البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

جهرة ، أو على معنى جاهرين بالرؤية لا على طريق المبالغة نحو : رجل صوم ، لأن المبالغة لا تراد هنا. فعلى القول الأوّل تكون الجهرة من صفات الرّؤية ، وعلى هذا القول تكون من صفات الرائين ، وثم قول ثالث ، وهو أن يكون راجعا لمعنى القول ، أو القائلين ، فيكون المعنى : وإذ قلتم كذا قولا جهرة أو جاهرين بذلك القول ، لم يسروه ولم يتكاتموا به ، بل صرحوا به وجهروا بأنهم أخبروا بانتفاء الإيمان مغيابا لرؤية. والقول بأن الجهرة راجع لمعنى القول مروي عن ابن عباس وأبي عبيدة ، والظاهر تعلقه بالرؤية لا بالقول ، وهو الذي يقتضيه التركيب الفصيح.

وقرأ ابن عباس وسهل بن شعيب وحميد بن قيس : جهرة ، بفتح الهاء ، وتحتمل هذه القراءة وجهين : أحدهما : أن يكون جهرة مصدرا كالغلبة ، فتكون معناها ومعنى جهرة المسكّنة الهاء سواء ، ويجري فيها من الإعراب الوجوه التي سبقت في جهرة. والثاني : أن يكون جمعا لجاهر ، كما تقول : فاسق وفسقة ، فيكون انتصابه على الحال ، أي جاهرين بالرؤية. قال الزمخشري : وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه‌السلام رادّهم ، وعرّفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال ، وأن من استجاز على الله الرؤية ، فقد جعله من جملة الإقسام أو الإعراض ، فرادوه بعد بيان الحجة ووضوح البرهان ، ولجوا فكانوا في الكفر كعبدة العجل ، فسلط الله عليهم الصاعقة ، كما سلط على أولئك القتل ، تسوية بين الكفرين ، ودلالة على عظمها بعظم المحنة. ا ه. كلامه. وهو مصرّح باستحالة رؤية الله تعالى بالأبصار. وهذه المسألة فيها خلاف بين المسلمين.

ذهبت القدرية والمعتزلة والنجارية والجهمية ومن شاركهم من الخوارج إلى استحالة ذلك في حق الباري سبحانه وتعالى ، وذهب أكثر المسلمين إلى إثبات الرؤية. فقال الكرامية : يرى في جهة فوق وله تحت ، ويرى جسما ، وقالت المشبهة : يرى على صورة ، وقال أهل السنة : لا مقابلا ، ولا محاذيا ، ولا متمكنا ، ولا متحيزا ، ولا متلونا ، ولا على صورة ولا هيئة ، ولا على اجتماع وجسمية ، بل يراه المؤمنون ، يعلمون أنه بخلاف المخلوقات كما علموه كذلك قبل. وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة الثابتة في رؤية الله تعالى ، فوجب المصير إليها. وهذه المسألة من أصعب مسائل أصول الدين ، وقد رأيت لأبي جعفر الطوسي من فضلاء الإمامية فيها مجلدة كبيرة ، وليس في الآية ما يدل على ما ذهب إليه الزمخشري من استحالة الرؤية ، لكن عادته تحميل الألفاظ ما لا تدل عليه ، خصوصا ما يجر إلى مذهبه الاعتزالي ، نعوذ بالله من العصبية فيما لا ينبغي. وكذلك

٣٤١

اختلفوا في رؤية الحق نفسه ، فذهب أكثر المعتزلة إلى أنه لا يرى نفسه ، وذهبت طائفة منهم إلى أنه يرى نفسه ، وذهب الكعبي إلى أنه لا يرى نفسه ولا غيره ، وهذا مذهب النجار ، وكل ذلك مذكور في علم أصول الدين.

(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) : أي استولت عليكم وأحاطت بكم. وأصل الأخذ : القبض باليد. والصاعقة هنا : هل هي نار من السماء أحرقتهم ، أو الموت ، أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا ، أو الفزع فدام حتى ماتوا ، أو غشي عليهم ، أو العذاب الذي يموتون منه ، أو صيحة سماوية؟ أقوال ، أصحها : أنها سبب الموت ، لا الموت ، وإن كانوا قد اختلفوا في السبب ، قاله المحققون لقوله تعالى : (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) (١). وأجمع المفسرون على أن المدّة من الموت أو الصعق كانت يوما وليلة. وقيل : أصاب موسى ما أصابهم ، وقيل صعق ولم يمت ، قالوا : وهو الصحيح ، لأنه جاء ، فلما أفاق في حق موسى وجاء ، ثم بعثناكم في حقهم ، وأكثر استعماله البعث في القرآن بعث الأموات. وقيل : غشي عليهم كهو ولم يموتوا ، والصعق يطلق على غير الموت ، وقال جرير :

وهل كان الفرزدق غير قرد

أصابته الصواعق فاستدارا

والظاهر أن سبب أخذ الصاعقة إياهم قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ، إذ لم يقولوا ذلك ويسألوا الرؤية إلا على سبيل التعنت ، وقيل : سبب أخذ الصعقة إياهم هو غير هذا القول من كفرهم بموسى ، أو تكذيبهم إياه لما جاءهم بالتوراة أو عبادة العجل. وقرأ عمرو على الصعقة ، واستعظم سؤال الرؤية حيث وقع ، لأن رؤيته لا تحصل إلا في الآخرة ، فطلبها في الدنيا هو مستنكر ، أو لأن حكم الله أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يراه ، فكان طلبها طلبا لإزالة التكليف ، أو لأنه لما دلت الدلائل على صدق المدّعي كان طلب الدلائل الزائدة تعنتا ولأن في منع الرؤية في الدنيا ضربا من المصلحة المهمة للخلق ، فلذلك استنكر.

(وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) : جملة حالية ، ومتعلق النظر : أخذ الصعقة إياكم ، أي وأنتم تنظرون إلى ما حل بكم منها أو بعضكم إلى بعض كيف يخرّ ميتا ، أو إلى الأحياء ، أو تعلمون أنها تأخذكم. فعبر بالنظر عن العلم ، أو إلى آثار الصاعقة في أجسامكم بعد أن بعثتم ، أو ينظر كل منكم إلى إحياء نفسه ، كما وقع في قصة العزير ، قالوا : حيى عضوا بعد

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٥.

