البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

ينحصر ، لم يترك البحر في جوفه منهم واحدا. وقيل : تنظرون أي بعضكم إلى بعض وأنتم سائرون في البحر ، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له : أين أصحابنا؟ فقال : سيروا ، فإنهم على طريق مثل طريقكم ، قالوا : لا نرضى حتى نراهم ، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على الحيطان ، فصار بها كوى ، فتراءوا وتسامعوا كلام بعضهم بعضا. وهذه الأقوال الخمسة النظر فيها بمعنى الرؤية ، وقيل : النظر تجوز به عن القرب ، أي وأنتم بالقرب منهم ، أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم : أنت مني بمرأى ومسمع ، أي قريب بحيث أراك وأسمعك ، قاله ابن الأنباري. وقيل : هو من نظر البصيرة والعقل ، ومعناه : وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت إليهم. وقيل : النظر هنا بمعنى العلم ، لأن العلم يحصل عن النظر ، فكنى به عنه ، قاله الفراء ، وهو معنى قول ابن عباس.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) قرأ الجمهور : واعدنا ، وقرأ أبو عمرو : وعدنا بغير ألف هنا ، وفي الأعراف وطه ، ويحتمل واعدنا ، أن يكون بمعنى وعدنا ، ويكون صدر من واحد ، ويحتمل أن يكون من اثنين على أصل المفاعلة ، فيكون الله قد وعد موسى الوحي ، ويكون موسى وعد الله المجيء للميقات ، أو يكون الوعد من الله وقبوله كان من موسى ، وقبول الوعد يشبه الوعد. قال القفال : ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله بمعنى يعاهده. وقيل : وعد إذا كان عن غير طلب ، وواعد إذا كان عن طلب. وقد رجح أبو عبيد قراءة من قرأ : وعدنا بغير ألف ، وأنكر قراءة من قرأ : واعدنا بالألف ، وافقه على معنى ما قال أبو حاتم ومكي. وقال أبو عبيد : المواعدة لا تكون إلا من البشر ، وقال أبو حاتم : أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين ، كل واحد منهما يعد صاحبه ، وقد مر تخريج واعد على تلك الوجوه السابقة ، ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى ، لأن كلا منهما متواتر ، فهما في الصحة على حدّ سواء. وأكثر القراء على القراءة بألف ، وهي قراءة مجاهد ، والأعرج ، وابن كثير ، ونافع ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي. موسى : هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. وذكر الشريف أبو البركات محمد بن أسعد بن علي الحوّاني النسابة : أن موسى على نبينا وعليه‌السلام هو : موسى بن عمران بن قاهث ، وتقدّم الكلام في لفظ موسى العلم. وأما موسى الحديدة ، التي يحلق بها الشعر ، فهي مؤنثة عربية مشتقة من : أسوت الشيء ، إذا أصلحته ، ووزنها مفعل ، وأصلها الهمز ، وقيل : اشتقاقها من : أوسيت إذا حلقت ، وهذا الاشتقاق أشبه بها ، ولا أصل للواو في الهمز على هذا. (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) : ذو

٣٢١

الحجة وعشر من المحرّم ، أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، قاله أبو العالية وأكثر المفسرين ، وقرأ علي وعيسى بن عمر : بكسر باء أربعين شاذا اتباعا ، ونصب أربعين على المفعول الثاني لواعدنا ، على أنها هي الموعودة ، أو على حذف مضاف التقدير تمام ، أو انقضاء أربعين حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه ، قاله الأخفش ، فيكون مثل قوله :

فواعديه سر حتى مالك

أو النقا بينهما أسهلا

أي إتيان سر حتى مالك ، ولا يجوز نصب أربعين على الظرف لأنه ظرف معدود ، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أجزائه ، والمواعدة لم تقع كذلك. وليلة : منصوب على التمييز الجائي بعد تمام الاسم ، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم العدد قبله شبه أربعين بضاربين ، ولا يجوز تقديم هذا النوع من التمييز على اسم العدد بإجماع ، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا ضرورة ، نحو :

على أنني بعد ما قد مضى

ثلاثون للهجر حولا كميلا

وعشرين منها أصبعا من ورائنا

ولا تعريف للتمييز ، خلافا لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة. وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب : ما فعلت العشرون الدرهم ، وما جاء نحو : هذا مما يدل على التعريف ، وذلك مذكور في علم النحو. وكان تفسير الأربعين بليلة دون يوم ، لأن أوّل الشهر ليلة الهلال ، ولهذا أرّخ بالليالي ، واعتماد العرب على الأهلة ، فصارت الأيام تبعا لليالي ، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (١) ، أو دلالة على مواصلته الصوم ليلا ونهارا ، لأنه لو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل ، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها. وهذه المواعدة للتكلم ، أو لإنزال التوراة. قال المهدوي : وكان ذلك بعد أن جاوز البحر ، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله ، فخرج إلى الطور في سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل ، وصعد الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة ، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوما وعشرة ليال ، فقالوا : قد أخلفنا موعده ، انتهى كلامه. وقال الزمخشري : لما دخل بنو إسرائيل مصر ، بعد هلاك فرعون ، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله أن ينزل عليهم التوراة ، وضرب له ميقاتا ، انتهى.

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٧.

٣٢٢

(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) : الجمهور على إدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير وحفص من السبعة : بالإظهار ، ويحتمل اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد ، أي صنعتم عجلا ، كما قال : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) (١) ، على أحد التأويلين ، وعلى هذا التقدير : يكون ثم جملة محذوفة يدل عليها المعنى ، وتقديرها : وعبدتموه إلها ، ويحتمل أن تكون مما تعدّت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني محذوفا لدلالة المعنى ، التقدير : ثم اتخذتم العجل إلها ، والأرجح القول الأوّل ، إذ لو كان مما يتعدّى في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني ، ولو في موضع واحد ، ألا ترى أنه لم يعد إلى اثنين بل إلى واحد في هذا الموضع ، وفي : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) ، وفي : (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) (٢) ، وفي : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) (٣) ، وفي قوله في هذه السورة أيضا : (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) (٤) ، لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القول الأوّل حذف جملة من هذه الآيات ، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول ، وحذف المفرد أسهل من حذف الجملة. فعلى القول الأوّل فيه ذمّ الجماعة بفعل الواحد ، لأن الذي عمل العجل هو السامري ، وسيأتي ، إن شاء الله ، الكلام فيه وفي اسمه وحكاية إضلاله عند قوله تعالى : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٥) ، وذلك عادة العرب في كلامها تذم وتمدح القبيلة بما صدر عن بعضها. وعلى القول الثاني فيه ذمهم بما صدر منهم ، والألف واللام في العجل على القول الأول لتعريف الماهية ، إذ لم يتقدّم عهد فيه ، وعلى القول الثاني للعهد السابق ، إذ كانوا قد صنعوا عجلا ثم اتخذوا ذلك العجل إلها ، وكونه عجلا ظاهر في أنه صار لحما ودما ، فيكون عجلا حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه حقيقة ، قاله الحسن. وقيل : هو مجاز ، أي عجلا في الصورة والشكل ، لأن السامري صاغه على شكل العجل ، وكان فيما ذكروا صائغا ، ويكون نسبة الخوار إليه مجازا ، قاله الجمهور ، وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف ، إن شاء الله. ومن أغرب ما ذهب إليه في هذا العجل أنه سمي عجلا لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى ، فاتخذوه إلها ، قاله أبو العالية ، أو سمي هذا عجلا ، لقصر مدّته.

