البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

قريت ، وأخطيت ، وتوضيت ، قال : وربما حولوه إلى الواو ، وهو قليل ، نحو : رفوت ، والجيد : رفأت ، ولم أسمع : رفيت. انتهى كلام الأخفش. ودل ذلك على أنه ليس من ضرائر الشعر ، كما ذكر أبو الفتح ، وهو قوله تعالى : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ). وقوله : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) : جملة محذوفة ، التقدير : فأنبئهم بها ، فلما أنبأهم حذفت لفهم المعنى ، وفي قوله : أنبئوني ، فلما أنبأهم تنبيه على إعلام الله أنه قد أعلم الله أنه قد أعلم آدم من أحوالهم ما لم يعلمهم من حاله ، لأنهم رأوه قبل النفخ مصورا ، فلم يعلموا ما هو ، وعلى أنه رفع درجة آدم عندهم ، لكونه قد علم لآدم ما لم يعلمهم ، وعلى إقامته مقام المفيد المعلم ، وإقامتهم مقام المستفيدين منه ، لأنه أمره أن يعلمهم أسماء الذين عرضهم عليهم وعلى أدبهم على ترك الأدب من حيث قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها) ، فإن الطواعية المحضة أن يكونوا مع عدم العلم بالحكمة فيما أمروا به ، وعدم الاطلاع على ذلك الأمر ومصلحته ومفسدته كهم مع العلم والاطلاع. وكان الامتثال والتسليم ، بغير تعجب ولا استفهام ، أليق بمقامهم لطهارة ذواتهم وكمال صفاتهم.

وفي كتاب بعض من عاصرناه ، قالت المعتزلة : ظهر من آدم عليه‌السلام في علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته في ذلك الوقت ، والأقرب أنه كان مبعوثا إلى حواء ، ولا يبعد أن يكون أيضا مبعوثا إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة ، لأن جميعهم ، وإن كانوا رسلا ، فقد يجوز الإرسال إلى الرسول ، كبعثه إبراهيم عليه‌السلام إلى لوط عليه‌السلام ، واحتجوا بكونه ناقضا للعادة. ولقائل أن يقول : حصول العلم باللغة لمن علمه الله وعدم حصوله لمن لم يعلم ليس بناقض للعادة. وأيضا ، فالملائكة أما إن علموا وضع تلك الأسماء للمسميات فلا مزية أو لا ، فكيف علموا إصابته في ذلك؟ والجواب من وجهين : أحدهما : أنه ربما يكون لكل صنف منهم لغة ، ثم حضر جميعهم فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة ، إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفتها بأسرها. الثاني : أن الله عرفهم الدليل على صدقه ، ولم لا يكون من باب الكرامات أو من باب الإرهاص؟ واحتج من قال : لم يكن نبيا ، بوجوه : أحدها : صدور المعصية عنه بعد ، وذلك غير جائز على النبي. وثانيها : أنه لو كان مبعوثا لكان إلى أحد ، لأن المقصود منه التبليغ ، وذلك لا يكون الملائكة ، لأنهم أفضل ، ولا حوّاء ، لأنها مخاطبة بلا واسطة بقوله : (وَلا تَقْرَبا) ، ولا الجن ، لأنهم لم يكونوا في السماء. وثالثها : قوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ) ، وهذا يدل على أن الاجتباء كان بعد الزلة ، والنبي لا بد أن يكون مجتبى وقت كونه نبيا.

٢٤١

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) ؛ جواب فلما ، وقد تقدّم ذكر الخلاف في لما المقتضية للجواب ، أهي حرف أم ظرف؟ ورجحنا الأول وذكرنا أنه مذهب سيبويه. وألم : أقل تقرير ، لأن الهمزة إذا دخلت على النفي كان الكلام في كثير من المواضع تقريرا نحو قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (١)؟ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (٢)؟ (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) (٣)؟ ولذلك جاز العطف على جملة إثباتية نحو : ووضعنا ، ولبثت ، ولكم فيه ، تنبيههم بالخطاب وهزهم لسماع المقول ، نحو قوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (٤) نبهه في الثانية بالخطاب. وقد تقدم أن اللام في نحو : قلت لك ، أو لزيد ، للتبليغ ، وهو أحد المعاني التي ذكرناها فيها. (إِنِّي أَعْلَمُ) : ياء المتكلم المتحرك ما قبلها ، إذا لقيت همزة القطع المفتوحة ، جاز فيها وجهان : التحريك والإسكان ، وقرىء بالوجهين في السبعة ، على اختلاف بينهم في بعض ذلك ، وتفصيل ذلك مذكور في كتب القراءات. وسكنوا في السبعة إجماعا : تفتني ألا ، (أَرِنِي أَنْظُرْ) (٥) ، (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ) (٦) (وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ) (٧) ، ولا يظهر بشيء من اختلافهم واتفاقهم علة إلا اتباع الرواية. والخلاف الذي تقدم في أعلم من كونه منصوبا أو مجرورا جار هنا ، وقد تقدم إيضاحه هناك فلا نعيده هنا.

وقد حكى ابن عطية عن المهدوي ما نصه : قال المهدوي : ويجوز أن يكون قوله : أعلم اسما بمعنى التفضيل في العلم ، فتكون ما في موضع خفض بالإضافة. قال ابن عطية : وإذا قدر الأول اسما ، فلا بد بعده من إضمار فعل ينصب غيب ، تقديره : إني أعلم من كل أعلم غيب ، وكونها في الموضعين فعلا مضارعا أخصر وأبلغ. انتهى. وما نقله ابن عطية عن المهدوي وهم. والذي ذكر المهدوي في تفسيره ما نصه : (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) ، يجوز أن ينتصب ما بأعلم على أنه فعل ، ويجوز أن يكون بمعنى عالم ، أو يكون ما جرا بالإضافة ، ويجوز أن يقدر التنوين في أعلم إذا قدرته بمعنى عالم وتنصب ما به ، فيكون بمعنى حواج بيت الله ، انتهى. فأنت ترى أنه لم يذهب إلى أن أفعل للتفضيل وأنه لم يجز الجر في ما والنصب ، وتكون أفعل اسما إلا إذا كان بمعنى فاعل لا أفعل تفضيل ، ولا

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٢.

(٢) سورة الشرح : ٩٤ / ١.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٨.

(٤) سورة الكهف : ١٨ / ٧٥.

(٥) سورة الأعراف : ٧ / ١٤١.

(٦) سورة مريم : ١٩ / ٤٣.

(٧) سورة هود : ١١ / ٤٧.

٢٤٢

يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكون أعلم أفعل بمعنى التفضيل ، وخفض ما بالإضافة البتة.

(غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : تقدم الكلام على هذه الألفاظ الثلاثة ، واختلف في الغيب هنا ، فقيل : غيب السموات : أكل آدم وحواء من الشجرة ، لأنها أول معصية وقعت في السماء ، وغيب الأرض : قتل قابيل هابيل ، لأنها أول معصية كانت في الأرض. وقيل : غيب السموات ما قضاه من أمور خلقه ، وغيب الأرض ما فعلوه فيها بعد القضاء. وقيل : غيب السموات ما غاب عن ملائكته المقربين وحملة عرشه مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى ، وغيب الأرض ما أخفاه عن أنبيائه وأصفيائه من أسرار ملكوته الأدنى وأمور الآخرة الأولى.

(وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) قال علي وابن مسعود وابن عباس ، رضوان الله عليهم أجمعين : ما تبدون : الضمير للملائكة ، وما كنتم تكتمون : يعني إبليس. فيكون من خطاب الجمع ، ويراد به الواحد نحو : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ) (١). وروي أن إبليس مرّ على جسد آدم بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح فقال : لأمر ما خلق هذا ، ثم دخل من فيه وخرج من دبره وقال : إنه خلق لا يتمالك لأنه أجوف ، ثم قال للملائكة الذين معه : أرأيتم إن فضل هذا عليكم وأمرتم بطاعته ما تصنعون؟ قالوا : نطيع الله ، فقال إبليس في نفسه : والله لئن سلّطت عليه لأهلكنه ، ولئن سلّط عليّ لأعصينه ، فهذا قوله تعالى : (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) الآية ، يعني : من قول الملائكة وكتم إبليس. وقال الحسن وقتادة : ما أبدوه هو قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها) ، وما كتموه قولهم : لن يخلق الله أكرم عليه منا ، وقيل : ما أبدوه قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها) ، وما كتموه أضمروه من الطاعة لله والسجود لآدم. وقيل : ما أبدوه هو الإقرار بالعجز ، وما كتموه الكراهية لاستخلاف آدم عليه‌السلام. وقيل : هو عام فيما أبدوه وما كتموه من كل أمورهم ، وهذا هو الظاهر. وأبرز الفعل في قوله : (وَأَعْلَمُ) ليكون متعلقه جملة مقصودة بالعامل ، فلا يكون معمولها مندرجا تحت الجملة الأولى ، وهو يدل على الاهتمام بالإخبار ، إذ جعل مفردا بعامل غير العامل ، وعطف قوله (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) هو من باب الترقي في الإخبار ، لأن علم الله تعالى واحد لا تفاوت فيه بالنسبة إلى شيء من معلوماته ، جهرا كان أو سرا ، ووصل ما بكنتم يدل على أن الكتم وقع فيما

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ٤.

٢٤٣

مضى ، وليس المعنى أنهم كتموا عن الله لأن الملائكة أعرف بالله وأعلم ، فلا يكتمون الله شيئا ، وإنما المعنى أنه هجس في أنفسهم شيء لم يظهره بعضهم لبعض ، ولا أطلعه عليه ، وإن كان المعنى إبليس ، فقد تقدم أنه قال في نفسه : ما حكيناه قبل عنه ، فكتم ذلك عن الملائكة. وقد تضمن آخر هذه الآية من علم البديع الطباق وهو قوله : (ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) قوله :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

السجود : التذلل والخضوع ، وقال ابن السكيت : هو الميل ، وقال بعضهم : سجد وضع جبهته بالأرض ، وأسجد : ميل رأسه وانحنى ، وقال الشاعر :

ترى ألا كم فيها سجدا للحوافر

يريد أن الحوافر تطأ الأكم ، فجعل تأثر الأكم للحوافر سجودا مجازا ، وقال آخر :

كما سجدت نصرانة لم تحنف

وقال آخر :

سجود النصارى لأحبارها

يريد الانحناء.

إبليس : اسم أعجميّ منع الصرف للعجمة والعلمية ، قال الزجاج : ووزنه فعليل ، وأبعد أبو عبيدة وغيره في زعمه أنه مشتق من الإبلاس ، وهو الإبعاد من الخير ، ووزنه على هذا ، أفعيل ، لأنه قد تقرر في علم التصريف أن الاشتقاق العربي لا يدخل في الأسماء الأعجمية ، واعتذر من قال بالاشتقاق فيه عن منع الصرف بأنه لا نظير له في الأسماء ، وردّنا : غريض ، وإزميل ، وإخريط ، وإجفيل ، وإعليط ، وإصليت ، وإحليل ، وإكليل ، وإحريض. وقد قيل : شبه بالأسماء الأعجمية ، فامتنع الصرف للعلمية ، وشبه العجمة ، وشبه العجمة هو أنه وإن كان مشتقا من الإبلاس فإنه لم يسم به أحد من العرب ، فصار خاصا بمن أطلقه الله عليه ، فكأنه دليل في لسانهم ، وهو علم مرتجل. وقد روي اشتقاقه من الإبلاس عن ابن عباس والسدي ، وما إخاله يصح. الإباء : الامتناع ، قال الشاعر :

وأما أن تقولوا قد أبينا

فشرّ مواطن الحسب الإباء

٢٤٤

والفعل منه : أبى يأبى ، ولما جاء مضارعه على يفعل بفتح العين وليس بقياس أحرى ، كأنه مضارع فعل بكسر العين ، فقالوا فيه : يئبى بكسر حرف المضارعة ، وقد سمع فيه أبي بكسر العين فيكون يأبى على هذه اللغة قياسا ، ووافق من قال أبى بفتح العين على هذه اللغة. وقد زعم أبو القاسم السعدي أن أبي يأتي بفتح العين لا خلاف فيه ، وليس بصحيح ، فقد حكى أبي بكسر العين صاحب المحكم. وقد جاء يفعل في أربعة عشر فعلا وماضيها فعل ، وليست عينه ولا لامه حرف حلق. وفي بعضها سمع أيضا فعل بكسر العين ، وفي بعض مضارعها سمع أيضا يفعل ويفعل بكسر العين وضمها ، ذكرها التصريفيون. الاستكبار والتكبر : وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل ، وهو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها استفعل ، وهي مذكورة في شرح نستعين.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى لما شرف آدم بفضيلة العلم وجعله معلما للملائكة وهم مستفيدون منه مع قولهم السابق : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ). أراد الله أن يكرم هذا الذي استخلفه بأن يسجد له ملائكته ، ليظهر بذلك مزية العلم على مزية العبادة. قال الطبري : قصة إبليس تقريع لمن أشبهه من بني آدم ، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع علمهم بنبوته ، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم. وإذ : ظرف كما سبق فقيل بزيادتها. وقيل : العامل فيها فعل مضمر يشيرون إلى ادكر. وقيل : هي معطوفة على ما قبلها ، يعني قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) ، ويضعف الأول بأن الأسماء لا تزاد ، والثاني أنها لازم ظرفيتها ، والثالث لاختلاف الزمانين فيستحيل وقوع العامل الذي اخترناه في إذ الأولى في إذ هذه. وقيل : العامل فيها أبى ، ويحتمل عندي أن يكون العامل في إذ محذوف دل عليه قوله : (فَسَجَدُوا) ، تقديره : انقادوا وأطاعوا ، لأن السجود كان ناشئا عن الانقياد للأمر. وفي قوله : (قُلْنا) التفات ، وهو من أنواع البديع ، إذ كان ما قبل هذه الآية قد أخبر عن الله بصورة الغائب ، ثم انتقل إلى ضمير المتكلم ، وأتى بنا التي تدل على التعظيم وعلوّ القدر وتنزيله منزلة الجمع ، لتعدد صفاته الحميدة ومواهبه الجزيلة.