٣٤٢

عضو ، أو إلى أوائل ما كان ينزل من الصاعقة قبل الموت ، أو أنتم يقابل بعضكم بعضا من قول العرب دور آل فلان تتراءى ، أي يقابل بعضها بعضا ، ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) إجابة السؤال في حصول الرؤية لهم ، لكان وجها من قولهم : نظرت الرجل ، أي انتظرته ، كما قال الشاعر :

فإنكما إن تنظراني ساعة

من الدهر تنفعني لدى أم جندب

لكن هذا الوجه ليس بمنقول ، فلا أجسر على القول به ، وإن كان اللفظ يحتمله. وقد عدّ صاحب المنتخب هذا إنعاما سادسا ، وذكر في كونه إنعاما وجوها : منها ما يتعلق بغير بني إسرائيل ، ومنها ما يتعلق بهم ، والمقصود ذكر ما يتعلق بكون ذلك إنعاما ، وهو أن إحياءهم لأن يتوبوا عن التعنت ، ولأن يتخلصوا من أليم العقاب ويفوزوا بجزيل الثواب من أعظم النعم ، ولا تدل هذه الآية على أن قولهم هذا بعد أن كلف عبدة العجل بالقتل ولا قبله. وقد قيل بكل من القولين ، لأن هذه الجمل معطوفة بالواو ، والواو لا تدل بوضعها على الترتيب الزماني. قال بعضهم : لما أحلهم الله محل مناجاته ، وأسمعهم لذيذ خطابه ، اشرأبّت نفوسهم للفخر وعلوّ المنزلة ، فعاملهم الله بنقيض ما حصل في أنفسهم بالصعقة التي هي خضوع وتذلل تأديبا لهم وعبرة لغيرهم ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ). (١)

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) : معطوف على قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) ، ودل العطف بثم على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زمانا تتصوّر فيه المهلة والتأخير ، هو زمان ما نشأ عن الصاعقة من الموت ، أو الغشي على الخلاف الذي مرّ. والبعث هنا : الإحياء ، ذكر أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول : يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله جميعا رجلا بعد رجل ، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون. وقيل : معنى البعث الإرسال ، أي أرسلناكم. روي أنه لما أحياهم الله سألوا أن يبعثهم أنبياء فبعثهم أنبياء. وقيل : معنى البعث : الإفاقة من الغشية ، ويتخرّج على قول من قال إنهم صعقوا ولم يموتوا. وقيل : البعث هنا : القيام بسرعة من مصارعهم ، ومنه قالوا : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) (٢)؟ وقيل معنى البعث هنا ، التعليم ، أي ثم علمناكم من بعد جهلكم ، والموت هنا ظاهره مفارقة الروح الجسد ، وهذا هو الحقيقة ، وكان إحياؤهم لأجل استيفاء أعمارهم. ومن قال : كان ذلك غشيا وهمودا كان الموت مجازا ، قال تعالى :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٣.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٥٢.

٣٤٣

(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) (١) ، والذي أتاه مقدّماته سميت موتا على سبيل المجاز ، قال الشاعر :

وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا

قولا يبرئكم إني أنا الموت

جعل نفسه الموت لما كان سببا للموت ، وكذلك إذا حمل الموت على الجهل كان مجازا ، وقد كنى عن العلم بالحياة ، وعن الجهل بالموت. قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (٢) ، وقال الشافعي ، رحمه‌الله :

إنما النفس كالزجاجة والعلم سراج وحكمة الله زيت

فإذا أبصرت فإنك حيّ

وإذا أظلمت فإنك ميت

وقال ابن السيد :

أخو العلم حي خالد بعد موته

وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى

يظنّ من الأحياء وهو عديم

ولا يدخل موسى على نبينا وعليه‌السلام في خطاب ثم (بَعَثْناكُمْ) ، لأنه خطاب مشافهة للذين قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ، ولقوله : (فَلَمَّا أَفاقَ) (٣) ، ولا يستعمل هذا في الموت. وأخطأ ابن قتيبة في زعمه أن موسى قد مات (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : وفي متعلق الشكر أقوال ينبني أكثرها على المراد بالبعث والموت. فمن زعم أنهما حقيقة قال : المعنى لعلكم تشكرون نعمته بالإحياء بعد الموت ، أو على هذه النعمة وسائر نعمه التي أسداها إليهم ، ومن جعل ذلك مجازا عن إرسالهم أنبياء ، أو إثارتهم من الغشي ، أو تعليمهم بعد الجهل ، جعل متعلق الشكر أحد هذه المجازات. وقد أبعد من جعل متعلق الشكر إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعه ، بعد أن لم يكن شرائع. وقيل : المعنى لعلكم تشكرون نعمة الله بعد ما كفرتموها إذا رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت. وقال في المنتخب : إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم. أمّا أنه كلفهم ، فلقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (٤) ، انتهى كلامه. وقال الماوردي : اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ،

__________________

(١) سورة ابراهيم : ١٤ / ١٧.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٢.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.

(٤) سورة سبأ : ٣٤ / ١٣.

٣٤٤

ومعاينة الأهوال التي تضطره وتلجئه إلى الاعتراف بعد الاقتراف. فقال قوم : سقط عنهم التكليف ليكون تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار. وقال قوم : يبقى تكليفهم لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد ، ولا يمنع حكم التكليف بدليل قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (١) ، وذلك حين أبوا أن يقبلوا التوراة ، فلما نتق الجبل فوقهم آمنوا وقبلوها ، فكان إيمانهم بها إيمان اضطرار ، ولم يسقط عنهم التكليف ، ومثلهم قوم يونس في إيمانهم. اه كلامه.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) : مفعول على إسقاط حرف الجرّ ، أي بالغمام ، كما تقول : ظللت على فلان بالرداء ، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف ، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللا. فعلى هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه ، بجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولهم : عدّلت زيدا ، أي جعلته عدلا ، فكذلك هذا معناه : جعلنا الغمام عليكم ظلة ، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنى أفعل ، فيكون التضعيف أصله للتعدية ، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى ، فكان الأصل : وظللناكم ، أي أظللناكم بالغمام ، نحو ما ورد في الحديث : «سبعة يظلهم الله في ظله» ، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهه مما يمكن تعديته بعلى ، فعداه بعلى. وقد تقدم ذكر معاني فعل ، وليس المعنى على ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، إذ ظاهره يقتضي أن الغمام ظلل علينا ، فيكون قد جعل على الغمام شيء يكون ظلة للغمام ، وليس كذلك ، بل المعنى ، والله أعلم ، ما ذكره المفسرون. وقد تقدّم تفسير الغمام ، وقيل : إنه الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر ، وهو الذي تأتي فيه ملائكة الرحمن ، وهو المشار إليه بقوله : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) (٢) ، وليس بغمام حقيقة ، وإنما سمي غماما لكونه يشبه الغمام. وقيل : الذين ظلّل عليهم الغمام بعض بني إسرائيل ، وكان الله قد أجرى العادة في بني إسرائيل أن من عبد الله ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلّته غمامة.

وحكي أن شخصا عبد ثلاثين سنة فلم تظله غمامة ، فجاء إلى أصحاب الغمائم فذكر لهم ذلك فقالوا : لعلك أحدثت ذنبا ، فقال : لا أعلم شيئا إلا أني رفعت طرفي إلى السماء وأعدته بغير فكر ، فقالوا له : ذلك ذنبك ، وكانت فيهم جماعة يسمون أصحاب الغمائم ، فامتنّ الله عليهم بكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة الباهرة. والمكان الذي أظلتهم فيه الغمامة كان في التيه بين الشام ومصر لما شكوا حر الشمس ، وسيأتي بيان ذلك في

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢١٠.