(مِنْ بَعْدِهِ) ، من : تفيد ابتداء الغاية ، ويتعارض مدلولها مع مدلول ثم ، لأن ثم

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٨.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٨.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٢.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٥٤.

(٥) سورة طه : ٢٠ / ٨٥.

٣٢٣

تقتضي وقوع الاتخاذ بعد مهلة من المواعدة ، ومن تقتضي ابتداء الغاية في التعدية التي تلي المواعدة ، إذ الظاهر عود الضمير على موسى ، ولا تتصوّر التعدية في الذات ، فلا بد من حذف ، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا ، أي من بعد مواعدته ، فلا بد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين ، إلا أن قدر محذوف غير المواعدة ، وهو أن يكون التقدير من بعد ذهابه إلى الطور ، فيزول التعارض ، إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ. ويبين المهلة قصة الأعراف ، إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل كثيرة ، وابتداء الغاية يكون عقيب الذهاب إلى الطور ، فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد ، فزال التعارض. وقيل : الضمير في بعده يعود على الذهاب ، أي من بعد الذهاب ، ودل على ذلك أن المواعدة تقتضي الذهاب ، فيكون عائدا على غير مذكور ، بل على ما يفهم من سياق الكلام ، نحو قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (١) ، (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) (٢) أي توارت الشمس ، إذ يدل عليها قوله : بالعشي ، وأي فأثرن بالمكان ، إذ يدل عليه (وَالْعادِياتِ) (٣) (فَالْمُورِياتِ) (٤) ، (فَالْمُغِيراتِ) (٥) ، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا في مكان فاقتضته ودلت عليه. وقيل : الضمير يعود على الانجاء ، أي من بعد الانجاء ، وقيل : على الهدى ، أي من بعد الهدى ، وكلا هذين القولين ضعيف.

(وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) : جملة حالية ، ومتعلق الظلم. قيل : ظالمون بوضع العبادة في غير موضعها ، وقيل : بتعاطي أسباب هلاكها ، وقيل : برضاكم فعل السامري في اتخاذه العجل ، ولم تنكروا عليه. ويحتمل أن تكون الجملة غير حال ، بل إخبار من الله أنهم ظالمون : أي سجيتهم الظلم ، وهو وضع الأشياء في غير محلها. وكان المعنى : ثم اتخذتم العجل من بعده وكنتم ظالمين ، كقوله تعالى : (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ). وأبرز هذه الجملة في صورة ابتداء وخبر ، لأنها أبلغ وآكد من الجملة الفعلية ولموافقة الفواصل. وظاهر قوله : ثم اتخذتم العموم ، وأنهم كلهم عبدوا العجل إلا هارون ، وقيل : الذين عكفوا على عبادته من قوم موسى ثمانية آلاف رجل ، وقيل : كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفا ، قيل : وهذا هو الصحيح ، وقيل : إلا هارون والسبعين رجلا الذين كانوا مع موسى. واتخاذ السامري العجل دون سائر الحيوانات ، قيل : لأنهم مرّوا على قوم يعكفون

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٣٢.

(٢) سورة العاديات : ١٠٠ / ٤.

(٣) سورة العاديات : ١٠٠ / ١.

(٤) سورة العاديات : ١٠٠ / ٢.

(٥) سورة العاديات : ١٠٠ / ٣.

٣٢٤

على أصنام لهم وكانت على صور البقر ، فقالوا : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، فهجس في نفس السامري أن يفتنهم من هذه الجهة ، فاتخذ لهم العجل ، وقيل : إنه كان من قوم يعبدون البقر ، وكان منافقا يظهر الإيمان بموسى ، فاتخذ عجلا من جنس ما كان يعبده ، وفي اتخاذهم العجل إلها دليل على أنهم كانوا مجسمة أو حلولية ، إذ من اعتقد تنزيه الله عن ذلك واستحالة ذلك عليه بالضرورة ، تبين له بأوّل وهلة فساد دعوى أن العجل إله. وقد نقل المفسرون عن ابن عباس والسدّي وغيرهما قصصا كثيرا مختلفا في سبب اتخاذ العجل ، وكيفية اتخاذه ، وانجر مع ذلك أخبار كثيرة ، الله أعلم بصحتها ، إذ لم يشهد بصحتها كتاب ولا حديث صحيح ، فتركنا نقل ذلك على عادتنا في هذا الكتاب.

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) : تقدّمت معاني عفا ، ويحتمل أن يكون عفا عنه من باب المحو والإذهاب ، أو من باب الترك ، أو من باب السهولة ، والعفو والصفح متقاربان في المعنى. وقال قوم : لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب ، فإن كان العفو هنا بمعنى الترك أو التسهيل ، فيكون عنكم عام اللفظ خاص المعنى ، لأن العفو إنما كان عمن بقي منهم ، وإن كان بمعنى المحو ، كان عاما لفظا ومعنى ، فإنه تعالى تاب على من قتل ، وعلى من بقي ، قال تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ) (١). وروي أن الله أوحى إلى موسى بعد قتلهم أنفسهم أني قبلت توبتهم فمن قتل فهو شهيد ، ومن لم يقتل فقد تبت عليه وغفرت له. وقالت المعتزلة : عفونا عنكم ، أي بسبب إتيانكم بالتوبة ، وهي قتل بعضهم بعضا : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إشارة إلى اتخاذ العجل ، وقيل : إلى قتلهم أنفسهم ، والأوّل أظهر. (لَعَلَّكُمْ) : تقدّم الكلام في لعل في قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، لغة ودلالة معنى بالنسبة إلى الله تعالى ، فأغنى عن إعادته. (تَشْكُرُونَ) : أي تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم ، وتظهرون النعمة بالثناء ، وقالوا : الشكر باللسان ، وهو الحديث بنعمة المنعم ، والثناء عليه بذلك وبالقلب ، وهو اعتقاد حق المنعم على المنعم عليه ، وبالعمل (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (٢) ، وبالله أي شكرا لله بالله لأنه لا يشكره حق شكره إلا هو ، وقال بعضهم :

وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة

وبالقلب أخرى ثم بالعمل الأسنى

وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي

ولا بلساني بل به شكره عنا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٥٤.

