البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

الخضوع حاصلا ، لأن المقصود من التوبة إما بالقلب فبالندم وإما باللسان فبذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب ، وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها.

يغفر ، نافع : بالياء مضمومة ، ابن عامر : بالتاء ، أبو بكر من طريق الجعفي : يغفر ، الباقون : نغفر. فمن قرأ بالياء مضمومة فلأن الخطايا مؤنث ، ومن قرأ بالياء مفتوحة فالضمير عائد على الله تعالى ويكون من باب الالتفات ، لأن صدر الآية (وَإِذْ قُلْنَا) ثم قال : يغفر ، فانتقل من ضمير متكلم معظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد ، ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على القول الدال عليه وقولوا ، أي نغفر القول ونسب الغفران إليه مجازا لما كان سببا للغفران ، ومن قرأ بالنون ، وهي قراءة باقي السبعة ، فهو الجاري على نظام ما قبله من قوله : (وَإِذْ قُلْنَا) ، وما بعده من قوله : (وَسَنَزِيدُ) ، فالكلام به في أسلوب واحد ، ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ (خَطاياكُمْ) ، وأمالها الكسائي. وقرأت طائفة : تغفر بفتح التاء ، قيل : كأن الحطة تكون سبب الغفران ، يعني قائل هذا وهو ابن عطية ، فيكون الضمير للحطة وهذا ليس بجيد ، لأن نفس اللفظة بمجردها لا تكون سببا للغفران. وقد بينا ذلك قبل ، فالضمير عائد على المقالة المفهومة من : (وَقُولُوا) ، ونسب الغفران إليها على طريق المجاز ، إذ كانت سببا للغفران. وقرأ الجحدري وقتادة : تغفر بضم التاء وإفراد الخطيئة. وروي عن قتادة : يغفر بالياء مضمومة. وقرأ الأعمش : يغفر بالياء مفتوحة وإفراد الخطيئة. وقرأ الحسن : يغفر بالياء مفتوحة والجمع المسلم. وقرأ أبو حيوة : تغفر بالتاء مضمومة وبالجمع المسلم. وحكى الأهوازي أنه قرأ : خطاياكم بهمز الألف وسكون الألف الأخيرة. وحكى عنه أيضا العكس. وتوجيه هذا الهمز أنه استثقل النطق بألفين مع أن الحاجز حرف مفتوح والفتحة تنشأ عنها الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات ، فهمز إحدى الألفين ليزول هذا الاستثقال ، وإذ كانوا قد همزوا الألف المفردة بعد فتحه في قوله :

وخندف هامة هذا العألم

فلأن يهمزوا هذا أولى ، وهذا توجيه شذوذ. ومن قرأ بضم الياء أو التاء كان : خطاياكم ، أو خطياتكم ، أو خطيتكم مفعولا لم يسم فاعله ، ومن قرأ بفتح التاء أو الياء أو بالنون ، كان ذلك مفعولا ، وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر. وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (١) ، وذكرنا الخلاف في ذلك. وهنا تقدمت

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٤٠.

٣٦١

أوامر أربعة : (ادْخُلُوا) ، (فَكُلُوا) ، (وَادْخُلُوا الْبابَ) ، (وَقُولُوا حِطَّةٌ) ، والظاهر أنه لا يكون جوابا إلا للآخرين ، وعليه المعنى ، لأن ترتب الغفران لا يكون على دخول القرية ولا على الأكل منها ، وإنما يترتب على دخول الباب لتقييده بالحال التي هي عبادة وهي السجود ، وبقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) لأن فيه السؤال بحط الذنوب ، وذلك لقوة المناسبة وللمجاورة. ويدل على ترتب ذلك عليها ما في الأعراف من قوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) ، (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) ، (نَغْفِرْ) ، والقصة واحدة. فرتب الغفران هناك على قولهم حطة ، وعلى دخول الباب سجدا ، لما تضمنه الدخول من السجود. وفي تخالف هاتين الجملتين في التقديم والتأخير دليل على أن الواو لا ترتب وإنها لمطلق الجمع. وقرأ من الجمهور : بإظهار الراء من نغفر عند اللام ، وأدغمها قوم قالوا وهو ضعيف.

(وَسَنَزِيدُ) : هنا بالواو ، وفي الأعراف (سَنَزِيدُ) ، والتي في الأعراف مختصرة. ألا ترى إلى سقوط رغدا؟ والواو من : (وَسَنَزِيدُ) ، وقوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ) (١) ، بدل ، (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، وإثبات ذلك هنا ، وناسب الإسهاب هنا والاختصار هناك. والزيادة ارتفاع عن القدر المعلوم ، وضده النقص. (الْمُحْسِنِينَ) ، قيل : الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة ، وقيل : المحسنين منهم ، فقيل : معناه من أحسن منهم بعد ذلك زدناه ثوابا ودرجات ، وقيل : معناه من كان محسنا منهم زدنا في إحسانه ، ومن كان مسيئا بعد ذلك زدناه ثوابا ودرجات ، وقيل : معناه من كان محسنا منهم زدنا في إحسانه ، ومن كان مسيئا مخطئا نغفر له خطيئته ، وكانوا على هذين الصنفين ، فأعلمهم الله أنهم إذا فعلوا ما أمروا به من دخولهم الباب سجدا وقولهم حطة يغفر ويضاعف ثواب محسنهم. وقيل : المحسنون من دخل ، كما أمر وقال : لا إله إلا الله ، فتلخص أن المحسنين إما من غيرهم أو منهم. فمنهم إما من اتصف بالإحسان في الماضي ، أي كان محسنا ، أو في المستقبل ، أي من أحسن منهم بعد ، أو في الحال ، أي وسنزيدكم بإحسانكم في امتثالكم ما أمرتم به من دخول الباب سجدا والقول حطة. وهذه الجملة معطوفة على : (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) ، وليست معطوفة على نغفر فتكون جوابا ، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الأعراف في قوله سنزيد؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيب على دخول الباب سجدا. والقول حطة ، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٣ و ١٦٢ ، وسورة فصلت : ٤١ / ١٦.

٣٦٢

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) : ظاهره انقسامهم إلى ظالمين وغير ظالمين ، وأن الظالمين هم الذين بدلوا ، فإن كان كلهم بدلوا ، كان ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بالعلة ، وكأنه قيل : فبدّلوا ، لكنه أظهره تنبيها على علة التبديل ، وهو الظلم ، أي لولا ظلمهم ما بدلوا ، والمبدّل به محذوف تقديره : فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة. (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) : ولما كان محذوفا ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر بعدها. والذي قيل لهم هو أن يقولوا حطة ، فلو لم يحذف لكان وجه الكلام فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة قولا غيره ، لكنه لما حذف أظهر مضافا إليه غير ليدل ، على أن المحذوف هو هذا المظهر ، وهو الذي قيل لهم. وهذا التقدير الذي قدرناه هو على وضع بدل إذ المجرور هو الزائل ، والمنصوب هو الحاصل. واختلف المفسرون في القول الذي قالوه بدل أن يقولوا : حطة ، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد ووهب وابن زيد : حنطة ، وقال السدّي عن أشياخه : حنطة حمراء ، وقيل : حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة سوداء ، وقال أبو صالح : سنبلة ، وقال السدّي ومجاهد أيضا : هطا شمهاثا ، وقيل : حطى شمعاثا ، ومعناها في هذين القولين : حنطة حمراء ، وقيل : حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة. وقيل : حبة في شعيرة ، وقال ابن مسعود : حنطة حمراء فيها شعير ، وقيل : حنطة في شعير ، رواه ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : حبة حنطة مقلوة في شعرة ، وقيل : تكلموا بكلام النبطية على جهة الاستهزاء والاستخفاف. وقيل : إنهم غيروا ما شرع لهم ولم يعملوا بما أنزل الله عليهم.

