البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

في التفسير الغاية التي لا تدرك ، والمسلك الوعر الذي لا يكاد يسلك ، وعرضتهما على محك النظر ، وأوريت فيهما نار الفكر ، حتى خلص دسيسهما ، وبرز نفيسهما ، وسيرى ذلك من هو للنظر أهل ، واجتمع فيه إنصاف وعدل ، فإنه يتعجب من التولج على الضراغم ، والتحرز لأشبالها والأنف راغم ، إذ هذان الرجلان هما فارسا علم التفسير ، وممارسا تحريره والتحبير. نشراه نشرا ، وطار لهما به ذكرا ، وكانا متعاصرين في الحياة ، متقاربين في الممات.

ولد أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشري بزمخشر ، قرية من قرى خوارزم ، يوم الأربعاء ، السابع عشر لرجب ، سنة سبع وستين وأربعمائة ، وتوفي بگرگانج ، قصبة خوارزم ، ليلة عرفة ، سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. وولد أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن عبد الرؤوف بن عبد الله بن تمام بن عطية المحاربي ، من أهل غرناطة ، سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ، وتوفي بلورقة ، في الخامس والعشرين لرمضان ، سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ، هكذا ذكره القاضي ابن أبي جمرة في وفاة ابن عطية. وقال الحافظ أبو القاسم بن بشكوال : توفي ، يعني ابن عطية ، سنة اثنين وأربعين وخمسمائة.

وكتاب ابن عطية أنقل وأجمع وأخلص ، وكتاب الزمخشري ألخص وأغوص ، إلا أن الزمخشري قائل بالطفرة ، ومقتصر من الذؤابة على الوفرة ، فربما سنح له آبى المقادة فأعجزه اغتياصه ، ولم يمكنه لتأنيه اقتناصه ، فتركه عقلا لمن يصطاده ، وغفلا لمن يرتاده ، وربما ناقض هذا المنزع ، فثنى العنان إلى الواضح ، والسهل اللائح ، وأجال فيه كلاما ، ورمى نحو غرضه سهاما ، هذا مع ما في كتابه من نصرة مذهبه ، وتقحم مرتكبه ، وتجشم حمل كتاب الله عزوجل عليه ، ونسبة ذلك إليه ، فمغتفر إساءته لإحسانه ، ومصفوح عن سقطه في بعض لإصابته في أكثر تبيانه ، فما كان في كتابي هذا من تفسير الزمخشري ، رحمه‌الله تعالى ، فأخبرني به أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير ، قراءة مني عليه فيه ، وإجازة أيام كنت أبحث معه في كتاب سيبويه ، عن القاضي ابن الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني ، عن أبي طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر الخشوعي وأخبرني به عاليا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي ، عرف بابن البخاري في كتابه إلي من دمشق عن أبي طاهر الخشوعي ، وهو آخر من حدث عنه عن الزمخشري.

٢١

وما كان في هذا الكتاب من تفسير ابن عطية ، فأخبرني به القاضي الإمام أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي ، قراءة مني عليه لبعضه. ومناولة عن الحافظ أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي قال : أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الأنصاري ، يعرف بابن حبيش ، قال : أخبرنا به مصنفه قراءة عليه لجميعه ، وأخبرني به عاليا القاضي الأصولي المتكلم أبو الحسن محمد بن القاضي الأصولي المتكلم أبي عامر يحيى بن عبد الرحمن الأشعري نسبا ومذهبا ، إجازة كتبها لي بخطه بغرناطة ، عن أبي الحسن علي بن أحمد بن علي الغافقي الشقوري بقرطبة ، وهو آخر من حدث عن ابن عطية ، وهو آخر من روى عنه.

واعتمدت ، في أكثر نقول كتابي هذا ، على كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير ، من جمع شيخنا الصالح القدوة الأديب جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن حسن بن حسين المقدسي ، عرف بابن النقيب ، رحمه‌الله تعالى ، إذ هو أكبر كتاب رأيناه صنف في علم التفسير ، يبلغ في العدد مائة سفر أو يكاد ، إلا أنه كثير التكرير ، قليل التحرير ، مفرط الإسهاب ، لم يعد جامعه من نسخ كتب في كتابه ، كذلك كان فيه بحال التهذيب ومراد الترتيب.

وهذا الكتاب روايتي بالإجازة من جامعه ، رحمه‌الله تعالى ، وقد شاهدناه غير مرة حين جمعه يقول للناسخ : اقرأ عليّ ، فيقرأ عليه ، فيقول : اكتب من كذا إلى كذا. وينقل ما في كتب التفسير التي اعتمدها ، ويعزو في أكثر المواضع ما ينقل منها إلى مصنف ذلك الكتاب. وكان فيه فضيلة أدب ، وله نثر ونظم متوسط ، رحمه‌الله تعالى ، ورضي عنه.

وقد تقدم أني قرأت كتاب الله تعالى على جماعة من المقرءين ، رحمهم‌الله تعالى ، وأنا الآن أسند قراءتي القرآن ، من بعض الطرق ، وأذكر شيئا مما ورد في القرآن وفضائله وتفسيره ، على سبيل الاختصار ، فأقول : قرأت القرآن برواية ورش ، وهي الرواية التي ننشأ عليها ببلادنا ونتعلمها أولا في المكتب على المسند المعمر العدل أبي طاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي المليجي ، بمصر. وقرأتها على أبي الجود غياث بن فارس بن مكي المنذري ، بمصر. وقرأتها على أبي الفتوح ناصر بن الحسن بن إسماعيل الزيدي ، بمصر.

وقرأتها على أبي الحسن يحيى بن علي بن أبي الفرج الخشاب ، بمصر. وقرأتها على أبي الحسن أحمد بن سعيد بن نفيس ، بمصر. وقرأتها على ابن عدي عبد العزيز بن علي بن

٢٢

محمد ، عرف بابن الإمام ، بمصر. وقرأتها على أبي بكر بن عبد الله بن مالك بن سيف ، بمصر. وقرأتها على أبي يعقوب بن يوسف بن عمرو بن سيار ، ويقال يسار الأزرق ، بمصر. وقرأتها على أبي عمرو عثمان بن سعيد بن عدي ، الملقب بورش ، بمصر. وقرأتها على أبي عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم ، بمدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ نافع على أبي جعفر يزيد بن القعقاع ، بمدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ يزيد على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي بمدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ عبد الله على أبي المنذر أبي بن كعب بمدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ أبي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا إسناد صحيح دائر بين مصري ومدني. فمن شيخي إلى ورش مصريون ، ومن نافع إلى من بعده مدنيون. ومثل هذا الإسناد عزيز الوجود ، بيني وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة عشر رجلا ، وهذا من أعلى الأسانيد التي وقعت لي.