(٢) سورة سبأ : ٣٤ / ١٣.

٣٢٥

ومعنى لعلكم تشكرون : أي عفو الله عنكم ، لأن العفو يقتضي الشكر ، قاله الجمهور ، أو تظهرون نعمة الله عليكم في العفو ، أو تعترفون بنعمتي ، أو تديمون طاعتي ، أو تقرون بعجزكم عن شكري أربعة أقوال : وقال ابن عباس : الشكر طاعة الجوارح. وقال الجنيد : الشكر هو العجز عن الشكر. وقال الشبلي : التواضع تحت رؤية المنة. وقال الفضيل : أن لا تعصي الله. وقال أبو بكر الورّاق أن تعرف النعمة من الله. وقال ذو النون : الشكر لمن فوقك بالطاعة ، ولنظيرك بالمكافأة ، ولمن دونك بالإحسان. قال القشيري : سرعة العفو عن عظيم الجرم دالة على حقارة المعفو عنه ، يشهد لذلك (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) (١) ، وهؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) (٢) ، وقال لهذه الأمة : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٣) ، انتهى كلامه. وناسب ترجي الشكر إثر ذكر العفو ، لأن العفو عن مثل هذه الزلة العظيمة التي هي اتخاذ العجل إلها هو من أعظم ، أو أعظم إسداء النعم ، فلذلك قال : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : هو التوراة بإجماع المفسرين. (وَالْفُرْقانَ) : هو التوراة ، ومعناه أنه آتاه جامعا بين كونه كتابا وفرقانا بين الحق والباطل ، ويكون من عطف الصفات ، لأن الكتاب في الحقيقة معناه : المكتوب ، قاله الزجاج ، واختاره الزمخشري ، وبدأ بذكره ابن عطية قال : كرر المعنى لاختلاف اللفظ ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل ، ولفظة كتاب لا تعطي ذلك ، أو الواو مقحمة ، أي زائدة ، وهو نعت للكتاب ، قال الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

قاله الكسائي ، وهو ضعيف ، وإنما قوله ، وابن الهمام ، وليث : من باب عطف الصفات بعضها على بعض. ولذلك شرط ، وهو أن تكون الصفات مختلفة المعاني ، أو النصر ، لأنه فرق بين العدوّ والولي في الغرق والنجاة ، ومنه قيل ليوم بدر : يوم الفرقان ، قاله ابن عباس ، أو سائر الآيات التي أوتي موسى على نبينا وعليه‌السلام من العصا واليد وغير ذلك ، لأنها فرقت بين الحق والباطل ، أو الفرق بين الحق والباطل ، قاله أبو العالية ومجاهد ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام ، أو البرهان الفارق بين الكفر والإيمان ،

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٥٢.

(٣) سورة الزلزلة : ٩٩ / ٨.

٣٢٦

قاله ابن بحر وابن زيد ، أو الفرح من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ، ومنه قوله تعالى : (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (١) ، أي فرجا ومخرجا. وهذا القول راجع لمعنى النصر أو القرآن. والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى آمن به ، حكاه ابن الأنباري ، أو القرآن على حذف مفعول ، التقدير : ومحمدا الفرقان ، وحكي هذا عن الفراء وقطرب وثعلب ، وقالوا : هو كقول الشاعر :

وزججن الحواجب والعيونا

التقدير : وكحلن العيون. ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة ، لأنه لا دليل على هذا المحذوف ، ويصير نظير : أطعمت زيدا خبزا ولحما ، ويكون : اللحم أطعمته غير زيد ، ولأن الأصل في العطف أنه يشارك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم السابق ، إذا كان العطف بالحروف المشتركة في ذلك ، وليس مثل ما مثلوا به من : وزججن الحواجب والعيون ، لما هو مذكور في النحو. وقد جاء : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) (٢) ، وذكروا جميع الآيات التي آتاها الله تعالى موسى لأنها فرقت بين الحق والباطل ، أو انفراق البحر ، قاله يمان وقطرب ، وضعف هذا القول بسبق ذكر فرق البحر في قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا) (٣) ، وبذكر ترجية الهداية عقيب الفرقان ، ولا يليق إلا بالكتاب. وأجيب بأنه ، وإن سبق ذكر الانفلاق ، فأعيد هنا ونص عليه بأنه آية لموسى مختصة به ، وناسب ذكر الهداية بعد فرق البحر لأنه من الدلائل التي يستدل بها على وجود الصانع وصدق موسى على نبينا وعليه‌السلام ، وذلك هو الهداية ، أو لأن المراد بالهداية النجاة والفوز ، وبفرق البحر حصل لهم ذلك فيكون قد ذكر لهم نعمة الكتاب الذي هو أصل الديانات لهم ، ونعمة النجاة من أعدائهم. فهذه اثنتا عشرة مقالة للمفسرين في المراد بالفرقان هنا.

(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) : ترجية لهدايتهم ، وقد تقدم الكلام في لعل. وفي لفظ ابن عطية في لعل هنا ، وفي قوله قبل : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، أنه توقع ، والذي تقرر في النحو أنه إن كان متعلق لعل محبوبا ، كانت للترجي ، فإن كان محذورا ، كانت للتوقع ، كقولك : لعل العدو يقدم. والشكر والهداية من المحبوبات ، فينبغي أن لا يعبر عن معنى لعل هنا إلا بالترجي. قال القشيري : فرقان هذه الأمة الذي اختصوا به نور في قلوبهم ، يفرقون به بين

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢٩.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٨.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٥٠.

