البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

و (حم) وأخواتها إلا (حم عسق) فإنها آيتان و (كهيعص) آية ، وأما (المر) وأخواتها فليست بآية ، وكذلك (طس) و (ص) و (ق) و (ن وَالْقَلَمِ) وق وص حروف دل كل حرف منها على كلمة ، وجعلوا الكلمة آية ، كما عدوا : (الرَّحْمنُ) و (مُدْهامَّتانِ) آيتين. وقال البصريون وغيرهم : ليس شيء من ذلك آية. وذكر المفسرون الاقتصار على هذه الحروف في أوائل السور ، وأن ذلك الاقتصار كان لوجوه ذكروها لا يقوم على شيء منها برهان فتركت ذكرها. وذكروا أن التركيب من هذه الحروف انتهى إلى خمسة ، وهو : كهيعص ، لأنه أقصى ما يتركب منه الاسم المجرد ، وقطع ابن القعقاع ألف لام ميم حرفا حرفا بوقفة وقفة ، وكذلك سائر حروف التهجي من الفواتح ، وبين النون من طسم ويس وعسق ونون إلا في طس تلك فإنه لم يظهر ، وذلك اسم مشار بعيد ، ويصح أن يكون في قوله (ذلِكَ الْكِتابُ) على بابه فيحمل عليه ولا حاجة إلى إطلاقه بمعنى هذا ، كما ذهب إليه بعضهم فيكون للقريب ، فإذا حملناه على موضوعه فالمشار إليه ما نزل بمكة من القرآن ، قاله ابن كيسان وغيره ، أو التوراة والإنجيل ، قاله عكرمة ، أو ما في اللوح المحفوظ ، قاله ابن حبيب ، أو ما وعد به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنه ينزل إليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد ، قاله ابن عباس ، أو الكتاب الذي وعد به يوم الميثاق ، قاله عطاء بن السائب ، أو الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل ، قاله ابن رئاب ، أو الذي لم ينزل من القرآن ، أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي بين المنزل والمنزل إليه ، أو ذلك إشارة إلى حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها.

وسمعت الأستاذ أبا جعفر بن إبراهيم بن الزبير شيخنا يقول : ذلك إشارة إلى الصراط في قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ) (١) ، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم : ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب. وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد ، وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره ، لا إلى شيء لم يجر له ذكر ، وقد ركبوا وجوها من الإعراب في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ). والذي نختاره منها أن قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار ، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار ، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن ، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه ، وأبعدها من التكلف ، وأسوغها في لسان العرب. ولسنا كمن جعل كلام الله تعالى كشعر امرئ

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٦.

٦١

القيس ، وشعر الأعشى ، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات. فكما أن كلام الله من أفصح كلام ، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه ، هذا على أنا إنما نذكر كثيرا مما ذكروه لينظر فيه ، فربما يظهر لبعض المتأملين ترجيح شيء منه ، فقالوا : يجوز أن يكون ذلك خبر المبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف بيان ، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبرا. وفي موضع خبر (الم) و (لا رَيْبَ) جملة تحتمل الاستئناف ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وأن تكون في موضع خبر لذلك ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف أو خبر بعد خبر ، إذا كان الكتاب خبرا ، وقلت بتعدد الأخبار التي ليست في معنى خبر واحد ، وهذا أولى بالبعد لتباين أحد الخبرين ، لأن الأول مفرد والثاني جملة ، وأن يكون في موضع نصب أي مبرأ من الريب ، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل إن ، فهو في موضع نصب ولا وهو في موضع رفع بالابتداء ، فالمرفوع بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء إلا النصب في الاسم فقط ، هذا مذهب سيبويه. وأما الأخفش فذلك المرفوع خبر للا ، فعملت عنده النصب والرفع ، وتقرير هذا في كتب النحو. وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب ، والفتح هو قراءة الجمهور.

وقرأ أبو الشعثاء : (لا رَيْبَ فِيهِ) بالرفع ، وكذا قراءة زيد بن علي حيث وقع ، والمراد أيضا هنا الاستغراق ، لا من اللفظ بل من دلالة المعنى ، لأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه ، وصار نظير من قرأ : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) (١) بالبناء والرفع ، لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم ، والرفع لا يدل لأنه يحتمل العموم ، ويحتمل نفي الوحدة ، لكن سياق الكلام يبين أن المراد العموم ، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه الخبر ، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا ، أو يكون عملها إعمال ليس ، فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل ليس رفعت الاسم ونصبت الخبر ، أو على مذهب من ينسب العمل لها في رفع الاسم خاصة ، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضع رفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الاسم معها ، وذلك في مذهب سيبويه ، وسيأتي الكلام مشبعا في ذلك عند قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) (٢) ، وحمل لا في قراءة لا ريب على أنها تعمل عمل ليس ضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس ، فلهذا كانت هذه القراءة ضعيفة. وقرأ الزهري ، وابن محيصن ، ومسلم بن جندب ، وعبيد بن عمير ، فيه :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٩٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٩٧.

٦٢

بضم الهاء ، وكذلك إليه وعليه وبه ونصله ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن أبي إسحاق : فهو بضم الهاء ووصلها بواو ، وجوزوا في قوله : أن يكون خبرا للا على مذهب الأخفش ، وخبرا لها مع اسمها على مذهب سيبويه ، أن يكون صفة والخبر محذوف ، وأن يكون من صلة ريب بمعنى أنه يضمر عامل من لفظ ريب فيتعلق به ، إلا أنه يكون متعلقا بنفس لا ريب ، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه ، لأنه يصير اسم لا مطولا بمعموله نحو لا ضاربا زيدا عندنا ، والذي نختاره أن الخبر محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علم لم تلفظ به بنو تميم ، وكثر حذفه عند أهل الحجاز ، وهو هنا معلوم ، فاحمله على أحسن الوجوه في الإعراب ، وإدغام الباء من لا ريب في فاء فيه مروي عن أبي عمرو ، والمشهور عنه الإظهار ، وهي رواية اليزيدي عنه. وقد قرأته بالوجهين على الأستاذ أبي جعفر بن الطباع بالأندلس ، ونفي الريب يدل على نفي الماهية ، أي ليس مما يحله الريب ولا يكون فيه ، ولا يدل ذلك على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس كثيرين. فعلى ما قلناه لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة ، كما حمله الزمخشري ، ولا يرد علينا قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) (١) لاختلاف الحال والمحل ، فالحال هناك المخاطبون ، والريب هو المحل ، والحال هنا منفي ، والمحل الكتاب ، فلا تنافي بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفيا عن القرآن.