وقد وقع لي في بعض القراءات أن بيني وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اثني عشر رجلا ، وذلك في قراءة عاصم ، وهي القراءة التي ينشأ عليها أهل العراق ، وهو إسناد أعلى ما وقع لأمثالنا. وقرأت القرآن على أبي الطاهر بن المليجي قال : قرأت على أبي الجود ، قال : قرأت على أبي الفتوح الزيدي ، قال : قرأت على أبي الحسن علي بن أحمد الأبهري ، قال : قرأت على أبي الحسن بن إبراهيم الأهوازي. قال : قرأت على أبي الحسن بن علي بن الحسين بن عثمان الغضايري ، وقرأ الغضائري على أبي بكر يوسف بن يعقوب بن خالد بن مهران الواسطي ، قال : قرأت على أبي محمد يحيى بن محمد بن قيس الأنصاري العليمي الكوفي ، قال : قرأت على أبي بكر بن عياش ، قال : قرأت على عاصم ، وقرأ عاصم على ابني عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي ، وقرأ السلمي على أبي بن كعب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وقرأ هؤلاء الخمسة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما ما ورد في القرآن وفضائله ، فقد صنف الناس في ذلك ، كأبي عبيد القاسم بن سلام ، وغيره.

ومما روي ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنه ستكون فتن كقطع الليل المظلم ، قيل : فما النجاة منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله تعالى فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو فصل ليس بالهزل ، من تركه تجبرا قصمه الله تعالى ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله تعالى ، وهو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، والذكر الحكيم ، والصراط

٢٣

المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تتشعب معه الآراء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يمله الأتقياء ، من علم علمه سبق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن عصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم». وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن». وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتلوا هذا القرآن ، فإن الله تعالى يأجركم بالحرف عشر حسنات ، وأما أني لا أقول ألم حرف ، ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف».

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ، في آخر خطبة خطبها ، وهو مريض : «أيها الناس ، إني تارك فيكم الثقلين ، إنه لن تعمى أبصاركم ، ولن تضل قلوبكم ، ولن تزلّ أقدامكم ، ولن تقصر أيديكم ، كتاب الله سبب بينكم وبينه ، طرفه بيده وطرفه بأيديكم ، فاعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، ألا وأهل بيتي وعترتي ، وهو الثقل الآخر ، فلا تسبوهم فتهلكوا». وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ القرآن فرأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي ، فقد استصغر ما عظم الله». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من شفيع أفضل عند الله من القرآن ، لا نبي ولا ملك». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل عبادة أمتي بالقرآن». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أشرف أمتي حملة القرآن». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية لم يكن من الغافلين ، ومن قرأ ثلاثمائة آية لم يحاجه القرآن». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «القرآن شافع مشفع ، وما حل مصدق ، من شفع له القرآن نجا ، ومن محل به القرآن يوم القيامة أكبه الله لوجهه في النار ، وأحق من شفع له القرآن أهله وحملته ، وأولى من محل به القرآن من عدل عنه وضيعه». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أصغر البيوت بيت صفر من كتاب الله تعالى». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الذي يتعاهد القرآن ويشتد عليه له أجران ، والذي يقرأه وهو خفيف عليه مع السفرة الكرام البررة». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه». وقال قوم من الأنصار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألم تر يا رسول الله ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة تزهر ، وحولها أمثال المصابيح؟ فقال لهم : «فلعله قرأ سورة البقرة». فسئل ثابت بن قيس فقال : قرأت سورة البقرة. وقد خرج البخاري في تنزيل الملائكة في الظلمة لصوت أسيد بن حضير بقراءة سورة البقرة ، وقال عقبة بن عامر : عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع فقال : «عليكم بالقرآن». وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أحسن الناس قراءة أو صوتا بالقرآن فقال : «الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله تعالى».

وأما ما ورد في تفسيره ، فروى ابن عباس أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أي علم

٢٤

القرآن أفضل؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عربيته ، فالتمسوها في الشعر». وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعربوا القرآن ، والتمسوا غرائبه ، فإن الله تعالى يحب أن يعرب ، وقد فسرت الحكمة من قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) (١) بأنها تفسير القرآن». وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة». وقال الحسن : أهلكتهم العجمة ، يقرأ أحدهم الآية ، فيعيا بوجوهها حتى يفتري على الله فيها. وقال ابن عباس : الذي يقرأ القرآن ولا يفسر كالإعرابي الذي يهذ الشعر. ووصف علي جابر بن عبد الله ، لكونه يعرف تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) (٢). ورحل مسروق البصرة في تفسير آية ، فقيل له : الذي يفسرها رجع إلى الشام ، فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها. وقال مجاهد : أحب الخلق إلى الله تعالى أعلمهم بما أنزل.

وما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كونه لا يفسر من كتاب الله إلا آيا بعدد علمه إياهن جبريل عليه‌السلام». محمول ذلك على مغيبات القرآن وتفسيره لمجمله ونحوه ، مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله تعالى. وما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب ، فقد أخطأ محمول على من تسور على تفسيره برأيه ، دون نظر في أقوال العلماء وقوانين العلوم ، كالنحو واللغة والأصول ، وليس من اجتهد ففسر على قوانين العلم والنظر بداخل في ذلك الحديث ، ولا هو يفسر برأيه ولا يوصف بالخطأ. والمنقول عنه الكلام في تفسير القرآن من الصحابة جماعة ، منهم : علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو بن العاص. فهؤلاء مشاهير من أخذ عنه التفسير من الصحابة ، رضي الله تعالى عنهم ، وقد نقل عن غير هؤلاء غير ما شيء من التفسير.

ومن المتكلمين في التفسير من التابعين : الحسن بن أبي الحسن ، ومجاهد بن جبر ، وسعيد بن جبير ، وعلقمة ، والضحاك بن مزاحم ، والسدي ، وأبو صالح. وكان الشعبي يطعن على السدي وأبي صالح ، لأنه كان يراهما مقصرين في النظر. ثم تتابع الناس في التفسير وألفوا فيه التآليف. وكانت تآليف المتقدمين أكثرها ، إنما هي شرح لغة ، ونقل سبب ، ونسخ ، وقصص ، لأنهم كانوا قريبي عهد بالعرب ، وبلسان العرب. فلما فسد اللسان ، وكثرت العجم ، ودخل في دين الإسلام أنواع الأمم المختلفو الألسنة ، والناقصو

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٩.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٨٥.

٢٥

الإدراك ، احتاج المتأخرون إلى إظهار ما انطوى عليه كتاب الله تعالى ، من غرائب التركيب ، وانتزاع المعاني ، وإبراز النكت البيانية ، حتى يدرك ذلك من لم تكن في طبعه ، ويكتسبها من لم تكن نشأته عليها ، ولا عنصره يحركه إليها ، بخلاف الصحابة والتابعين من العرب ، فإن ذلك كان مركوزا في طباعهم ، يدركون تلك المعاني كلها ، من غير موقف ولا معلم ، لأن ذلك هو لسانهم وخطتهم وبيانهم ، على أنهم كانوا يتفاوتون أيضا في الفصاحة وفي البيان. ألا ترى إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين سمع كلام عمرو بن الأهتم في الزبرقان : «إن من البيان لسحرا». وقد أشرنا فيما تقدم إلى تفاوت العرب في الفصاحة.