٣٢٧

الحق والباطل : استفت قلبك ، اتقوا فراسة المؤمن. المؤمن ينظر بنور الله (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (١) ، وذلك الفرقان ما قدموه من الإحسان ، انتهى كلامه. وناسب ترجي الهداية إثر ذكر إتيان موسى الكتاب والفرقان ، لأن الكتاب به تحصل الهداية (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) (٢) ، (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً) (٣) ، (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) (٤). وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر الامتنان على بني إسرائيل فصولا منها : فرق البحر بهم على الوجه الذي ذكر من كونه صار اثني عشر مسلكا على عدد الأسباط وبين كل سبط حاجز يمنعهم من الازدحام دون أن يلحقهم في ذلك استيحاش ، لأنه صار في كل حاجز كوى بحيث ينظر بعضهم إلى بعض على ما نقل ، وهو من أعظم الآيات الدالة على صدق موسى على نبينا وعليه‌السلام ، وهذا الفرق هو النعمة الثالثة ، لأن الأولى هي التفضيل ، والثانية هي الإنجاء من آل فرعون ، والثالثة هي هذا الفرق وما ترتب عليه من إنجائهم من الغرق وإغراق أعدائهم وهم ينظرون بحيث لا يشكون في هلاكهم. ثم استطرد بعد ذلك إلى ذكر النعمة الرابعة ، وهي العفو عن الذنب العظيم الذي ارتكبوه من عبادة العجل ، فذكر سبب ذلك ، وأنه اتفق ذلك لغيبة موسى عنهم لمناجاة ربه ، وأنهم على قصر مدة غيبته انخدعوا بما فعله السامري هذا ، ولم يطل عليهم الأمد ، وخليفة موسى فيهم أخوه هارون ينهاهم فلا ينتهون ، ومع هذه الزلة العظيمة عفا عنهم وتاب عليهم ، فأي نعمة أعظم من هذه؟ ثم ذكر النعمة الخامسة ، وهي ثمرة الوعد ، وهو إتيان موسى التوراة التي بها هدايتهم ، وفيها مصالح دنياهم وآخرتهم. وجاء ترتيب هذه النعم متناسقا يأخذ بعضه بعنق بعض ، وهو ترتيب زماني ، وهو أحد الترتيبات الخمس التي مر ذكرها في هذا الكتاب ، لأن التفضيل أمر حكمي ، فهو أول ثم وقعت النعم بعده ، وهي أفعال يتلو بعضها بعضا. فأولها الإنجاء من سوء العذاب ، ذبح الأبناء واستحياء النساء بإخراج موسى إياهم من مصر ، بحيث لم يكن لفرعون ولا لقومه عليهم تسليط بعد هذا الخروج ، والإنجاء ، ثم فرق البحر بهم وإرائهم عيانا هذا الخارق العظيم ، ثم وعد الله لموسى بمناجاته وذهابه إلى ذلك ، ثم اتخاذهم العجل ، ثم العفو عنهم ، ثم إيتاء موسى التوراة. فانظر إلى حسن هذه الفصول التي انتظمت انتظام الدرّ في أسلاكها ، والزهر في أفلاكها ، كل فصل منها قد ختم

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢٩.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٤٤.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ٤٦.

٣٢٨

بمناسبة ، وارتقى في ذروة الفصاحة إلى أعلا مناصبه ، وأردا من الله على لسان محمد أمينه لسان من لم يتل من قبل كتابا ولا خطه بيمينه.

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)

القوم : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وإنما واحده امرؤ ، وقياسه أن لا يجمع ، وشذ جمعه ، قالوا : أقوام ، وجمع جمعه قالوا : أقاويم فقيل يختص بالرجال. قال تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) (١) ، ولذلك قابله بقوله : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) (٢). وقال زهير :

أقوم آل حصن أم نساء

وقال آخر :

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

وقال آخر :

لا يبعدن قومي الذين هم

سم العداة وآفة الجزر

وقيل : لا يختص بالرجال بل ينطلق على الرجال والنساء : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (٣) ، (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) (٤). كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، قال هذا القائل : أما إذا قامت قرينة على التخصيص فيبطل العموم ويكون المراد ذلك الشيء المخصص. والقول الأول أصوب ، ويكون اندراج النساء في القوم على سبيل الاستتباع

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١١.

(٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ١١.

(٣) سورة نوح : ٧١ / ١.

(٤) سورة غافر : ٤٠ / ٤١.

٣٢٩

وتغليب الرجال ، والمجاز خير من الاشتراك. وسمي الرجال قوما لأنهم يقومون بالأمور. البارئ : الخالق ، برأ يبرأ : خلق ، وفي الجمع بين الخالق والبارئ في قوله : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) (١) ، ما يدل على التباين ، إلا إن حمل على التوكيد. وقد فرق بعض الناس بينهما ، فقال : البارئ هو المبدع المحدث ، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال. وقال بعض العلماء : برأ وأنشأ وأبدع نظائر. قال المهدوي وغيره : واللفظ له ، وأصله من تبرى الشيء من الشيء ، وهو انفصاله منه ، فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود ، انتهى. وقال أمية : الخالق البارئ المصور في الأرحام ماء حتى يصير دما. القتل : إزهاق الروح بفعل أحد ، من طعن أو ضرب أو ذبح أو خنق أو ما شابه ذلك ، وأما إذا كان من غير فعل فهو موت هلاك ، والمقتل : المذلل ، وقال امرؤ القيس :

بسهميك في أعشار قلب مقتل

شرحوه : بالمذلل.

خير : هي أفعل التفضيل ، حذفت همزتها شذوذا في الكلام فنقص بناؤها فانصرفت ، كما حذفوها شذوذا في الشعر من أحب للتي للتفضيل ، وقال الأحوص :

وزادني كلفا بالحب أن منعت

وحب شيء إلى الإنسان ما منعا

وقد نطقوا بالهمزة في الشعر ، قال الشاعر :

بلال خير الناس وابن الأخير

وتأتي خير أيضا لا ، بمعنى التفضيل ، تقول : في زيد خير ، تريد بذلك خصلة جميلة ، ومخففا من خير : رجل خير ، أي فيه خير ، ويمكن أن يكون من ذلك : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ). حتى : حرف معناه الكثير ، فيه الغاية ، وتكون للتعليل ، وإبدال حائها عينا لغة هذيل ، وسمع فيها الإمالة قليلا ، وأحكامها مستوفاة في النحو. الرؤية الإبصار ، والماضي رأى ، عينه همزة تحذف في مضارعه ، والأمر منه وبناء أفعل ، والأمر منه ، واسم الفاعل ، واسم المفعول ، تقول : يرى وترى ونرى وأرى زيدا ، وأريت زيدا ، ور زيدا ، ومر زيدا ، ومرى. وتثبت في الرؤية والرأي والرؤيا والمرأى والمرئي والمرأة واسترأى وأرأى من كذا ، وفي ما أرأه وأرئه في التعجب. وهذا الحذف الذي ذكرناه هو إذا كان مدلول رأي ما ذكرناه من الإبصار في يقظة أو نوم أو الاعتقاد ، فإن كانت رأى بمعنى أصاب رئته ، فلا تحذف

__________________

(١) سورة الحشر : ٥٩ / ٢٤.