وحكمة هذا الالتفات وكونه بنون المعظم نفسه أنه صدر منه الأمر للملائكة بالسجود ، ووجب عليهم الامتثال ، فناسب أن يكون الأمر في غاية من التعظيم ، لأنه متى كان كذلك كان أدعى لامتثال المأمور فعل ما أمر به من غير بطء ولا تأول لشغل خاطره بورود ما صدر

٢٤٥

من المعظم. وقد جاء في القرآن نظائر لهذا ، منها : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ) (١) ، (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) (٢) ، (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً) (٣) ، وقلنا من بعده لبني إسرائيل : (اسْكُنُوا الْأَرْضَ) (٤) ، (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ) (٥) ، (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا) (٦). فأنت ترى هذا الأمر وهذا النهي كيف تقدّمهما الفعل المسند إلى المتكلم المعظم نفسه ، لأن الآمر اقتضى الاستعلاء على المأمور ، فظهر للمأمور بصفة العظمة ، ولا أعظم من الله تعالى ، والمأمورون بالسجود ، قال السدي : عامة الملائكة. وقال ابن عباس : الملائكة الذين يحكمون في الأرض. وقرأ الجمهور : للملائكة بجر التاء. وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وسليمان بن مهران : بضم التاء ، اتباعا لحركة الجيم ونقل أنها لغة أزدشنوءة. قال الزجاج : هذا غلط من أبي جعفر ، وقال الفارسي : هذا خطأ ، وقال ابن جني : لأن كسرة التاء كسرة إعراب ، وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر ، إذا كان ما قبل الهمزة ساكنا صحيحا نحو : (وَقالَتِ اخْرُجْ) (٧). وقال الزمخشري : لا يجوز لاستهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، انتهى كلامه. وإذا كان ذلك في لغة ضعيفة ، وقد نقل أنها لغة أزدشنوءة ، فلا ينبغي أن يخطأ القارئ بها ولا يغلط ، والقارئ بها أبو جعفر ، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضا عن عبد الله بن عباس وغيره من الصحابة ، وهو شيخ نافع بن أبي نعيم ، أحد القراء السبعة ، وقد علل ضم التاء لشبهها بألف الوصل ، ووجه الشبه أن الهمزة تسقط في الدرج لكونها ليست بأصل ، والتاء في الملائكة تسقط أيضا لأنها ليست بأصل. ألا تراهم قالوا : الملائك؟ وقيل : ضمت لأن العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها.

(اسْجُدُوا) : أمر ، وتقتضي هذه الصيغة طلب إيقاع الفعل في الزمان المطلق استقباله ، ولا تدل بالوضع على الفور ، وهذا مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر بن الطيب ، واختاره الغزالي والرازي خلافا للمالكية من أهل بغداد ، وأبي حنيفة ومتبعيه. وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الفقه ، وهذ الخلاف إنما هو حيث لا تدل قرينة على فور أو تأخير. وأما هنا فالعطف بالفاء يدل على تعقيب القول بالفعل من غير مهلة ، فتكون الملائكة قد

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٣٦.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦٩.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠٤.

(٥) سورة النساء : ٤ / ١٥٠.

(٦) سورة النساء : ٤ / ١٥٤.

(٧) سورة يوسف : ١٢ / ٣١.

٢٤٦

فهموا الفور من شيء آخر غير موضوع اللفظ ، فلذلك بادروا بالفعل ولم يتأخروا. والسجود المأمور به والمفعول إيماء وخضوع ، قاله الجمهور ، أو وضع الجبهة على الأرض مع التذلل ، أو إقرارهم له بالفضل واعترافهم له بالمزية ، وهذا يرجع إلى معنى السجود اللغوي ، قال : فإن من أقر لك بالفضل فقد خضع لك. (لِآدَمَ) : من قال بالسجود الشرعي قال : كان السجود تكرمة وتحية له ، وهو قول الجمهور : علي وابن مسعود وابن عباس ، كسجود أبوي يوسف ، لا سجود عبادة ، أو لله تعالى ، ونصبه الله قبلة لسجودهم كالكعبة ، فيكون المعنى إلى آدم ، قاله الشعبي ، أو لله تعالى ، فسجد وسجدوا مؤتمين به ، وشرفه بأن جعله إماما يقتدون به. والمعنى في : (لِآدَمَ) أي مع آدم. وقال قوم : إنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه ، فالسجود امتثال لأمر الله ، والسجود له ، قاله مقاتل ، والقرآن يرد هذا القول. وقال قوم : كان سجود الملائكة مرتين. قيل : والإجماع يرد هذا القول ، والظاهر أن السجود هو بالجبهة لقوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (١). وقيل : لا دليل في ذلك ، لأن الجاثي على ركبتيه واقع ، وأن السجود كان لآدم على سبيل التكرمة ، وقال بعضهم : السجود لله بوضع الجبهة ، وللبشر بالانحناء ، انتهى. ويجوز أن يكون السجود في ذلك الوقت للبشر غير محرم ، وقد نقل أن السجود كان في شريعة من قبلنا هو التحية ، ونسخ ذلك في الإسلام. وقيل : كان السجود لغير الله جائزا إلى زمن يعقوب ، ثم نسخ ، وقال الأكثرون : لم ينسخ إلى عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حديث عرض عليه الصحابة أن يسجدوا له : «لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين» ، وأن معاذا سجد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهاه عن ذلك. قال ابن عطاء : لما استعظموا تسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم بذلك استغناءه عنهم وعن عبادتهم.

(فَسَجَدُوا) ، ثم : محذوف تقديره : فسجدوا له ، أي لآدم. دل عليه قول : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، واللام في لآدم للتبيين ، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها عند شرح (الْحَمْدُ لِلَّهِ). (إِلَّا إِبْلِيسَ) : هو مستثنى من الضمير في فسجدوا ، وهو استثناء من موجب في نحو هذه المسألة فيترجح النصب ، وهو استثناء متصل عند الجمهور : ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب وقتادة وابن جريج ، واختاره الشيخ أبو الحسن والطبري ، فعلى هذا يكون ملكا ثم أبلس وغضب عليه ولعن فصار شيطانا. وروى في ذلك آثار عن

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٢٩.

٢٤٧

ابن عباس وقتادة وابن جبير ، وقد اختلف في اسمه فقيل : عزازيل ، وقيل : الحرث. وقيل : هو استثناء منقطع ، وأنه أبو الجن ، كما أن آدم أبو البشر ، ولم يكن قط ملكا ، قاله ابن زيد والحسن ، وروي عن ابن عباس. وروي عن ابن مسعود وشهر بن حوشب : أنه من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة ، فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب معهم ، واستدل على أنه ليس من الملائكة بقوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (١) فعم ، فلا يجوز على الملائكة الكفر ولا الفسق ، كما لا يجوز على رسله من البشر ، وبقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٢) ، وبقوله : (كانَ مِنَ الْجِنِ) (٣) وبأن له نسلا ، بخلاف الملائكة ، والظاهر أنه استثناء متصل لتوجه الأمر على الملائكة ، فلو لم يكن منهم لما توجه الأمر عليه ، فلم يقع عليه ذم لتركه فعل ما لم يؤمر به. وأما جاعل الملائكة رسلا ، ولا يعصون الله ما أمرهم ، فهو عام مخصوص ، إذ عصمتهم ليست لذاتهم ، إنما هي بجعل الله لهم ذلك ، وأما إبليس فسلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية. وأما قوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) ، فقال قتادة : هم صنف من الملائكة يقال لهم الجنة. وقال ابن جبير : سبط من الملائكة خلقوا من نار ، وإبليس منهم ، أو أطلق عليه من الجن لأنه لا يرى ، كما سمي الملائكة جنة ، أو لأنه سمي باسم ما غلب عليه ، أو بما كان من فعله ، أو لأن الملائكة تسمى جنا. قال الأعشى في ذكر سليمان على نبينا وعليه‌السلام :