والذي ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر ذلك بأنهم قالوا : حبة في شعرة ، فوجب المصير إلى هذا القول واطراح تلك الأقوال ، ولو صح شيء من الأقوال السابقة لحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين ، فيكون بعضهم قال : كذا ، وبعضهم قال : كذا ، فلا يكون فيها تضاد. ومعنى الآية : أنهم وضعوا مكان ما أمروا به من التوبة والاستغفار قولا مغايرا له مشعرا باستهزائهم بما أمروا به ، والإعراض عما يكون عنه غفران خطيآتهم. كل ذلك عدم مبالاة بأوامر الله ، فاستحقوا بذلك النكال.

(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) : كرر الظاهر السابق زيادة في تقبيح حالهم وإشعارا بعلية نزول الرجز. وقد أضمر ذلك في الأعراف فقال : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ) ، لأن المضمر هو المظهر. وقرأ ابن محيصن : رجزا بضم الراء ، وقد تقدّم أنها لغة في الرجز. واختلفوا في الرجز هنا ، فقال أبو العالية : هو غضب الله تعالى ، وقال ابن زيد : طاعون أهلك منهم في ساعة سبعين ألفا ، وقال وهب : طاعون عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد

٣٦٣

ذلك ، وقال ابن جبير : ثلج هلك به منهم سبعون ألفا ، وقال ابن عباس : ظلمة وموت مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا وهلك سبعون ألفا عقوبة. والذي يدل عليه القرآن أنه أنزل عليهم عذاب ولم يبين نوعه ، إذ لا كبير فائدة في تعليق النوع. (مِنَ السَّماءِ) : إن فسر الرجز بالثلج كان كونه من السماء ظاهرا ، وإن فسر بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء عليهم ، أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء. (بِما كانُوا) ، ما : مصدرية التقدير بكونهم. (يَفْسُقُونَ). وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى الذي ، وهو بعيد. وقرأ النخعي وابن وثاب وغيرهما بكسر السين ، وهي لغة. قال أبو مسلم : هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله : (عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا). وفائدة التكرار التأكيد ، لأن الوصف دال على العلية ، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم ، وأن إنزال الرجز سببه الظلم أيضا. وقال غير أبي مسلم : ليس مكرر الوجهين : أحدهما : أن الظلم قد يكون من الصغائر ، (رَبَّنا ظَلَمْنا) (١) ، ومن الكبائر : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٢) والفسق لا يكون إلا من الكبائر. فلما وصفهم بالظلم أوّلا وصفهم بالفسق الذي هو لا بد أن يكون من الكبائر. والثاني : أنه يحتمل أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ونزول الرجز عليهم من السماء ، لا بسبب ذلك التبديل بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل ، وعلى هذا يزول التكرار. انتهى.

وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، وترتيب العذاب على هذا التبديل على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر. وقال قوم : يجوز ذلك إذا كانت الكلمة تسدّ سدّها ، وعلى هذا جرى الخلاف في قراءة القرآن بالمعنى ، وفي تكبيرة الإحرام ، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك ، وفي نقل الحديث بالمعنى. وذكروا أن في الآية سؤالات : الأول : قوله هنا ، (وَإِذْ قُلْنَا) ، وفي الأعراف : (وَإِذْ قِيلَ) (٣). وأجيب بأنه صرح بالفاعل في البقرة لإزالة الإبهام ، وحذف في الأعراف للعلم به في سورة البقرة. الثاني : قال هنا : ادخلوا ، وهناك اسكنوا. وأجيب بأن الدخول مقدّم على السكنى ، فذكر الدخول في السورة المتقدّمة. والسكنى في المتأخرة. الثالث : هنا خطاياكم ، وهناك : خطيئتكم. وأجيب بأن الخطايا جمع كثرة ، فناسب حيث قرن به ما يليق بجوده ، وهو غفران الكثير. والخطيئات جمع قلة لما لم يضف ذلك إلى

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢٣.

(٢) سورة لقمان : ٣١ / ١٣.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٦١.

٣٦٤

نفسه. الرابع : ذكر هنا : رغدا وهناك : حذف. وأجيب بالجواب قبل. الخامس : هنا قدم دخول الباب على القول ، وهناك عكس. وأجيب بأن الواو للجمع والمخاطبون بهذا مذنبون. فاشتغاله بحط الذنب مقدّم على اشتغاله بالعبادة ، فكلفوا بقول حطة أولا ، ثم بالدخول وغير مذنبين. فاشتغاله أولا بالعبادة ثم بذكر التوبة ثانيا على سبيل هضم النفس وإزالة العجب ، فلما احتمل الانقسام ذكر حكم كل واحد منهما في سورة بأيهما بدأ. السادس : إثبات الواو في وسنزيد هنا ، وحذفها هناك. وأجيب بأنه لما تقدم أمران كإن المجيء بالواو مؤذنا بأن مجموع الغفران والزيادة جزاء واحد لمجموع الأمرين ، وحيث تركت أفاد توزع كل واحد على كل واحد من الأمرين ، فالغفران في مقابلة القول ، والزيادة في مقابلة ادخلوا. السابع : لم يذكر هاهنا منهم وذكر هناك. وأجيب بأن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص بلفظ من قال : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) (١) ، فذكر لفظ من آخرا ليطابق آخره أوله ، وهنا لم تبن القصة على التخصيص. الثامن : هنا فأنزلنا ، وهناك : فأرسلنا. وأجيب بأن الإنزال مفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وهذا إنما يحدث بالآخر. التاسع : هنا : يفسقون ، وهناك : يظلمون. وأجيب بأنه لما بين هنا كون ذلك الظلم فسقا اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان هنا. قال بعض الناس : بنو إسرائيل خالفوا الله في قول وفعل ، وأخبر تعالى بالمجازاة على المخالفة بالقول دون الفعل ، وهو امتناعهم عن الدخول بصفة السجود. وأجاب بأن الفعل لا يجب إلا بأمر ، والأمر قول فحصل بالمجازاة عن القول المجازاة بالأمرين جميعا ، والجزاء هنا إن كان قد وقع على هذه المخالفة الخاصة ، فيفسقون يحتمل الحال ، وإن كان قد وقع على ما مضى من المخالفات التي فسقوا بها ، فهو مضارع وقع موقع الماضي ، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام.

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) : هذا هو الإنعام التاسع ، وهو جامع لنعم الدنيا والدين. أما في الدنيا فلأنه أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء ، ولو لا هو لهلكوا في التيه ، وهذا أبلغ من الماء المعتاد في الأنعام لأنهم في مفازة منقطعة. وأما في الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه ، وعلى صدق موسى عليه‌السلام ، والاستسقاء طلب الماء عند عدمه وقلته. وقيل : مفعول استسقى محذوف ، أي استسقى موسى ربه ، فيكون المستسقى منه هو المحذوف ، وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٩.