وقد قيد بعضهم الريب فقال : لا ريب فيه عند المتكلم به ، وقيل هو عموم يراد به الخصوص ، أي عند المؤمنين ، وبعضهم جعله على حذف مضاف ، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام معانيه وصدق أخباره. وهذه التقادير لا يحتاج إليها. واختيار الزمخشري أن فيه خبر ، وبذلك بني عليه سؤالا وهو أن قال : هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على القول في قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) (٢)؟ وأجاب : بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد ، وهو أن كتابا غيره فيه الريب ، كما قصد في قوله : (لا فِيها غَوْلٌ) تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي ، كأنه قيل ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر ، ولا نعلم أحدا يفرق بين : ليس في الدار رجل ، وليس رجل في الدار ، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال ، وقد وصفت بذلك العرب خمر الدنيا ، قال علقمة بن عبدة :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٣.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ٤٧.

٦٣

تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها

ولا يخالطها في الرأس تدويم

وأبعد من ذهب إلى أن قوله : لا ريب صيغة خبر ومعناه النهي عن الريب. وجوزوا في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ ، وفيه في موضع الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو هدى ، أو على فيه مضمرة إذا جعلنا فيه من تمام لا ريب ، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عن ذلك ، وبقوله لا ريب فيه ، ثم جاء هذا خبرا ثالثا ، أو كان الكتاب تابعا وهدى خبر ثان على ما مر في الإعراب ، أو في موضع نصب على الحال ، وبولغ بجعل المصدر حالا وصاحب الحال اسم الإشارة ، أو الكتاب ، والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة أو الضمير في فيه ، والعامل ما في الظرف من الاستقرار وهو مشكل لأن الحال تقييد ، فيكون انتقال الريب مقيدا بالحال إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين ، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة. والأولى : جعل كل جملة مستقلة ، فذلك الكتاب جملة ، ولا ريب جملة ، وفيه هدى للمتقين جملة ، ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض. فالأولى أخبرت بأن المشار إليه هو الكتاب الكامل ، كما تقول : زيد الرجل ، أي الكامل في الأوصاف. والثانية نعت لا يكون شيء ما من ريب. والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين. والمجاز إما في فيه هدى ، أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون فصار نظير اهدنا الصراط ، وإما في المتقين أي المشارفين لاكتساب التقوى ، كقوله :

إذا ما مات ميت من تميم

والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك ، وهل التقوى تتناول اجتناب الصغائر؟ في ذلك خلاف. وجوز بعضهم أن يكون التقدير هدى للمتقين والكافرين ، فحذف لدلالة أحد الفريقين ، وخص المتقين بالذكر تشريفا لهم. ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب ، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى الله تعالى ، هو الكتاب أي الكامل في الكتب ، وهو المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي قال فيه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١) ، فإذا كان جميع الأشياء فيه ، فلا كتاب أكمل منه ، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى. ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزاء حقيقة لا مجاز فيها ، وفي الثانية مجازا لحذف لأنا

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

٦٤

اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب ، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام ، إذ جعل القرآن ظرفا والهدى مظروفا ، فألحق المعنى بالعين ، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك : زيد في البيت : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) : الإيمان : التصديق ، (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (١) ، وأصله من الأمن أو الأمانة ، ومعناهما الطمأنينة ، منه : صدقه ، وأمن به : وثق به ، والهمزة في أمن للصيرورة كأعشب ، أو لمطاوعة فعل كأكب ، وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء ، وهو يتعدى بالباء واللام (فَما آمَنَ لِمُوسى) (٢) ، والتعدية باللام في ضمنها تعد بالباء ، فهذا فرق ما بين التعديتين. الغيب : مصدر غاب يغيب إذا توارى ، وسمى المطمئن من الأرض غيبا لذلك أو فعيل من غاب فأصله غيب ، وخفف نحو : لين في لين ، والفارسي لا يرى ذلك قياسا في بنات الياء ، فلا يجيز في لين التخفيف ويجيزه في ذوات الواو ، نحو : سيد وميت ، وغيره قاسه فيهما. وابن مالك وافق أبا علي في ذوات الياء. وخالف الفارسي في ذوات الواو ، فزعم أنه محفوظ لا مقيس ، وتقرير هذا في علم التصريف. (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) والإقامة : التقويم ، أقام العود قومه ، أو الإدامة أقامت الغزالة سوق الضراب ، أي أدامتها من قامت السوق ، أو التشمر والنهوض من قام بالأمر ، والهمزة في أقام للتعدية. الصلاة : فعلة ، وأصله الواو لاشتقاقه من الصلى ، وهو عرق متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب ، ويمتد منه عرقان في كل ورك ، عرق يقال لهما الصلوان فإذا ركع المصلي انحنى صلاه وتحرك فسمي بذلك مصليا ، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل لأنه يأتي مع صلوى السابق. قال ابن عطية : فاشتقت الصلاة منه إما لأنها جاءت ثانية الإيمان فشبهت بالمصلى من الخيل ، وإما لأن الراكع والساجد ينثني صلواه ، والصلاة حقيقة شرعية تنتظم من أقوال وهيئآت مخصوصة ، وصلى فعل الصلاة ، وأما صلى دعا فمجاز وعلاقته تشبيه الداعي في التخشع والرغبة بفاعل الصلاة ، وجعل ابن عطية الصلاة مما أخذ من صلى بمعنى دعا ، كما قال :

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي

نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

وقال :

لها حارس لا يبرح الدهر بيتها

وإن ذبحت صلى عليها وزمزما

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ١٧.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٨٣.

٦٥

قال : فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء ، وانضاف إليه هيئآت وقراءة ، سمى جميع ذلك باسم الدعاء والقول إنها من الدعاء أحسن ، انتهى كلامه. وقد ذكر أن ذلك مجاز عندنا ، وذكرنا العلاقة بين الداعي وفاعل الصلاة ، ومن حرف جر. وزعم الكسائي أن أصلها منا مستدلا بقول بعض قضاعة :