٣٣٠

الهمزة ، بل تقول : رآه يرآه : أي أصاب رئته ، نقله صاحب كتاب الأمر. ولغة تميم إثبات الهمز فيما حذف منه غيرهم ، فيقولون : يرأى وأرئى؟ وقال بعض العرب : فجمع بين حذف الهمزة والإثبات :

ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر

ومن يتمل العيش يرأى ويسمع

الجهرة : العلانية ، ومنه الجهر : ضد السر ، وفتح عين هذا النحو مسموع عند البصريين ، مقيس عند الكوفيين ، وقد تقدم شيء من ذلك. ويقال : جهر الرجل الأمر : كشفه ، وجهرت الركية : أخرجت ما فيها من الحمأة وأظهرت الماء ، قال :

إذا وردنا آجنا جهرنا

أو حاليا من أهله عمزنا

والجمهوري : العالي الصوت ، وصوت جهير : عال ، ووجه جهير : ظاهر الوضاءة ، والأجهر : الأعمى ، سمي على الضد. البعث : الإحياء ، وأصله الإثارة ، قال الشاعر :

أنيخها ما بدا لي ثم أبعثها

كأنها كاسر في الجو فتخاء

وقال آخر :

وفتيان صدق قد بعثت بسحرة

فقاموا جميعا بين عان ونشوان

وقيل : أصله الإرسال ، ومنه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) (١) ، وتأتي بمعنى الإفاقة من الغشي أو النوم ، (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) (٢) ، والقدر المشترك بين هذه المعاني هو إزالة ما يمنع عن التصرف. ظلل : فعل ، وهو مشتق من الظل ، والظل أصله المنفعة ، والسحابة ظلة لما يحصل تحتها من الظل ، ومنه قيل : السلطان ظلّ الله في الأرض ، قال الشاعر :

فلو كنت مولى الظل أو في ظلاله

ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلم

الغمام : اسم جنس بينه وبين مفرده هاء التأنيث ، تقول : غمامة وغمام ، نحو : حمامة وحمام ، وهو السحاب. وقيل : ما ابيض من السحاب ، وقال مجاهد : هو أبرد من السحاب وأرق ، وسمي غماما لأنه يغم وجه السماء : أي يستره ، ومنه : الغم والغمم والأغم والغمة والغمى والغماء ، وغمّ الهلال : ستر ، والنبت الغميم : هو الذي يستر ما يسامته من وجه الأرض. المنّ : مصدر مننت ، أي قطعت ، والمن : الإحسان ، والمن : صمغة تنزل على الشجر حلوة ،

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٣٦.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ١٩.

٣٣١

وفي المراد به في الآية أقوال ستأتي ، إن شاء الله تعالى. السلوى : اسم جنس ، واحدها سلواة ، قاله الخليل ، والألف فيها للإلحاق لا للتأنيث نحو : علقى وعلقاة ، إذ لو كانت للتأنيث لما أنث بالهاء ، قال الشاعر :

وإني لتعروني لذكراك سلوة

كما انتفض السلواة من بلل القطر

وقال الكسائي : السلوى واحدة ، وجمعها سلاوي. وقال الأخفش : جمعه وواحده بلفظ واحد. وقيل : جمع لا واحد له من لفظه. وقال مؤرح السدوسي : السلوى هو العسل بلغة كنانة ، قال الشاعر :

وقاسمها بالله جهدا لأنتم

ألذ من السلوى إذا ما نشورها

وقال غيره : هو طائر. قال ابن عطية : وقد غلط الهذلي في قوله :

ألذ من السلوى إذا ما نشورها

فظن السلوى العسل. وعن هذا جوابان يبينان أن هذا ليس غلطا : أحدهما : ما نقلناه عن مؤرج من كونه العسل بلغة كنانة ، والثاني : أنه تجوز في قوله : نشورها لأجل القافية ، فعبر عن الأكل بالشور ، على سبيل المجاز ، قالوا : واشتقاق السلوى من السلوة ، لأنه لطيبه يسلي عن غيره. الطيب : فيعل من طاب يطيب ، وهو اللذيذ ، وتقدم الكلام في اختصاص هذا الوزن بالمعتل ، إلا ما شذ ، وفي تخفيف هذا النوع وبالمخفف منه سميت مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طيبة.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) : عدّ صاحب المنتخب هذا إنعاما خامسا ، وقيل : هذه الآية وما بعدها منقطعة مما تقدم من التذكير بالنعم ، وذلك لأنه أمر بالقتل ، والقتل لا يكون نعمة ، وضعف بأن من أعظم النعم التنبيه على ما به يتخلصون من عقاب الذنب العظيم ، وذلك هو التوبة. وإذا كان قد عدّد عليهم النعم الدنيوية ، فلأن يعدد عليهم النعم الدينية أولى. ولما لم يكمل وصف هذه النعمة إلا بمقدمة ما تسببت عنه ، قدم ذكر ذلك ، وهذا الخطاب هو محاورة موسى لقومه حين رجع من الميقات ووجدهم قد عبدوا العجل. واللام في قوله : لقومه ، للتبليغ ، وإقبال موسى عليه بالنداء ، ونداؤه بلفظ يا قوم ، مشعر بالتحنن عليهم ، وأنه منهم ، وهم منه ، ولذلك أضافهم إلى نفسه ، كما يقول الرجل : يا أخي ، ويا صديقي ، فيكون ذلك سببا لقبول ما يلقى إليه ، بخلاف أن لو ناداه باسمه ، أو بالوصف القبيح الصادر منه. وفي ذلك أيضا هزلهم لقبولهم

٣٣٢

الأمر بالتوبة ، بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم ، وأي ظلم أعظم من اتخاذ إله غيره (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١). ونص على أنهم ظلموا أنفسهم بذلك لأنه أفحش الظلم ، لأن نفس الإنسان أحب شيء إليه ، فإذا ظلمها ، كان ذلك أفحش من أن يظلم غيره. ويا قوم : منادى مضاف إلى ياء المتكلم ، وقد حذفت واجتزى بالكسرة عنها ، وهذه اللغة أكثر ما في القرآن. وقد جاء إثباتها كقراءة من قرأ : يا عبادي فاتقون ، بإثبات الياء ساكنة ، ويجوز فتحها ، فتقول : يا غلامي ، وفتح ما قبلها وقلب الياء ألفا ، فتقول : يا غلاما. وأجاز الأخفش حذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها ، فتقول : يا غلام ، وأجازوا ضمه وهو على نية الإضافة فتقول : يا غلام ، تريد : يا غلامي. وعلى ذلك قراءة من قرأ : قل (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) (٢) ، (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) (٣) ، هكذا أطلقوا ، وفصل بعضهم بين أن يكون فعلا أو اسما ، إن كان فعلا فلا يجوز بناؤه على الضم ، ومثل الفعل بمثل : يا ضاربي ، فلا يجيز في هذا يا ضارب ، وظاهر الخطاب اختصاصه بمتخذي العجل. وقيل : يجوز أن يراد به : من عبد ومن لم يعبد جعلوا ظالمين ، لكونهم لم يمنعوهم ولم يقاتلوهم. والباء في (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) سببية ، واحتمال الوجهين السابقين في قوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) (٤) جاء هنا أي بعملكم العجل وعبادته ، أو (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) إلها. قال السلمي : عجل كل واحد نفسه ، فمن أسقط مراده وخالف هواه فقد برىء من ظلمه.

(فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) الفاء في فتوبوا معها التسبيب ، لأن الظلم سبب للتوبة ، ولما كان السامريّ قد عمل لهم من حليهم عجلا ، قيل لهم : توبوا إلى بارئكم ، أي منشئكم وموجدكم من العدم ، إذ موجد الأعيان هو الموجد حقيقة. وأما عمل العجل واتخاذه فليس فيه إبراز الذوات من العدم ، إنما ذلك تأليف تركيبي لا خلق أعيان ، فنبهوا بلفظ الباري على الصانع ، أي الذي أوجدكم هو المستحق للعبادة ، لا الذي صنعه ، مصنوع مثله ، فلذلك ، والله أعلم ، كان ذكر الباري هنا. وقرأ الجمهور : بظهور حركة الإعراب في بارئكم ، وروي عن أبي عمرو : الاختلاس ، روى ذلك عنه سيبويه ، وروى عنه : الإسكان ، وذلك إجراء للمنفصل من كلمتين مجرى المتصل من كلمة ، فإنه يجوز تسكين مثل إبل ، فأجرى المكسوران في بارئكم مجرى إبل ، ومنع المبرد التسكين في حركة

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ١٣.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ١١٢.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٣٣.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٩٢.

٣٣٣

الإعراب ، وزعم أن قراءة أبي عمرو لحن ، وما ذهب إليه ليس بشيء ، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بأثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولغة العرب توافقه على ذلك ، فإنكار المبرد لذلك منكر ، وقال الشاعر :

فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل

وقال آخر :

رحت وفي رجليك ما فيهما

وقد بدا هنك من المئزر

وقال آخر :

أو نهر تيرى فما تعرفكم العرب

وقد خلط المفسرون هنا في الردّ على أبي العباس ، فأنشدوا ما يدل على التسكين مما ليست حركته حركة إعراب. قال الفارسي : أما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها ، ومما يدل على صحة قراءة أبي عمرو ما حكاه أبو زيد من قوله تعالى : (وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (١). وقراءة مسلمة بن محارب : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) (٢). وذكر أبو عمرو : أن لغة تميم تسكين المرفوع من يعلمه ونحوه ، ومثل تسكين بارئكم ، قراءة حمزة ، (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) (٣). وقرأ الزهريّ : باريكم ، بكسر الياء من غير همز ، وروي ذلك عن نافع. ولهذه القراءة تخريجان أحدهما : أن الأصل الهمز ، وأنه من برأ ، فخففت الهمزة بالإبدال المحض على غير قياس ، إذ قياس هذا التخفيف جعلها بين بين. والثاني : أن يكون الأصل باريكم ، بالياء من غير همز ، ويكون مأخوذا من قولهم : بريت القلم ، إذا أصلحته ، أو من البري : وهو التراب ، ثم حرك حرف العلة ، وإن كان قياسه تقديرا لحركة في مثل هذا رفعا وجرا ، وقال الشاعر :

ويوما توافينا الهوى غير ماضي

وقال آخر :

ولم تختضب سمر العوالي بالدم

وقال آخر :

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٨٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٨.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٤٣.

٣٣٤

خبيث الثرى كأبي الأزيد

وهذا كله تعليل شذوذ. وقد ذكر الزمخشري في اختصاص ذكر البارئ هنا كلاما حسنا هذا نصه. فإن قلت : من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ قلت : البارئ هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت ، (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (١) ، ومتميزا بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة ، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته على الأشكال المختلفة ، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة والبلادة. في أمثال العرب : أبلد من ثور ، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغبطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها ، انتهى كلامه.

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : ظاهر هذا أنه القتل المعروف من إزهاق الروح. فظاهره أنهم يباشرون قتل أنفسهم. والأمر بالقتل من موسى على نبينا وعليه‌السلام لا يكون إلا بوحي من الله تعالى ، إما بكونه كانت التوراة في شريعته متقررة بقتل النفس ، وإما بكونه أمر ذلك بأمر متجدد عقوبة لهؤلاء الذين عبدوا العجل ، والمأمور بقتل أنفسهم عبّاد العجل ، أو من عبد ومن لم يعبد. والمعنى : اقتلوا الذين عبدوا العجل من أهلكم ، كقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (٢) ، أي من أهلكم وجلدتكم ، أو الجميع مأمورون بقتل أنفسهم ، ثلاثة أقوال. وقال ابن إسحاق : أمروا بأن يستسلموا للقتل ، وسمي الاستسلام للقتل قتلا على سبيل المجاز. وقيل : معنى فاقتلوا أنفسكم : ذللوا أهواءكم. وقد قدمنا أن التقتيل بمعنى التذليل ، ومنه أيضا قول حسان :

إن التي عاطيتني فرددتها

قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

فتلخص في قوله : (فَاقْتُلُوا) ، ثلاثة أقوال : الأول : الأمر بقتل أنفسهم. الثاني : الاستسلام للقتل. والثالث : التذليل للأهواء. والأول هو الظاهر ، وهو الذي نقله أكثر الناس. وظاهر الكلام أنهم هم المأمورون بقتل أنفسهم ، فقيل : وقع القتل هكذا قتلوا أنفسهم بأيديهم. وقيل : قتل بعضهم بعضا من غير تعيين قاتل ولا مقتول. وقيل : القاتلون هم الذين اعتزلوا مع هارون ، والمقتولون عباد العجل. وقيل : القاتلون هم الذين كانوا مع

__________________

(١) سورة الملك : ٦٧ / ٣.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ١٢٨.