٣٦٥

قوله : (إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) (١) ، أي طلبوا منه السقيا. وقال بعض الناس : وحذف المفعول تقديره استسقى ماء ، فعلى هذا القول يكون المحذوف هو المستسقى ، ويكون الفعل قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قوله :

«وأبيض يستسقى الغمام بوجهه».

ويحتاج إثبات تعديه إلى اثنين إلى شاهد من كلام العرب ، كان يسمع من كلامهم : استسقى زيد ربه الماء ، وقد ثبت تعديه مرة إلى المستسقي منه ومرة إلى المستسقى ، فيحتاج تعديه إليهما إلى ثبت من لسان العرب. وذكر الله هذه النعمة من الاستسقاء غير مقيدة بمكان. وقد اختلف في ذلك ، فقال أبو مسلم : كان ذلك على عادة الناس إذا قحطوا ، وما فعله الله تعالى من تفجير الماء من الحجر فوق الإجابة بالسقياء وإنزال الغيث. وقال أكثر المفسرين : كان هذا الاستسقاء في التيه حين قالوا : من لنا بكذا ، إلى أن قالوا : من لنا بالماء ، فأمر الله موسى بضرب الحجر. وقيل ذلك عند خروجهم من البحر الذي انفلق ، وقعوا في أرض بيضاء ليس فيها ظل ولا ماء ، فسألوا أن يستسقى لهم ، واللام في لقومه لام السبب ، أي لأجل قومه وثم محذوف يتم به معنى الكلام ، أي لقومه إذ عطشوا ، أو ما كان بهذا المعنى ومحذوف آخر : أي فأجبناه. (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ) قالوا : وهذه العصا هي المسئول عنها في قوله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) (٢) ، وكانت فيها خصائص تذكر في موضعها. قيل : كانت نبعة ، وقيل : عليقي ، وهو شجر له شوك ، وقيل : من آس الجنة طولها عشرة أذرع ، طول موسى عليه‌السلام ، لها شعبتان يتقدان في الظلمة ، وكان آدم حملها معه من الجنة إلى الأرض ، فتوارثها أصاغر عن أكابر حتى وصلت إلى شعيب ، فأعطاها موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام ، وذلك أنه لما استرعاه قال له : اذهب فخذ عصا ، فذهب إلى البيت ، فطارت هذه إلى يده ، فأمره بردها ، فأخذ غيرها ، فطارت إلى يده ، فتركها له. وقيل : دفعها إليه ملك من الملائكة في طريق مدين.

(الْحَجَرَ) : قال الحسن : لم يكن حجرا معينا بل أي حجر ضرب انفجر منه الماء ، وهذا أبلغ في الإعجاز ، حيث ينفجر الماء من أي حجر ضرب. وروي أنهم قالوا : لو فقد موسى عصاه متنا عطشا ، فأوحى الله إليه : لا تقرع الحجارة ، وكلمها تطعك لعلهم

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٦٠.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٧.

٣٦٦

يعتبرون ، فكانت تطيعه فلم يعتبروا. وقال وهب : كان يقرع لهم أقرب حجر فينفجر ، فعلى هذا تكون الألف واللام في الحجر للجنس. وقيل : إن الألف واللام للعهد ، وهو حجر معين حمله معه من الطور مربع له أربعة أوجه ، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين تسبل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم ، وكانوا ستمائة ألف خارجا عن دوابهم ، وسعة العسكر اثنا عشر ميلا. وقيل : حجر أهبطه معه آدم من الجنة ، فتوارثوه حتى وقع لشعيب ، فدفعه إلى موسى مع العصا. وقيل : هو الحجر الذي وضع موسى عليه ثوبه حين اغتسل ، إذ رموه بالأدرة ، ففز ، قال له جبريل عليه‌السلام : بأمر الله ارفع هذا الحجر ، فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاة ، قاله ابن عباس. وقيل : حجر أخذه من قعر البحر خفيف مربع مثل رأس الرجل ، له أربعة أوجه ، ينبع من كل وجه ثلاث أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إليه ، وكان يضعه في مخلاته ، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه. وقيل : كان رخاما فيه اثنتا عشرة حفرة ، تنبع من كل حفرة عين ماء عذب يأخذونه ، فإذا فرغوا ضربه موسى بعصاه فذهب الماء. وقيل : حجر أخذه من جبل زبيد ، طوله أربعة أذرع ، قاله الضحاك. وقيل : حجر مثل رأس الشاة ، يلقونه في جانب الجوالق إذا ارتحلوا ، فيه من كل ناحية ثلاث عيون بعد أن يستمسك ماؤها بعد رحلتهم ، فإذا نزلوا قرعه موسى بعصاه فعادت العيون بحسبها ، قاله ابن زيد. وقيل حجر يحمله في مخلاته ، أخذه ، إذ قالوا : كيف بنا إذا أفضنا إلى أرض ليست فيها حجارة؟ فحيثما أنزلوا لقاه فينفجر ماء. وقيل : حجر من الكذان فيه اثنتا عشرة عينا ، يسقي كل يوم ستمائة ألف ، قاله أبو روق ، وقيل : حجر ذراع في ذراع ، قاله السدّي. وقيل : حجر مثل رأس الثور. وقيل : حجر كان ينفجر لهم منه الماء ، لم يكونوا يحملونه ، بل كانوا أي مكان نزلوا وجدوه فيه ، وذلك أعظم في الإعجاز وأبلغ في الخارق ، وقال مقاتل والكلبي : كانوا إذا قضوا حاجتهم من الماء اندرست تلك العيون ، فإذا احتاجوا إلى الماء انفجرت.

فهذه أقوال المفسرين في الحجر ، وظاهرها أو ظاهر أكثرها التعارض. قال بعض من جمع في تفسير القرآن : الأليق أنه الحجر الذي فرّ بثوب موسى عليه‌السلام ، فإن الله أودع فيه حركة التنقل والسعي ، أو وكل به ملكا يحمله ولا يستنكر ذلك. فقد صح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إني لأعرف حجرا كان يسلم عليّ». وقد رام هذا الرجل الجمع بين هذه الأقوال بأن يكون الحجر غير معين ، بل أيّ حجر وجده ضربه ، فوجد مرّة مربعا ، ومرّة كذانا ، ومرة رخاما ، وكذا باقيها. قال : فروى الراوي صفة ذلك الحجر الذي ضربه في تلك

٣٦٧

المنزلة قال : فيزول التغاير في الكيفيات ، ويحصل التوفيق بين الروايات. وهذا الكلام كما ترى. وظاهر القرآن : أن الحجر ليس بمعين ، إذ لم يتقدم ذكر حجر فيكون هذا معهودا ، وأن الاستسقاء لم يتكرّر ، لا هو ولا الضرب ولا الانفجار ، وأن هذه الكيفيات التي ذكروها لم يتعرّض لها لفظ القرآن ، فيحتمل أن يكون ذلك متكررا ، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة ، والواحدة هي المتحققة.