بذلنا مارن الخطى فيهم

وكل مهند ذكر حسام

منا أن ذر قرن الشمس حتى

أغاب شريدهم قتر الظلام

وتأول ابن جني ، رحمه‌الله ، على أنه مصدر على فعل من منى يمنى أي قدر. واغتر بعضهم بهذا البيت فقال : وقد يقال منا. وقد تكون لابتداء الغاية وللتبعيض ، وزائدة وزيد لبيان الجنس ، وللتعليل ، وللبدل ، وللمجاوزة والاستعلاء ، ولانتهاء الغاية ، وللفصل ، ولموافقة الباء ، ولموافقة في. مثل ذلك : سرت من البصرة إلى الكوفة ، أكلت من الرغيف ، ما قام من رجل ، (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) (١) ، (فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) (٢) ، (بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) (٣) ، (غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) (٤) ، قربت منه ، (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) (٥) ، (يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) (٦) (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) (٧) (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) (٨). ما تكون موصولة ، واستفهامية ، وشرطية ، وموصوفة ، وصفة ، وتامة. مثل ذلك : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) مال هذا الرسول ، (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) ، مررت بما معجب لك ، لأمر ما جدع قصير أنفه ، ما أحسن زيدا. (رَزَقْناهُمْ) الرزق : العطاء ، وهو الشيء الذي يرزق كالطحن ، والرزق المصدر ، وقيل الرزق أيضا مصدر رزقته أعطيته ، (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) وقال :

رزقت مالا ولم ترزق منافعه

إن الشقي هو المحروم ما رزقا

وقيل : أصل الرزق الحظ ، ومعاني فعل كثيرة ذكر منها : الجمع ، والتفريق ، والإعطاء ، والمنع ، والامتناع ، والإيذاء ، والغلبة ، والدفع ، والتحويل ، والتحول ، والاستقرار ، والسير ، والستر ، والتجريد ، والرمي ، والإصلاح ، والتصويت. مثل ذلك :

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٣١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٩.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٣٨.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ١٢١.

(٥) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٧.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٠.

(٧) سورة الشورى : ٤٣ / ٤٥.

(٨) سورة فاطر : ٣٥ / ٤٠.

٦٦

حشر ، وقسم ، ومنح ، وغفل ، وشمس ، ولسع ، وقهر ، ودرأ ، وصرف ، وظعن ، وسكن ، ورمل ، وحجب ، وسلخ ، وقذف ، وسبح ، وصرخ. وهي هنا للإعطاء نحو : نحل ، ووهب ، ومنح. (يُنْفِقُونَ) ، الإنفاق : الإنفاذ ، أنفقت الشيء وأنفذته بمعنى واحد ، والهمزة للتعدية ، يقال نفق الشيء نفذ ، وأصل هذه المادة تدل على الخروج والذهاب ، ومنه : نافق ، والنافقاء ، ونفق ...

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ، الذين ذكروا في إعرابه الخفض على النعت للمتقين ، أو البدل والنصب على المدح على القطع ، أو بإضمار أعني على التفسير قالوا ، أو على موضع المتقين ، تخيلوا أن له موضعا وأنه نصب ، واغتروا بالمصدر فتوهموا أنه معمول له عدي باللام ، والمصدر هنا ناب عن اسم الفاعل فلا يعمل ، وإن عمل اسم الفاعل وأنه بقي على مصدريته فلا يعمل ، لأنه هنا لا ينحل بحرف مصدر وفعل ، ولا هو بدل من اللفظ بالفعل ، بل للمتقين يتعلق بمحذوف صفة لقوله هدى ، أي هدى كائن للمتقين ، والرفع على القطع أي هم الذين ، أو على الابتداء والخبر.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، أولئك المتقدمة ، وأولئك المتأخرة ، والواو مقحمة ، وهذا الأخير إعراب منكر لا يليق مثله بالقرآن ، والمختار في الإعراب الجر على النعت والقطع ، إما للنصب ، وإما للرفع ، وهذه الصفة جاءت للمدح. وقرأ الجمهور : يؤمنون بالهمزة ساكنة بعد الياء ، وهي فاء الكلمة ، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش وأبو عمر ، وإذا أدرج بترك الهمز. وروي هذا عن عاصم ، وقرأ رزين بتحريك الهمزة مثل : يؤخركم ، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة لسكونها ، وأقر همزة أفعل لتحركها وتقدمها واعتلالها في الماضي والأمر ، والياء مقوية لوصول الفعل إلى الاسم ، كمررت بزيد ، فتتعلق بالفعل ، أو للحال فتتعلق بمحذوف ، أي ملتبسين بالغيب عن المؤمن به ، فيتعين في هذا الوجه المصدر ، وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل ، قالوا : وعلى معنى الغيب أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول نحو : هذا خلق الله ، ودرهم ضرب الأمير ، وفيه نظر لأن الغيب مصدر غاب اللازم ، أو على التخفيف من غيب كلين ، فلا يكون إذ ذاك مصدرا وذلك على مذهب من أجاز التخفيف ، وأجاز ذلك في الغيب الزمخشري ، ولا يصار إلى ذلك حتى يسمع منقلا من كلام العرب. والغيب هنا القرآن ، قاله عاصم بن أبي الجود ، أو ما لم ينزل

٦٧

منه ، قاله الكلبي ؛ أو كلمة التوحيد وما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الضحاك ، أو علم الوحي ، قاله ابن عباس ، وزر بن حبيش ، وابن جريج ، وابن وافد ، أو أمر الآخرة ، قاله الحسن ، أو ما غاب من علوم القرآن ، قاله عبد الله بن هانئ ، أو الله عزوجل ، قاله عطاء ، وابن جبير ، أو ما غاب عن الحواس مما يعلم بالدلالة ، قاله ابن عيسى ، أو القضاء والقدر ، أو معنى بالغيب بالقلوب ، قاله الحسن ؛ أو ما أظهره الله على أوليائه من الآيات والكرامات ، أو المهدي المنتظر ، قاله بعض الشيعة ، أو متعلق بما أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تفسير الإيمان حين سئل عنه وهو : الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر ، خيره وشره ، وإياه نختار لأنه شرح حال المتقين بأنهم الذين يؤمنون بالغيب.