وسخر من جن الملائك تسعة

قياما لديه يعملون بلا أجر

(أَبى) : امتنع وأنف من السجود لآدم. (وَاسْتَكْبَرَ) : تكبر وتعاظم في نفسه وقدم الإباء على الاستكبار ، وإن كان الاستكبار هو الأول ، لأنه من أفعال القلوب وهو التعاظم ، وينشأ عنه الإباء من السجود اعتبارا بما ظهر عنه أولا ، وهو الامتناع من السجود ، ولأن المأمور به هو السجود ، فلما استثنى إبليس كان محكوما عليه بأنه ترك السجود ، أو بأنه مسكوت عنه غير محكوم عليه على الاختلاف الذي نذكره قريبا إن شاء الله. والمقصود : الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة. فناسب أن يبدأ أولا بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء ، أو بإنشاء الإخبار عنه بالمخالفة ، والذي يؤدي هذا المعنى هو الإباء من السجود. والخلاف الذي أشرنا إليه هو أنك إذا قلت : قام القوم إلا زيدا ، فمذهب

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١.

(٢) سورة التحريم : ٦٦ / ٦.

(٣) سورة الكهف : ١٨ / ٥٠.

٢٤٨

الكسائي أن التخريج من الاسم ، وأن زيدا غير محكوم عليه بقيام ولا غيره ، فيحتمل أن يكون قد قام ، وأن يكون غير قائم. ومذهب الفراء أن الاستثناء من القول ، والصحيح مذهبنا ، وهو أن الاسم مستثنى من الاسم وأن الفعل مستثنى من الفعل. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو ، ومفعول أبى محذوف لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد ، قال الشاعر :

أبى الضيم والنعمان يحرق نابه

عليه فأفضى والسيوف معاقله

والتقدير : أبى السجود ، وأبى من الأفعال الواجبة التي معناها النفي ، ولهذا يفرغ ما بعد إلا كما يفرغ لفعل المنفي ، قال تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (١) ، ولا يجوز : ضربت إلا زيدا على أن يكون استثناء مفرغا لأن إلا لا تدخل في الواجب ، وقال الشاعر :

أبى الله إلا عدله ووفاءه

فلا النكر معروف ولا العرف ضائع

وأبى زيد الظلم : أبلغ من لم يظلم ، لأن نفي الشيء عن الشخص قد يكون لعجز أو غيره ، فإذا قلت : أبى زيد كذا ، دل على نفي ذلك عنه على طريق الامتناع والأنفة منه ، فلذلك جاء قوله تعالى : (أَبى) ، لأن استثناء إبليس لا يدل إلا على أنه لم يسجد ، فلو اقتصر عليه لجاز أن يكون تخلفه عن السجود لأمر غير الإباء ، فنص على سبب كونه لم يسجد وهو الإباء والأنفة.

(وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) قيل : كان بمعنى صار ، وقيل : على بابها أي كان في علم الله لأنه لا خلاف أنه كان عالما بالله قبل كفره. فالمعنى : أنه كان في علم الله سيكون من الكافرين. قال أبو العالية : من العاصين ، وصلة أل هنا ظاهرها الماضي ، فيكون قد سبق إبليس كفار ، وهم الجن الذين كانوا في الأرض ، أو يكون إبليس أول من كفر مطلقا ، إن لم يصح أنه كان كفار قبله ، وإن صح ، فيفيد أول من كفر بعد إيمانه ، أو يراد الكفر الذي هو التغطية للحق ، وكفر إبليس قيل : جهل سلبه الله ما كان وهبه من العلم ، فخالف الأمر ونزع يده من الطاعة ، وقيل : كفر عناد ولم يسلب العلم بل كان الكبر مانعه من السجود. قال ابن عطية : والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد ، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء ، انتهى كلامه.

وهذا الذي ذكره جوازه واقع بالفعل. هذا فرعون كان عالما بوحدانية الله وربوبيته

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣٢.

٢٤٩

دون غيره ، ومع ذلك حمله حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي من الملك ، فادعى الألوهية مع علمه. وأبو جهل ، كان يتحقق رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعلم أن ما جاء به حق ، ومع ذلك أنكر نبوته ، وأقام على الكفر. وكذلك الأخنس ، وأمية بن أبي الصلت ، وغيرهما ممن كفر عنادا ، مع علمهم بصدق الرسل ، وقد قسم العلماء الكفار إلى كافر بقلبه ولسانه ، كالدهرية والمنكرين رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكافر بقلبه مؤمن بلسانه وهم المنافقون ، ومؤمن بقلبه كافر بلسانه ، كفرعون ومن ذكر معه فلا ينكر الكفر مع وجود العلم. وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على أن المعصية توجب الكفر ، وأجيب بأنه كافر منافق وإن كان مؤمنا فإنما كفر لاستكباره واعتقاد كونه محقا في ذلك التمرد ، واستدلاله على ذلك بقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) (١). قال القشيري : لما كان إبليس مدة في دلال طاعته يختال في مراد موافقته ، سلموا له رتبة التقدم واعتقدوا فيه استحقاق التخصص ، فصار أمره كما قيل :

وكان سراج الوصل أزهر بيننا

فهبت به ريح من البين فانطفا

سئل أبو الفتوح أحمد ، أخو أبي حامد الغزالي عن إبليس فقال : لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت وقسي القدر إذا رمت أصمت ، ثم أنشد :

وكنا وليلى في صعود من الهوى

فلما توافينا ثبت وزلت

وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)

أسكن ، أقم ، ومصدره السكنى كالرجعى ، والمعنى راجع إلى السكون ، وهو عدم الحركة. وكان الساكن في المكان للبثه واستقراره فيه غير متحرك بالنسبة إلى غيره من الأماكن. رغدا : أي واسعا كثير الاعناء فيه ، قال امرؤ القيس :

بينما المرء تراه ناعما

يأمن الأحداث في عيش رغد

وتميم تسكن الغين. وزعم بعض الناس أن كل اسم ثلاثي حلقي العين صحيح اللام يجوز فيه تحريك عينه وتسكينها ، مثل : بحر وبحر ، ونهر ونهر ، فأطلق هذا الإطلاق ، وليس كذلك ، بل ما وضع من ذلك على فعل بفتح العين لا يجوز فيه التسكين نحو : السحر

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٧٦.