وقد آن أن نشرع فيما قصدنا ، وننجز ما به وعدنا ، ونبدأ برسم لعلم التفسير ، فإني لم أقف لأحد من علماء التفسير على رسم له ، فنقول : التفسير في اللغة الاستبانة والكشف. قال ابن دريد : ومنه يقال للماء الذي ينظر فيه الطبيب تفسره وكأنه تسمية بالمصدر ، لأن مصدر فعل جاء أيضا على تفعله ، نحو جرب تجربة ، وكرم تكرمة ، وإن كان القياس في الصحيح من فعل التفعيل ، كقوله تعالى : (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (١). وينطلق أيضا التفسير على التعرية للانطلاق. قال ثعلب : تقول فسرت الفرس عريته لينطلق في حصره ، وهو راجع لمعنى الكشف ، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري.

وأما الرسم في الاصطلاح ، فنقول : التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ، ومدلولاتها ، وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب ، وتتمات لذلك. فقولنا علم هو جنس يشمل سائر العلوم. وقولنا يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هذا هو علم القراءات. وقولنا ومدلولاتها ، أي مدلولات تلك الألفاظ ، وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم. وقولنا وأحكامها الإفرادية والتركيبية هذا يشمل علم التصريف ، وعلم الإعراب ، وعلم البيان ، وعلم البديع ، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب شمل بقوله التي تحمل عليها ما لا دلالة عليه بالحقيقة ، وما دلالته عليه بالمجاز ، فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئا ، ويصد عن الحمل على الظاهر صاد ، فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غير الظاهر ، وهو المجاز. وقولنا ، وتتمات لذلك ، هو معرفة النسخ ، وسبب النزول ، وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن ، ونحو ذلك.

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٣.

٢٦

سورة الفاتحة ١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) باء الجر تأتي لمعان : للإلصاق ، والاستعانة ، والقسم ، والسبب ، والحال ، والظرفية ، والنقل. فالإلصاق : حقيقة مسحت برأسي ، ومجازا مررت بزيد. والاستعانة : ذبحت بالسكين. والسبب : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) (١). والقسم : بالله لقد قام. والحال : جاء زيد بثيابه. والظرفية : زيد بالبصرة. والنقل : قمت بزيد. وتأتي زائدة للتوكيد : شربن بماء البحر. والبدل : فليت لي بهم قوما أي بدلهم. والمقابلة : اشتريت الفرس بألف. والمجاوزة : تشقق السماء بالغمام أي عن الغمام. والاستعلاء : من أن تأمنه بقنطار. وكنى بعضهم عن الحال بالمصاحبة ، وزاد فيها كونها للتعليل. وكنى عن الاستعانة بالسبب ، وعن الحال ، بمعنى مع ، بموافقة معنى اللام. ويقال اسم بكسر همزة الوصل وضمها ، وسم بكسر السين وضمها ، وسمي كهدي ، والبصري يقول : مادته سين وميم وواو ، والكوفي يقول : واو وسين وميم ، والأرجح الأول.

والاستدلال في كتب النحو : أل للعهد في شخص أو جنس ، وللحضور ، وللمح الصفة ، وللغلبة ، وموصولة. فللعهد في شخص : جاء الغلام ، وفي جنس : اسقني الماء ، وللحضور : خرجت فإذا الأسد ، وللمح : الحارث ، وللغلبة : الدبران. وزائدة لازمة ، وغير لازمة ، فاللازمة : كالآن ، وغير اللازمة : باعد أم العمر من أسيرها ، وهل هي مركبة من حرفين أم هي حرف واحد؟ وإذا كانت من حرفين ، فهل الهمزة زائدة أم لا؟ مذاهب. والله علم لا يطلق إلا على المعبود بحق مرتحل غير مشتق عند الأكثرين ، وقيل مشتق ، ومادته

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٠.

٢٧

قيل : لام وياء وهاء ، من لاه يليه ، ارتفع. قيل : ولذلك سميت الشمس إلاهه ، بكسر الهمزة وفتحها ، وقيل : لام وواو وهاء من لاه يلوه لوها ، احتجب أو استتار ، ووزنه إذ ذاك فعل أو فعل ، وقيل : الألف زائدة ومادته همزة ولام ، من أله أي فزع ، قاله ابن إسحاق ، أو أله تحير ، قاله أبو عمر ، وأله عبد ، قاله النضر ، أو أله سكن ، قاله المبرد. وعلى هذه الأقاويل فحذفت الهمزة اعتباطا ، كما قيل في ناس أصله أناس ، أو حذفت للنقل ولزم مع الإدغام ، وكلا القولين شاذ. وقيل : مادته واو ولام وهاء ، من وله ، أي طرب ، وأبدلت الهمزة فيه من الواو نحو أشاح ، قاله الخليل والقناد ، وهو ضعيف للزوم البدل. وقولهم في الجمع آلهة ، وتكون فعالا بمعنى مفعول ، كالكتاب يراد به المكتوب. وأل في الله إذا قلنا أصله الإلاه ، قالوا للغلبة ، إذ الإله ينطلق على المعبود بحق وباطل ، والله لا ينطلق إلا على المعبود بالحق ، فصار كالنجم للثريا. وأورد عليه بأنه ليس كالنجم ، لأنه بعد الحذف والنقل أو الإدغام لم يطلق على كل إله ، ثم غلب على المعبود بحق ، ووزنه على أن أصله فعال ، فحذفت همزته عال. وإذا قلنا بالأقاويل السابقة ، فأل فيه زائدة لازمة ، وشذ حذفها في قولهم لاه أبوك شذوذ حذف الألف في أقبل سيل. أقبل جاء من عند الله. وزعم بعضهم أن أل في الله من نفس الكلمة ، ووصلت الهمزة لكثرة الاستعمال ، وهو اختيار أبي بكر بن العربي والسهيلي ، وهو خطأ ، لأن وزنه إذ ذاك يكون فعالا ، وامتناع تنوينه لا موجب له ، فدل على أن أل حرف داخل على الكلمة سقط لأجلها التنوين. وينفرد هذا الاسم بأحكام ذكرت في علم النحو ، ومن غريب ما قيل : إن أصله لاها بالسريانية فعرب ، قال :

كحلفة من أبي رياح

يسمعها لاهه الكبار

قال أبو يزيد البلخي : هو أعجمي ، فإن اليهود والنصارى يقولون لاها ، وأخذت العرب هذه اللفظة وغيروها فقالوا الله. ومن غريب ما قيل في الله أنه صفة وليس اسم ذات ، لأن اسم الذات يعرف به المسمى ، والله تعالى لا يدرك حسا ولا بديهة ، ولا تعرف ذاته باسمه ، بل إنما يعرف بصفاته ، فجعله اسما للذات لا فائدة في ذلك. وكان العلم قائما مقام الإشارة ، وهي ممتنعة في حق الله تعالى ، وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللاه اسم الفاعل من لها يلهو ، وقيل طرحت تخفيفا ، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط.

(الرَّحْمنِ) : فعلان من الرحمة ، وأصل بنائه من اللازم من المبالغة وشذ من

٢٨

المتعدي ، وأل فيه للغلبة ، كهي في الصعق ، فهو وصف لم يستعمل في غير الله ، كما لم يستعمل اسمه في غيره ، وسمعنا مناقبه ، قالوا : رحمن الدنيا والآخرة ، ووصف غير الله به من تعنت الملحدين ، وإذا قلت الله رحمن ، ففي صرفه قولان ليسند أحدهما إلى أصل عام ، وهو أن أصل الاسم الصرف ، والآخر إلى أصل خاص ، وهو أن أصل فعلان المنع لغلبته فيه. ومن غريب ما قيل فيه إنه أعجمي بالخاء المعجمة فعرب بالحاء ، قاله ثعلب.