(فَانْفَجَرَتْ) : الفاء للعطف على جملة محذوفة ، التقدير : فضرب فانفجرت ، كقوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (١) أي فضرب فانفلق. ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار مرتبا على ضربه ، إذ لو كان يتفجر دون ضرب ، لما كان للأمر فائدة ، ولكان تركه عصيانا ، وهو لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وما ذهب إليه بعض الناس من أن الفاء في مثل : فانفلق ، هي الفاء التي في ضرب ، وأن المحذوف هو المعطوف عليه ، وحرف العطف من المعطوف حتى يكون المحذوف قد بقي عليه دليل ، إذ قد أبقيت فاؤه وحذفت فاء فانفلق ، واتصلت بانفلق فاء فضرب تكلف وتخرص على العرب بغير دليل. وقد ثبت في لسان العرب حذف المعطوف عليه ، وفيه الفاء حيث لا معطوف بالفاء موجود ، قال تعالى : (فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) (٢) ، التقدير : فأرسلوه فقال : فحذف المعطوف عليه والمعطوف ، وإذا جاز حذفهما معا ، فلأن يجوز حذف كل منهما وحده أولى. وزعم الزمخشري أن الفاء ليست للعطف ، بل هي جواب شرط محذوف ، قال : فإن ضربت فقد انفجرت ، كما ذكرنا في قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) (٣) ، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ ، اه كلامه.

وقد تقدّم لنا الردّ على الزمخشري في هذا التقدير في قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ، بأن إضمار مثل هذا الشرط لا يجوز ، وبينا ذلك هناك ، وفي قوله أيضا إضمار قد : إذ يقدر ، فقد تاب عليكم ، وقد انفجرت ، ولا يكاد يحفظ من لسانهم ذلك ، إنما تكون بغير فاء ، أو إن دخلت الفاء فلا بد من إظهار قد ، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضيا لفظا ومعنى ، نحو قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) (٤) ، وإذا كان ماضيا لفظا ومعنى ، استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط ، فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب شرط. ومعلوم أن الانفجار على ما قدّر يكون مترتبا على أن يضرب ، وإذا كان مترتبا على مستقبل ، وجب

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٦٣.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٤٥ و ٤٦.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٥٤.

(٤) سورة فاطر : ٣٥ / ٤.

٣٦٨

أن يكون مستقبلا ، وإذا كان مستقبلا امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها أن لا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضيا نحو الآية ، ونحو قولهم : إن تحسن إليّ فقد أحسنت إليك ، ويحتاج إلى تأويل ، كما ذكرنا. وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال ، وإن كان بلفظ الماضي نحو : إن زرتني فغفر الله لك. وأيضا فالذي يفهم من الآية أن الانفجار قد وقع وتحقق ، ولذلك قال : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا) (١) ، وجعله جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه هذا الرجل يجعله غير واقع ، إذ يصير مستقبلا لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل ، والمعلق على تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلا عن وجوده ، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي ، وفاسد من حيث المعنى ، فوجب طرحه ، وأين هذا من قوله : وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ؟ وجاء هنا : انفجرت وفي الأعراف : (فَانْبَجَسَتْ) (٢) ، فقيل : هما سواء ، انفجر وانبجس وانشق مترادفات. وقيل : بينهما فرق ، وهو أن الانبجاس هو أوّل خروج الماء ، والانفجار اتساعه وكثرته. وقيل : الانبجاس خروجه من الصلب ، والانفجار خروجه من اللين. وقيل : الانبجاس هو الرشح ، والانفجار هو السيلان ، وظاهر القرآن استعمالهما بمعنى واحد ، لأن الآيتين قصة واحدة.

(مِنْهُ) متعلق بقوله : فانفجرت ، ومن هنا لابتداء الغاية والضمير عائد على الحجر المضروب ، فانفجار الماء كان من الحجر لا من المكان ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) (٣) ، ولو كان هذا التركيب في غير كلام الله تعالى لأمكن أن يعود الضمير على الضرب ، وهو المصدر المفهوم من الكلام قبله ، وأن تكون من للسبب ، أي فانفجرت بسبب الضرب ، ولكن لا يجوز أن يرتكب مثل هذا في كلام الله تعالى ، لأنه لا ينبغي أن يحمل إلا على أحسن الوجوه في التركيب وفي المعنى ، إذ هو أفصح الكلام. وفي هذا الانفجار من الإعجاز ظهور نفس الماء من حجر لا اتصال له بالأرض ، فتكون مادّته منها ، وخروجه كثيرا من حجر صغير ، وخروجه بقدر حاجتهم ، وخروجه عند الضرب بالعصا ، وانقطاعه عند الاستغناء عنه.

(اثْنَتا عَشْرَةَ) : التاء في اثنتا للتأنيث ، وفي ثنتا للالحاق ، وهذه نظير ابنة وبنت. وقرأ الجمهور : عشرة بسكون الشين. وقرأ مجاهد ، وطلحة ، وعيسى ، ويحيى بن وثاب ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٦٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٧٤.

٣٦٩

وابن أبي ليلى ، ويزيد : بكسر الشين. وروى ذلك نعيم السعيدي عن أبي عمرو ، والمشهور عنه الإسكان ، وتقدّم أنها لغة تميم ، وكسرهم لها نادر في قياسهم لأنهم يخففون فعلا ، يقولون في نمر : نمر. وقرأ ابن الفضل الأنصاري ، والأعمش : بفتح الشين. وروي عن الأعمش : الإسكان ، والكسر أيضا. قال الزمخشري : الفتح لغة. وقال ابن عطية : هي لغة ضعيفة. وقال المهدوي : فتح الشين غير معروف ، ويحتمل أن تكون لغة ، وقد نص بعض النحويين على أن فتح الشين شاذ ، وعشرة في موضع خفض بالإضافة ، وهو مبني لوقوعه موقع النون ، فهو مما أعرب فيه الصدر وبني العجز. ألا ترى أن اثنتي معرب إعراب المثنى لثبوت ألفه رفعا وانقلابها نصبا وجرا ، وأن عشرة مبني؟ ولما تنزلت منزلة نون اثنتين لم يصح إضافتها ، فلا يقال : اثنتا عشرتك. وفي محفوظي أن ابن درستويه ذهب إلى أن اثنا واثنتا وثنتا مع عشر مبني ، ولم يجعل الانقلاب دليل الإعراب.

(عَيْناً) : منصوب على التمييز ، وإفراد التمييز المنصوب في باب العدد لازم عند الجمهور ، وأجاز الفراء أن يكون جمعا ، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطا ، وكان بينهم تضاغن وتنافس ، فأجرى الله لكل سبط منهم عينا يرده ، لا يشركه فيه أحد من السبط الآخر ، وذكر هذا العدد دون غيره يسمى التخصيص عند أهل علم البيان ، وهو أن يذكر نوع من أنواع كثيرة لمعنى فيه لم يشركه فيه غيره ، ومنه قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (١) ، وسيأتي بيان ذلك التخصيص فيها ، إن شاء الله تعالى ، في موضعها ، وقول الخنساء :

يذكرني طلوع الشمس صخرا

وأندبه بكل مغيب شمس

اختصتهما من دون سائر الأوقات للغارة والقرى. قال بعض أهل اللطائف : خلق الله الحجارة وأودعها صلابة يفرق بها أجزاء كثيرة مما صلب من الجوامد ، وخلق الأشجار رطبة الغصون ، ليست لها قوّة الأحجار ، فتؤثر فيها تفريقا بأجزائها ولا تفجيرا لعيون مائها ، بل الأحجار تؤثر فيها. فلما أيدت بقوة النبوّة ، انفلقت بها البحار ، وتفرقت بها أجزاء الأحجار ، وسالت بها الأنهار ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (٢).