٢٥٠

لا يقال فيه السحر ، وإنما الكلام في فعل المفتوح الفاء الساكن العين ، وفي ذلك خلاف. ذهب البصريون إلى أن فتح ما ورد من ذلك مقصور على السماع ، وهو مع ذلك مما وضع على لغتين ، لا أن أحدهما أصل للآخر. وذهب الكوفيون إلى أن بعضه ذو لغتين ، وبعضه أصله التسكين ثم فتح. وقد اختار أبو الفتح مذهب الكوفيين ، والاستدلال مذكور في كتب النحو. حيث : ظرف مكان مبهم لازم الظرفية ، وجاء جره بمن كثيرا وبفي ، وإضافة لدى إليه قليلا ، ولإضافتها لا ينعقد منها مع ما بعدها كلام ، ولا يكون ظرف زمان خلافا للأخفش ، ولا ترفع اسمين نائبة عن ظرفين ، نحو : زيد حيث عمر ، وخلافا للكوفيين ، ولا يجزم بها دون ما خلافا للفراء ، ولا تضاف إلى المفرد خلافا للكسائي ، وما جاء من ذلك حكمنا بشذوذه ، وهي مبنية وتعتقب على آخرها الحركات الثلاث ، ويجوز : حوث ، بالواو وبالحركات الثلاثة. وحكى الكسائي أن إعرابها لغة بني فقعس. القربان : معروف ، وهو الدنوّ من الشيء. هذه : تكسر الهاء باختلاس وإشباع ، وتسكن ، ويقال : هذي بالياء ، والهاء فيما ذكروا بدل منها ، وقالوا : ذ بكسر الذال بغير ياء ولا هاء ، وهي تأنيث ذا ، وربما ألحقوا التاء لتأنيث ذا فقالوا ذات مبنية على الكسر. الشجرة : بفتح الشين والجيم ، وبعض العرب تكسر الشين ، وإبدال الجيم ياء مع كسر الشين وفتحها منقول ، وخالف أبو الفتح في كون الياء بدلا ، وقد أطلنا الكلام على ذلك في تأليفنا (كتاب التكميل لشرح التسهيل). والشجر : ما كان على ساق ، والنجم : ما نجم وانبسط على الأرض ليس له ساق. الظلم : أصله وضع الشيء في غير موضعه ، ثم يطلق على الشرك ، وعلى الجحد ، وعلى النقص. والمظلومة : الأرض التي لم تمطر ، ومعناه راجع إلى النقص.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الآية : لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي ، ومناسبتها لما قبلها : أن الله لما شرف آدم برتبة العلم وبإسجاد الملائكة له ، امتن عليه بأن أسكنه الجنة التي هي دار النعيم. أباح له جميع ما فيها إلا الشجرة ، على ما سيأتي فيها ، إن شاء الله. وقلنا : معطوف على الجملة السابقة التي هي قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا) : لا على قلنا وحده لاختلاف زمانيهما ، ومعمول القول المنادى وما بعده ، وفائدة النداء تنبيه المأمور له يلقى إليه من الأمر ، وتحريكه لما يخاطب به ، إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يجعل لها البال ، وهو الأمر بسكنى الجنة. قالوا : ومعنى الأمر هنا إباحة السكنى والإذن فيها ، مثل : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (١) ، (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) (٢) ، لأن الاستقرار

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢.

(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ١٠.

٢٥١

في المواضع الطيبة لا تدخل تحت التعبد ، وقيل : هو أمر وجوب وتكليف ، لأنه أمر بسكنى الجنة ، وبأن يأكل منها ، ونهاه عن شجرة واحدة. والأصح أن الأمر بالسكنى وما بعده مشتمل على ما هو إباحة ، وهو الانتفاع بجميع نعيم الجنة ، وعلى ما هو تكليف ، وهو منعه من تناول ما نهى عنه. وأنت : توكيد للضمير المستكن في أسكن ، وهذا أحد المواضع التي يستكن فيها الضمير وجوبا. وزوجك : معطوف على ذلك الضمير المستكن ، وحسن العطف عليه تأكيده بأنت ، ولا يجوز عند البصريين العطف عليه دون تأكيد أو فصل يقوم مقام التأكيد ، أو فصل بلا بين حرف العطف والمعطوف ، وما سوى ذلك ضرورة وشاذ. وقد روي : قم وزيد ، وأجاز الكوفيون العطف على ذلك الضمير من غير توكيد ولا فصل. وتظافرت نصوص النحويين والمعربين على ما ذكرناه من أن وزوجك معطوف على الضمير المستكن في اسكن ، ويكون إذ ذاك من عطف المفردات. وزعم بعض الناس أنه لا يجوز إلا أن يكون من عطف الجمل ، التقدير : ولتسكن زوجك ، وحذف : ولتسكن ، لدلالة اسكن عليه ، وأتى بنظائر من هذا الباب نحو : لا نخلفه نحن ولا أنت ، ونحو : تقوم أنت وزيد ، ونحو : ادخلوا أولكم وآخركم ، وقوله :

نطوف ما نطوف ثم يأوي

ذوو الأموال منا والعديم

إذا أعربناه بدلا لا توكيدا ، هو على إضمار فعل ، فتقديره عنده ، ولا تخلفه أنت ، ويقوم زيد ، وليدخل أولكم وآخركم ، ويأوي ذوو الأموال. وزعم أنه استخرج ذلك من نص كلام سيبويه ، وليس كما زعم بل نص سيبويه على مسألة العطف في كتابه ، كما ذهب إليه النحويون. قال سيبويه ، رحمه‌الله : وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو الضمير المرفوع ، وذلك فعلت وعبد الله ، وأفعل وعبد الله ، ثم ذكر تعليل الخليل لقبحه ، ثم قال : فإن نعته حسن أن يشركه المظهر ، وذلك قولك : ذهبت أنت وزيد. وقال الله عزوجل : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) (١) و (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، انتهى.

فهذا نص من سيبويه على أنه من عطف المظهر على المضمر ، وقد أجمع النحويون على جواز : تقوم عائشة وزيد ، ولا يمكن لزيد أن يباشر العامل ، ولا نعلم خلافا أن هذا من عطف المفردات. ولتكميل الكلام على هذه المسألة مكان غير هذا ، وتوجه الأمر بالسكنى على زوج آدم دليل على أنها كانت موجودة قبله ، وهو قول بعض المفسرين أنها خلقت من

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢٤.

٢٥٢

وقت علمه الله الأسماء وأنبأهم هو إياها. نام نومة فخلقت من ضلعه الأقصر قبل دخول الجنة. وأكثر أئمة التفسير أنها خلقت بعد دخول آدم الجنة. استوحش بعد لعن إبليس وإخراجه من الجنة فنام ، فاستيقظ فوجدها عند رأسه قد خلقها الله من ضلعه الأيسر ، فسألها : من أنت؟ قالت : امرأة ، قال : ولم خلقت؟ قالت : تسكن إليّ ، فقالت له الملائكة ، ينظرون مبلغ علمه : ما اسمها؟ قال : حوّاء. قالوا : لم سميت حوّاء؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي. وفي هذه القصة زيادات ذكرها المفسرون لا نطول بذكرها لأنها ليست مما يتوقف عليها مدلول الآية ولا تفسيرها.

وعلى هذا القول يتوجه الخطاب على المعدوم ، لأنه في علم الله موجود ، ويكون آدم قد سكن الجنة لما خلقت أمرا معا بالسكنى ، لتسكن قلوبهم وتطمئن بالقرآن في الجنة. وقد تكلم بعض الناس على أحكام السكنى ، والعمرى ، والرقبى ، وذكر كلام الفقهاء في ذلك ، واختلافهم حين فسر قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، وليس في الآية ما يدل على شيء مما ذكر.