والإيمان المطلوب شرعا هو ذاك ، ثم إن هذا تضمن الاعتقاد القلبي ، وهو الإيمان بالغيب ، والفعل البدني ، وهو الصلاة ، وإخراج المال. وهذه الثلاثة هي عمد أفعال المتقي ، فناسب أن يشرح الغيب بما ذكرنا ، وما فسر به الإقامة قبل يصلح أن يفسر به قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ، وقالوا : وقد يعبر بالإقامة عن الأداء ، وهو فعلها في الوقت المحدود لها ، قالوا : لأن القيام بعض أركانها ، كما عبر عنه بالقنوت ، والقنوت القيام بالركوع والسجود. قالوا : سبح إذا صلى لوجود التسبيح فيها ، (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) ، قاله الزمخشري ولا يصح إلا بارتكاب مجاز بعيد ، وهو أن يكون الأصل قامت الصلاة بمعنى أنه كان منها قيام ثم دخلت الهمزة للتعدية فقلت : أقمت الصلاة ، أي جعلتها تقوم ، أي يكون منها القيام ، والقيام حقيقة من المصلي لا من الصلاة ، فجعل منها على المجاز إذا كان من فاعلها. والصلاة هنا الصلوات الخمس ، قاله مقاتل : أو الفرائض والنوافل ، قاله الجمهور. والرزق قيل : هو الحلال ، قاله أصحابنا ، لكن المراد هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي. ومن كتبت متصلة بما محذوفة النون من الخط ، وكان حقها أن تكون منفصلة لأنها موصولة بمعنى الذي ، لكنها وصلت لأن الجار والمجرور كشيء واحد ، ولأنها قد أخفيت نون من في اللفظ فناسب حذفها في الخط ، وهنا للتبعيض ، إذ المطلوب ليس إخراج جميع ما رزقوا لأنه منهي عن التبذير والإسراف. والنفقة التي في الآية هي الزكاة الواجبة ، قاله ابن عباس ، أو نفقة العيال ، قاله ابن مسعود وابن عباس ؛ أو التطوع قبل فرض الزكاة ، قاله الضحاك معناه ، أو النفقة في الجهاد أو النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة ، وقالوا إنه كان الفرض على الرجل أن يمسك مما في يده بمقدار كفايته في يومه وليلته ويفرق باقيه على الفقراء ، ورجح كونها الزكاة المفروضة لاقترانها بأختها الصلاة في عدة مواضع من

٦٨

القرآن والسنة ، ولتشابه أوائل هذه السورة بأول سورة النمل وأول سورة لقمان ، ولأن الصلاة طهرة للبدن ، والزكاة طهرة للمال والبدن ، ولأن الصلاة شكر لنعمة البدن ، والزكاة شكر لنعمة المال ، ولأن أعظم ما لله على الأبدان من الحقوق الصلاة ، وفي الأموال الزكاة ، والأحسن أن تكون هذه الأقوال تمثيلا للمتفق لا خلافا فيه. وكثيرا ما نسب الله الرزق لنفسه حين أمر بالإنفاق ، أو أخبر به ، ولم ينسب ذلك إلى كسب العبد ليعلم أن الذي يخرجه العبد ويعطيه هو بعض ما أخرجه الله له ونحله إياه ، وجعل صلات الذين أفعالا مضارعة ، ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل ، لأنه عندهم مشعر بالثبوت والأمدح في صفة المتقين تجدد الأوصاف ، وقدم المنفق منه على الفعل اعتناء بما خول الله به العبد وإشعارا أن المخرج هو بعض ما أعطى العبد ، ولتناسب الفواصل وحذف الضمير العائد على الموصول لدلالة المعنى عليه ، أي ومما رزقناهموه ، واجتمعت فيه شروط جواز الحذف من كونه متعينا للربط معمولا لفعل متصرف تام. وأبعد من جعل ما نكرة موصوفة وقدر ، ومن شيء رزقناهمو لضعف المعنى بعد عموم المرزوق الذي ينفق منه فلا يكون فيه ذلك التمدح الذي يحصل يجعل ما موصولة لعمومها ، ولأن حذف العائد على الموصول أو جعل ما مصدرية ، فلا يكون في رزقناهم ضمير محذوف بل ما مع الفعل بتأويل المصدر ، فيضطر إلى جعل ذلك المصدر المقدر بمعنى المفعول ، لأن نفس المصدر لا ينفق منه إنما ينفق من المرزوق ، وترتيب الصلاة على حسب الإلزام. فالإيمان بالغيب لازم للمكلف دائما ، والصلاة لازمة في أكثر الأوقات ، والنفقة لازمة في بعض الأوقات ، وهذا من باب تقديم الأهم فالأهم.

الإنزال : الإيصال والإبلاغ ، ولا يشترط أن يكون من أعلا ، (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أي وصل وحل ، إلى حرف جر معناه انتهاء الغاية وزيد كونها للمصاحبة وللتبيين ولموافقة اللام وفي ومن ، وأجاز الفراء زيادتها ، مثل ذلك : سرت إلى الكوفة ، (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ، (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) ، (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) ، كأنني إلى الناس مطلبي ، أي في الناس. أيسقي فلا يروي إلى ابن أحمرا ، أي متى تهوي إليهم في قراءة من قرأ بفتح الواو ، أي تهواهم ، وحكمها في ثبوت الفاء ، وقلبها حكم على ، وقد تقدم. والكاف المتصلة بها ضمير المخاطب المذكر ، وتكسر للمؤنث ، ويلحقها ما يلحق أنت في التثنية والجمع دلالة عليهما ، وربما فتحت للمؤنث ، أو اقتصر عليها مكسورة في جمعها نحو :

ولست بسائل جارات بيتي

أغياب رجالك أم شهود

٦٩

قبل وبعد ظرفا زمان وأصلهما الوصف ولهما أحكام تذكر في النحو ، ومدلول قبل متقدم ، كما أن مدلول بعد متأخر. الآخرة تأنيث الآخر مقابل الأول وأصل الوصف (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) (١) ، (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) (٢) ، ثم صارت من الصفات الغالبة ، والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع ، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام. الإيقان : التحقق للشيء لسكونه ووضوحه ، يقال يقن الماء سكن وظهر ما تحته ، وافعل بمعنى استفعل كابل بمعنى استبل. وقرأ الجمهور : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) مبنيا للمفعول ، وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنيا للفاعل. وقرىء شاذا بما أنزل إليك بتشديد اللام ، ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل كما أسكن وضاح آخر الماضي في قوله :

إنما شعري قيد ، قد خلط بحلجان

ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى لام أنزل فالتقى المثلان من كلمتين ، والإدغام جائز فأدغم. وقرأ الجمهور : يوقنون بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة من ياء لأنه من أيقن. وقرأ أبو حية النمري بهمزة ساكنة بدل الواو ، كما قال الشاعر :

لحب المؤقذان إلى موسى

وجعدة إذ أضاءهما الوقود

وذكر أصحابنا أن هذا يكون في الضرورة ، ووجهت هذه القراءة بأن هذه الواو لما جاورت المضموم فكان الضمة فيها ، وهم يبدلون من الواو المضمومة همزة ، قالوا وفي وجوه ووقتت أجوه وأقتت ، فأبدلوا من هذه همزة ، إذ قدروا الضمة فيها وإعادة الموصول بحرف العطف يحتمل المغايرة في الذات وهو الأصل ، فيحتمل أن يراد مؤمنو أهل الكتاب لإيمانهم بكل وحي ، فإن جعلت الموصول معطوفا على الموصول اندرجوا في جملة المتقين ، إن لم يرد بالمتقين بوصفه مؤمنو العرب ، وذلك لانقسام المتقين إلى القسمين. وإن جعلته معطوفا على المتقين لم يندرج لأنه إذ ذاك قسيم لمن له الهدى لا قسم من المتقين. ويحتمل المغايرة في الوصف ، فتكون الواو للجمع بين الصفات ، ولا تغاير في الذوات بالنسبة للعطف وحذف الفاعل في قراءة الجمهور ، وبنى الفعلان للمفعول للعلم

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٨٣.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٩ ، وسورة النحل : ١٦ / ١٣٠.