٣٤٥

قصتهم. وقيل : أرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل ، وقعوا فيها حين خرجوا من البحر ، فأظلهم الله بالغمام ، ووقاهم حرّ الشمس.

(وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) المنّ : اسم جنس لا واحد له من لفظه. وفي المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال : ما يسقط على الشجر أحلى من الشهد وأبيض من الثلج ، وهو قول ابن عباس والشعبي ، أو صمغة طيبة حلوة ، وهو قول مجاهد ؛ أو شراب كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجه بالماء ، وهو قول الرّبيع بن أنس وأبي العالية ؛ أو عسل كان ينزل عليهم ، وهو قول ابن زيد ؛ أو الرقاق المتخذ من الذرة أو من النقي ، وهو قول وهب ؛ أو الزنجبيل ، وهو قو السدّي ، أو الترنجبين ، وعليه أكثر المفسرين ؛ أو عسل حامض ، قاله عمرو بن عيسى ؛ أو جميع ما منّ الله به عليهم في التيه وجاءهم عفوا من غير تعب ، قاله الزّجاج ، ودليله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكمأة من المنّ الذي منّ الله به على بني إسرائيل». وفي رواية : على موسى. وفي السلوى الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال : طائر يشبه السماني ، أو هو السماني نفسه ، أو طيور حمر بعث الله بها سحابة فمطرت في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض ، قاله أبو العالية ومقاتل ؛ أو طير يكون بالهند أكبر من العصفور ، قاله عكرمة ؛ أو طير سمين مثل الحمام ؛ أو العسل بلغة كنانة ، وكانت تأتيهم السلوى من جهة السماء ، فيختارون منها السمين ويتركون الهزيل ؛ وقيل : كانت ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي. وقيل : كانت تنزل على الشجر فينطبخ نصفها وينشوي نصفها. وكان المنّ ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والسلوى بكرة وعشيا ، وقيل : دائما ، وقيل : كلما أحبوا.

وقد ذكر المفسرون حكايات في التظليل ونزول المنّ والسلوى ، وتظافرت أقاويلهم أن ذلك كان في فحص التيه ، وستأتي قصته في سورة المائدة ، إن شاء الله تعالى ، وأنهم قالوا : من لنا من حر الشمس؟ فظلل عليهم الغمام ، وقالوا : من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المن والسلوى ، وقالوا : من لنا بالماء؟ فأمر الله موسى بضرب الحجر ، وهذه دل عليها القرآن. وزيد في تلك الحكايات أنهم قالوا : بم نستصبح؟ فضرب لهم عمود من نور في وسط محلتهم ، وقيل : من نار ، وقالوا : من لنا باللباس؟ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب ، ولا يخلق ، ولا يدرن ، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان. (كُلُوا) : أمر إباحة وإذن كقوله : (فَاصْطادُوا) (١) ، (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) (٢) ، وذلك على قول من قال : إن الأصل

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢.

(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ١٠.

٣٤٦

في الأشياء الحظر ، أو دوموا على الأكل على قول من قال الأصل فيها الإباحة ، وهاهنا قول محذوف ، أي وقلنا : كلوا ، والقول يحذف كثيرا ويبقى المقول ، وذلك لفهم المعنى ، ومنه : أكفرتم؟ أي فيقال : أكفرتم؟ وحذف المقول وإبقاء القول قليل ، وذلك أيضا لفهم المعنى ، قال الشاعر :

لنحن الألى قلتم فإني ملئتم

برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا

التقدير : قلتم نقاتلهم. (مِنْ طَيِّباتِ) : من : للتبعيض لأن المن والسلوى بعض الطيبات ، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة ، ولا يتخرج ذلك إلا على قول الأخفش ، وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس ، لأن التي للجنس في إثباتها خلاف ، ولا بد أن يكون قبلها ما يصلح أن يقدر بعده موصول يكون صفة له. وقول من زعم أنها للبدل ، إذ هو معنى مختلف في إثباته ، ولم يدع إليه هنا ما يرجح ذلك. والطيبات هنا قيل : الحلال ، وقيل : اللذيذ المشتهى. ومن زعم أن هذا على حذف مضاف ، وهو كلوا من عوض طيبات ما رزقناكم ، فقوله ضعيف ، عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة بالمن والسلوى ، فكانا بدلا من الطيبات. وقد استنبط بعضهم من قوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل ، بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك ، وهو قول. وقيل : يملك بالوضع فقط ، وقيل : بالأخذ والتناول ، وقيل : لا يملك بحال ، بل ينتفع به وهو على ملك المالك. وما في قوله : (ما رَزَقْناكُمْ) موصولة ، والعائد محذوف ، أي ما رزقناكموه ، وشروط الحذف فيه موجودة ، ولا يبعد أن يجوز مجوّز فيها أن تكون مصدرية ، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير ، ويكون يطلق المصدر على المفعول ، والأول أسبق إلى الذهن.

(وَما ظَلَمُونا) نفى أنهم لم يقع منهم ظلم لله تعالى ، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء عن الشيء إمكان وقوعه ، لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه البتة. قيل : المعنى وما ظلمونا بقولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) ، بل ظلموا أنفسهم بما قابلناهم به من الصاعقة. وقيل : وما ظلمونا بادخارهم المن والسلوى ، بل ظلموا أنفسهم بفساد طعامهم وتقليص أرزاقهم. وقيل : وما ظلمونا بإبائهم على موسى أن يدخلوا قرية الجبارين. وقيل : وما ظلمونا باستحبابهم العذاب وقطعهم مادّة الرزق عنهم ، بل ظلموا أنفسهم بذلك. وقيل : وما ظلمونا بكفر النعم ، بل ظلموا أنفسهم بحلول النقم. وقيل : وما ظلمونا بعبادة العجل ، بل ظلموا أنفسهم بقتل بعضهم بعضا.

٣٤٧

واتفق ابن عطية والزمخشري على أنه يقدر محذوف قبل هذه الجملة ، فقدره ابن عطية ، فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر ، قال : والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرّة لنا ، ولكن وضعوه في موضع مضرّة لهم حيث لا يجب. وقدره الزمخشري : فظلموا بأن كفروا هذه النعم ، وما ظلمونا ، قال : فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه ، انتهى. ولا يتعين تقدير محذوف ، كما زعما ، لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها ، ومن سؤال رؤية الله على سبيل التعنت ، وغير ذلك مما لم يقص هنا. فجاء قوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا) جملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا بذلك نقص ولا ضرر ، بل وبال ذلك راجع إلى أنفسهم ومختص بهم ، لا يصل إلينا منه شيء.