الجنة : قال أبو القاسم البلخي ، وأبو مسلم الأصبهاني : كانت في الأرض ، قيل : بأرض عدن. والهبوط : الانتقال من بقعة إلى بقعة ، كما في قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) (١) ، لأنها لو كانت دار الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله : (هَلْ أَدُلُّكَ) (٢) ، ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٣) ، ولأن إبليس ملعون ، فلا يصل إلى جنة الخلد ، ولأن دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله : (أُكُلُها دائِمٌ) (٤) ، ولأنه لا يجوز في حكمته أن يبتدىء الخلق في جنة يخلدهم ، ولأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأرض ، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء. ولو كان نقله إلى السماء لكان أولى بالذكر ، لأنه من أعظم النعم. وقال الجبائي : كانت في السماء السابعة لقوله : (اهْبِطُوا) ، ثم الهبوط الأول كان من تلك السماء إلى السماء الأولى ، والهبوط الثاني كان من السماء إلى الأرض. وقالت الجمهور : هي في السماء ، وهي دار الثواب ، لأن الألف واللام في الجنة لا تفيد العموم ، لأن سكنى جميع الجنان محال ، فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق ، والمعهود دار الثواب ، ولأنه ثبت في الصحيح في محاجة آدم موسى فقال له : يا آدم أنت أشقيت بنيك وأخرجتهم من الجنة؟ فلم ينازعه آدم في ذلك. وقيل : هي

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦١.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٢٠.

(٣) سورة الحجر : ١٥ / ٤٨.

(٤) سورة الرعد : ١٣ / ٣٥.

٢٥٣

السماء وليست دار الثواب ، بل هي جنة الخلد. وقيل : في السماء جنة غير دار الثواب وغير جنة الخلد. ورد قول من قال : إنها بستان في السماء ، فلم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة. ومما استدل به من قال : إنها في الأرض قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (١) و (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٢) ، (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٣). وقد لغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحوّاء ، ولأنها لو كانت دار الخلد لما وصل إليها إبليس ووسوس لهما حتى أخرجهما ، ولأن جنة الخلد دار نعيم وراحة وليست بدار تكليف. وقد تكلف آدم أن لا يأكل من الشجرة ، ولأن إبليس كان من الجن المخلوقين من نار السموم. وقد نقل أنه كان من الجن الكفار الذين طردوا في الأرض ، ولو كانت جنة الخلد لما دخلتها ، ولأنها محل تطهير ، فكيف يحسن أن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين؟.

وأجيب عن الآيات أنها محمولة على حالهم بعد دخول الاستقرار والخلود ، لا على دخولهم على سبيل المرور والجوار. فقد صح دخول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجنة في ليلة المعراج وفي غيرها ، وأنه رآها في حديث الكسوف. وأما دخول إبليس إليها فدخول تسليط تكريم ، وذلك إن صح قالوا : والصحيح أنه لم يدخل الجنة بل وقف على بابها وكلمهما ، وأراد الدخول فردته الخزنة ، وقيل : دخل في جوف الحية مستترا. وأما كونها ليست دار تكليف ، فذلك بعد دخولهم فيها للإقامة المستمرة والجزاء بالأعمال الصالحة. وأما الدخول الذي يعقبه الخروج بسبب المخالفة ، فلا ينافي التكليف بل لا يكون خاليا منه.

(وَكُلا) : دليل على أن الخطاب لهما بعد وجود حوّاء ، لأن الأمر بالأكل للمعدوم فيه بعد ، إلا على تقدير وجوده ، والأصل في : كل اؤكل. الهمزة الأولى هي المجتلبة للوصل ، والثانية هي فاء الكلمة ، فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ ، فوليت همزة الوصل الكاف ، وهي متحركة ، وإنما اجتلبت للساكن ، فلما زال موجب اجتلابها زالت هي. قال ابن عطية وغيره : وحذفت النون من كلا للأمر ، انتهى كلامه. وهذا الذي ذكر ليس على طريقة البصريين ، فإن فعل الأمر عندهم مبني على السكون ، فإذا اتصل به ضمير بارز كانت حركة آخره مناسبة للضمير ، فتقول : كلي ، وكلا ، وكلوا ، وفي الإناث

__________________

(١) سورة الواقعة : ٥٦ / ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) سورة الطور : ٥٢ / ٢٣.

(٣) سورة الحجر : ١٥ / ٤٨.

٢٥٤

يبقى ساكنا نحو : كلن. وللمعتل حكم غير هذا ، فإذا كان هكذا فقوله : وكلا ، لم تكن فيه نون فتحذف للأمر ، وإنما يكون ما ذكره على مذهب الكوفيين ، حيث زعموا أن فعل الأمر معرب ، وأن أصل : كل لتأكل ، ثم عرض فيه من الحذف بالتدريج إلى أن صار : كل. فأصل كلا : لتأكلا ، وكان قبل دخول لام الأمر عليه فيه نون ، إذ كان أصله : تأكلان ، فعلى قولهم يتم قول ابن عطية : إن النون من كلا حذفت للأمر.

(مِنْها) : الضمير عائد على الجنة ، والمعنى على حذف مضاف ، أي من مطاعمها ، من ثمارها وغيرها ، ودل ذلك على إباحة الأكل لهما من الجنة على سبيل التوسعة ، إذ لم يحظر عليهما أكل ما ، إذ قال : (رَغَداً) ، والجمهور على فتح الغين. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب : بسكونها ، وقد تقدم أنهما لغتان ، وانتصاب رغدا ، قالوا : على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره أكلا رغدا. وقال ابن كيسان : هو مصدر في موضع الحال ، وفي كلا الإعرابين نظر. أما الأول : فإن مذهب سيبويه يخالفه ، لأنه لا يرى ذلك ، وما جاء من هذا النوع جعله منصوبا على الحال من الضمير العائد على المصدر الدال عليه الفعل. وأما الثاني : فإنه مقصور على السماع ، قال الزجاج : الرغد الكثير الذي لا يعنيك ، وقال مقاتل : الواسع ، وقال مجاهد : الذي لا يحاسب عليه ، وقيل : السالم من الإنكار الهني ، يقال : رغد عيش القوم ، ورغد ، بكسر الغين وضمها ، إذا كانوا في رزق واسع كثير ، وأرغد القوم : أخصبوا وصاروا في رغد من العيش. وقالوا عيشة رغد بالسكون أيضا.

(حَيْثُ شِئْتُما) : أباح لهما الأكل حيث شاءا فلم يحظر عليهما مكانا من أماكن الجنة ، كما لم يحظر عليهما مأكولا إلا ما وقع النهي عنه. وشاء في وزنه خلاف ، فنقل عن سيبويه : أن وزنه فعل بكسر العين فنقلت حركتها إلى الشين فسكنت ، واللام ساكنة للضمير ، فالتقى ساكنان ، فحذفت لالتقاء الساكنين ، وكسرت الشين لتدل على أن المحذوف هو ياء ، كما صنعت في بعت.

