة إلى الكعبة ، أي حيثما كنتم من المشرق والمغرب ، فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة. فعلى هذا هي ناسخة لبيت المقدس. وقال أبو العالية وابن زيد : نزلت جوابا لمن عير من اليهود بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وقال ابن عمر : نزلت في صلاة المسافر ، حيث توجهت به دابته. وقيل : جواب لمن قال : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ قاله سعيد بن جبير. وقيل : في الصلاة على النجاشي ، حيث قالوا : لم يكن يصلي إلى قبلتنا. وقيل : فيمن اشتبهت عليه القبلة في ليلة متغيمة ، فصلوا بالتحري إلى جهات مختلفة. وقد روي ذلك في حديث عن جاب ر ، أن ذلك وقع لسرية ، وعن عامر بن ربيعة ، أن ذلك جرى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السفر ، ولو صح ذلك ، لم يعدل إلى سواه من هذه الأقوال المختلفة المضطربة. وقال النخعي : الآية عامّة ، أينما تولوا في متصرّفاتكم ومساعيكم. وقيل : نزلت حين صدّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البيت.

وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول هذه الآية ، وظاهرها التعارض ، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح ، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها. وقد صنف الواحدي في ذلك كتابا قلما يصح فيه شيء ، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح. والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو : أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها ، نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات ، ولا من ذكر الله ، إذ المشرق والمغرب لله

٥٧٦

تعالى ، فأي جهة أدّيتم فيها العبادة ، فهي لله يثيب على ذلك ، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد. والمعنى : ولله بلاد المشرق والمغرب وما بينهما. فيكون على حذف مضاف ، أو يكون المعنى : ولله المشرق والمغرب وما بينهما ، فيكون على حذف معطوف ، أو اقتصر على ذكرهما تشريفا لهما ، حيث أضيفا لله ، وإن كانت الأشياء كلها لله ، كما شرف البيت الحرام وغيره من الأماكن بالإضافة إليه تعالى. وهذا كله على تقدير أن يكون المشرق والمغرب أسمى مكان.

وذهب بعض المفسرين إلى أنهما اسما مصدر ، والمعنى أن لله تولي إشراق الشمس من مشرقها وإغرابها من مغربها ، فيكونان ، إذ ذاك ، بمعنى الشروق والغروب. ويبعد هذا القول قوله بعد : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). وأفرد المشرق والمغرب باعتبار الناحية ، أو باعتبار المصدر الواقع في الناحية. وأما الجمع فباعتبار اختلاف المغارب والمطالع كل يوم. وأما التثنية فباعتبار مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما. ومعنى التولية : الاستقبال بالوجوه. وقيل : معناها الاستدبار من قولك : وليت عن فلان إذا استدبرته ، فيكون التقدير : فأي جهة وليتم عنها واستقبلتم غيرها فثم وجه الله. وقيل : ليست في الصلاة ، بل هو خطاب للذين يخرّبون المساجد ، أي أينما تولوا هاربين عني فإني ألحظهم. ويقويه قراءة الحسن : فأينما تولوا ، جعله للغائب ، فجرى على قوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) ، وعلى قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ، فجرت الضمائر على نسق واحد. قال الزمخشري : ففي أي مكان فعلتم التولية ، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١) ، انتهى. فقيد التولية التي هي مطلقة هنا بالتولية التي هي شطر القبلة ، وهو قول حسن.

وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) مسائل موضوعها علم الفقه منها : من صلى في ظلمة مجتهدا إلى جهة ، ثم تبين أنه صلى لغير القبلة ، ومسألة من صلى على ظهر الدابة فرضا لمرض أو نفلا ، ومسألة الصلاة على الميت الغائب ، إذا قلنا نزلت في النجاشي ، وشحن كتابه بذكر هذه المسائل ، وذكر الخلاف فيها ، وبعض دلائلها وموضوعها ، كما ذكرناه هو علم الفقه. (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، هذا جواب الشرط ، وهي جملة ابتدائية ، فقيل : معناه فثمّ قبلة الله ، فيكون الوجه بمعنى الجهة ، وأضيف ذلك إلى الله حيث أمر باستقبالها ، فهي الجهة التي فيها رضا الله تعالى ، قاله

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٤.