(الرَّحِيمِ) : فعيل محوّل من فاعل للمبالغة ، وهو أحد الأمثلة الخمسة ، وهي : فعال ، وفعول ، ومفعال ، وفعيل ، وفعل ، وزاد بعضهم فعيلا فيها : نحو سكير ، ولها باب معقود في النحو ، قيل : وجاء رحيم بمعنى مرحوم ، قال العملس بن عقيل :

فأما إذا عضت بك الأرض عضة

فإنك معطوف عليك رحيم

قال علي ، وابن عباس ، وعلي بن الحسين ، وقتادة ، وأبو العالية ، وعطاء ، وابن جبير ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وجعفر الصادق ، الفاتحة مكية ، ويؤيده (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (١). والحجر مكية ، بإجماع. وفي حديث أبي : إنها السبع المثاني والسبع الطوال ، أنزلت بعد الحجر بمدد ، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة ، وما حفظ أنه كانت في الإسلام صلاة بغير (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). وقال أبو هريرة ، وعطاء بن يسار ، ومجاهد ، وسواد بن زياد ، والزهري ، وعبد الله بن عبيد بن عمير : هي مدنية ، وقيل إنها مكية مدنية.

الباء في بسم الله للاستعانة ، نحو كتبت بالقلم ، وموضعها نصب ، أي بدأت ، وهو قول الكوفيين ، وكذا كل فاعل بدىء في فعله بالتسمية كان مضمرا لا بدأ ، وقدره الزمخشري فعلا غير بدأت وجعله متأخرا ، قال : تقديره بسم الله أقرأ أو أتلو ، إذ الذي يجيء بعد التسمية مقروء ، والتقديم على العامل عنده يوجب الاختصاص ، وليس كما زعم. قال سيبويه ، وقد تكلم على ضربت زيدا ما نصه : وإذا قدمت الاسم فهو عربي جيد كما كان ذلك ، يعني تأخيره عربيا جيدا وذلك قولك زيدا ضربت. والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير ، سواء مثله في ضرب زيد عمر ، أو ضرب زيدا عمر ، وانتهى ، وقيل موضع اسم رفع التقدير ابتدائي بأبت ، أو مستقر باسم الله ، وهو قول البصريين ، وأي التقديرين أرجح يرجح الأول ، لأن الأصل في العمل للفعل ، أو الثاني لبقاء أحد جزأي الإسناد.

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٨٥.

٢٩

والاسم هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان ، إن كان محسوسا ، وفي الأذهان ، إن كان معقولا من غير تعرض ببنيته للزمان ، ومدلوله هو المسمى ، ولذلك قال سيبويه : (فالكل اسم وفعل وحرف) ، والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلا على ذلك المعنى ، فقد اتضحت المباينة بين الاسم والمسمى والتسمية. فإذا أسندت حكما إلى اسم ، فتارة يكون إسناده إليه حقيقة ، نحو : زيد اسم ابنك ، وتارة لا يصح الإسناد إليه إلا مجازا ، وهو أن تطلق الاسم وتريد به مدلوله وهو المسمى ، نحو قوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) (١) ، و (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) (٢) ، و (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) (٣). والعجب من اختلاف الناس ، هل الاسم هو عين المسمى أو غيره ، وقد صنف في ذلك الغزالي ، وابن السيد ، والسهيلي وغيرهم ، وذكروا احتجاج كل من القولين ، وأطالوا في ذلك. وقد تأول السهيلي ، رحمه‌الله ، قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) بأنه أقحم الاسم تنبيها على أن المعنى سبح ربك ، واذكر ربك بقلبك ولسانك حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان ، لأن الذكر بالقلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم ، والذكر باللسان متعلقه اللفظ. وقوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً) بأنها أسماء كاذبة غير واقعة على حقيقة ، فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها ، وهذا من المجاز البديع. وحذفت الألف من بسم هنا في الخط تخفيفا لكثرة الاستعمال ، فلو كتبت باسم القاهر أو باسم القادر. فقال الكسائي والأخفش : تحذف الألف. وقال الفراء : لا تحذف إلا مع (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، لأن الاستعمال إنما كثر فيه ، فأما في غيره من أسماء الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف.

والرحمن صفة الله عند الجماعة. وذهب الأعلم وغيره إلى أنه بدل ، وزعم أن الرحمن علم ، وإن كان مشتقا من الرحمة ، لكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم ، بل هو مثل الدبران ، وإن كان مشتقا من دبر صيغ للعلمية ، فجاء على بناء لا يكون في النعوت ، قال : ويدل على علميته ووروده غير تابع لاسم قبله ، قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٤) (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٥) وإذا ثبتت العلمية امتنع النعت ، فتعين البدل. قال أبو زيد السهيلي : البدل فيه عندي ممتنع ، وكذلك عطف البيان ، لأن الاسم الأول لا يفتقر

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٧٨.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٥.

(٣) سورة الأعلى : ٨٧ / ١.

(٤) سورة الرحمن : ٥٥ / ١.

(٥) سورة يوسف : ١٢ / ٤٠.

٣٠

إلى تبيين ، لأنه أعرف الأعلام كلها وأبينها ، ألا تراهم قالوا : وما الرحمن ، ولم يقولوا : وما الله ، فهو وصف يراد به الثناء ، وإن كان يجري مجرى الإعلام.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قيل دلالتهما واحد نحو ندمان ونديم ، وقيل معناهما مختلف ، فالرحمن أكثر مبالغة ، وكان القياس الترقي ، كما تقول : عالم نحرير ، وشجاع باسل ، لكن أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف ، واختاره الزمخشري. وقيل الرحيم أكثر مبالغة ، والذي يظهر أن جهة المبالغة مختلفة ، فلذلك جمع بينهما ، فلا يكون من باب التوكيد. فمبالغة فعلان مثل غضبان وسكران من حيث الامتلاء والغلبة ، ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة ، ولذلك لا يتعدى فعلان ، ويتعدى فعيل. تقول زيد رحيم المساكين كما تعدى فاعلا ، قالوا زيد حفيظ علمك وعلم غيرك ، حكاه ابن سيده عن العرب. ومن رأى أنهما بمعنى واحد ، ولم يذهب إلى توكيد أحدهما بالآخر ، احتاج أنه يخص كل واحد بشيء ، وإن كان أصل الموضوع عنده واحدا ليخرج بذلك عن التأكيد ، فقال مجاهد : رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. وروى ابن مسعود ، وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة». وإذا صح هذا التفسير وجب المصير إليه. وقال القرطبي : رحمن الآخرة ورحيم الدنيا. وقال الضحاك : لأهل السماء والأرض. وقال عكرمة : برحمة واحدة وبمائة رحمة. وقال المزني : بنعمة الدنيا والدين. وقال العزيزي : الرحمن بجميع خلقه في الأمطار ، ونعم الحواس ، والنعم العامة ، الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم واللطف بهم ، وقال المحاسبي : برحمة النفوس ورحمة القلوب. وقال يحيى بن معاذ : لمصالح المعاد والمعاش. وقال الصادق : خاص اللفظ بصيغة عامة في الرزق ، وعام اللفظ بصيغة خاصة في مغفرة المؤمن. وقال ثعلب : الرحمن أمدح ، والرحيم ألطف ، وقيل : الرحمن المنعم بما لا يتصور جنسه من العباد ، والرحيم المنعم بما يتصور جنسه من العباد. وقال أبو علي الفارسي : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة ، يختص به الله ، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين ، كما قال تعالى : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (١). ووصف الله تعالى بالرحمة مجاز عن إنعامه على عباده ، ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم ، أصابهم إحسانه فتكون الرحمة إذ ذاك صفة فعل؟ وقال قوم : هي إرادة الخير لمن أراد الله تعالى به ذلك ، فتكون على هذا صفة ذات ، وينبني على هذا

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤٣.