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) : لكن هنا وقعت أحسن موقع ، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب ، نحو قوله تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (١) ، وكذلك العكس ، نحو قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (٢) ، أعني أن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي ، لأن الاستدراك الحاصل بها إنما يكون يدل عليه ما قبلها بوجه ما ، وذلك أنه لما تقرر أنه قد وقع منهم ظلم ، فلما نفى ذلك الظلم أن يصل إلى الله تعالى بقيت النفس متشوّفة ومتطلعة إلى ذكر من وقع به الظلم ، فاستدرك بأن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعا بهم ، وأحسن مواقعها أن تكون بين المتضادين ، ويليه أن تقع بين النقيضين ، ويليه أن تقع بين الخلافين ، وفي هذا الأخير خلاف بين النحويين. أذلك تركيب عربي أم لا؟ وذلك نحو قولك : ما زيد قائم ، ولكن هو ضاحك ، وقد تكلم على ذلك في علم النحو. واتفقوا على أنها لا تقع بين المتماثلين نحو : ما خرج زيد ولكن لم يخرج عمرو. وطباق الكلام أن يثبت ما بعد لكن على سبيل ما نفي قبلها ، نحو قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ، لكن دخلت كانوا هنا مشعرة بأن ذلك من شأنهم ومن طريقتهم ، ولأنها أيضا تكون في كثير من المواضع تستعمل حيث يكون المسند لا ينقطع عن المسند إليه ، نحو قوله : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٣) ؛ فكان المعنى : ولكن لم يزالوا ظالمي أنفسهم بكثرة ما يصدر منهم من المخالفات. ويظلمون : صورته صورة المضارع ، وهو ماض من حيث المعنى ، وهذا من المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي.

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٠١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٣.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤٠.

٣٤٨

ولم يذكره ابن مالك في التسهيل ولا فيما وقفنا عليه من كتبه ، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليه هنا وهو قوله : (أَنْفُسَهُمْ) ، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل ، وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل ، ولأنه من حيث المعنى صار العامل في المفعول توكيدا لما يدل عليه ما قبله. فليس ذكره ضروريّا ، وبأن التوكيد أن يتأخر عن المؤكد ، وذلك أنك تقول : ما ضربت زيدا ولكن ضربت عمرا ، فذكر ضربت الثانية أفادت التأكيد ، لأن لكن موضوعها أن يكون ما بعدها منافيا لما قبلها ، ولذلك يجوز أن تقول : ما ضربت زيدا ولكن عمرا ، فلست مضطرا لذكر العامل. فلما كان معنى قوله : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) في معنى : (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ، كان ذكر العامل في المفعول ليس مضطرا إليه ، إذ لو قيل : وما ظلمونا ولكن أنفسهم ، لكان كلاما عربيا ، ويكتفي بدلالة لكن أن ما بعدها مناف لما قبلها ، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم المفعول كان تقديمه هنا الأفصح.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر قصص بني إسرائيل فصولا منها : أمر موسى ، على نبينا وعليه‌السلام ، إياهم بالتوبة إلى الله من مقارفة هذا الذنب العظيم الذي هو عبادة العجل من دون الله ، وأن مثل هذا الذنب العظيم تقبل التوبة منه ، والتلطف بهم في ندائهم بيا قوم ، وتنبيههم على علة الظلم الذي كان وباله راجعا عليهم ، والإعلام بأن توبتهم بقتل أنفسهم ، ثم الإخبار بحصول توبة الله عليهم وأن ذلك كان بسابق رحمته ، ثم التوبيخ لهم بسؤالهم ما كان لا ينبغي لهم أن يسألوه ، وهو رؤية الله عيانا ، لأنه كان سؤال تعنت. ثم ذكر ما ترتب على هذا السؤال من أخذ الصاعقة إياهم. ثم الإنعام عليهم بالبعث ، وهو من الخوارق العظيمة أن يحيى الإنسان في الدنيا بعد أن مات. ثم إسعافهم بما سألوه ، إذ وقعوا في التيه ، واحتاجوا إلى ما يزيل ضررهم وحاجتهم من لفح الشمس ، وتغذية أجسادهم بما يصلح لها ، فظلل عليهم الغمام ، وهذا من أعظم الأشياء وأكبر المعجزات حيث يسخر العالم العلوي للعالم السفلي على حسب اقتراحه ، فكان على ما قيل : تظلهم بالنهار وتذهب بالليل حتى ينوّر عليهم القمر. وأنزل عليهم المن والسلوى ، وهذا من أشرف المأكول ، إذ جمع بين الغذاء والدواء ، بما في ذلك من الحلاوة التي في المن والدسم الذي في السلوى ، وهما مقمعا الحرارة ومثيرا القوّة للبدن. ثم الأمر لهم بتناول ذلك غير مقيد بزمان ولا مكان ، بل ذلك أمر مطلق. ثم التنصيص أن ذلك من الطيبات وبحق ما يكون ذلك من الطيبات. ثم ذكر أنه رزق منه لهم لم يتعبوا في تحصيله

٣٤٩

ولا استخراجه ولا تنميته ، بل جاء رزقا مهنأ لا تعب فيه ؛ ثم أرداف هذه الجمل بالجملة الأخيرة ، إذ هي مؤكدة لافتتاح هذه الجمل السابقة ، لأنه افتتحها بالإخبار بأنهم ظلموا أنفسهم ، وختمها بذلك وهو قوله : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). فجاءت هذه الجمل في غاية الفصاحة لفظا والبلاغة معنى ، إذ جمعت الألفاظ المختارة والمعاني الكثيرة متعلقا أوائل أواخرها بأواخر أوائلها ، مع لطف الإخبار عن نفسه. فحيث ذكر النعم صرح بأن ذلك من عنده ، فقال : ثم بعثناكم ، وقال : وظللنا وأنزلنا ، وحيث ذكر النقم لم ينسبها إليه تعالى فقال : فأخذتكم الصاعقة. وسر ذلك أنه موضع تعداد للنعم ، فناسب نسبة ذلك إليه ليذكرهم آلاءه ، ولم ينسب النقم إليه ، وإن كانت منه حقيقة ، لأن في نسبتها إليه تخويفا عظيما ربما عادل ذلك الفرح بالنعم. والمقصود : انبساط نفوسهم بذكر ما أنعم الله به عليهم ، وإن كان الكلام قد انطوى على ترهيب وترغيب ، فالترغيب أغلب عليه.