٧٠

بالفاعل ، نحو : أنزل المطر ، وبناؤهما للفاعل في قراءة النخعي ، وأبي حيوة ، ويزيد بن قطيب ، فاعله مضمر ، قيل : الله أو جبريل. قالوا : وقوة الكلام تدل على ذلك وهو عندي من الالتفات لأنه تقدم قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) ، فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ، إذ لو جرى على الأول لجاء (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، و (ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ، وجعل صلة ما الأولى ماضية لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة ، فأقام الأكثر مقام الجميع ، أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يقتضي الإيمان بالمتأخر ، لأن موجب الإيمان واحد. وأما صلة الثانية فمتحققة المضي ولم يعد حرف الجر فيما الثانية ليدل أنه إيمان واحد ، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان.

وبالآخرة : تقدم أن المعنى بها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف في بعض الآي ، وحمله بعضهم على النشأة الآخرة ، إذ قد جاء أيضا مصرحا بهذا الموصوف ، وكلاهما يدل على البعث. وأكد أمر الآخرة بتعلق الإيقان بها الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق ، وإن كان في الحقيقة لا تفاوت في العلم والتصديق دفعا لمجاز إطلاق العلم ، ويراد به الظن ، فذكر أن الإيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقانا لا يخالطه شيء من الشك والارتياب. وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة التكرار ، وكان الإيقان هو الذي خص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقات الآخرة ، وما أعد فيها من الثواب والعقاب السرمديين ، وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ، ونشأة أصحابها على خلاف النشأة الدنيوية ورؤية الله تعالى. فالآخرة أغرب في الإيمان بالغيب من الكتاب المنزل ، فلذلك خص بلفظ الإيقان ، ولأن المنزل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشاهد أو كالمشاهد ، والآخرة غيب صرف ، فناسب تعليق اليقين بما كان غيبا صرفا. قالوا : والإيقان هو العلم الحادث سواء كان ضروريا أو استدلاليا ، فلذلك لا يوصف به الباري تعالى ، ليس من صفاته الموقن وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر. وإيراد هذه الجملة اسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة فعلية آكد في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان ، لأن قولك : زيد فعل آكد من فعل زيد لتكرار الاسم في الكلام بكونه مضمرا ، وتصديره مبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه ، كما أن التقديم للفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به. وذكر لفظة هم في قوله : (هُمْ يُوقِنُونَ) ، ولم يذكر لفظة هم في قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق ، فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان فيه قلق لفظي ، إذ كان يكون ومما رزقناهم هم

٧١

ينفقون. أولئك : اسم إشارة للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث. والمشهور عند أصحابنا أنه للرتبة القصوى كأولالك ، وقال بعضهم هو للرتبة الوسطى ، قاسه على ذا حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غير حرف الخطاب ، بخلاف أولالك. ويضعف قوله كون هاء التنبيه لا ندخل عليه. وكتبوه بالواو فرقا بينه وبين إليك ، وبنى لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به ، وحرك لالتقاء الساكنين ، وبالكسر على أصل التقائهما. الفلاح : الفوز والظفر بإدراك البغية ، أو البقاء ، قيل : وأصله الشق والقطع :

إن الحديد بالحديد يفلح

وفي تشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو : فلى وفلق وفلذ ، تقدم في إعراب (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، إن من وجهي رفعه كونه مبتدأ ، فعلى هذا يكون أولئك مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين ، ويجوز أن يكون بدلا وعطف بيان ، ويمتنع الوصف لكونه أعرف. ويكون خبر الذين إذ ذاك قوله : (عَلى هُدىً) ، وإن كان رفع الذين على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو كان مجرورا أو منصوبا ، كان أولئك مبتدأ خبره (عَلى هُدىً) ، وقد تقدم أنا لا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به ، وأي فائدة للتكلف والتعسف في الاستئناف فيما هو ظاهر التعلق بما قبله والارتباط به. وقد وجه الزمخشري وجه الاستئناف بأنه لما ذكر أن الكتاب اختص المتقون بكونه هدى لهم ، اتجه لسائل أن يقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فأجيب بأن الذين جمعوا هذه الأوصاف الجليلة من الإيمان بالغيب ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق ، والإيمان بالمنزل ، والإيقان بالآخرة على هدى في العاجل ، وذوو فلاح في الآجل. ثم مثل هذا الذي قرره من الاستئناف بقوله : أحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه ، فكشفوا الكرب عن وجهه ، أولئك أهل للمحبة ، يعني أنه استأنف فابتدأ بصفة المتقين ، كما استأنف بصفة الأنصار.

وعلى ما اخترناه من الاتصال يكون قد وصف المتقين بصفات مدح فضلت جهات التقوى ، ثم أشار إليهم وأعلم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى ، وهو المفلح والاستعلاء الذي أفادته في قوله : (عَلى هُدىً) ، هو مجاز نزل المعنى منزلة العين ، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا كأنهم استعلوه كما تقول : فلان على الحق ، وإنما حصل لهم هذا الاستقرار على الهدى بما اشتملوا عليه من الأوصاف

٧٢

المذكورة في وصف الهدى بأنه من ربهم ، أي كائن من ربهم ، تعظيم للهدى الذي هم عليه. ومناسبة ذكر الرب هنا واضحة ، أي أنه لكونه ربهم بأي تفاسيره فسرت ناسب أن يهيئ لهم أسباب السعادتين : الدنيوية والأخروية ، فجعلهم في الدنيا على هدى ، وفي الآخرة هم مفلحون. وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز ، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوب إلى الله تعالى. ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف ، أي من هدى ربهم.

وقرأ ابن هرمز : من ربهم بضم الهاء ، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعى فيها سبق كسر أو ياء ، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر مبنيا على مبتدأ. وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقه أمر الدنيا ، ومنها ما متعلقه أمر الآخرة ، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة. ولما اختلف الخبران كما ذكرنا ، أتى بحرف العطف في المبتدأ ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول ، لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه. ألا ترى إلى قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١) بعد قوله : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) (٢) كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين اللذين للمبتدأين في المعنى؟ ويحتمل هم أن يكون فصلا أو بدلا فيكون المفلحون خيرا عن أولئك ، أو المبتدأ والمفلحون خبره ، والجملة من قوله : هم المفلحون في موضع خبر أولئك ، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو.

وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات ، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن ، لأنه محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه ، أو من يتوهم التشريك فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) (٣) ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) (٤) ، وقوله : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٥) ، (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٦) ، كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر ، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد ، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٩.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٩.

(٣) سورة النجم : ٥٣ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٤) سورة النجم : ٥٣ / ٤٨.

(٥) سورة النجم : ٥٣ / ٤٥.

(٦) سورة النجم : ٥٣ / ٥٠.

٧٣

الشركة فيه. وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعى ذلك ، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ. وأما قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (١) ، فدخول هو للإعلام بأن الله هو رب هذا النجم ، وإن كان رب كل شيء ، لأن هذا النجم عبد من دون الله واتّخذ إلها ، فأتى به لينبه بأن الله مستبد بكونه ربا لهذا المعبود ، ومن دونه لا يشاركه في ذلك أحد. والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو في الذهن ، وذلك أنك إذا قلت : زيد المنطلق ، فالمخاطب يعرف وجود ذات صدر منها انطلاق ، ويعرف زيدا ويجهل نسبة الانطلاق إليه ، وأنت تعرف كل ذلك فتقول له : زيد المنطلق ، فتفيده معرفة النسبة التي كان يجهلها ، ودخلت هو فيه إذا قلت : زيد هو المنطلق ، لتأكيد النسبة ، وإنما تؤكد النسبة عند توهم أن المخاطب يشك فيها أو ينازع أو يتوهم الشركة.

وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات من قوله تعالى : (الم) إلى قوله : (الْمُفْلِحُونَ) أقوالا : أحدها : أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب دون غيرهم ، وهو قول ابن عباس وجماعة. الثاني : نزلت في جميع المؤمنين ، قاله مجاهد.

وذكروا في هذه الآية من ضروب الفصاحة أنواعا : الأول : حسن الافتتاح ، وأنه تعالى افتتح بما فيه غموض ودقة لتنبيه السامع على النظر والفكر والاستنباط. الثاني : الإشارة في قوله ذلك أدخل اللام إشارة إلى بعد المنازل. الثالث : معدول الخطاب في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) صيغته خبر ومعناه أمر ، وقد مضى الكلام فيه. الرابع : الاختصاص هو في قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الخامس : التكرار في قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، وفي قوله : (الَّذِينَ) ، و (الَّذِينَ) إن كان الموصوف واحدا فهو تكرار اللفظ والمعنى ، وإن كان مختلفا كان من تكرار اللفظ دون المعنى ، ومن التكرار (أُولئِكَ) ، و (أُولئِكَ). السادس : تأكيد المظهر بالمضمر في قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، وفي قوله : (هُمْ يُوقِنُونَ). السابع : الحذف ، وهو في مواضع أحدها هذه ألم عند من يقدر ذلك ، وهو هدى ، وينفقون في الطاعة ، و (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن ، و (مِنْ قَبْلِكَ) ، أي قبل إرسالك ، أو قبل الإنزال ، (وَبِالْآخِرَةِ) ، أي بجزاء الآخرة ، و (يُوقِنُونَ) بالمصير إليها ، و (عَلى هُدىً) ، أي أسباب هدى ، أو على نور هدى ، و (الْمُفْلِحُونَ) ، أي الباقون في نعيم الآخرة.

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٤٩.

٧٤

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ) ، إن : حرف توكيد يتشبث بالجملة المتضمنة الإسناد الخبري ، فينصب المسند إليه ، ويرتفع المسند وجوبا عند الجمهور ، ولها ولأخواتها باب معقود في النحو. وتأتي أيضا حرف جواب بمعنى نعم خلافا لمن منع ذلك. الكفر : الستر ، ولهذا قيل : كافر للبحر ، ومغيب الشمس ، والزارع ، والدافن ، والليل ، والمتكفر ، والمتسلح. فبينها كلها قدر مشترك وهو الستر ، سواء اسم بمعنى استواء مصدر استوى ، ووصف به بمعنى مستو ، فتحمل الضمير. قالوا : مررت برجل سواء ، والعدم قالوا : أصله العدل ، قال زهير : يستوي بينها فيها السواء. ولإجرائه مجرى المصدر لا يثني ، قالوا : هما سواء استغنوا بتثنية سي بمعنى سواء ، كقي بمعنى قواء ، وقالوا : هما سيان. وحكى أبو زيد تثنيته عن بعض العرب. قالوا : هذان سواءان ، ولذلك لا تجمع أيضا ، قال :

وليل يقول الناس من ظلماته

سواء صحيحات العيون وعورها

وهمزته منقلبة عن ياء ، فهو من باب طويت.

وقال صاحب اللوامح : قرأ الجحدري سواء بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز ، فيجوز أنه أخلص الواو ، ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين ، وهو أن يكون بين الهمزة والواو. وفي كلا الوجهين لا بد من دخول النقص فيما قبل الهمزة الملينة من المد ، انتهى. فعلى هذا يكون سواء ليس لامه ياء بل واوا ، فيكون من باب قواء. وعن الخليل : سوء عليهم بضم السين مع واو بعدها مكان الألف ، مثل دائرة السوء على قراءة من ضم السين ، وفي ذلك عدول عن معنى المساواة إلى معنى القبح والسب ، ولا يكون على هذه القراءة له تعلق إعراب بالجملة بعدها بل يبقى. (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) إخبار بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك وعدم إنذارك ، وأما سواء الواقع في الاستثناء في قولهم قاموا سواك بمعنى قاموا غيرك ، فهو موافق لهذا في اللفظ ، مخالف في المعنى ، فهو من باب المشترك ، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء. الهمزة للنداء ، وزيد وللاستفهام الصرف ، وذلك ممن يجهل النسبة فيسأل عنها ، وقد يصحب الهمزة التقرير : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ)؟ والتحقيق ، ألستم خير من ركب المطايا. والتسوية (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) ، والتوبيخ (أَذْهَبْتُمْ