(وَلا تَقْرَبا) : نهاهما عن القربان ، وهو أبلغ من أن يقع النهي عن الأكل ، لأنه إذا نهى عن القربان ، فكيف يكون الأكل منها؟ والمعنى : لا تقرباها بالأكل ، لا أن الإباحة وقعت في الأكل. وحكى بعض من عاصرناه عن ابن العربي ، يعني الماضي أبا بكر ، قال : سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل يقول : إذا قلت : لا تقرب ، بفتح الراء معناه : لا تلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن ، وقد تقدم أن معنى : لا تقرب زيد : ألا تدن منه. وفي هذه الحكاية عن ابن العربي من التخليط ما يتعجب من حاكيها ، وهو

٢٥٥

قوله : سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل ، وبين النضر والشاشي من السنين مئون ، إلا إن كان ثم مكان معروف بمجلس النضر بن شميل فيمكن. وقرىء : ولا تقربا بكسر التاء ، وهي لغة عن الحجازيين في فعل يفعل ، يكسرون حرف المضارعة التاء والهمزة والنون ، وأكثرهم لا يكسر الياء ، ومنهم من يكسرها ، فإن كان من باب : يوحل ، وكاسر ، وفاتح ، مع إقرار الواو وقلبها ألفا. (هذِهِ) : إشارة للحاضر القريب من المخاطب. وقرأ ابن محيصن : هذي بالياء. وقرأ الجمهور بالهاء.

(الشَّجَرَةَ) : نعت لإسم الإشارة ، ويحتمل الإشارة أن تكون إلى جنس من الشجر معلوم ، ويحتمل أن تكون إلى شجرة واحدة من الجنس المعلوم ، وهذا أظهر ، لأن الإشارة لشخص ما يشار إليه. قال ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وجعدة بن هبيرة : هي الكرم ، ولذلك حرمت علينا الخمر ، وقال ابن عباس أيضا ، وأبو مالك وقتادة : السنبلة ، وكان حبها ككلى البقر أحلى من العسل وألين من الزبد. روي ذلك عن وهب. ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه. قال بعض الصحابة وقتادة : التين ، وقال علي : شجرة الكافور. وقال الكلبي : شجرة العلم ، عليها من كل لون ، ومن أكل منها علم الخير والشر. وقال وهب : شجرة الخلد ، تأكل منها الملائكة. وقال أبو العالية : شجرة من أكل منها أحدث. وقال بعض أهل الكتاب : شجرة الحنظل. وقال أبو مالك : النخلة. وقيل : شجرة المحنة. وقيل : شجرة لم يعلمنا الله ما هي ، وهذا هو الأظهر ، إذ لا يتعلق بعرفانها كبير أمر ، وإنما المقصود إعلامنا أن فعل ما نهينا عنه سبب للعقوبة. وقرىء : الشجرة بكسر الشين ، حكاها هارون الأعور عن بعض القراء. وقرىء أيضا الشيرة ، بكسر الشين والياء المفتوحة بعدها ، وكره أبو عمرو هذه القراءة وقال : يقرأ بها برابر مكة وسودانها ، وينبغي أن لا يكرهها ، لأنها لغة منقولة ، فيها قال الرياشي : سمعت أبا زيد يقول : كنا عند المفضل وعنده أعراب ، فقلت : إنهم يقولون شيرة ، فقالوا : نعم ، فقلت له : قل لهم يصغرونها ، فقالوا شييرة ، وأنشد الأصمعي :

نحسبه بين الأنام شيره

وفي نهي الله آدم وزوجه عن قربان الشجرة دليل على أن سكناهما في الجنة لا تدوم ، لأن المخلد لا يؤمر ولا ينهى ولا يمنع من شيء. فتكونا منصوب جواب النهي ، ونصبه عند سيبويه والبصريين بأن مضمرة بعد الفاء ، وعند الجرمي بالفاء نفسها ، وعند

٢٥٦

الكوفيين بالخلاف. وتحرير القول في هذه المذاهب يذكر في كتب النحو. وأجازوا أن يكون فتكونا مجزوما عطفا على تقربا ، قاله الزجاج وغيره ، نحو قوله :

فقلت له صوب ولا تجهدنه

فيذرك من أعلى القطاة فتزلق

والأول أظهر لظهور السببية ، والعطف لا يدل عليها ، (مِنَ الظَّالِمِينَ) : قيل لأنفسكما بإخراجكما من دار النعيم إلى دار الشقاء ، أو بالأكل من الشجرة التي نهيتما عنها ، أو بالفضيحة بين الملأ الأعلى ، أو بمتابعة إبليس ، أو بفعل الكبيرة ، قاله الحشوية ، أو بفعل الصغيرة ، قاله المعتزلة ، أو بإلزامها ما يشق عليها من التوبة والتلافي ، قاله أبو علي ، أو بحط بعض الثواب الحاصل ، قاله أبو هاشم ، أو بترك الأولى ، قال قوم : هما أول من ظلم نفسه من الآدميين ، وقال قوم : كان قبلهم ظالمون شبهوا بهم ونسبوا إليهم. وفي قوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) دلالة على أن النهي كان على جهة الوجوب لا على جهة الندب ، لأن تاركه لا يسمى ظالما. قال بعض أهل الإشارات : الذي يليق بالخلق عدم السكون إلى الخلق ، وما زال آدم وحده بكل خير وبكل عافية ، فلما جاءه الشكل والزوج ، ظهر إتيان الفتنة وافتتاح باب المحنة ، وحين ساكن حواء أطاعها فيما أشارت عليه من الأكل ، فوقع فيما وقع. ولقد قيل :

داء قديم في بني آدم

صبوة إنسان بإنسان

وقال القشيري : كل ما منع منه توفرت دواعي ابن آدم للاقتراب منه. هذا آدم عليه‌السلام أبيح له الجنة بجملتها ، ونهي عن شجرة واحدة ، فليس في المنقول أنه مد يده إلى شيء من جملة ما أبيح له ، وكأنه عيل صبره حتى ذاق ما نهي عنه ، هكذا صفة الخلق. وقال : نبه على عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكابه ما يوجب خروجه منها قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فإذا أخبر تعالى بجعله خليفة في الأرض ، فكيف يمكن بقاؤه في الجنة؟ كان آدم لا أحد يوفيه في الرتبة يتوالى عليه النداء : يا آدم! ويا آدم! فأمسى وقد نزع عنه لباسه وسلب استئناسه ، والقدرة لا تكابر ، وحكم الله لا يعارض ، وقال الشاعر :

لله درهم من فتية بكروا

مثل الملوك وراحوا كالمساكين

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ

٢٥٧

التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)

أزل : من الزلل ، وهو عثور القدم. يقال : زلت قدمه ، وزلت به النعل. والزلل في الرأي والنظر مجاز ، وأزال : من الزوال ، وأصله التنحية. والهمزة في كلا الفعلين للتعدية. الهبوط : هو النزول ، مصدر هبط ، ومضارعه يهبط ويهبط بكسر الباء وضمها ، والهبوط بالفتح : موضع النزول. وقال المفضل : الهبوط : الخروج عن البلدة ، وهو أيضا الدخول فيها من الأضداد ، ويقال في انحطاط المنزلة مجازا ، ولهذا قال الفراء : الهبوط : الذل ، قال لبيد :