٣١

الخلاف خلاف آخر ، وهو أن صفات الله تعالى الذاتية والفعلية أهي قديمة أم صفات الذات قديمة وصفات الفعل محدثة قولان؟ وأما الرحمة التي من العباد فقيل هي رقة تحدث في القلب ، وقيل هي قصد الخير أو دفع الشر ، لأن الإنسان قد يدفع الشر عمن لا يرق عليه ، ويوصل الخير إلى من لا يرق عليه.

وفي البسملة من ضروب البلاغة نوعان :

أحدهما : الحذف ، وهو ما يتعلق به الباء في بسم ، وقد مر ذكره ، والحذف قيل لتخفيف اللفظ ، كقولهم بالرفاء والبنين ، باليمن والبركة ، فقلت إلى الطعام ، وقوله تعالى في تسع آيات أي أعرست وهلموا واذهب ، قال أبو القاسم السهيلي : وليس كما زعموا ، إذ لو كان كذلك كان إظهاره وإضماره في كل ما يحذف تخفيفا ، ولكن في حذفه فائدة ، وذلك أنه موطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى ، فلو ذكر الفعل ، وهو لا يستغني عن فاعله ، لم يكن ذكر الله مقدما ، وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ، كما تقول في الصلاة الله أكبر ، ومعناه من كل شيء ، ولكن يحذف ليكون اللفظ في اللسان مطابقا لمقصود القلب ، وهو أن لا يكون في القلب ذكر إلا الله عزوجل. ومن الحذف أيضا حذف الألف في بسم الله وفي الرحمن في الخط ، وذلك لكثرة الاستعمال.

النوع الثاني : التكرار في الوصف ، ويكون إما لتعظيم الموصوف ، أو للتأكيد ، ليتقرر في النفس. وقد تعرض المفسرون في كتبهم لحكم التسمية في الصلاة ، وذكروا اختلاف العلماء في ذلك ، وأطالوا التفاريع في ذلك ، وكذلك فعلوا في غير ما آية وموضوع ، هذا كتب الفقه ، وكذلك تكلم بعضهم على التعوذ ، وعلى حكمه ، وليس من القرآن بإجماع. ونحن في كتابنا هذا لا نتعرض لحكم شرعي ، إلا إذا كان لفظ القرآن يدل على ذلك الحكم ، أو يمكن استنباطه منه بوجه من وجوه الاستنباطات. واختلف في وصل الرحيم بالحمد ، فقرأ قوم من الكوفيين بسكون الميم ، ويقفون عليها ويبتدئون بهمزة مقطوعة ، والجمهور على جر الميم ووصل الألف من الحمد. وحكى الكسائي عن بعض العرب أنه يقرأ الرحيم الحمد بفتح الميم وصلة الألف ، كأنك سكنت الميم وقطعت الألف ، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت ولم تر ، وهذه قراءة عن أحد.

(الْحَمْدُ) الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها باللسان وحده ، ونقيضه الذم ، وليس مقلوب مدح ، خلافا لابن الأنباري ، إذ هما في التصريفات متساويان ، وإذ قد يتعلق

٣٢

المدح بالجماد ، فتمدح جوهرة ولا يقال تحمد ، والحمد والشكر بمعنى واحد ، أو الحمد أعم ، والشكر ثناء على الله تعالى بأفعاله ، والحمد ثناء بأوصافه ثلاثة أقوال ، أصحها أنه أعم ، فالحامد قسمان : شاكر ومثن بالصفات.

(لِلَّهِ) اللام : للملك وشبهه ، وللتمليك وشبهه ، وللاستحقاق ، وللنسب ، وللتعليل ، وللتبليغ ، وللتعجب ، وللتبيين ، وللصيرورة ، وللظرفية بمعنى في أو عند أو بعد ، وللإنتهاء ، وللإستعلاء مثل : ذلك المال لزيد ، أدوم لك ما تدوم لي ، ووهبت لك دينارا ، (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) (١) ، الجلباب للجارية ، لزيد عم ، (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) (٢) ، قلت لك ، ولله عينا ، من رأى ، من تفوق ، (هَيْتَ) ، (لَكَ) (٣) ، (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٤) ، (الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (٥) ، كتب لخمس خلون ، لدلوك الشمس ، (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) (٦) ، (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) (٧).

(رَبِّ الْعالَمِينَ) الرب : السيد ، والمالك ، والثابت ، والمعبود ، والمصلح ، وزاد بعضهم بمعنى الصاحب ، مستدلا بقوله :

فدنا له رب الكلاب بكفه

بيض رهاف ريشهن مقزع

وبعضهم بمعنى الخالق العالم لا مفرد له ، كالأنام ، واشتقاقه من العلم أو العلامة ، ومدلوله كل ذي روح ، قاله ابن عباس ، أو الناس ، قاله البجلي ، أو الإنس والجن والملائكة ، قاله أيضا ابن عباس ، أو الإنس والجن والملائكة والشياطين ، قاله أبو عبيدة والفراء ، أو الثقلان ، قاله ابن عطية ، أو بنو آدم ، قاله أبو معاذ ، أو أهل الجنة والنار ، قاله الصادق ، أو المرتزقون ، قاله عبد الرحمن بن زيد ، أو كل مصنوع ، قاله الحسن وقتادة ، أو الروحانيون ، قاله بعضهم ، ونقل عن المتقدمين أعداد مختلفة في العالمين وفي مقارها ، الله أعلم بالصحيح. والجمهور قرأوا بضم دال الحمد ، وأتبع ابراهيم بن أبي عبلة ميمه لام الجر لضمة الدال ، كما أتبع الحسن وزيد بن علي كسرة الدال لكسرة اللام ، وهي أغرب ، لأن فيه إتباع حركة معرب لحركة غير إعراب ، والأول بالعكس. وفي قراءة الحسن احتمال أن يكون الإتباع في مرفوع أو منصوب ، ويكون الإعراب إذ ذاك على التقديرين مقدرا منع من

__________________

(١) سورة النمل : ١٦ / ٧٢.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٠٥.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٢٣.

(٤) سورة القصص : ٢٨ / ٨.

(٥) سورة الأنبياء : ٢١ / ٤٧.

(٦) سورة الأعراف : ٧ / ٥٧.

(٧) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠٧.