٣٣٥

موسى في المناجاة بطور سيناء ، والمقتولون من عداهم. وإذا قلنا : إن بعضهم قتل بعضا ، فاختلفوا في كيفية القتل ، فقيل : اصطفوا صفين ، فاجتلدوا بالسيوف والخناجر ، فقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم : كفوا ، فكان ذلك شهادة للمقتول ، وتوبة للقاتل ، وقيل : أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك. وقيل : وقف عباد العجل صفا ، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقيل : احتبى عباد العجل في أفنية دورهم ، أو في موضع غيره ، وخرج عليهم يوشع بن نون وهم محتبون فقال : ملعون من حل حبوته ، أو مد طرفه إلى قاتله ، أو اتقاه بيد أو رجل ، فيقولون : آمين. فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم سبعون ألفا. وفي رواية ، قال لهم : من حل حبوته لم تقبل توبته ، ولم يذكر اللعنة. وقيل : إن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه ، فلم يمكنهم المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم ، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم ، وقيل لهم : أصبروا ، فلعن الله من مد طرفه ، أو حل حبوته ، أو اتقى بيد أو رجل ، فيقولون : آمين ، فقتلوهم إلى المساء ، حتى دعا موسى وهارون ، قالا : يا رب! هلكت بنو إسرائيل البقية البقية ، فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، فسقطت الشفار من أيديهم ، وكانت القتلى سبعين ألفا. انتهى ما نقلناه من بعض ما أورده المفسرون في كيفية القتل وفي القاتلين والمقتولين. وفي ذلك من الاتعاظ والاعتبار ما يوجب مبادرة الازدجار عن مخالفة الملك القهار. وانظر إلى لطف الله بهذه الملة المحمدية ، إذ جعل توبتها في الإقلاع عن الذنب ، والندم عليه ، والعزم على عدم المعاودة إليه.

والفاء في قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، إن قلنا : إن التوبة هي نفس القتل ، وأن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم ، فتكون هذه الجملة بدلا من قوله ، فتوبوا ، والفاء كهي في فتوبوا معها السببية. وإن قلنا : إن القتل هو تمام توبتهم ، فتكون الفاء للتعقيب ، والمعنى فأتبعوا التوبة القتل ، تتمة لتوبتكم. وقد أنكر في المنتخب كون القتل يكون توبة وجعل القتل شرطا في التوبة ، فأطلق عليه مجازا ، كما يقال للغاصب إذا قصد التوبة : توبتك رد ما غصبت ، يعني أنه لا تنم توبتك إلا به ، فكذلك هنا. وتعدية التوبة بإلى معناه الانتهاء بها إلى الله ، فتكون بريئة من الرياء في التوبة ، لأنهم إن راءوا بها لم تكن إلى الله. ولا يلتفت إلى ما وقع في المنتخب من أن المفسرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ، إذ قد نقلنا أن منهم من قال ذلك ، فليس بإجماع. وأما منع عبد الجبار ذلك من جهة العقل ، بأن القتل هو نقض البنية التي عنده ، يجب أن يخرج من أن يكون حيا ، وما عدا ذلك إنما

٣٣٦

يسمى قتيلا على سبيل المجاز ، قال : وهذا لا يجوز أن يأمر الله به ، لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح لذلك المكلف ، ولا يكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة ، وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه ، وهذا بخلاف ما يفعله الله من الإماتة ، لأن ذلك من فعل الله تعالى ، فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحا لمكلف آخر ، وبخلاف أن يأمر الله بأن يجرح نفسه أو يقطع عضوا من أعضائه ، ولا يحصل الموت عقيبه ، لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حيا لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحا في الأفعال المستقبلة. انتهى كلامه ، وهو مبني على قاعدتهم في الاعتزال من مراعاة المصلحة. والكلام معهم في ذلك مذكور في أصول الدين ، مع أنه يمكن أن يقال هنا بالمصلحة ، لأن الأمر بالقتل ليس إلا من باب الزواجر والروادع ، وليس من شرط ذلك اعتبار حال المكلف ، بل يصنع الزواجر لازدجار غيره. وإذا فعل مثل هذا الفعل العظيم الذي هو القتل بمن عبد العجل ، اتعظ به غيره وانكف عن الوقوع فيما لا يكون التوبة منه إلا بالقتل.

وقرأ قتادة فيما نقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهم : فأقيلوا أنفسكم ، وقال الثعلبي : قرأ قتادة : فاقتلوا أنفسكم. فأما فأقيلوا ، فهو أمر من الإقالة ، وكأنّ المعنى : أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه من عبادة العجل ، وقد هلكت فأقيلوها بالتوبة والتزام الطاعة ، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات. وأما فاقتالوا أنفسكم ، فقالوا : هو افتعل بمعنى استفعل ، أي فاستقيلوها ، والمشهور استقال لا اقتال. قال ابن جني : يضعف أن يكون عينها واوا كاقتادوا ، ويحتمل أن تكون ياء كأقياس ، والتصريف يضعف أن يكون من الاستقالة ، كما قال ابن جني ، فهذه اللفظة لا شك مسموعة بدليل نقل قتادة لها ويكون مما جاءت فيه افتعل بمعنى استفعل ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل ، وذلك نحو : اعتصم واستعصم. قال السلميّ : فتوبوا إلى بارئكم. ارجعوا إليه بأسراركم وقلوبكم ، فاقتلوا أنفسكم بالتبري منها ، فإنها لا تصلح لبساط الإنس. وقال الواسطي : كانت توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم ، ولهذه الأمة أشد ، وهو إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم الهياكل. وقال فارس : التوبة محو البشرية بمباينات الإلهية. وقيل : توبوا إليه من أفعالكم وأقوالكم وطاعاتكم ، واقتلوا أنفسكم في طاعاته ، وقتل النفس عما دون الله وعن الله بالفراغ من طلب الجزاء حتى ترجع إلى أصل العدم ، ويبقى الحق كما لم يزل. وقال بعض أهل اللطائف : التوبة بقتل النفس غير منسوخة ، لأن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهرا ، وهذه الأمة قتل أنفسهم في

٣٣٧

أنفسهم ، وأول قدم في القصد إلى الله الخروج عن النفس توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق ، ولا كما توهموا ، فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة ، وأما أهل الخصوص ففي كل لحظة قتل ، قال الشاعر :

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميت الأحياء

(ذلِكُمْ) : إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : فاقتلوا ، لأنه أقرب مذكور ، أي القتل : (خَيْرٌ لَكُمْ) وقال بعضهم : هو إشارة إلى المصدرين المفهومين من قوله : فتوبوا واقتلوا ، فأوقع المفرد موقع التثنية ، أي فالتوبة والقتل خير لكم ، فيكون مثل قولهم في قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (١) أي بين ذينك أي الفارض والبكر ، وكذلك قوله :

