البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

الإعراب ، لأنها جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون ، وقيل : الجملة لها موضع من الإعراب وهو الجر لأنها في موضع الصفة لذوي المحذوف ، كأنه قيل : جاعلين ، وأجاز بعضهم أن تكون في موضع نصب على الحال من الضمير الذي هو الهاء في فيه. والراجع على ذي الحال محذوف نابت الألف واللام عنه التقدير من صواعقه.

وأراد بالأصابع بعضها ، لأن الأصبع كلها لا تجعل في الأذن ، إنما تجعل فيها الأنملة ، لكن هذا من الاتساع ، وهو إطلاق كل على بعض ، ولأن هؤلاء لفرط ما يهولهم من إزعاج الصواعق كأنهم لا يكتفون بالأنملة ، بل لو أمكنهم السد بالأصبع كلها لفعلوا ، وعدل عن الاسم الخاص لما يوضع في الأذن إلى الاسم العام ، وهو الأصبع ، لما في ترك لفظ السبابة من حسن أدب القرآن ، وكون الكنايات فيه تكون بأحسن لفظ ، لذلك ما عدل عن لفظ السبابة إلى المسبحة والمهللة وغيرها من الألفاظ المستحسنة ، ولم تأت بلفظ المسبحة ونحوها لأنها ألفاظ مستحدثة ، لم يتعارفها الناس في ذلك العهد ، وإنما أحدثت بعدا.

وقرأ الحسن : من الصواقع ، وقد تقدم أنها لغة تميم ، وأخبرنا أنها ليست من المقلوب ، والجعل هنا بمعنى الإلقاء والوضع كأنه قال : يضعون أصابعهم ، ومن تتعلق بقوله يجعلون ، وهي سببية ، أي من أجل الصواعق وحذر الموت مفعول من أجله ، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه ، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلا وزمانا ، هكذا أعربوه ، وفيه نظر لأن قوله : من الصواعق هو في المعنى مفعول من أجله ، ولو كان معطوفا لجاز ، كقول الله تعالى : (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (١) وتثبيتا من أنفسهم ، وقول الراجز :

يركب كل عاقر جمهور

مخافة وزعل المحبور

والهول من تهول الهبور

وقالوا أيضا : يجوز أن يكون مصدرا ، أي يحذرون حذر الموت ، وهو مضاف للمفعول. وقرأ قتادة ، والضحاك بن مزاحم ، وابن أبي ليلى : حذار الموت ، وهو مصدر حاذر ، قالوا وانتصابه على أنه مفعول له.

الإحاطة هنا : كناية عن كونه تعالى لا يفوتونه ، كما لا يفوت المحاط المحيط به ، فقيل : بالعلم ، وقيل : بالقدرة ، وقيل : بالإهلاك. وهذه الجملة اعتراضية لأنها دخلت بين

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٠٧ و ٢٦٥.

١٤١

هاتين الجملتين اللتين هما : يجعلون أصابعهم ، و (يَكادُ الْبَرْقُ) (١) ، وهما من قصة واحدة. وقد تقدم لنا أن هذا التمثيل من التمثيلات المركبة ، وهو الذي تشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور ، وإن لم يكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى ، فيكون المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدين والدنيا بحيرة من انطفأت ناره بعد إيقادها ، وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق. وهذا الذي سبق أنه المختار. وقالوا أيضا : يكون من التشبيه المفرق ، وهو أن يكون المثل مركبا من أمور ، والممثل يكون مركبا أيضا ، وكل واحد من المثل مشبه لكل واحد من الممثل.

وقد تقدم قولان من جعل هذا المثل من التمثيل المفرق. والثالث : أن الصيب مثل للإسلام والظلمات ، مثل لما في قلوبهم من النفاق والرعد والبرق ، مثلان لما يخوفون به. والرابع : البرق مثل للإسلام والظلمات ، مثل للفتنة والبلاء. والخامس : الصيب : الغيث الذي فيه الحياة مثل للإسلام والظلمات ، مثل لإسلام المنافقين وما فيه من إبطان الكفر ، والرعد مثل لما في الإسلام من حقن الدماء والاختلاط بالمسلمين في المناكحة والموازنة ، والبرق وما فيه من الصواعق مثل لما في الإسلام من الزجر بالعقاب في العاجل والآجل ، ويروى معنى هذا عن الحسن. والسادس : أن الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق كانت حقيقة أصابت بعض اليهود ، فضرب الله مثلا بقصتهم لبقيتهم ، وروي في ذلك حديث عن ابن مسعود ، وابن عباس. السابع : أنه مثل ضربه الله للخير والشر الذي أصاب المنافقين ، فكأنهم كانوا إذا كثرت أموالهم وولدهم الغلمان ، أو أصابوا غنيمة أو فتحا قالوا : دين محمد صدق ، فاستقاموا عليه ، وإذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا : هذا من أجل دين محمد ، فارتدوا كفارا. الثامن : أنه مثل الدنيا وما فيها من الشدة والرخاء والنعمة والبلاء بالصيب الذي يجمع نفعا بإحيائه الأرض وإنباته النبات وإحياء كل دابة والانتفاع به للتطهير وغيره من المنافع ، وضرا بما يحصل به من الإغراق والإشراق ، وما تقدمه من الظلمات والصواعق بالإرعاد والإبراق ، وأن المنافق يدفع آجلا بطلب عاجل النفع ، فيبيع آخرته وما أعد الله له فيها من النعيم بالدنيا التي صفوها كدر ومآله بعد إلى سقر. التاسع : أنه مثل للقيامة لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم وما فيه من البرق ، بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ، ومثل ما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. العاشر : ضرب الصيب مثل لما أظهر المنافقون

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٠.