(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) : جملة استئناف تدل على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدّاه لمشرب غيره ، وكأنه تفسير لحكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٤٩.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٣ ، وسورة النور : ٢٤ / ٤٤.

٣٧٠

عينا ، وتنبيه عليها. وعلم هنا متعدّية لواحد أجريت مجرى عرف ، واستعمالها كذلك كثير في القرآن ولسان العرب. وكل أناس مخصوص بصفة محذوفة ، أي من قومه الذين استسقى لهم. والمشرب هنا مكان الشرب وجهته التي يجري منها الماء. وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء ، والأول أولى ، لأن دلالته على المكان بالوضع ، ودلالته على الماء بالمجاز ، وهو تسمية الشيء باسم مكانه وإضافة المشرب إليهم ، لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم ، وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كل لا على لفظها ، ولا يجوز أن يعود على لفظها ، فيقال : مشربه ، لأن مراعاة المعنى هنا لازمة ، لأن كل قد أضيفت إلى نكرة ، ومتى أضيفت إلى نكرة وجب مراعاة المعنى ، فتطابق ما أضيفت إليه في عود ضمير وغيره ، قال تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (١) ، وقال الشاعر :

وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن حللنا قيده فهو سارب

وقال :

وكل أناس سوف تدخل بينهم

دويهية تصفرّ منها الأنامل

وقال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٢) ، وتقول : كل رجلين يقولان ذلك ، ولا يجوز في شيء من هذا مراعاة لفظ كل ، وثم محذوف تقديره : مشربهم منها : أي من الاثنتي عشرة عينا. ونص على المشرب تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة ، وإن كان سرد الكلام قد علم كل أناس عينهم ، لكن في ذكر المشرب ما ذكرناه من تسويغ الشرب لهم منها أنشئ لهم الأمر بالأكل من المن والسلوى ، والشرب من هذه العيون ، أو أمروا بالدوام على ذلك ، لأن الإباحة كانت معلومة من غير هذا الأمر ، والأمر بالواقع أمر بدوامه ، كقولك للقائم : قم. (كُلُوا وَاشْرَبُوا) : هو على إضمار قول ، أي وقلنا لهم ، وهذا الأمر أمر إباحة. قال السلمي : مشرب كل أحد حيث أنزله رائده ، فمن رائده نفسه مشربه الدنيا ، أو قلبه فمشربه الآخرة ، أو سره فمشربه الجنة ، أو روحه فمشربه السلسبيل ، أو ربه فمشربه الحضرة على المشاهدة حيث يقول : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٣) ، طهرهم به عن كل ما سواه ، وبدىء بالأكل لأنه المقصود أولا ، وثنى بالشرب لأن الاحتياج إليه حاصل عن الأكل ، ولأن ذكر المن والسلوى متقدم على انفجار الماء.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٧١.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٥.

(٣) سورة الإنسان : ٧٦ / ٢١.

٣٧١

(مِنْ رِزْقِ اللهِ) ، من : لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تكون للتبعيض. ولما كان مأكولهم ومشروبهم حاصلين لهم من غير تعب منهم ولا تكلف ، أضيفا إلى الله تعالى ، وهذا التفات ، إذ تقدم فقلنا : اضرب ، ولو جرى على نظم واحد لقال : من رزقنا ، إلا إن جعلت الإضمار قبل كلوا مسندا إلى موسى ، أي وقال موسى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) فلا يكون فيه التفات ، ومن رزق الله متعلق بقوله : واشربوا ، وهو من أعمال الثاني على طريقة اختيار أهل البصرة ، إذ لو كان من أعمال الأول لأضمر في الثاني ما يحتاجه ، فكان يكون : كلوا واشربوا منه ، من رزق الله ، ولا يجوز حذف منه إلا في ضرورة على ما نص بعضهم ، والضرورة والقليل لا يحمل كلام الله عليهما. والرزق هنا هو المرزوق ، وهو الطعام من المن والسلوى ، والمشروب من ماء العيون. وقيل : هو الماء ينبت منه الزروع والثمار ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب ، وهذا القول يكون فيه من رزق الله ، يجمع فيه بين الحقيقة والمجاز ، لأن الشرب من الماء حقيقة ، والأكل لا يكون إلا مما نشأ من الماء ، لا أن الأكل من الماء حقيقة ، فحمل الرزق على القدر المشترك بين الطعام والماء أولى من هذا القول.

ولما كان مطعومهم ومشروبهم لا كلفة عليهم ولا تعب في تحصيله حسنت إضافته إلى الله تعالى ، وإن كانت جميع الأرزاق منسوبة إلى الله تعالى ، سواء كانت مما تسبب العبد في كسبها أم لا ، واختص بالإضافة للفظ الله ، إذ هو الاسم العلم الذي لا يشركه فيه أحد ، الجامع لسائر الأسماء (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) (١) ، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) (٢) ، (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٣) ، و (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٤) ، (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) (٥)؟ واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال ، لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة ، واقتضى أن يكون الرّزق مباحا ، فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما ، وأنه غير جائز. والجواب : إن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد به المن والسلوى والماء المنفجر من الحجر ، ولا يلزم من حلية معين ما من أنواع الرّزق حلية جميع الرّزق ، وفي هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات من الطعام ، وشرب المستلذ من الشراب ، والجمع بين اللونين والمطعومين ، وكل ذلك بشرط الحل. وقد صح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب الحلواء والعسل ، وأنه كان يشرب الماء البارد العذب ، وكانت تنبذ له فيه التمرات ، وجمع بين القثاء والرطب ، وسقى بعض نسائه الماء. وقد نقل

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٤٠.

(٢) سورة سبأ : ٣٤ / ٢٤.

(٣) سورة النمل : ٢٧ / ٦٤.

(٤) سورة يونس : ١٠ / ٣١.

(٥) سورة النمل : ٢٧ / ٦٠ ـ ٦٤.

٣٧٢

عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتركون اللذيذ من الطعام والشهي من الشراب رغبة فيما عند الله تعالى.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) : لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله ، ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار من مأكول أو مشروب ، كان ذلك إنعاما وإحسانا جزيلا إليهم ، واستدعى ذلك التبسط في المآكل والمشارب ، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية ، والقوّة الاستعلائية. نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك ، وهو الفساد ، حتى لا يقابلوا تلك النعم بما يكفرها ، وهو الفساد في الأرض. قال ابن عباس وأبو العالية : معناه ولا تسعوا. وقال قتادة : ولا تسيروا. وقيل : لا تتظالموا الشرب فيما بينكم ، لأن كلّ سبط منكم قد جعل له شرب معلوم. وقيل : معناه : لا تؤخروا الغذاء ، فكانوا إذا أخروه فسد. وقيل : معناه لا تخالطوا المفسدين. وقيل : معناه لا تتمادوا في فسادكم. وقيل : لا تطغوا ، قاله ابن زيد. وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض. (فِي الْأَرْضِ) : الجمهور على أنها أرض التيه ، ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدر أن يوصلوا إليها فينالها فسادهم ، ويجوز أن يريد الأرضين كلها. وأل : لاستغراق الجنس. ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات ، وذلك انتقام يعم الأرض بالفساد. مفسدين : حال مؤكدة.