إن يقنطوا يهبطوا يوما وإن أمروا

بعض : أصله مصدر بعض يبعض بعضا ، أي قطع ، ويطلق على الجزء ، ويقابله كل ، وهما معرفتان لصدور الحال منهما في فصيح الكلام ، قالوا : مررت ببعض قائما ، وبكل جالسا ، وينوي فيهما الإضافة ، فلذلك لا تدخل عليهما الألف واللام ، ولذلك خطئوا أبا القاسم الزجاجي في قوله : ويبدل البعض من الكل ، ويعود الضمير على بعض ، إذا أريد به جمع مفردا ومجموعا. وكذلك الخبر والحال والوصف يجوز إفراده إذ ذاك وجمعه. العدو : من العداوة ، وهي مجاوزة الحدّ ، يقال : عدا فلان طوره إذا جاوزه ، وقيل : العداوة ، التباعد بالقلوب من عدوى الجبل ، وهما طرفاه ، سميا بذلك لبعد ما بينهما ، وقيل : من عدا : أي ظلم ، وكلها متقاربة في المعنى. والعدو يكون للواحد والاثنين والجمع ، والمذكر والمؤنث ، وقد جمع فقيل : أعداء ، وقد أنث فقالوا : غدوة ، ومنه : أي عدوات أنفسهن. وقال الفراء : قالت العرب للمرأة : عدوة الله ، وطرح بعضهم الهاء. المستقر : مستفعل من القرار ، وهو اللبث والإقامة ، ويكون مصدرا وزمانا ومكانا لأنه من فعل زائد على ثلاثة أحرف ، فيكون لما ذكر بصورة المفعول ، ولذلك سميت الأرض : القرارة ، قال الشاعر :

جادت عليه كل عين ثرّة

فتركن كل قرارة كالدرهم

واستفعل فيه : بمعنى فعل استقر وقرّ بمعنى. المتاع : البلغة ، وهو مأخوذ من متع

٢٥٨

النهار إذا ارتفع ، فينطلق على ما يتحصل للإنسان من عرض الدنيا ، ويطلق على الزاد وعلى الانتفاع بالنساء ، ومنه ، (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) (١) ، ونكاح المتعة ، وعلى الكسوة ، (وَمَتِّعُوهُنَ) (٢) ، وعلى التعمير ، (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) (٣) ، قالوا : ومنه أمتع الله بك ، أي أطال الله الإيناس بك ، وكله راجع لمعنى البلغة ، الحين : الوقت والزمان ، ولا يتخصص بمدة ، بل وضع المطلق منه. تلقى : تفعل من اللقاء ، نحو تعدى من العدو ، قالوا : أو بمعنى استقبل ، ومنه : تلقى فلان فلانا استقبله. ويتلقى الوحي : أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه ، وخرجنا نتلقى الحجيج : نستقبلهم ، وقال الشماخ :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

وقال القفال : التلقي التعرض للقاء ، ثم يوضع موضع القبول والأخذ ، ومنه وإنك لتلقّى القرآن ، تلقيت هذه الكلمة من فلان : أخذتها منه. الكلمة : اللفظة الموضوعة المعنى ، والكلمة : الكلام ، والكلمة : القصيدة سميت بذلك لاشتمالها على الكلمة والكلام ، ويجمع بحذف التاء فيكون اسم جنس ، نحو : نبقة ونبق. التوبة : الرجوع ، تاب يتوب توبا وتوبة ومتابا ، فإذا عدى بعلى ضمن معنى العطف. تبع : بمعنى لحق ، وبمعنى تلا ، وبمعنى اقتدى. والخوف : الفزع ، خاف ، يخاف خوفا وتخوف تخوفا ، فزع ، ويتعدى بالهمز وبالتضعيف ، ويكون للأمر المستقبل. وأصل الحزن : غلظ الهم ، مأخوذ من الحزن : وهو ما غلظ من الأرض ، يقال : حزن يحزن حزنا وحزنا ، ويعدى بالهمزة وبالفتحة ، نحو : شترت عين الرجل ، وشترها الله ، وفي التعدية بالفتحة خلاف ، ويكون للأمر الماضي. الآية : العلامة ، ويجمع آيات وآيات ، قال النابغة :

توهمت آيات لها فعرفتها

لستة أعوام وذا العام سابع

ووزنها عند الخليل وسيبويه : فعلة ، فأعلت العين وسلمت اللام شذوذا والقياس العكس. وعند الكسائي : فاعلة ، حذفت العين لئلا يلزم فيه من الإدغام ما لزم في دابة ، فتثقل ، وعند الفراء : فعلة ، فأبدلت العين ألفا استثقالا للتضعيف ، كما أبدلت في قيراط وديوان ، وعند بعض الكوفيين : فعلة : استثقل التضعيف فقلبت الفاء الأولى ألفا لانكسارها وتحرك ما قبلها ، وهذه مسألة ينهى الكلام عليها في علم التصريف. الصحبة : الاقتران ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٦.

(٣) سورة هود : ١١ / ٣.

٢٥٩

صحب يصحب ، والأصحاب : جمع صاحب ، وجمع فاعل : على أفعال شاذ ، والصحبة والصحابة : أسماء جموع ، وكذا صحب على الأصح خلافا للأخفش ، وهي لمطلق الاقتران في زمان ما.

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) : الهمزة : كما تقدم في أزل للتعدية ، والمعنى : جعلهما زلا بإغوائه وحملهما على أن زلّا وحصلا في الزلة ، هذا أصل همزة التعدية. وقد تأتي بمعنى جعل أسباب الفعل ، فلا يقع إذ ذاك الفعل. تقول : أضحكت زيدا فما ضحك وأبكيته فما بكى ، أي جعلت له أسباب الضحك وأسباب البقاء فما ترتب على ذلك ضحكه ولا بكاؤه ، والأصل هو الأول ، وقال الشاعر :

كميت يزل اللبد عن حال متنه

كما زلت الصفواء بالمتنزل

معناه : فيما يشرح الشراح ، يزل اللبد : يزلقه عن وسط ظهره ، وكذلك قوله : يزل الغلام الخف عن صهواته : أي يزلقه. وقيل أزلهما : أبعدهما. تقول : زل عن مرتبته ، وزل عني ذاك ، وزل من الشهر كذا : أي ذهب وسقط ، وهو قريب من المعنى الأول ، لأن الزلة هي سقوط في المعنى ، إذ فيها خروج فاعلها عن طريق الاستقامة ، وبعده عنها. فهذا جاء على الأصل من تعدية الهمزة. وقرأ الحسن وأبو رجاء وحمزة : فأزالهما ، ومعنى الإزالة : التنحية. وروي عن حمزة وأبي عبيدة إمالة فأزالهما. والشيطان : هو إبليس بلا خلاف هنا. وحكوا أن عبد الله قرأ ، فوسوس لهما الشيطان عنها ، وهذه القراءة مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، فينبغي أن يجعل تفسيرا ، وكذا ما ورد عنه وعن غيره مما خالف سواد المصحف. وأكثر قراءات عبد الله إنما تنسب للشيعة. وقد قال بعض علمائنا : إنه صح عندنا بالتواتر قراءة عبد الله على غير ما ينقل عنه مما وافق السواد ، فتلك إنما هي آحاد ، وذلك على تقدير صحتها ، فلا تعارض ما ثبت بالتواتر.

وفي كيفية توصل إبليس إلى إغوائهما حتى أكلا من الشجرة أقاويل : قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور : شافههما بدليل ، وقاسمهما ، قيل : فدخل إبليس الجنة على طريق الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء ، وقيل : دخل في جوف الحية. وذكروا كيف كانت خلقة الحية وما صارت إليه ، وكيف كانت مكالمة إبليس لآدم. وقد قصها الله تعالى أحسن القصص وأصدقه في سورة الأعراف وغيرها. وقيل : لم يدخل إبليس الجنة ، بل كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل : قام عند الباب فنادى. وقيل : لم يدخل الجنة بل كان ذلك بسلطانه الذي

٢٦٠