إن للخير وللشر مدى

وكلا ذلك وجه وقبل

أي : وكلا ذينك ، وهذا ينبني على ما قدمناه من أن قوله : فاقتلوا ، هل هو تفسير للتوبة؟ فتكون التوبة هي القتل. فينبغي أن يكون ذلكم مفردا أشير به إلى مفرد ، وهو القتل ، أو يكون القتل مغايرا للتوبة ، فيحتمل هذا الذي قاله هذا القائل ، ولكن الأرجح خير ، إن كانت للتفضيل فقيل : المعنى خير من العصيان والإصرار على الذنب. وقيل : خير من ثمرة العصيان ، وهو الهلاك الذي لهم ، إذ الهلاك المتناهي خير من الهلاك غير المتناهي ، إذ الموت لا بد منه ، فليس فيه إلا التقديم والتأخير. وكلا هذين التوجيهين ليس التفضيل على بابه ، إذ العصيان والهلاك غير المتناهي لا خير فيه ، فيوصف غيره بأنه أزيد في الخيرية عليه ، ولكن يكون على حد قولهم : العسل أحلى من الخل. ويحتمل أن لا يكون للتفضيل بل أريد به خير من الخيور. لكم : متعلق بخير إن كان للتفضيل ، وإن كانت على أنها خير من الخيور فيتعلق بمحذوف ، أي خير كائن لكم. والتخريجان يجريان في نصب قوله : (عِنْدَ بارِئِكُمْ). والعندية هنا مجاز ، إذ هي ظرف مكان وتجوّز به عن معنى حصول ثوابهم من الله تعالى. وكرر البارئ باللفظ الظاهر توكيدا ، ولأنها جملة مستقلة فناسب الإظهار ، وللتنبيه على أن هذا الفعل هو راجح عند الذي أنشأكم ، فكما رأى أن إنشاءكم راجح ، رأى أن إعدامكم بهذا الطريق من القتل راجح ، فينبغي التسليم له في كل حال ، وتلقي ما يرد من قبله بالقبول والامتثال.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٨.

٣٣٨

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) : ظاهره أنه إخبار من الله تعالى بالتوبة عليهم ، ولا بد من تقدير محذوف عطفت عليه هذه الجملة ، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم. وتكون هاتان الجملتان مندرجتين تحت الإضافة إلى الظرف الذي هو : إذ في قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ). وأجاز الزمخشري أن يكون مندرجا تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف ، كأنه قال : فإن فعلتم فقد تاب عليكم ، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوفة ، هي وحرف الشرط ، وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز ، وذلك أن الجواب يجوز حذفه كثيرا للدليل عليه. وأما فعل الشرط وحده دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفيا بلا في الكلام الفصيح ، نحو قوله :

فطلقها فلست لها بكفؤ

وإن لا يعل مفرقك الحسام

التقدير : وأن لا تطلقها يعل ، فإن كان غير منفي بلا ، فلا يجوز ذلك إلا في ضرورة ، نحو قوله :

سقته الرواعد من صيف وإن

من خريف فلن يعدما

التقدير : وإن سقته من خريف فلن يعدم الري ، وذلك على أحد التخريجين في البيت ، وكذلك حذف فعل الشرط وفعل الجواب دون أن يجوز في الضرورة ، نحو قوله :

قالت بنات العمّ يا سلمى وإن

كان عييا معدما قالت وإن

التقدير : وإن كان عييا معدما أتزوجه. وأما حذف فعل الشرط وأداة الشرط معا ، وإبقاء الجواب ، فلا يجوز إذا لم يثبت ذلك من كلام العرب. وأما جزم الفعل بعد الأمر والنهي وأخواتهما فله. ولتعليل ما ذكرنا من الأحكام مكان آخر يذكر في علم النحو. وظاهر قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أنه كما قلنا : إخبار عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك. وقال ابن عطية : معناه على الباقين ، وجعل الله القتل لمن قتل شهادة ، وتاب على الباقين وعفا عنهم ، انتهى كلامه. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) : تقدم الكلام على هذه الجملة عند قوله تعالى في قصة آدم : (فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١) ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى) : هذه محاورة بني إسرائيل لموسى ، وذلك بعد محاورته لهم في الآية قبل هذا. والضمير في قلتم قيل للسبعين المختارين ، قاله ابن مسعود وقتادة ، وذكر

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٧.

٣٣٩

في اختيار السبعين كيفية ستأتي ، إن شاء الله تعالى ، في مكانها في الأعراف. وقيل : الضمير لسائر بني إسرائيل إلا من عصمه الله ، قاله ابن زيد. وقيل : الذين انفردوا مع هارون ولم يعبدوا العجل. وقال بعض من جمع في التفسير : تظافرت أقوال أئمة التفسير على أن الذين أصابتهم الصاعقة هم السبعون رجلا الذين اختارهم موسى ومضى بهم لميقات ربه ومناجاته ، وما ذكر لا يمكن مع ذكر الاختلاف في قوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ) ، لأن الظاهر أن القائل ذلك هم الذين أخذتهم الصاعقة ، إلا إن كان ذلك من تلوين الخطاب ، وهو هنا بعيد. وفي نداء بني إسرائيل لنبيهم باسمه سوء أدب منهم معه ، إذ لم يقولوا : يا نبي الله ، أو يا رسول الله ، أو يا كليم الله ، أو غير ذلك من الألفاظ التي تشعر بصفات التعظيم ، وهي كانت عادتهم معه : يا موسى لن نصبر على طعام واحد ، يا موسى اجعل لنا إلها ، يا موسى ادع لنا ربك. وقد قال الله لهذه الأمّة لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ..

(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) : قيل معناه : لن نصدّقك فيما جئت به من التوراة ، ولم يريدوا نفي الإيمان به بدليل قولهم لك ، ولم يقولوا بك نحو : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (١) ، أي بمصدّق. وقيل معناه : لن نقرّ لك ، فعبر عن الإقرار بالإيمان وعدّاه باللام ، وقد جاء (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) ، قال : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) (٢) ، قالوا : أقررنا ، فيكون المعنى : لن نقرّ لك بأن التوراة من عند الله. وقيل : يجوز أن تكون اللام للعلة ، أي لن نؤمن لأجل قولك بالتوراة. وقيل : يجوز أن يراد نفي الكمال ، أي لا يكمل إيماننا لك ، كما قيل في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأهله والناس أجمعين».

(حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) حتى : هنا حرف غاية ، أخبروا بنفي إيمانهم مستصحبا إلى هذه الغاية ومفهومها أنهم إذا رأوا الله جهرة آمنوا ، والرؤية هنا : هي البصرية ، وهي التي لا حجاب دونها ولا ساتر ، وانتصاب جهرة على أنه مصدر مؤكد مزيل لاحتمال الرّؤية أن تكون مناما أو علما بالقلب. والمعنى حتى نرى الله عيانا ، وهو مصدر من قولك : جهر بالقراءة وبالدعاء ، أي أعلن بها فأريد بها نوع من الرّؤية ، فانتصابها على حدّ قولهم : قعد القرفصاء ، وفي : نصب هذا النوع خلاف مذكور في النحو. والأصح أن يكون منصوبا بالفعل السابق يعدى إلى النوع ، كما تعدّى إلى لفظ المصدر الملاقي مع الفعل في الاشتقاق ، وقيل انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال على تقدير الحذف ، أي ذوي

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ١٧.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٨١.

٣٤٠