قال القشيري ، في قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى) الآية أن الذي قدر على إخراج الماء من الصخرة الصمّاء كان قادرا على إروائهم بغير ماء ، ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه ، واتصال محل الاستعانة إليه ، وليكون لموسى عليه‌السلام في فضل الحجر مع نفسه شغل ، ولتكليفه أن يضرب بالعصا ، نوع من المعالجة ، ثم أراد أن يكون كل سبط جاريا على سننه ، غير مزاحم لصاحبه ، وحين كفاهم ما طلبوه أمرهم بالشكر وحفظ الأمر وترك احتقاب الوزر ، فقال : (وَلا تَعْثَوْا). والمناهل مختلفة ، وكل يرد مشربه : فمشرب فرات ، ومشرب أجاج ، ومشرب صاف ، ومشرب رنق ، وسياق كل قوم يقودهم ، فالنفوس ترد مناهل المنى ، والقلوب ترد مشارب التقى ، والأرواح ترد مناهل الكشف ، والمشاهدات والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف من حقيقة الوحدة والذات. انتهى كلامه ملخصا.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) : لما سئموا من الإقامة في التيه ، والمواظبة على مأكول واحد ، لبعدهم عن الأرض التي ألفوها ، وعن العوائد التي عهدوها ،

٣٧٣

أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك وتشوفهم إلى ما كانوا يألفون ، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم. وأكثر أهل الظاهر من المفسرين على أن هذا السؤال كان معصية ، قالوا : لأنهم كرهوا إنزال المن والسلوى ، وتلك الكراهة معصية ، ولأن موسى وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير ، وبأن قوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ) هو على سبيل الإنكار. والجواب ، أن قولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) لا يدل على عدم الرضا به فقط ، بل اشتهوا أشياء أخر. وأما الإنكار فلأنه قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا ، أو الأنفع في الآخرة. وأما الخيرية فسيأتي الكلام فيها ، وإنما كان سؤالا مباحا ، والدليل عليه أن قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) من قبل هذه الآية ، عند إنزال المن وتفجير العين ليس بإيجاب بل هو إباحة ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) معصية لأن من أبيح له صنوف من الطعام يحسن منه أن يسأل غيرها ، إما بنفسه أو على لسان الرسول. ولما كان سؤال النبي أقرب للإجابة ، سألوه عن ذلك ، ولأن النوع الواحد أربعين سنة يمل ويشتهي إذ ذاك غيره ، ولأنهم ما تعودوا ذلك النوع. ورغبة الإنسان فيما اعتاده ، وإن كان خسيسا ، فوق رغبة ما لم يعتده ، وإن كان شريفا ، ولأن ذلك يكون سببا لانتقالهم عن التيه الذي ملوه ، لأن تلك الأطعمة لا توجد فيه ، فأرادوا الحلول بغيره ، ولأن المواظبة على طعام واحد سبب لنقص الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة ، والاستكثار من الأنواع بعكس ذلك. فثبت بهذا أن تبديل نوع بنوع يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء ، وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه ، فثبت أنه لا يجوز أن يكون معصية. ومما يؤكد ذلك قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) هو كالإجابة لما طلبوا. ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية ، وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ووصف الطعام بواحد ، وإن كان طعامين ، لأنه المنّ والسلوى اللذان رزقوهما في التيه ، لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عديدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها قيل : لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا ، يراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف. ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معا من طعام أهل التلذذ والسرف ، ونحن قوم فلاحة أهل زراعات ، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة ، كالحبوب والبقول ونحوهما. ذكر هذين الوجهين في معنى الواحد الزمخشري. وقيل : أعاد على لفظ الطعام من حيث أنه مفرد لا على معناه. وقيل : كانوا يأكلون المن والسلوى مختلطين ، فيصير بمنزلة اللون الذي يجمع أشياء ويسمى لونا واحدا ، قاله ابن زيد : وقيل :

٣٧٤

كان طعامهم يأتيهم بصفة الوحدة ، نزل عليهم المن فأكلوا منه مدة حتى سئموه وملوه ، ثم انقطع عنهم ، فأنزل عليهم السلوى فأكلوها مدة وحدها. وقيل : أرادوا بالطعام الواحد السلوى ، لأن المن كان شرابا ، أو شيئا يتحلون به ، وما كانوا يعدون طعاما إلا السلوى. وقيل : عبر عنهما بالواحد ، كما عبر بالإثنين عن الواحد نحو : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (١) ، وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب. وقيل : قالوا ذلك عند نزول أحدهما. وقيل : معناه لن نصبر على أننا كلنا أغنياء ، فلا يستعين بعضنا ببعض ، ويكون قد كنى بالطعام الواحد عن كونهم نوعا واحدا ، وهو كونهم ذوي غنى ، فلا يخدم بعضهم بعضا ، وكذلك كانوا في التيه ، فلما خرجوا منه عادوا لما كانوا عليه من فقر بعض وغنى بعض. فهذه تسعة أقوال في معنى قوله : (عَلى طَعامٍ واحِدٍ).

(فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) : معناه : اسأله لنا ، ومتعلق الدعاء محذوف ، أي ادع لنا ربك بأن يخرج كذا وكذا. ولغة بني عامر : فادع بكسر العين ، جعلوا دعا من ذوات الياء ، كرمى يرمي ، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم بما اقترحوه ولم يدعوا هم ، لأن إجابة الأنبياء أقرب من إجابة غيرهم ، ولذلك قالوا : ربك ، ولم يقولوا : ربنا ، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإتيانه التوراة ، فكأنهم قالوا : ادع لنا الذي هو محسن لك ، فكما أحسن إليك في أشياء ، كذلك نرجو أن يحسن إلينا في إجابة دعائك. (يُخْرِجْ لَنا) : جزمه على جواب الأمر الذي هو ادع ، وقد مر نظيره في (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (٢). وقيل : ثم محذوف تقديره : وقل له اخرج فيخرج ، مجزوم على جواب هذا الأمر الذي هو اخرج. وقيل : جزم يخرج بلام مضمرة ، وهي لام الطلب ، أي ليخرج ، وهذا عند البصريين لا يجوز. (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) : مفعول يخرج محذوف ومن تبعيضية : أي مأكولا مما تنبت ، هذا على مذهب سيبويه. وقال الأخفش : من زائدة ، التقدير : ما تنبت ، وما موصولة ، والعائد محذوف تقديره ، تنبته ، وفيه شروط جواز الحذف ، وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية تقديره : من إنبات الأرض. قال أبو البقاء : لا يجوز ذلك لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات ، لأن الإنبات مصدر ، والمحذوف جوهر ، وإضافة الإنبات إلى الأرض مجاز ، إذ المنبت هو الله تعالى ، لكنه لما جعل فيها قابلية الإنبات نسب الإنبات إليها.

(مِنْ بَقْلِها) : هذا بدل من قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) ، على إعادة حرف الجرّ ،

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٢٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٤٠.