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)

الدخول : معروف ، وفعله : دخل يدخل ، وهو مما جاء على يفعل بضم العين. وكان

٣٥٠

القياس فيه أن يفتح ، لأن وسطه حرف حلق ، كما جاء الكسر في ينزع وقياسه أيضا الفتح. القرية : المدينة ، من قريت : أي جمعت. سميت بذلك لأنها مجتمع الناس على طريق المساكنة. وقيل : إن قلوا قيل لها قرية ، وإن كثروا قيل لها مدينة. وقيل : أقل العدد الذي تسمى به قرية ثلاثة فما فوقها ، ومنه ، قريت الماء في الحوض ، والمقراة : الحوض ، ومنه القرى : وهو الضيافة ، والقرى : المجرى ، والقرى : الظهر. ولغة أهل اليمن : القرية ، بكسر القاف ، ويجمعونها على قرى بكسر القاف نحو : رشوة ورشا. وأما قرية بالفتح فجمت على قرى بضم القاف ، وهو جمع على غير قياس. قيل : ولم يسمع من فعله المعتل اللام إلا قرية وقرى ، وتروة وترى ، وشهوة وشهي. الباب : معروف ، وهو المكان الذي يدخل منه ، وجمعه أبواب ، وهو قياس مطرد ، وجاء جمعه على أبوبة في قوله :

هتاك أخبية ولاج أبوبة

لتشاكل أخبية ، كما قالوا : لا دريت ولا تليت ، وأصله تلوت ، فقلبت الواو ياء لتشاكل دريت. سجدا : جمع ساجد ، وهو قياس مطرد في فاعل وفاعلة الوصفين الصحيحي اللام. وقولوا : كل أمر من ثلاثي اعتلت عينه فانقلبت ألفا في الماضي ، تسقط تلك العين منه إذا أسند لمفرد مذكر نحو : قل وبع ، أو لضمير مؤنث نحو : قلن وبعن ، فإن اتصل به ضمير الواحدة نحو : قولي ، أو ضمير الاثنين نحو : قولا ، أو ضمير الذكور نحو : قولوا ، ثبتت تلك العين ، وعلة الحذف والإثبات مذكورة في النحو. وقد جاء حذفها في الشعر ، فجاء قوله : قلى وعشا. حطة : على وزن فعلة من الحط ، وهو مصدر كالحط ، وقيل : هو هيئة وحال : كالجلسة والقعدة ، والحط : الإزالة ، حططت عنه الخراج : أزلته عنه. والنزول : حططت. وحكي : بفناء زيد نزلت به ، والنقل من علو إلى أسفل ، ومنه انحطاط القدر. وقال أحمد بن يحيى ، وأبان بن تغلب ، الحطة : التوبة. وأنشدوا :

فاز بالحطة التي جعل الله

بها ذنب عبده مغفورا

أي فاز بالتوبة ، وتفسيرهما الحطة بالتوبة إنما هو تفسير باللازم لا بالمرادف ، لأن من حط عنه الذنب فقد تيب عليه. الغفر والغفران : الستر ، وفعله غفر يغفر ، بفتح الغين في الماضي وكسرها في المضارع. والغيرة : المغفرة ، والغفارة : السحاب وما يلبس به سية القوس ، وخرقة تلبس تحت الخمار ، ومثله المغفر والجماء ، الغفير : أي جماعة يستر بعضهم بعضا من الكثرة. وقوله عمر لمن قال له : لم حصبت المسجد؟ هو أغفر للنخامة ، كل هذا راجع لمعنى الستر والتغطية. الخطيئة : فعيلة من الخطا ، والخطأ : العدول عن

٣٥١

القصد ، يقال خطىء الشيء : أصابه بغير قصد ، وأخطأ : إذا تعمد ، وأما خطايا : فجمع خطية مشددة عند الفراء ، كهدية وهدايا ، وجمع خطيئة المهموز عند سيبويه والخليل. فعند سيبويه : أصله خطائيّ ، مثل : صحائف ، وزنه ، فعائل ، ثم أعلت الهمزة الثانية بقلبها ياء ، ثم فتحت الأولى التي كان أصلها ياء المد في خطيئة فصار : خطأي ، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فصار : خطاء ، فوقعت همزة بين ألفين ، والهمزة شبيهة بالألف فصار : كأنه اجتمع ثلاثة أمثال ، فأبدلوا منها ياء فصار خطايا ، كهدايا ومطايا. وعند الخليل أصله : خطايىء ، ثم قلب فصار خطائي على وزن فعالي ، المقلوب من فعائل ، ثم عمل فيه العمل السابق في قول سيبويه.

وملخص ذلك : أن الياء في خطايا منقلبة عن الهمزة المبدلة من الياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة زائدة في خطيئة ، على رأي سيبويه ، والألف بعدها منقلبة عن الياء المبدلة من الهمزة التي هي لام الكلمة ، ومنقلبة عن الهمزة التي هي لام الكلمة في الجمع والمفرد ، والألف بعدها هي الياء التي كانت ياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة في المفرد ، على رأي الخليل. وقد أمعنا الكلام في هذه المسألة في (كتاب التكميل لشرح التسهيل) من تأليفنا. الإحسان والإنعام والإفضال : نظائر ، أحسن الرجل : أتى بالحسن ، وأحسن الشيء : أتى به حسنا : وأحسن إلى عمرو أسدي إليه خيرا. التبديل : تغيير الشيء بآخر. تقول : هذا بدل هذا : أي عوضه ، ويتعدّى لاثنين ، الثاني أصله حرف جر : بدلت دينارا بدرهم : أي جعلت دينارا عوض الدرهم ، وقد يتعدّى لثلاثة فتقول : بدلت زيدا دينارا بدرهم : أي حصلت له دينارا عوضا من الدرهم ، وقد يجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى ، قال تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ) (١) ، أي يجعل لهم حسنات عوض السيئات ، وقد وهم كثير من الناس فجعلوا ما دخلت عليه الباء هو الحاصل ، والمنصوب هو الذاهب ، حتى قالوا : ولو أبدل ضادا بظاء لم تصح صلاته ، وصوابه : لو أبدل ظاء بضاد. الرجز : العذاب ، وتكسر راؤه وتضم ، والضم لغة بني الصعدات ، وقد قرىء بهما في بعض المواضع ، قال رؤبة :

كم رامنا من ذي عديد مبزي

حتى وقينا كيده بالرجز

والرجز ، بالضم : اسم صنم مشهور ، والرجزاء : ناقة أصاب عجزها داء ، فإذا نهضت ارتعشت أفخاذها ، قال الشاعر :

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٠.