٣٣

ظهوره شغل الكلمة بحركة الإتباع ، كما في المحكي والمدغم. وقرأ هارون العتكي ، ورؤبة ، وسفيان بن عيينة الحمد بالنصب. والحمد مصدر معرف بأل ، إما للعهد ، أي الحمد المعروف بينكم لله ، أو لتعريف الماهية ، كالدينار خير من الدرهم ، أي : أي دينار كان فهو خير من أي درهم كان ، فيستلزم إذ ذاك الأحمدة كلها ، أو لتعريف الجنس ، فيدل على استغراق الأحمدة كلها بالمطابقة. والأصل في الحمد لا يجمع ، لأنه مصدر. وحكى ابن الأعرابي : جمعه على أحمد كأنه راعى فيه جامعه اختلاف الأنواع ، قال :

وأبلج محمود الثناء خصصته

بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي

وقراءة الرفع أمكن في المعنى ، ولهذا أجمع عليها السبعة ، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى ، فيكون قد أخبر بأن الحمد مستقر لله تعالى ، أي حمده وحمد غيره. ومعنى اللام في لله الاستحقاق ، ومن نصب ، فلا بد من عامل تقديره أحمد الله أو حمدت الله ، فيتخصص الحمد بتخصيص فاعله ، وأشعر بالتجدد والحدوث ، ويكون في حالة النصب من المصادر التي حذفت أفعالها ، وأقيمت مقامها ، وذلك في الأخبار ، نحو شكرا لا كفرا. وقدر بعضهم العامل للنصب فعلا غير مشتق من الحمد ، أي أقول الحمد لله ، أو الزموا الحمد لله ، كما حذفوه من نحو اللهم ضبعا وذئبا ، والأول هو الصحيح لدلالة اللفظ عليه. وفي قراءة النصب ، اللام للتبيين ، كما قال أعني لله ، ولا تكون مقوية للتعدية ، فيكون لله في موضع نصب بالمصدر لامتناع عمله فيه. قالوا سقيا لزيد ، ولم يقولوا سقيا زيدا ، فيعملونه فيه ، فدل على أنه ليس من معمول المصدر ، بل صار على عامل آخر.

وقرأ زيد بن علي وطائفة (رَبِّ الْعالَمِينَ) بالنصب على المدح ، وهي فصيحة لو لا خفض الصفات بعدها ، وضعفت إذ ذاك. على أن الأهوازي حكى في قراءة زيد بن علي أنه قرأ (رَبِّ الْعالَمِينَ ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بنصب الثلاثة ، فلا ضعف إذ ذاك ، وإنما تضعف قراءة نصب رب ، وخفض الصفات بعدها لأنهم نصوا أنه لا اتباع بعد القطع في النعوت ، لكن تخريجها على أن يكون الرحمن بدلا ، ولا سيما على مذهب الأعلم ، إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة ، وحسن ذلك على مذهب غيره ، كونه وصفا خاصا ، وكون البدل على نية تكرار العامل ، فكأنه مستأنف من جملة أخرى ، فحسن النصب. وقول من زعم أنه نصب رب بفعل دل عليه الكلام قبله ، كأنه قيل نحمد الله رب العالمين ، ضعيف ، لأنه مراعاة التوهم ، وهو من خصائص العطف ، ولا ينقاس فيه. ومن زعم أنه

٣٤

نصبه على البدل فضعيف للفصل بقوله الرحمن الرحيم ، ورب مصدر وصف به على أحد وجوه الوصف بالمصدر ، أو اسم فاعل حذفت ألفه ، فأصله راب ، كما قالوا رجل بار وبر ، وأطلقوا الرب على الله وحده ، وفي غيره قيد بالإضافة نحو رب الدار. وأل في العالمين للاستغراق ، وجمع العالم شاذ لأنه اسم جمع ، وجمعه بالواو والنون أشذ للإخلال ببعض الشروط التي لهذا الجمع ، والذي أختاره أنه ينطلق على المكلفين لقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (١) ، وقراءة حفص بكسر اللام توضح ذلك.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تقدم الكلام عليهما في البسملة ، وهما مع قوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) صفات مدح ، لأن ما قبلهما علم لم يعرض في التسمية به اشتراك فيخصص ، وبدأ أولا بالوصف بالربوبية ، فإن كان الرب بمعنى السيد ، أو بمعنى المالك ، أو بمعنى المعبود ، كان صفة فعل للموصوف بها التصريف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من الخير والشر ، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية ، لينبسط أمل العبد في العفو إن زل ، ويقوى رجاؤه إن هفا ، ولا يصح أن يكون الرب بمعنى الثابت ، ولا بمعنى الصاحب ، لامتناع إضافته إلى العالمين ، وإن كان بمعنى المصلح ، كان الوصف بالرحمة مشعرا بقلة الإصلاح ، لأن الحامل للشخص على إصلاح حال الشخص رحمته له. ومضمون الجملة والوصف أن من كان موصوفا بالربوبية والرحمة للمربوبين كان مستحقا للحمد. وخفض الرحمن الرحيم الجمهور ، ونصبهما أبو العالية وابن السميفع وعيسى بن عمرو ، ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجوني ، فالخفض على النعت ، وقيل في الخفض إنه بدل أو عطف بيان ، وتقدم شيء من هذا. والنصب والرفع للقطع. وفي تكرار الرحمن الرحيم أن كانت التسمية آية من الفاتحة تنبيه على عظم قدر هاتين الصفتين وتأكيد أمرهما ، وجعل مكي تكرارها دليلا على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ، قال : إذ لو كانت آية لكنا قد أتينا بآيتين متجاورتين بمعنى واحد ، وهذا لا يوجد إلا بفواصل تفصل بين الأولى والثانية. قال : والفصل بينهما بالحمد لله رب العالمين كلا فصل ، قال : لأنه مؤخر يراد به التقديم تقديره الحمد لله ، الرحمن الرحيم ، رب العالمين ، وإنما قلنا بالتقديم لأن مجاورة الرحمة بالحمد أولى ، ومجاورة الملك بالملك أولى. قال : والتقديم والتأخير كثير في القرآن ، وكلام مكي مدخول من غير وجه ، ولو لا جلالة قائله نزهت كتابي هذا عن ذكره. والترتيب القرآني جاء في غاية الفصاحة لأنه تعالى وصف نفسه بصفة الربوبية وصفة

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٢٢.

٣٥

الرحمة ، ثم ذكر شيئين ، أحدهما ملكه يوم الجزاء ، والثاني العبادة. فناسب الربوبية للملك ، والرحمة العبادة. فكان الأول للأول ، والثاني للثاني. وقد ذكر المفسرون في علم التفسير الوقف ، وقد اختلف في أقسامه ، فقيل تام وكاف وقبيح وغير ذلك. وقد صنف الناس في ذلك كتبا مرتبة على السور ، ككتاب أبي عمر ، والداني ، وكتاب الكرماني وغيرهما ، ومن كان عنده حظ في علم العربية استغنى عن ذلك.