٣٧٥

وهو فصيح في الكلام ، أعني أن يعاد حرف الجرّ في البدل. فمن على هذا التقدير تبعيضية ، كهي في مما تنبت ، ويتعلق بيخرج ، إمّا الأولى ، وإمّا أخرى مقدّرة على الخلاف الذي في العامل في البدل ، هل هو العامل الأول ، أو ذلك على تكرار العامل؟ والمشهور هذا الثاني ، وأجاز المهدويّ أيضا ، وابن عطية ، وأبو البقاء أن تكون من في قوله : (مِنْ بَقْلِها) لبيان الجنس ، وعبر عنها المهدويّ بأنها للتخصيص ، ثم اختلفوا ، فقال أبو البقاء : موضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف تقديره : مما تنبته الأرض كائنا من بقلها ، وقدّم ذكر هذا الوجه قال : ويجوز أن تكون بدلا من ما الأولى بإعادة حرف الجر. وأما المهدوي ، وابن عطية فزعما مع قولهما : إن من في (مِنْ بَقْلِها) بدل من قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ) ، وذلك لأن من في قوله (مِمَّا تُنْبِتُ) للتبعيض ، ومن في قوله (مِنْ بَقْلِها) على زعمهما لبيان الجنس. فقد اختلف مدلول الحرفين ، واختلاف ذلك كاختلاف الحرفين ، فلا يجوز البدل إلا إن ذهب ذاهب إلى أن من في قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) لبيان الجنس ، فيمكن أن يفرّع القول بالبدل على كونها لبيان الجنس. والمختار ما قدّمناه من كون من في الموضعين للتبعيض ، وأمّا أن تكون لبيان الجنس ، فقد أباه أصحابنا وتأوّلوا ما استدلّ به مثبت ذلك ، والمراد بالبقل هنا : أطايب البقول التي يأكلها الناس ، كالنعناع ، والكرفس ، والكراث ، وأشباهها ، قاله الزمخشري. وقرأ يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وغيرهما : وقثائها بضم القاف ، وقد تقدّم أنها لغة.

(وَفُومِها) : تقدّم الكلام فيه ، وللمفسرين فيه أقاويل ستة : أحدها : أنه الثوم ، وبينته قراءة ابن مسعود : وثومها بالثاء ، وهو المناسب للبقل والعدس والبصل. الثاني : قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدّي : أنه الحنطة. الثالث : أنه الحبوب كلها. الرابع : أنه الخبز ، قاله مجاهد وابن عطاء وابن زيد. الخامس : أنه الحمص. السادس : أنه السنبلة. (وَعَدَسِها وَبَصَلِها) : وأحوال هذه الخمسة التي ذكروها مختلفة ، فذكروا ، أولا : ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، إذ البقل منه ما هو بارد رطب كالهندبا ، ومنه ما هو حار يابس كالكرفس والسداب ، ومنه ما هو حار وفيه رطوبة عرضية كالنعناع. وثانيا القثاء ، وهو بارد رطب. وثالثا : الثوم ، وهو حار يابس. ورابعا : العدس ، وهو بارد يابس. وخامسا : البصل ، وهو حار رطب ، وإذا طبخ صار باردا رطبا ، فعلى هذا جاء ترتيب ذكر هذه الخمسة.

(قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ) : الضمير في قال ظاهر عوده على موسى ، ويحتمل عوده على

٣٧٦

الرب تعالى ، ويؤيده (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) ، والهمزة في (أَتَسْتَبْدِلُونَ) للإنكار ، والاستبدال : الاعتياض. وقرأ أبيّ : أتبدّلون ، وهو مجاز لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى ، لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدّلين ، وكان المعنى : أتسألون تبديل. (الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) ، والذي : مفعول أتستبدلون ، وهو الحاصل ، والذي دخلت عليه الباء هو الزائل ، كما قررناه في غير مكان. هو أدنى : صلة للذي ، وهو هنا واجب الإثبات على مذهب البصريين ، إذ لا طول في الصلة ، وأدنى : خبر عن هو ، وهو : أفعل التفضيل ، ومن وما دخلت عليه حذفا للعلم ، وحسن حذفهما كون أفعل التفضيل خبرا ، فإن وقع غير خبر مثل كونه حالا أو صفة قل الحذف وتقديره : أدنى من ذلك الطعام الواحد ، وحسن حذفهما أيضا كون المفضل عليه مذكورا بعد ذلك ، وهو قوله : (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) ، وأفرد : (الَّذِي هُوَ أَدْنى) لأنه أحال به على المأكول الذي هو (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) ، وعلى ما من قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ) ، فيكون قد راعى المبدل منه ، إذ لو راعى البدل لقال : أتستبدلون اللاتي هي أدنى ، وقد تقدّم القول في أدنى عند الكلام على المفردات ، وذكرنا الأقاويل الثلاثة فيها. وقرأ زهير الفرقبي ، ويقال له زهير الكسائي : أدنأ بالهمز ، ووقع البعض من جمع في التفسير ، وهم في نسبة هذه القراءة للكسائي ، فقال : وقرأ زهير والكسائي شاذا : أدنأ ، فظن أن هذه قراءة الكسائي ، وجعل زهيرا والكسائي شخصين ، وإنما هو زهير الكسائي يعرف بذلك ، وبالفرقبي ، فهو رجل واحد. فأما تفسير : الأدنى والخير هنا ففيه أقاويل : أحدها : قال الزجاج : تفاضل الأشياء بالقيم ، وهذه البقول لا خطر فيها ولا علو قيمة ، والمنّ والسلوى هما أعلا قيمة وأعظم خطرا ، واختار هذا الزمخشري ، قال : أقرب منزلة وأهون مقدارا ، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال : هو أدنى المحل وقريب المنزلة ، كما يعبر بالعبد عن عكس ذلك فيقال : بعيد المحل بعيد المنزلة ، يريدون الرفعة والعلو. انتهى كلامه ، وهو من كلام الزجاج. والثاني : أن المنّ والسلوى هو الذي منّ الله به وأمرهم بأكله ، وفي استدامة ما أمر الله به وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصال فكان أدنى من هذا الوجه. الثالث : أن التفضيل يقع من جهة الطيب واللذة ، والمن والسلوى لا شك أنهما أطيب من البقول التي طلبوها. الرابع : أن المنّ والسلوى لا كلفة في تحصيله ولا تعب ولا مشقة ، والبقول لا تحصل إلا بعد مشقة الحرث والزرع والخدمة والسقي ، وما حصل بلا مشقة خير مما حصل بمشقة. الخامس : أن المنّ والسلوى لا شك في حله وخلوصه لنزوله من عند

٣٧٧

الله ، والحبوب والأرض يتخللها العيوب والغصوب ويدخلها الحرام والشبهة ، وما كان حلا خالصا أفضل مما يدخله الحرام والشبهة. السادس : أن المنّ والسلوى يفضلان ما سألوه من جنس الغذاء ونفعه. وملخص هذه الأقوال : هل الأدنوية والخيرية بالنسبة إلى القيمة ، أو امتثال الأمر وما يترتب عليه ، أو اللذة ، أو الكلفة ، أو الحل ، أو الجنس؟ أقوال ستة. وأما قراءة زهير فهي من الدناءة.