٧٥

طَيِّباتِكُمْ) (١) ، والإنكار أن يدنيه لمن قال جاء زيد ، وتعاقب حرف القسم الله لأفعلن. الإنذار : الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف ، وإن لم تسع سمي إعلاما وإشعارا وإخبارا ، ويتعدى إلى اثنين : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) (٢) ، (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) (٣) ، والهمزة فيه للتعدية ، يقال : نذر القوم إذا علموا بالعدو. وأم حرف عطف ، فإذا عادل الهمزة وجاء بعده مفردا أو جملة في معنى المفرد سميت أم متصلة ، وإذا انخرم هذان الشرطان أو أحدهما سميت منفصلة ، وتقرير هذا في النحو ، ولا تزاد خلافا لأبي زيد. لم حرف نفي معناه النفي وهو مما يختص بالمضارع ، اللفظ الماضي معنى ، فعمل فيه ما يخصه ، وهو الجزم ، وله أحكام ذكرت في النحو.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) الختم : الوسم بطابع أو غيره مما يوسم به. القلب : مصدر قلب ، والقلب : اللحمة الصنوبرية المعروفة سميت بالمصدر ، وكنى به في القرآن وغيره عن العقل ، وأطلق أيضا على لب كل شيء وخالصه. السمع : مصدر سمع سمعا وسماعا وكنى به في بعض المواضع عن الأذن. البصر : نور العين ، وهو ما تدرك به المرئيات. الغشاوة : الغطاء ، غشاه أي غطاه ، وتصحح الواو لأن الكلمة بنيت على تاء التأنيث ، كما صححوا اشتقاقه ، قال أبو علي الفارسي : لم أسمع من الغشاوة فعلا متصرفا بالواو ، وإذا لم يوجد ذلك كان معناها معنى ما اللام منه الياء ، غشي يغشى بدلالة قولهم : الغشيان والغشاوة من غشي ، كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء إذا لم يصرف منه فعل ، كما لم يصرف من الجباوة ، انتهى كلامه. العذاب : أصله الاستمرار ، ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم ، واشتقوا منه فقالوا : عذبته ، أي داومت عليه الألم ، وقد جعل الناس بينه وبين العذب : الذي هو الماء الحلو ، وبين عذب الفرس : استمر عطشه ، قدرا مشتركا وهو الاستمرار ، وإن اختلف متعلق الاستمرار. وقال الخليل : أصله المنع ، يقال عذب الفرس : امتنع من العلف. عظيم : اسم فاعل من عظم غير مذهوب به مذهب الزمان ، وفعيل اسم ، وصفة الاسم مفرد نحو : قميص ، وجمع نحو : كليب ، ومعنى نحو : صهيل ، والصفة مفرد فعله كقرى ، وفعله كسرى ، واسم فاعل من فعل ككريم ، وللمبالغة من فاعل كعليم ، وبمعنى أفعل كشميط ، وبمعنى مفعول كجريح ، ومفعل كسميع وأليم ، وتفعل كوكيد ،

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٠.

(٢) سورة النبأ : ٧٨ / ٤٠.

(٣) سورة فصلت : ٤١ / ١٣.

٧٦

ومفاعل كجليس ، ومفتعل كسعير ، ومستفعل كمكين ، وفعل كرطيب ، وفعل كعجيب ، وفعال كصحيح ، وبمعنى الفاعل والمفعول كصريح ، وبمعنى الواحد والجمع كخليط وجمع فاعل كغريب.

مناسبة اتصال هذه الآية بما قبلها ظاهر ، وهو أنه لما ذكر صفة من الكتاب له هدى وهم المتقون الجامعون للأوصاف المؤدية إلى الفور ، ذكر صفة ضدهم وهم الكفار المحتوم لهم بالوفاة على الكفر ، وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم ، ولذلك لم يدخل في قصة المتقين ، لأن الحديث إنما جاء فيهم بحكم الانجرار ، إذ الحديث إنما هو عن الكتاب ثم أنجز ذكرهم في الإخبار عن الكتاب ، وعلى تقدير إعراب الذين يؤمنون ، الأول والثاني مبتدأ ، فإنما هو في المعنى من تمام صفة المتقين الذين كفروا ، يحتمل أن يكون للجنس ملحوظا فيه قيد ، وهو أن يقضي عليه بالكفر والوفاة عليه ، وأن يكون لمعينين كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما. وسواء وما بعده يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون لا موضع له من الإعراب ، ويكون جملة اعتراض من مبتدأ وخبر ، بجعل سواء المبتدأ والجملة بعده الخبر أو العكس ، والخبر قوله : لا يؤمنون ، ويكون قد دخلت جملة الاعتراض تأكيدا لمضمون الجملة ، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره. والوجه الثاني : أن يكون له موضع من الإعراب ، وهو أن يكون في موضع خبر إن ، فيحتمل لا يؤمنون أن يكون له موضع من الإعراب ، إما خبر بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون ، وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال وهو بعيد ، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب فتكون جملة تفسيرية لأن عدم الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه ، كقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) (١) ، أو يكون جملة دعائية وهو بعيد ، وإذا كان لقوله تعالى : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) موضع من الإعراب فيحتمل أن يكون سواء خبر إن ، والجملة في موضع رفع على الفاعلية ، وقد اعتمد بكونه خبر الذين ، والمعنى إن الذين كفروا مستو إنذارهم وعدمه. وفي كون الجملة تقع فاعلة خلاف مذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا اسما أو ما هو في تقديره ، ومذهب هشام وثعلب وجماعة من الكوفيين جواز كون الجملة تكون فاعلة ، وأجازوا يعجبني يقوم زيد ، وظهر لي أقام زيد أم عمرو ، أي قيام أحدهما ، ومذهب الفراء وجماعة : أنه إن كانت الجملة معمولة لفعل من أفعال القلوب وعلق عنها ، جاز أن تقع في

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٩.

٧٧

موضع الفاعل أو المفعول الذي لم يسم فاعله وإلا فلا ، ونسب هذا لسيبويه. قال أصحابنا : والصحيح المنع مطلقا وتقرير هذا في المبسوطات من كتب النحو. ويحتمل أن يكون قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) مبتدأ وخبرا على التقديرين اللذين ذكرناهما إذا كانت جملة اعتراض ، وتكون في موضع خبر إن ، والتقديران المذكوران عن أبي علي الفارسي وغيره. وإذا جعلنا سواء المبتدأ والجملة الخبر ، فلا يحتاج إلى رابط لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل ، وأكثر ما جاء سواء بعده الجملة المصدرة بالهمزة المعادلة بأم (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) (١) ، (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (٢) ، وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها ، (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ) (٣) أي أصبرتم أم لم تصبروا ، وتأتي بعده الجملة الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام ، نحو : سواء على أي الرجال ضربت ، قال زهير :

سواء عليه أي حين أتيته

أساعة نحس تتقي أم بأسعد

وقد جاء بعده ما عري عن الاستفهام ، وهو الأصل ، قال :

سواء صحيحات العيون وعورها

وأخبر عن الجملة بأن جعلت فاعلا بسواء أو مبتدأة ، وإن لم تكن مصدرة بحرف مصدري حملا على المعنى وكلام العرب منه ما طابق فيه اللفظ المعنى ، نحو : قام زيد ، وزيد قائم ، وهو أكثر كلام العرب ، ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى ، نحو : علمت أقام زيد أم قعد ، لا يجوز تقديم الجملة على علمت ، وإن كان ليس ما بعد علمت استفهاما ، بل الهمزة فيه للتسوية. ومنه ما غلب فيه المعنى على اللفظ ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية نحو :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

إذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه ، لكن لوحظ المعنى ، وهو المصدر ، فصحت الإضافة.