(مالِكِ) قرأ مالك على وزن فاعل بالخفض ، عاصم ، والكسائي ، وخلف في اختياره ، ويعقوب ، وهي قراءة العشرة إلا طلحة ، والزبير ، وقراءة كثير من الصحابة منهم : أبي ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وابن عباس ، والتابعين منهم : قتادة والأعمش. وقرأ ملك على وزن فعل بالخفض باقي السبعة ، وزيد ، وأبو الدرداء ، وابن عمر ، والمسور ، وكثير من الصحابة والتابعين. وقرأ ملك على وزن سهل أبو هريرة ، وعاصم الجحدري ، ورواها الجعفي ، وعبد الوارث ، عن أبي عمرو ، وهي لغة بكر بن وائل. وقرأ ملكي بإشباع كسرة الكاف أحمد بن صالح ، عن ورش ، عن نافع. وقرأ ملك على وزن عجل أبو عثمان النهدي ، والشعبي ، وعطية ، ونسبها ابن عطية إلى أبي حياة. وقال صاحب اللوامح : قرأ أنس بن مالك ، وأبو نوفل عمر بن مسلم بن أبي عدي ملك يوم الدين ، بنصب الكاف من غير ألف ، وجاء كذلك عن أبي حياة ، انتهى. وقرأ كذلك ، إلا أنه رفع الكاف سعد بن أبي وقاص ، وعائشة ، ومورق العجلي. وقرأ ملك فعلا ماضيا أبو حياة ، وأبو حنيفة ، وجبير بن مطعم ، وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي ، وأبو المحشر عاصم بن ميمون الجحدري ، فينصبون اليوم. وذكر ابن عطية أن هذه قراءة يحيى بن يعمر ، والحسن وعلي بن أبي طالب. وقرأ مالك بنصب الكاف الأعمش ، وابن السميفع ، وعثمان بن أبي سليمان ، وعبد الملك قاضي الهند. وذكر ابن عطية أنها قراءة عمر بن عبد العزيز ، وأبي صالح السمان ، وأبي عبد الملك الشامي. وروى ابن أبي عاصم عن اليمان ملكا بالنصب والتنوين. وقرأ مالك برفع الكاف والتنوين عون العقيلي ، ورويت عن خلف بن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم ، وبنصب اليوم. وقرأ مالك يوم بالرفع والإضافة أبو هريرة ، وأبو حياة ، وعمر بن عبد العزيز بخلاف عنه ، ونسبها صاحب اللوامح إلى أبي روح عون بن أبي شداد العقيلي ، ساكن البصرة. وقرأ مليك على وزن فعيل أبي ، وأبو هريرة ، وأبو رجاء العطاردي. وقرأ مالك بالإمالة البليغة يحيى بن يعمر ، وأيوب السختياني ، وبين بين قتيبة بن مهران ، عن الكسائي. وجهل النقل ، أعني في قراءة الإمالة ، أبو علي الفارسي

٣٦

فقال : لم يمل أحد من القراء ألف مالك ، وذلك جائز ، إلا أنه لا يقرأ بما يجوز إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض. وذكر أيضا أنه قرىء في الشاذ ملاك بالألف والتشديد للام وكسر الكاف. فهذه ثلاث عشرة قراءة ، بعضها راجع إلى الملك ، وبعضها إلى الملك ، قال اللغويون : وهما راجعان إلى الملك ، وهو الربط ، ومنه ملك العجين. وقال قيس بن الخطيم :

ملكت بها كفي فانهرت فتقها

يرى قائما من دونها ما وراءها

والأملاك ربط عقد النكاح ، ومن ملح هذه المادة أن جميع تقاليبها الستة مستعملة في اللسان ، وكلها راجع إلى معنى القوة والشدة ، فبينها كلها قدر مشترك ، وهذا يسمى بالاشتقاق الأكبر ، ولم يذهب إليه غير أبي الفتح. وكان أبو علي الفارسي يأنس به في بعض المواضع وتلك التقاليب : ملك ، مكل ، كمكل ، لكم ، كمل ، كلم. وزعم الفخر الرازي أن تقليب كمكل مهمل وليس بصحيح ، بل هو مستعمل بدليل ما أنشد الفراء من قول الشاعر :

فلما رآني قد حممت ارتحاله

تملك لو يجدي عليه التملك

والملك هو القهر والتسليط على من تتأتى منه الطاعة ، ويكون ذلك باستحقاق وبغير استحقاق. والملك هو القهر على من تتأتى منه الطاعة ، ومن لا تتأتى منه ، ويكون ذلك منه باستحقاق ، فبينهما عموم وخصوص من وجه. وقال الأخفش : يقال ملك من الملك ، بضم الميم ، ومالك من الملك ، بكسر الميم وفتحها ، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى. وروي عن بعض البغداديين لي في هذا الوادي ملك وملك بمعنى واحد.

(يَوْمِ) ، اليوم هو المدة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، ويطلق على مطلق الوقت ، وتركيبه غريب ، أعني وجود مادة تكون فاء الكلمة فيها ياء وعينها واوا لم يأت من ذلك سوى يوم وتصاريفه ويوح اسم للشمس ، وبعضهم زعم أنه بوج بالباء ، والمعجمة بواحدة من أسفل. (الدِّينِ) الجزاء دناهم كما دانوا ، قاله قتادة ، والحساب (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (١) ، قاله ابن عباس والقضاء (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) (٢) ، والطاعة في دين عمرو ، وحالت بيننا وبينك فدك ، قاله أبو الفضل والعادة ، كدينك من أم الحويرث

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣٦ ، وسورة الروم : ٣٠ / ٣٠.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٢.

٣٧

قبلها ، وكنى بها هنا عن العمل ، قاله الفراء والملة ، (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٢) ، والقهر ، ومنه المدين للعبد ، والمدينة للأمة ، قاله يمان بن رئاب. وقال أبو عمرو الزاهد : وإن أطاع وعصى وذل وعز وقهر وجار وملك. وحكى أهل اللغة : دنته بفعله دينا ودينا بفتح الدال وكسرها جازيته. وقيل : الدين المصدر ، والدين بالكسر الاسم ، والدين السياسة ، والديان السايس. قال ذو الإصبع عنه : ولا أنت دياني فتخزوني ، والدين الحال. قال النضر بن شميل : سألت أعرابيا عن شيء ، فقال : لو لقيتني على دين غير هذا لأخبرتك ، والدين الداء عن اللحياني وأنشد :