وقد تقدم أن أدنى غير المهموز قيل إن أصلها الهمز فسهل كهذه القراءة ، ومن قال بالقلب وإن أصله أدون ، فالدناءة والدون راجعان إلى معنى واحد ، وهو الخسة ، وهو من جهة المعنى أحسن مقابلة لقوله : (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ). ومن جعل أدنى بمعنى أقرب ، لأن الأدون والأدنأ يقابلهما الخير ، والأدنى بمعنى الأقرب يقابله الأبعد ، وحذف من ومعمولها بعد قوله : هو خير ، لما ذكرناه في قوله : هو أدنى ، من وقوع أفعل التفضيل خبرا وتقديره : منه ، أي من : (الَّذِي هُوَ أَدْنى). وكانت هاتان الصلتان جملتين اسميتين لثبوت الجملة الاسمية ، وكان الخير أفعل التفضيل ، لأنه لا دلالة فيها على تعيين زمان ، بل في ذلك إثبات الأدنوية والخيرية من غير تقييد بزمان ، بخلاف الجملة الفعلية ، فإنه كان يتعين الزمان ، أو يتجوز في ذلك ، إن لم يقصد التعيين ، فكان الوصل بما هو حقيقة في عدم الدلالة على التعيين أفصح ، وكانت صلة ما في قوله : مما تنبت ، جملة فعلية ، لأن الفعل عندهم يشعر بالتجدد والحدوث ، والإنبات متجدد دائما ، فناسب كل مكان ما يليق به من الصلة.

(اهْبِطُوا مِصْراً) (١) : في الكلام حذف على تقدير أن القائل : (أَتَسْتَبْدِلُونَ) هو موسى ، وتقدير المحذوف ، فدعا موسى ربه فأجابه ، (قالَ اهْبِطُوا). وتقدّم معنى الهبوط ، ويقال : هبط الوادي : حل به ، وهبط منه : خرج ، وكان القادم على بلد ينصبّ عليه. وقرىء اهبطوا ، بضم الباء ، وهما لغتان ، والأفصح الكسر ، والجمهور على صرف مصرا هنا. وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان بن تغلب : بغير تنوين ، وبين كذلك في مصحف أبي بن كعب ، ومصحف عبد الله ، وبعض مصاحف عثمان. فأما من صرف فإنه يعني مصرا من الأمصار غير معين ، واستدلوا بالأمر بدخول القرية ، وبأنهم سكنوا الشام بعد التيه ، وبأن ما سألوه من البقل وغيره لا يكون إلا في الأمصار ، وهذا قول قتادة والسدي ومجاهد وابن زيد. وقيل : هو مصر غير معين لكنه من أمصار الأرض المقدسة ، بدليل :

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢٤.

٣٧٨

ادخلوا الأرض المقدسة. وقيل : أراد بقوله : مصرا وإن كان غير معين مصر فرعون ، وهو من إطلاق النكرة ، ويراد بها المعين ، كما تقول : ائتني برجل ، وأنت تعني به زيدا. قال أشهب ، قال لي مالك : هي مصر قريتك مسكن فرعون. وأجاز من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين أن تكون مصر هذه المنوّنة هي الاسم العلم. والمراد بقوله : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) (١) ، قالوا : وصرف ، وإن كان فيه العلمية والتأنيث ، كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين ، لخفة الاسم لسكون وسطه ، قاله الأخفش ، أو صرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان ، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف. وشبهه الزمخشري في منع الصرف ، وهو علم بنوح ولوط حيث صرفا ، وإن كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الاسم بكونه ثلاثيا ساكن الوسط ، وهذا ليس كما ذهبوا إليه من أنه مشبه لهند ، أو مشبه لنوح ، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي : التأنيث والعلمية والعجمة. فهو يتحتم منع صرفه بخلاف هند ، فإنه ليس فيه سوى العلمية والتأنيث ، على أن من النحويين من خالف في هند ، وزعم أنه لا يجوز فيه إلا منع الصرف ، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى النحويون من الصرف في قوله :

لم تتلفع بفضل ميزرها دعد

ولم تسق دعد في العلب

وبخلاف نوح ، فإن العجمة لم تعتبر إلا في غير الثلاثي الساكن الوسط ، وأما إذا كان ثلاثيا ساكن الوسط فالصرف. وقد أجاز عيسى بن عمر منع صرفه قياسا على هند ، ولم يسمع ذلك من العرب إلا مصروفا ، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب ، فوجب اطراحه. وقال الحسن بن بحر : المراد بقوله مصرا ، البيت المقدس ، يعني أن اللفظ ، وإن كان نكرة ، فالمراد به معين ، كما قلنا في قول من قال : إنه أراد به وإن كان نكرة مصر المعينة. وأمّا من قرأ مصر بغير تنوين ، فالمراد مصر العلم ، وهي دار فرعون. واستبعد بعض الناس قول من قال : إنها مصر فرعون ، قال : لأنهم من مصر خرجوا ، وأمروا بالهبوط إلى الأرض المقدسة لقتال الجبارين فأبوا ، فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين ، ولقولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٢) ، فماتوا جميعا في التيه ، وبقي أبناؤهم ، فامتثلوا أمر الله ، وهبطوا إلى الشام ، وقاتلوا الجبارين ، ثم عادوا إلى البيت المقدّس. ولم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٨٧.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٢٤.

٣٧٩

مصر. انتهى كلامه. فتلخص من قراءة التنوين : أن يكون المراد مصرا غير معين لا من الشام ولا من غيره ، أو مصرا غير معين من أمصار الشام ، أو معينا ، وهو بيت المقدس ، أو مصر فرعون ، فهذه أربعة أقوال.

(فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) : هذه الجملة جواب للأمر ، كما يجاب بالفعل المجزوم ، ويجري فيه الخلاف الجاري فيه : هل ضمن اهبطوا مصرا معنى أن تهبطوا أو أضمر الشرط؟ وفعله بعد فعل الأمر كأنه قال : أن تهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ، وفي ذلك محذوفان : أحدهما : ما يربط هذه الجملة بما قبلها ، وتقديره : فإن لكم فيها ما سألتم. والثاني : الضمير العائد على ما ، تقديره : ما سألتموه ، وشروط جواز الحذف فيه موجودة. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب : سألتم : بكسر السين ، وهذا من تداخل اللغات ، وذلك أن في سأل لغتين : إحداهما : أن تكون العين همزة فوزنه فعل. والثانية : أن تكون العين واوا تقول : سأل يسأل ، فتكون الألف منقلبة عن واو ، ويدل على أنه من الواو ، وقولهم :

هما يتساولان ، كما تقول : يتجاوبان ، وحين كسر السين توهم أنه فتحها ، فأتى بالعين همزة ، قال الشاعر :

إذا جئتهم وسأيلتهم

وجدت بهم علة حاضره

الأصل ساءلتهم ، والمعروف إبدال الهمزة ياء ، فتقول : سايلتهم ، فجمع بين العوض وهو الياء ، وبين المعوض منه وهو الهمزة لكنه لما اضطر قدم الهمزة قبل ألف فاعل. وقال ابن جني : يحتمل أن يكون إبدال الهمزة في سألتم ياء ، كما أبدلت ألفا في قوله :

سألت هذيل رسول الله فاحشة

فانكسر السين قبل الياء ، ثم تنبه للهمز فهمز. والمعنى : ما سألتم من البقول والحبوب التي اخترتموها على المن والسلوى. وقيل : ما سألتم من اتكالكم على تدبير أنفسكم في مصالح معاشكم وأحوال أقواتكم.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) : معنى الضرب هنا : الإلزام والقضاء عليهم ، من ضرب الأمير البعث على الجيش ، وكقول العرب : ضربة لازم ، ويقال : ضرب الحاكم على اليد ، وضرب الدهر ضرباته ، أي ألزم إلزاماته ، وقيل : معناه الإحاطة بهم والاشتمال عليهم مأخوذ من ضرب القباب. ومنه قول الفرزدق :

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك بها الكتاب المنزل

٣٨٠