١٤٢

من الإيمان والظلمات بضلالهم وكفرهم الذي أبطنوه ، وما فيه من البرق بما علاهم من خير الإسلام وعلتهم من بركته ، واهتدائهم به إلى منافعهم الدنيوية ، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وما فيه من الصواعق ، بما اقتضاه نفاقهم وما هم صائرون إليه من الهلاك الدنيوي والأخروي.

وقد ذكروا أيضا أقوالا كلها ترجع إلى التمثيل التركيبي : الأول : شبه حال المنافقين بالذين اجتمعت لهم ظلمة السحاب مع هذه الأمور ، فكان ذلك أشد لحيرتهم ، إذ لا يرون طريقا ، ولا من أضاء له البرق ثم ذهب كانت الظلمة عنده أشد منها لو لم يكن فيها برق. الثاني : أن المطر ، وإن كان نافعا إلا أنه لما ظهر في هذه الصورة صار النفع به زائلا ، كذلك إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن ، وأما مع عدم الموافقة فهو ضر. الثالث : أنه مثل حال المنافقين في ظنهم أن ما أظهروه نافعهم وليس بنافعهم بمن نزلت به هذه الأمور مع الصواعق ، فإنه يظن أن المخلص له منها جعل أصابعه في أذانه وهو لا ينجيه ذلك مما يريد الله به من موت أو غيره. الرابع : أنه مثل لتأخر المنافق عن الجهاد فرارا من الموت بمن أراد دفع هذه الأمور بجعل أصابعهم في آذانهم. الخامس : أنه مثل لعدم إخلاص المنافق من عذاب الله بالجاعلين أصابعهم في آذانهم ، فإنهم وإن تخلصوا عن الموت في تلك الساعة ، فإن الموت من ورائهم.

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

يكاد : مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة ، ووزنها فعل يفعل ، نحو خاف يخاف ، منقلبة عن واو ، وفيها لغتان : فعل كما ذكرناه ، وفعل ، ولذلك إذا اتصل بها ضمير الرفع لمتكلم أو مخاطب أو نون إناث ضموا الكاف فقالوا : كدت ، وكدت ، وكدن ، وسمع نقل كسر الواو إلى الكاف ، مع ما إسناده لغير ما ذكر قول الشاعر :

وكيدت ضباع القف يأكلن جثتي

وكيد خراش عند ذلك ييتم

يريد ، وكادت ، وكاد ، وليس ، من أفعال المقاربة ما يستعمل منها مضارع إلا : كاد ، وأوشك. وهذه الأفعال هي من باب كان ، ترفع الاسم وتنصب الخبر ، إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعا ، ولها باب معقود في النحو ، وهي نحو من ثلاثين فعلا ذكرها أبو

١٤٣

إسحاق البهاري في كتابه (شرح جمل الزجاجي). وقال بعض المفسرين : يكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي ، وقد أنشدوا في ذلك شعرا يلغز فيه بها ، وهذا الذي ذكر هذا المفسر هو مذهب أبي الفتح وغيره ، والصحيح عند أصحابنا أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإيجابها إيجاب ، والاحتجاج للمذهبين مذكور في كتب النحو. الخطف : أخذ الشيء بسرعة. كل : للعموم ، وهو اسم جمع لازم للإضافة ، إلا أن ما أضيف إليه يجوز حذفه ويعوض منه التنوين ، وقيل : هو تنوين الصرف ، وإذا كان المحذوف معرفة بقيت كل على تعريفها بالإضافة ، فيجيء منها الحال ، ولا تعرف باللام عند الأكثرين ، وأجاز ذلك الأخفش ، والفارسي ، وربما انتصب حالا ، والأصل فيها أن تتبع توكيدا كأجمع ، وتستعمل مبتدأ ، وكونها كذلك أحسن من كونها مفعولا ، وليس ذلك بمقصور على السماع ولا مختصا بالشعر خلافا لزاعمه. وإذا أضيفت كل إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العوامل اللفظية ، وإذا ابتدئ بها مضافة لفظا إلى نكرة طابقت الأخبار وغيرها ما تضاف إليه وإلى معرفة ، فالافصح إفراد العائد أو معنى لا لفظا ، فالأصل ، وقد يحسن الإفراد وأحكام كل كثيرة. وقد ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير الذي سميناه بالتذكرة ، وسردنا منها جملة لينتفع بها ، فإنها تكررت في القرآن كثيرا.