٣٥٢

هممت بخير ثم قصرت دونه

كما ناءت الرجزاء شدّ عقالها

قيل : الرجز : مشتق من الرجازة ، وهي صوف تزين به الهوادج ، كأنه وسمهم ، قال الشاعر :

ولو ثقفاها ضرجت بدمائها

كما ضرجت نضو القرام الرجائز

الاستسقاء : طلب السقي ، والطلب أحد المعاني التي سبق ذكرها في الاستفعال في قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (١). العصا : مؤنث ، والألف منقلبة عن واو ، قالوا : عصوان ، وعصوته : أي ضربته بالعصا ، ويجمع على أفعل شذوذا ، قالوا : أعص ، أصله أعصو ، وعلى فعول قياسا ، قالوا : عصى ، أصله عصوو ، ويتبع حركة العين حركة الصاد ، قال الشاعر :

ألا إن لا تكن إبل فمعزى

كأن قرون جلتها العصى

الحجر : هو هذا الجسم الصلب المعروف عند الناس ، وجمع على أحجار وحجار ، وهما جمعان مقيسان فيه ، وقالوا : حجارة بالتاء ، واشتقوا منه ، قالوا : استحجر الطين ، والاشتقاق من الأعيان قليل جدا. الانفجار : انصداع شيء من شيء ، ومنه انفجر ، والفجور : وهو الانبعاث في المعصية كالماء ، وهو مطاوع فعل فجره فانفجر ، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها انفعل ، وقد تقدّم ذكرها. اثنتا : تأنيث اثنين ، وكلاهما له إعراب المثنى ، وليس بمثنى حقيقة لأنه لا يفرد ، فيقال : اثن ، ولا اثنة ، ولا مهما محذوفة ، وهي ياء ، لأنه من ثنيت. العشرة ، بإسكان الشين ، لغة الحجاز ، وبكسرها لغة تميم ، والفتح فيها شاذ غير معروف ، وهو أوّل العقود ، واشتقوا منه فقالوا : عشرهم يعشرهم ، ومنه العشر والعشر ، والعشر : شجر لين ، والإعشار : القطع لا واحد لها ، ووصل بها المفرد ، قالوا : برمة أعشار. العين : لفظ مشترك بين منبع الماء والعضو الباصر ، والسحابة تقبل من ناحية القبلة ، والمطر يمطر خمسا أو ستا ، لا يقلع ، ومن له شرف في الناس ، والثقب في المزادة والذهب وغير ذلك ، وجمع على أعين شاذ ، أو غيون قياسا ، وقالوا : في الأشراف من الناس : أعيان ، وجاء ذلك قليلا في العضو الباصر ، قال الشاعر :

أسمل أعيانا لها ومآقيا

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٥.

٣٥٣

أناس : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وإذا سمي به مذكر صرف ، وقول الشاعر :

وإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي

منع صرفه ، إما لأنه علم على مؤنث ، وإما ضرورة على مذهب الكوفيين. مشرب : مفعل من الشراب يكون للمصدر والزمان والمكان ، ويطرد من كل ثلاثي متصرف مجرّد ، لم تكسر عين مضارعه سواء صحت لامه : كسرت ودخل ، أو أعلت : كرمى وغزا. وشذ من ذلك ألفاظ ذكرها النحويون. العثو ، والعثى : أشدّ الفساد ، يقال : عثا يعثو عثوا ، وعثى يعثى عثيا ، وعثا يعثى عثيا : لغة شاذة ، قال الشاعر :

لو لا الحياء وأن رأسي قد عثا

فيه المشيب لزرت أمّ القاسم

وثبوت العثى دليل على أن عثى ليس أصلها عثو ، كرضي الذي أصله رضو ، خلافا لزاعمه. وعاث يعيث عيثا ومعاثا ، وعث يعث كذلك ، ومنه عثة الصوف : وهي السوسة التي تلحسه. الطعام : اسم لما يطعم ، كالعطاء ، اسم لما يعطى ، وهو جنس. الواحد : هو الذي لا يتبعض ، والذي لا يضم إليه ثان. يقال : وحد يحد وحدا وحدة إذا انفرد. الدعاء : التصويت باسم المدعوّ على سبيل النداء ، والفعل منه دعا يدعو دعاء. الإنبات : الهمزة فيه للنقل ، وهو : الإخراج لما شأنه النمو. البقل : جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والبهائم ، يقال منه بقلت الأرض وأبقلت : أي صارت ذات بقل ، ومنه : الباقلاء ، قاله ابن دريد. القثاء : اسم جنس واحده قثاءة ، بضم القاف وكسرها ، وهو هذا المعروف. وقال الخليل : هو الخيار ، ويقال : أرض مقثأة : أي كثيرة القثاء. الفوم ، قال الكسائي والفراء والنضر بن شميل أمية بن وغيرهم : هو الثوم ، أبدلت الثاء فاء ، كما قالوا ، في مغفور : مغثور ، وفي جدث : جدف ، وفي عاثور : عافور. قال الصلت :

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها القراديس والفومان والبصل

وأنشد مؤرج لحسان :

وأنتم أناس لئام الأصول

طعامكم الفول والحوقل

يعني : الفوم والبصل ، وهذا كما أبدلوا بالفاء الثاء ، قالوا في الأثافي : الأثاثي ، وكلا البدلين لا ينقاس ، أعني إبدال الثاء فاء والفاء ثاء. وقال أبو مالك وجماعة : الفوم : الحنطة ، ومنه قول أحيحة بن الجلاح :

٣٥٤

قد كنت أحسبني كأغنى واحد

قدم المدينة عن زراعة فوم

قيل : وهي لغة مصر ، وهو اختيار المبرد. وقال الفراء : وهي لغة قديمة. وقال ابن قتيبة والزجاج : هي الحبوب التي توكل. وقال أبو عبيدة وابن دريد : هي السنبلة ، زاد أبو عبيدة بلغة أسد. وقيل : الحبوب التي تخبز. وقيل : الخبز ، تقول العرب : فوموا لنا ، أي اخبزوا ، واختاره ابن قتيبة قال :

تلتقم الفالح لم يفوّم

تقمما زاد على التقمم

وقال قطرب : الفوم : كل عقدة في البصل ، وكل قطعة عظيمة في اللحم ، وكل لقمة كبيرة. وقيل : إنه الحمص ، وهي لغة شامية ، ويقال لبائعه : فامي ، مغير عن فومي للنسب ، كما قالوا : شهلي ودهري. العدس : معروف ، وعدس وعدس من الأسماء الأعلام ، وعدس : زجر للبغل. البصل : معروف. أدنى : أفعل التفضيل من الدنوّ ، وهو القرب ، يقال : منه دنا يدنو دنوا. وقال علي بن سليمان الأخفش : هو أفعل من الدناءة ، وهي : الخسة والرداءة ، خففت الهمزة بإبدالها ألفا. وقال أبو زيد في المهموز : دنؤ الرجل ، يدنأ دناءة ودناء ، ودنأ يدنأ. وقال غيره : هو أفعل من الدون ، أي أحط في المنزلة ، وأصله أدون ، فصار وزنه : أفلع ، نحو : أولى لك ، هو أفعل من الويل ، أصله أويل فقلب. المصر : البلد ، مشتق من مصرت الشاة ، أمصرها مصرا : حلبت كل شيء في ضرعها ، وقيل المصر : الحد بين الأرضين ، وهجر يكتبون : اشترى الدار بمصورها : أي بحدودها. وقال عديّ بن زيد :

وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به

بين النهار وبين الليل قد فصلا

السؤال : الطلب ، ويقال : سأل يسأل سؤالا ، والسؤل : المطلوب ، وسال يسال : على وزن خاف يخاف ، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب. (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) ، قالوا : لأن السؤال سبب إلى العلم فأجرى مجرى العلم. الذلة : مصدر ذلّ يذلّ ذلة وذلا ، وقيل : الذلة كأنها هيئة من الذل ، كالجلسة ، والذل : الخضوع وذهاب الصعوبة. المسكنة : مفعلة من السكون ، ومنه سمي المسكين لقلة حركاته وفتور نشاطه ، وقد بنى من لفظه فعل ، قالوا : تمسكن ، كما قالوا : تمدرع من المدرعة ، وقد طعن على هذا النقل وقيل : لا يصح وإنما الذي صح تسكن وتدرّع. باء بكذا : أي رجع ، قاله الكسائي : أو اعترف ، قاله أبو عبيدة ، واستحق ، قاله أبو روق ؛ أو نزل وتمكن ، قاله

٣٥٥

المبرد ؛ أو تساوى ، قاله الزجاج ، وأنشدوا لكل قول ما يستدل به أمن كلام العرب ، وحذفنا نحن ذلك. النبيء : مهموز من أنبأ ، فعيل : بمعنى فعل ، كسميع من أسمع ، وجمع على النباء ، ومصدره النبوءة ، وتنبأ مسيلمة ، كل ذلك دليل على أن اللام همزة. وحكى الزهراوي أنه يقال : نبؤ ، إذا ظهر فهو نبىء ، وبذلك سمي الطريق الظاهر : نبيئا. فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل من فعل ، كشريف من شرف ، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز ، ثم سهل. وقيل : مشتق من نبا ينبو ، إذا ظهر وارتفع ، قالوا : والنبي : الطريق الظاهر ، قال الشاعر :

لما وردن نبيا واستتب بنا

مسحنفر لخطوط المسح منسحل

قال الكسائي : النبي : الطريق ، سمي به لأنه يهتدى به ، قالوا : وبه سمي الرسول لأنه طريق إلى الله تعالى. العصيان : عدم الانقياد للأمر والنهي والفعل ، منه : عصى يعصي ، وقد جاء العصى في معنى العصيان. أنشد بن حماد في تعليقه عن أبي الحسن بن الباذش مما أنشده الفراء :

في طاعة الرب وعصى الشيطان

الاعتداء : افتعال من العدو ، وقد مرّ شرحه عند قوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (١).

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ). القائل : هو الله تعالى ، وهل ذلك على لسان موسى أو يوشع عليهما‌السلام ، قولان : وانتصاب هذه على ظرف المكان ، لأنه إشارة إلى ظرف المكان ، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر ، وعلى ظرف الزمان إذا كنّ إشارة إليهما تقول : ضربت هذا الضرب ، وصمت هذا اليوم. هذا مذهب سيبويه في دخل ، إنها تتعدّى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة في ، فإن كان الظرف مجازيا تعدّت بفي ، نحو : دخلت في غمار الناس ، ودخلت في الأمر المشكل. ومذهب الأخفش والجرمي أن مثل : دخلت البيت ، مفعول به لا ظرف مكان ، وهي مسألة تذكر في علم النحو. والألف واللام في القرية للحضور ، وانتصاب القرية على النعت ، أو على عطف البيان ، كما مرّ في إعراب الشجرة من قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) (٢) ، وإن اختلفت جهتا الإعراب في هذه ، فهي في : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ) مفعول به ، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه.

والقرية هنا بيت المقدس ، في قول الجمهور ، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٦.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٣٥.

٣٥٦

والسدّي والربيع وغيرهم. وقيل : أريحا ، قاله ابن عباس أيضا ، وهي بأرض المقدس. قال أبو زيد عمر بن شبة النمري : كانت قاعدة ومسكن ملوك ، وفيها مسجد هو بيت المقدس ، وفي المسجد بيت يسمى إيليا. وقال الكواشي : أريحا قرية الجبارين ، كانوا من بقايا عاد ، يقال لهم : العمالية ورأسهم : عوج بن عنق ، وقيل : الرملة ، قاله الضحاك ؛ وقيل : أيلة ؛ وقيل : الأردن ؛ وقيل : فلسطين ؛ وقيل : البلقاء ؛ وقيل : تدمر ، وقيل : مصر ؛ وقيل : قرية بقرب بيت المقدس غير معينة أمروا بدخولها ؛ وقيل : الشام. روي ذلك عن ابن كيسان ، وقد رجح القول الأوّل لقوله في المائدة : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) (١). قيل : ولا خلاف ، إن المراد في الآيتين واحد. وردّ هذا القول بقوله : فبدّل لأن ذلك يقتضي التعقيب في حياة موسى ، لكنه مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس. وأجاب من قال إنها بيت المقدس بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن القول كان على لسان موسى ، وهذا الجواب وهم ، لأنه قد تقدّم أن المراد في هذه الآية وفي التي في المائدة من قوله : ادخلوا الأرض المقدّسة واحد ، والقائل ذلك في آية المائدة قطعا. ألا ترى إلى قوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) ، وقولهم : (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) (٢)؟ قال وهب : كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، فقيل لهم : (ادْخُلُوا) الآية. وقال غيره : ملوا المنّ والسلوى ، فقيل لهم : اهبطوا مصرا ، وكان أوّل ما لقوا أريحا. وفي قوله : (هذِهِ الْقَرْيَةَ) دليل على أنهم قاربوها وعاينوها ، لأن هذه إشارة لحاضر قريب. قيل : والذي قال لهم ذلك هو يوشع بن نون ، فإنه نقل عنهم أنهم لم يدخلوا البيت المقدّس إلا بعد رجوعهم من قتال الجبارين ، ولم يكن موسى معهم حين دخلوها ، فإنه مات هو وأخوه في التيه. وقيل : لم يدخلا التيه لأنه عذاب ، والله لا يعذب أنبياءه.

(فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) : تقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في قصة آدم في قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) ، إلا أن هناك العطف بالواو وهنا بالفاء ، وهناك تقديم الرغد على الظرف ، وهنا تقديم الظرف على الرغد ، والمعنى فيهما واحد ، إلا أن الواو هناك جاءت بمعنى الفاء ، قيل : وهو المعنى الكثير فيها ، أعني أنه يكون المتقدّم في الزمان والمعطوف بها هو المتأخر في الزمان ، وإن كانت قد ترد بالعكس ، وهو قليل. وللمعية والزمان ، وهو دون الأول ، ويدل أنها بمعنى الفاء ما جاء في الأعراف من قوله : (فَكُلا) بالفاء ، والقضية واحدة. وأما تقديم الرغد هناك فظاهر ، فإنه من صفات الأكل أو

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢٥.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٢٢.