٥٧٧

الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل. وقيل : الوجه هنا صلة ، والمعنى فثمّ الله أي علمه وحكمه. وروي عن ابن عباس ومقاتل : أو عبر عن الذات بالوجه ، كقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (١) ، (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢) ، وقيل : المعنى العمل لله ، قاله الفراء ، قال :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

رب العباد إليه الوجه والعمل

وقيل : يحتمل أن يراد بالوجه هنا : الجاه ، كما يقال : فلان وجه القوم ، أي موضع شرفهم ، ولفلان وجه عند الناس : أي جاه وشرف. والتقدير : فثمّ جلال الله وعظمته ، قاله أبو منصور في المقنع. وحيث جاء الوجه مضافا إلى الله تعالى ، فله محمل في لسان العرب ، إذ هو لفظ يطلق على معان ، ويستحيل أن يحمل على العضو ، وإن كان ذلك أشهر فيه. وقد ذهب بعض الناس إلى أن تلك صفة ثابتة لله بالسمع ، زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى. وضعف أبو العالية وغيره هذا القول ، لأن فيه الجزم بإثبات صفة لله تعالى بلفظ محتمل ، وهي صفة لا يدري ما هي ، ولا يعقل معناها في اللسان العربي ، فوجب إطراح هذا القول والاعتماد على ما له محمل في لسان العرب. إذا كان للفظ دلالة على التجسيم فنحمله ، إمّا على ما يسوغ فيه من الحقيقة التي يصح نسبتها إلى الله تعالى إن كان اللفظ مشتركا ، أو من المجاز إن كان اللفظ غير مشترك. والمجاز في كلام العرب أكثر من رمل يبرين ونهر فلسطين.

فالوقوف مع ظاهر اللفظ الدال على التجسيم غباوة وجهل بلسان العرب وأنحائها ومتصرّفاتها في كلامها ، وحجج العقول التي مرجع حمل الألفاظ المشكلة إليها. ونعوذ بالله أن نكون كالكرامية ، ومن سلك مسلكهم في إثبات التجسيم ونسبة الأعضاء لله ، تعالى الله عما يقول المفترون علوا كبيرا. وفي قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ردّ على من يقول : إنه في حيز وجهة ، لأنه لما خير في استقبال جميع الجهات دل على أنه ليس في جهة ولا حيز ، ولو كان في حيز لكان استقباله والتوجه إليه أحق من جميع الأماكن. فحيث لم يخصص مكانا ، علمنا أنه لا في جهة ولا حيز ، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه ، فأي جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره.

(إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) : وصف تعالى نفسه بصفة الواسع ، فقيل ذلك لسعة مغفرته. وجاء : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) (٣) ، وهو معنى قول الكلبي : لا يتعاظمه ذنب. وقيل :

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٢٧.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٨٨.

(٣) سورة النجم : ٥٣ / ٣٢.

٥٧٨

واسع العطاء ، وهو معنى قول أبي عبيدة : غني ، ومعنى قول الفراء : جواد. وقيل : معناه عالم ، من قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (١) ، على أحد التفاسير ، وجمع بينه وبين عليم على سبيل التأكيد. وقيل : واسع القدرة. وقيل : معناه يوسع على عباده في الحكم ذينه يسر. عليم : أي بمصالحهم أو بنيات القلوب التي هي ملاك العمل ، وإن اختلفت ظواهرها في قبلة وغيرها. وهذه التفاسير على قول من قال : إن الآية نزلت في أمر القبلة. وقال القفال : ليس فيها ذكر القبلة والصلاة ، وإنما أخبرهم تعالى عن علمه بهم ، وطوق سلطانه إياهم حيث كانوا ، كقوله تعالى : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) (٢) ، الآية ، وقوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى) (٣) الآية ، ويكون في هذا تهديد لمن منع مساجد الله من الذكر ، وسعى في خرابها ، أنه لا مهرب له من الله ولا مفر ، كما قال تعالى : (أَيْنَ الْمَفَرُّ ، كَلَّا لا وَزَرَ ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) (٤) ، وكما قال :

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

وقال :

ولم يكن المغتر بالله إذ سرى

ليعجز والمعتز بالله طالبه

وقال :