قال ابن عطية : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبرا سواء على أقمت أم قعدت أم ذهبت؟ وإذا قلت مستفهما أخرج زيد أم قام؟ فقد

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٢١.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٩٣.

(٣) سورة الطور : ٥٢ / ١٦.

٧٨

استوى الأمران عندك ، هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام ، وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما عممتهما التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام ، وكل استفهام تسوية ، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما ، انتهى كلامه. وهو حسن ، إلا أن في أوله مناقشة ، وهو قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وليس كذلك لأن هذا الذي صورته صورة الاستفهام ليس معناه الخبر لأنه مقدر بالمفرد إما مبتدأ وخبره سواء أو العكس ، أو فاعل سواء لكون سواء وحده خبرا لأن ، وعلى هذه التقادير كلها ليس معناه معنى الخبر وإنما سواء ، وما بعده إذا كان خبرا أو مبتدأ معناه الخبر. ولغة تميم تخفيف الهمزتين في نحو أأنذرتهم ، وبه قرأ الكوفيون ، وابن ذكوان ، وهو الأصل. وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلبا للتخفيف ، فقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وهشام : بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، إلا أن أبا عمرو ، وقالون ، وإسماعيل بن جعفر ، عن نافع ، وهشام ، يدخلون بينهما ألفا ، وابن كثير لا يدخل. وروي تحقيقا عن هشام وإدخال ألف بينهما ، وهي قراءة ابن عباس ، وابن أبي إسحاق. وروي عن ورش ، كابن كثير ، وكقالون وإبدال الهمزة الثانية ألفا فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين ، وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري ، وزعم أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين : أحدهما : الجمع بين ساكنين على غير حده. الثاني : إن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفا ، لأن ذلك هو طريق الهمزة الساكنة ، وما قاله هو مذهب البصريين ، وقد أجاز الكوفيون الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون. وقراءة ورش صحيحة النقل لا تدفع باختيار المذاهب ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة لقرآن.

وقرأ الزهري ، وابن محيصن : أنذرتهم بهمزة واحدة ، حذف الهمزة الأولى لدلالة المعنى عليها ، ولأجل ثبوت ما عاد لها ، وهو أم ، وقرأ أبي أيضا بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم الساكنة قبلها. والمفعول الثاني لأنذر محذوف لدلالة المعنى عليه ، التقدير أأنذرتهم العذاب على كفرهم أم لم تنذرهموه؟ وفائدة الإنذار مع تساويه مع العدم أنه قاطع لحجتهم ، وأنهم قد دعوا فلم يؤمنوا ، ولئلا يقولوا ربنا لو لا أرسلت ، وأن فيه تكثير الأجر بمعاناة من لا قبول له للإيمان ومقاساته ، وإن في ذلك عموم إنذاره لأنه أرسل للخلق كافة. وهل قوله : لا يؤمنون خبر عنهم أو حكم عليهم أو ذم لهم أو دعاء عليهم؟ أقوال ، وظاهر قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ) أنه إخبار من الله تعالى بختمه وحمله بعضهم على أنه دعاء عليهم ، وكنى بالختم على القلوب عن كونها لا تقبل

٧٩

شيئا من الحق ولا تعيه لإعراضها عنه ، فاستعار الشيء المحسوس والشيء المعقول ، أو مثل القلب بالوعاء الذي ختم عليه صونا لما فيه ومنعا لغيره من الدخول إليه. والأول : مجاز الاستعارة ، والثاني : مجاز التمثيل. ونقل عمن مضى أن الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه ، قال مجاهد : إذا أذنبت ضم من القلب هكذا ، وضم مجاهد الخنصر ، ثم إذا أذنبت ضم هكذا ، وضم البنصر ، ثم هكذا إلى الإبهام ، وهذا هو الختم والطبع والرين. وقيل : الختم سمة تكون فيهم تعرفهم الملائكة بها من المؤمنين. وقيل : حفظ ما في قلوبهم من الكفر ليجازيهم. وقيل : الشهادة على قلوبهم بما فيها من الكفر ونسبة الختم إلى الله تعالى بأي معنى فسر إسناد صحيح ، إذ هو إسناد إلى الفاعل الحقيقي ، إذ الله تعالى خالق كل شيء.

وقد تأول الزمخشري وغيره من المعتزلة هذا الإسناد ، إذ مذهبهم أن الله تعالى لا يخلق الكفر ولا يمنع من قبول الحق والوصول إليه ، إذ ذاك قبيح والله تعالى يتعالى عن فعل القبيح ، وذكر أنواعا من التأويل عشرة ، ملخصها : الأول : أن الختم كنى به عن الوصف الذي صار كالخلقي وكأنهم جبلوا عليه وصار كأن الله هو الذي فعل بهم ذلك. الثاني : أنه من باب التمثيل كقولهم : طارت به العنقاء ، إذا أطال الغيبة ، وكأنهم مثلت حال قلوبهم بحال قلوب ختم الله عليها. الثالث : أنه نسبه إلى السبب لما كان الله هو الذي أقدر الشيطان ومكنه أسند إليه الختم. الرابع : أنهم لما كانوا مقطوعا بهم أنهم لا يؤمنون طوعا ولم يبق طريق إيمانهم إلا بإلجاء وقسر وترك القسر عبر عن تركه بالختم. الخامس : أن يكون حكاية لما يقوله الكفار تهكما كقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ). السادس : أن الختم منه على قلوبهم هو الشهادة منه بأنهم لا يؤمنون. السابع : أنها في قوم مخصوصين فعل ذلك بهم في الدنيا عقابا عاجلا ، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا. الثامن : أن يكون ذلك فعله بهم من غير أن يحول بينهم وبين الإيمان لضيق صدورهم عقوبة غير مانعة من الإيمان. التاسع : أن يفعل بهم ذلك في الآخرة لقوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (١). العاشر : ما حكى عن الحسن البصري ، وهو اختيار أبي علي الجبائي ، والقاضي ، أن ذلك سمة وعلامة يجعلها الله تعالى في قلب الكافر وسمعه ، تستدل بذلك الملائكة على أنهم كفار وأنهم لا يؤمنون. انتهى ما قاله المعتزلة. والمسألة يبحث عنها في أصول الدين. وقد وقع قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) بين شيئين : يمكن أن يكون السمع محكوما عليه مع كل واحد منهما ، إذ يحتمل أن يكون أشرك في

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٧.

٨٠