٣٥٧

الآكل ، فناسب أن يكون قريبا من العامل فيه ولا يؤخر عنه ، ويفصل بينهما بظرف وإن لم يكن فاصلا مؤثرا المنع لاجتماعهما في المعمولية لعامل واحد ، وأما هنا فإنه أخر لمناسبة الفاصلة بعده ، ألا ترى أن قوله : (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) وقوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) ، فهما سجعتان متناسبتان؟ فلهذا ، والله أعلم ، كان هذان التركيبان على هذين الوضعين.

(وَادْخُلُوا الْبابَ) : الخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب القرية ، والباب أحد أبواب بيت المقدس ، ويدعى الآن : باب حطة ، قاله ابن عباس ؛ أو الثامن ، من أبواب بيت المقدس ، ويدعى باب التوبة ، قاله مجاهد والسدي ؛ أو باب القرية التي أمروا بدخولها ، أو باب القبة التي كان فيها موسى وهارون يتعبدان ، أو باب في الجبل الذي كلم الله عليه موسى. (سُجَّداً) نصب على الحال من الضمير في ادخلوا ، قال ابن عباس : معناه ركعا ، وعبر عن الركوع بالسجود ، كما يعبر عن السجود بالركوع ، قيل : لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء ، وبعد هذا القول لأنه لو كان ضيقا لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعا ، فلا يحتاج فيه إلى الأمر ، وهذا لا يلزم ، لأنه كان يمكن أن تكون الحال لازمة بمعنى أنه لا يمكن أن يقع الدخول إلا على هذه الحال ، والحال اللازمة موجودة في كلام العرب. وقيل : معناه خضعا متواضعين ، واختاره أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل في المنتخب ، ونذكر وجه اختياره لذلك. وقيل : معناه السجود المعروف من وضع الجبهة على الأرض ، والمعنى : ادخلوا ساجدين شكرا لله تعالى ، إذ ردهم إليها. وهذا هو ظاهر اللفظ. قال أبو عبد الله بن أبي الفضل : وهذا بعيد ، لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود ، فلو حملناه على ظاهره لامتنع ذلك ، فلما تعذر حمله على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع ، لأنهم إذا أخذوا في التوبة ، فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاشعا مستكينا ، وما ذهب إليه لا يلزم ، لأن أخذ الحال مقارنة ، فتعذر ذلك عنده ، وليس بمتعذر لأنه لا يبعد أن أمروا بالدخول وهم ساجدون ، فيضعون جباههم على الأرض وهم داخلون. وتصدق الحال المقارنة بوضع الجبهة على الأرض إذا دخلوا. وأما إذا جعلنا الحال مقدرة فيصح ذلك ، لأن السجود إذ ذاك يكون متراخيا عن الدخول ، والحال المقدرة موجودة في لسان العرب. من ذلك ما في كتاب سيبويه مررت برجل معه صقر صائدا به غدا. وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيرا ، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة ، كان أولى. وقال الزمخشري : أمروا بالسجود عند

٣٥٨

الانتهاء إلى الباب ، شكرا لله وتواضعا ، وما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب ، بل أمروا بالدخول في حال السجود. فالسجود ليس مأمورا به ، بل هو قيد في وقوع المأمور به ، وهو الدخول ، والأحوال نسب تقييدية ، والأوامر نسب إسنادية ، فتناقضتا ، إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييديا إسناديا ، لأنه من حيث التقييد لا يكتفي كلاما ومن حيث الإسناد يكتفي ، فظهر التناقض. وفي كيفية دخولهم الباب أقوال : قال ابن عباس وعكرمة : دخلوا من قبل أستاههم ، وقال ابن مسعود : دخلوا مقنعي رؤوسهم ، وقال مجاهد : دخلوا على حروف أعينهم ، وقال مقاتل : دخلوا مستلقين ، وقيل : دخلوا منزحفين على ركبهم عنادا وكبرا ، والذي ثبت في البخاري ومسلم أنهم دخلوا الباب يزحفون على أستاههم. فاضمحلت هذه التفاسير ، ووجب المصير إلى تفسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) ، حطة : مفرد ، ومحكي القول لا بد أن يكون جملة ، فاحتيج إلى تقدير مصحح للجملة ، فقدر مسألتنا حطة هذا تقديرا لحسن بن أبي الحسن. وقال الطبري : التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة ، وقال غيرهما : التقدير أمرك حطة. وقيل : التقدير أمرنا حطة ، أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها. قال الزمخشري : والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله :

صبر جميل فكلانا مبتلي

والأصل صبرا. انتهى كلامه ، وهو حسن. ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة : حطة بالنصب ، كما روي :

صبرا جميلا فكلانا مبتلي

بالنصب. والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول ، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر ، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر :

إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة

معتقة مما تجيء به التجر

روي برفع طعم على تقدير : هذا طعم مدامة ، وبالنصب على تقدير : ذقت طعم مذامة. قال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها بقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت : لا يبعد ، انتهى. وما جوزه ليس بجائز لأن القول

٣٥٩

لا يعمل في المفردات ، إنما يدخل على الجمل للحكاية ، فيكون في موضع المفعول به ، إلا إن كان المفرد مصدرا نحو : قلت قولا ، أو صفة لمصدر نحو : قلت حقا ، أو معبرا به عن جملة نحو : قلت شعرا وقلت خطبة ، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر ، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول ، فصار كالقهقرى من الرجوع ، وحطة ليس واحدا من هذه. ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا ، كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي ، والأصل هو الإسناد المعنوي. وإذا كان من الإسناد اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلا إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ ، فلا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع لدلالة على معنى. ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى كلام. أما ما ذهب إليه أبو عبيدة من أن قوله حطة مفرد ، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعا من جملة ، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة ، فبعيد عن الصواب لأنه يبقى حطة مرفوعا بغير رافع ، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكى به الجمل لا المفردات ، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى : (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) (١) إلى تأويل ، وأما تشبيهه إياه بقوله :

سمعت الناس ينتجعون غيثا

وجدنا في كتاب بني تميم

أحق الخيل بالركض المعار

فليس بسديد ، لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل ، لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفردا وقد يكون جملة. وأما القول فلا يقع إلا على الجمل ، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره ، وليس حطة منها. واختلفت أقوال المفسرين في حطة ، فقال الحسن : معناه حط عنا ذنوبنا ، وقال ابن عباس وابن جبير ووهب : أمروا أن يستغفروا ، وقال عكرمة : معناها لا إله إلا الله ، وقال الضحاك : معناه وقولوا هذا الأمر الحق ، وقيل : معناه نحن لا نزال تحت حكمك ممتثلون لأمرك ، كما يقال قد حططت في فنائك رحلي. وقد تقدمت التقادير في إضمار ذلك المبتدأ قبل حطة وهي أقاويل لأهل التفسير. وقد روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها ، قيل : والأقرب خلافه ، لأن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها ، ولأن الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم والخضوع ، حتى لو قالوا : اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك ، لكان

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦٠.

٣٦٠