يا دين قلبك من سلمى وقد دينا

ومن قرأ بجر الكاف فعلى معنى الصفة ، فإن كان بلفظ ملك على فعل بكسر العين أو إسكانها ، أو مليك بمعناه فظاهر لأنه وصف معرفة بمعرفة ، وإن كان بلفظ مالك أو ملاك أو مليك محولين من مالك للمبالغة بالمعرفة ، ويدل عليه قراءة من قرأ ملك يوم الدين فعلا ماضيا ، وإن كان بمعنى الاستقبال ، وهو الظاهر لأن اليوم لم يوجد فهو مشكل ، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، فإنه تكون إضافته غير محضة فلا يتعرف بالإضافة ، وإن أضيف إلى معرفة فلا يكون إذ ذاك صفة ، لأن المعرفة لا توصف بالنكرة ولا بدل نكرة من معرفة ، لأن البدل بالصفات ضعيف. وحل هذا الإشكال هو أن اسم الفاعل ، إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، جاز فيه وجهان : أحدهما ما قدمناه من أنه لا يتعرف بما أضيف إليه ، إذ يكون منويا فيه الانفصال من الإضافة ، ولأنه عمل النصب لفظا. الثاني : أن يتعرف به إذا كان معرفة ، فيلحظ فيه أن الموصوف صار معروفا بهذا الوصف ، وكان تقييده بالزمان غير معتبر ، وهذا الوجه غريب النقل ، لا يعرفه إلا من له اطلاع على كتاب سيبويه وتنقيب عن لطائفه. قال سيبويه ، رحمه‌الله تعالى ، وزعم يونس والخليل أن الصفات المضافة التي صارت صفة للنكرة قد يجوز فيهن كلهن أن يكن معرفة ، وذلك معروف في كلام العرب ، انتهى. واستثنى من ذلك باب الصفة المشبهة فقط ، فإنه لا يتعرف بالإضافة نحو حسن الوجه. ومن رفع الكاف ونون أو لم ينون فعلى القطع إلى الرفع. ومن نصب فعلى القطع إلى النصب ، أو على النداء والقطع أغرب لتناسق الصفات ، إذ لم يخرج بالقطع عنها. ومن قرأ ملك فعلا ماضيا فجملة خبرية لا موضع لها من الإعراب ، ومن أشبع كسرة الكاف فقد قرأ بنادر أو بما ذكر أنه لا يجوز إلا في الشعر ، وإضافة الملك أو الملك

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٣.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٩.

٣٨

إلى يوم الدين إنما هو من باب الاتساع ، إذ متعلقهما غير اليوم. والإضافة على معنى اللام ، لا على معنى في ، خلافا لمن أثبت الإضافة بمعنى في ، ويبحث في تقرير هذا في النحو ، وإذا كان من الملك كان من باب.

طباخ ساعات الكرى زاد الكسل

وظاهر اللغة تغاير الملك والمالك كما تقدم ، وقيل هما بمعنى واحد كالفره والفاره ، فإذا قلنا بالتغاير فقيل مالك أمدح لحسن إضافته إلى من لا تحسن إضافة الملك إليه ، نحو مالك الجن والإنس ، والملائكة والطير ، فهو أوسع لشمول العقلاء وغيرهم ، قال الشاعر :

سبحان من عنت الوجوه لوجهه

ملك الملوك ومالك العفر

قاله الأخفش ، ولا يقال هنا ملك ، ولقولهم مالك الشيء لمن يملكه ، وقد يكون ملكا لا مالكا نحو ملك العرب والعجم ، قاله أبو حاتم ، ولزيادته في البناء ، والعرب تعظم بالزيادة في البناء ، وللزيادة في أجزاء الثاني لزيادة الحروف ، ولكثرة من عليها من القراء ، ولتمكن التصرف ببيع وهبة وتمليك ، ولإبقاء الملك في يد المالك إذا تصرف بجور أو اعتداء أو سرف ، ولتعينه في يوم القيامة ، ولعدم قدرة المملوك على انتزاعه من الملك ، ولكثرة رجائه في سيده بطلب ما يحتاج إليه ، ولوجوب خدمته عليه ، ولأن المالك يطمع فيه ، والملك يطمع فيك ، ولأن له رأفة ورحمة ، والملك له هيبة وسياسة. وقيل ملك أمدح وأليق إن لم يوصف به الله تعالى لإشعاره بالكثرة ولتمدحه بمالك الملك ، ولم يقل مالك الملك ، ولتوافق الابتداء والاختتام في قوله (مَلِكِ النَّاسِ) (١) ، والاختتام لا يكون إلا بأشرف الأسماء ، ولدخول المالك تحت حكم الملك ، ولوصفه نفسه بالملك في مواضع ، ولعموم تصرفه فيمن حوته مملكته ، وقصر المالك على ملكه ، قاله أبو عبيدة ، ولعدم احتياج الملك إلى الإضافة ، أو مالك لا بد له من الإضافة إلى مملوك ، ولكونه أعظم الناس ، فكان أشرف من المالك.

قال أبو علي : حكى ابن السراج عمن اختار قراءة ملك كل شيء بقوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فقراءة مالك تقرير ، قال أبو علي ، ولا حجة في هذا ، لأن في التنزيل تقدم العام ، ثم ذكر الخاص منه (الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) (٢) ، فالخالق يعم ، وذكر المصور لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة ، ومنه (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٣) ، بعد قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (٤) ، وإنما كررها تعظيما لها ، وتنبيها على وجوب اعتقادها ،

__________________

(١) سورة الناس : ١١٤ / ٢.

(٢) سورة الحشر : ٥٩ / ٢٤.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٤.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٣.

٣٩

والرد على الكفرة الملحدين ، ومنه (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، ذكر الرحمن الذي هو عام ، وذكر الرحيم بعده لتخصيص الرحمة بالمؤمنين في قوله (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (١) ، انتهى. وقال ابن عطية : وأيضا فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك ، كقوله :

ومن قبل ربيتني فصفت ربوب

وغير ذلك من الشواهد ، فتنعكس الحجة على من قرأ ملك. والمراد باليوم الذي أضيف إليه مالك أو ملك زمان ممتد إلى أن ينقضي الحساب ويستقر أهل الجنة فيها ، وأهل النار فيها ، ومتعلق المضاف إليه في الحقيقة هو الأمر ، كأنه قال مالك أو ملك الأمر في يوم الدين. لكنه لما كان اليوم ظرفا للأمر ، جاز أن يتسع فيتسلط عليه الملك أو المالك ، لأن الاستيلاء على الظرف استيلاء على المظروف. وفائدة تخصيص هذه الإضافة ، وإن كان الله تعالى مالك الأزمنة كلها والأمكنة ومن حلها والملك فيها التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه من الأمور العظام والأهوال الجسام من قيامهم فيه لله تعالى والاستشفاع لتعجيل الحساب والفصل بين المحسن والمسيء واستقرارهما فيما وعدهما الله تعالى به ، أو على أنه يوم يرجع فيه إلى الله جميع ما ملكه لعباده وخوّلهم فيه ويزول فيه ملك كل مالك قال تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٢) ، (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٣). قال ابن السراج : إن معنى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إنه يملك مجيئه ووقوعه ، فالإضافة إلى اليوم على قوله إضافة إلى المفعول به على الحقيقة ، وليس ظرفا اتسع فيه ، وما فسر به الدين من المعاني يصح إضافة اليوم إليه إلى معنى كل منها إلا الملة ، قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج وغيرهم : يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال والحساب. قال أبو علي : ويدل على ذلك (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٤) ، و (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥). وقال مجاهد : يوم الدين يوم الحساب مدينين محاسبين ، وفي قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) دلالة على إثبات المعاد والحشر والحساب ، ولما اتصف تعالى بالرحمة ، انبسط العبد وغلب عليه الرجاء ، فنبه بصفة الملك أو المالك ليكون من عمله على وجل ، وأن لعمله يوما تظهر له فيه ثمرته من خير وشر.

(إِيَّاكَ) ، ايا تلحقه ياء المتكلم وكاف المخاطب وهاء الغائب وفروعها ، فيكون

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤٣.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٩٥.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٩٤.

(٤) سورة غافر : ٤٠ / ١٧.

(٥) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٨.

٤٠