أين المفر ولا مفر لهارب

وله البسيطان الثرى والماء

وعلى هذا المعنى يكون الخطاب عاما مندرج فيه من منع المساجد من الذكر وغيره. وجاءت هذه الجملة مؤكدة بأن مصرحا باسم الله فيها دالة على الاستقلال. وقد قدّمنا ذلك في قوله : (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ) (٥) ، وكقوله : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦) ، وذلك أفخم وأجزل من الضمير ، لأن الضمير يشعر بقوة التعلق والظاهر يشعر بالاستقلال. ألا ترى أنه يصح الابتداء به ، وإن لم يلحظ ما قبله؟ بخلاف الضمير ، فإنه رابط للجملة التي هو فيها بالجملة التي قبلها. ألا ترى إلى أن أكثر ما ورد في القرآن من ذلك إنما جاء بالظاهر؟ كما مثلناه ، وكقوله : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ) (٧) ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ) (٨) ، وقال :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٥.

(٢) سورة الرحمن : ٥٥ / ٣٣.

(٣) سورة المجادلة : ٥٨ / ٧.

(٤) سورة القيامة : ٧٥ / ١٠ ـ ١٢.

(٥) سورة البقرة : ٢ / ١١٠.

(٦) سورة المزمل : ٧٣ / ٢٠.

(٧) سورة النساء : ٤ / ١٠٣.

(٨) سورة البقرة : ٢ / ٢٠.

٥٧٩

ليت شعري وأين مني ليت

إن ليتا وإن لوّا عناء

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) : نزلت في اليهود ، إذ قالوا : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (١) ، أو في النصارى ، إذ قالوا : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) (٢) ، أو في المشركين ، إذ قالوا : الملائكة بنات الله ، أو في النصارى والمشركين ، أقوال أربعة ، والأخير قاله الزجاج. ولاختلافهم في سبب النزول ، اختلفوا في الضمير في وقالوا ، على من يعود؟ فقيل : هو عائد على الجميع من غير تخصيص. فإن كلّا منهم قد جعل لله ولدا ، قاله ابن إسحاق ، والجمهور على قراءة : وقالوا بالواو ، وهو آكد في الربط ، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها. وقيل : هو عطف على قوله : (وَسَعى فِي خَرابِها) ، فيكون معطوفا على معطوف على الصلة ، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة ، وهذا بعيد جدا ، ينزه القرآن عن مثله. وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما : قالوا بغير واو ، ويكون على استئناف الكلام ، أو ملحوظا فيه معنى العطف ، واكتفى بالضمير والربط به عن الربط بالواو. وقال الفارسي : وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام. تقدم أن اتخذ : افتعل من الأخذ ، وأنها تارة تتعدى إلى واحد نحو قوله : (اتَّخَذَتْ بَيْتاً) (٣) ، قالوا : معناه صنعت وعملت ، وإلى اثنين فتكون بمعنى : صير. وكلا الوجهين يحتمل هنا. وكل من الوجهين يقتضي تصوره باستحالة الولد ، لأن الولد يكون من جنس الوالد. فإن جعلت اتخذ بمعنى عمل وصنع ، استحال ذلك ، لأن الباري تعالى منزه عن الحدوث ، قديم ، لا أولية لقدمه ، وما عمله محدث ، فاستحال أن يكون ولد إله. وإن جعلت اتخذ بمعنى صير ، استحال أيضا ، لأن التصيير هو نقل من حال إلى حال ، وهذا لا يكون إلا فيما يقبل التغيير ، وفرضية الولد به تقتضي أن يكون من جنس الوالد لا تقتضي التغيير ، فقد استحال ذلك. وإذا جعلت اتخذ بمعنى صير ، كان أحد المفعولين محذوفا ، التقدير : وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولدا. والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد ، قال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) (٤) ، (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) (٥) ، (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (٦). وقال القشيري : أتى بالولد ، وهو أحدي الذات ، لا جزء لذاته ، ولا تجوز الشهوة في صفاته. انتهى.

ولما كانت هذه المقالة من أفسد الأشياء وأوضحها في الاستحالة ، أتى باللفظ الذي

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣٠.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٣٠.

(٣) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤١.

(٤) سورة مريم : ١٩ / ٨٨.

(٥) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٩١.

(٦) سورة مريم : ١٩ / ٩٢.

٥٨٠