المشي : الحركة المعروفة. لو : عبارة سيبويه ، إنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وهو أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع لاطراد تفسير سيبويه ، رحمه‌الله ، في كل مكان جاءت فيه لو ، وانخرام تفسيرهم في نحو : لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا ، إذ على تفسير الإمام يكون المعنى ثبوت الحيوانية على تقدير ثبوت الإنسانية ، إذ الأخص مستلزم الأعم ، وعلى تفسيرهم ينخرم ذلك ، إذ يكون المعنى ممتنع الحيوانية لأجل امتناع الإنسانية ، وليس بصحيح ، إذ لا يلزم من انتفاء الإنسانية انتفاء الحيوانية ، إذ توجد الحيوانية ولا إنسانية. وتكون لو أيضا شرطا في المستقبل بمعنى أن ، ولا يجوز الجزم بها خلافا لقوم ، قال الشاعر :

لا يلفك الراجوك إلا مظهرا

خلق الكرام ولو تكون عديما

وتشرب لو معنى التمني ، وسيأتي الكلام على ذلك عند قوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) (١) ، إن شاء الله تعالى ، ولا تكون موصولة بمعنى أن خلافا لزاعم ذلك. شاء :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦٧.

١٤٤

بمعنى أراد ، وحذف مفعولها جائز لفهم المعنى ، وأكثر ما يحذف مع لو ، لدلالة الجواب عليه. قال الزمخشري : ولقد تكاثر هذا الحذف في شاء وأراد ، يعني حذف مفعوليهما ، قال : لا يكادون يبرزون هذا المفعول إلا في الشيء المستغرب ، نحو قوله :

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

وقوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ) (١) ، و (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى) (٢) ، انتهى كلامه. قال صاحب التبيان ، وذلك بعد أن أنشد قوله :

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

متى كان مفعول المشيئة عظيما أو غريبا ، كان الأحسن أن يذكر نحو : لو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته ، وسر ذكره أن السامع منكر لذلك ، أو كالمنكر ، فأنت تقصد إلى إثباته عنده ، فإن لم يكن منكرا فالحذف نحو : لو شئت قمت. وفي التنزيل : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) (٣) ، انتهى. وهو موافق لكلام الزمخشري. وليس ذلك عندي على ما ذهبنا إليه من أنه إذا كان في مفعول المشيئة غرابة حسن ذكره ، وإنما حسن ذكره في الآية والبيت من حيث عود الضمير ، إذ لو لم يذكر لم يكن للضمير ما يعود عليه ، فهما تركيبان فصيحان ، وإن كان أحدهما أكثر. فأحدهما الحذف ودلالة الجواب على المحذوف ، إذ يكون المحذوف مصدرا دل عليه الجواب ، وإذا كانوا قد حذفوا أحد جزأي الإسناد ، وهو الخبر في نحو : لو لا زيد لأكرمتك ، للطول بالجواب ، وإن كان المحذوف من غير جنس المثبت فلأن يحذف المفعول الذي هو فضلة لدلالة الجواب عليه ، إذ هو مقدر من جنس المثبت أولى. والثاني : أن يذكر مفعول المشيئة فيحتاج أن يكون في الجواب ضمير يعود على ما قبله ، نحو قوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ) ، وقول الشاعر :

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

وأما إذا لم يدل على حذفه دليل فلا يحذف ، نحو قوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) و (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ). الشيء : ما صح أن يعلم من وجه ويخبر عنه ، قال سيبويه ، رحمه‌الله ، وإنما يخرج التأنيث من التذكير ، ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أو أنثى؟ والشيء مذكر ، وهو عندنا مرادف للموجود ،

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢ / ١٧.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٤.

(٣) سورة الأنفال : ٨ / ٣١.

١٤٥

وفي إطلاقه على المعدوم بطريق الحقيقة خلاف ، ومن أطلق ذلك عليه فهو أنكر النكرات ، إذ يطلق على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمستحيل. القدرة : القوة على الشيء والاستطاعة له ، والفعل قدر ومصادره كثيرة : قدر ، قدرة ، وبتثليث القاف ، ومقدرة ، وبتثليث الدال : وقدر ، أو قدر ، أو قدر ، أو قدار ، أو قدار ، أو قدرانا ، ومقدرا ، ومقدرا.

الجملة من قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) لا موضع لها من الإعراب إذ هي مستأنفة جواب قائل قال : فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) ، ويحتمل أن تكون في موضع جر صفة لذوي المحذوفة التقدير كائد البرق يخطف أبصارهم ، والألف واللام في البرق للعهد ، إذ جرى ذكره نكرة في قوله : (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) ، فصار نظير : لقيت رجلا فضربت الرجل ، وقوله تعالى : (أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (١). وقرأ مجاهد ، وعلي بن الحسين ، ويحيى بن زيد : يخطف بسكون الخاء وكسر الطاء ، قال ابن مجاهد : وأظنه غلطا واستدل على ذلك بأن أحدا لم يقرأ بالفتح إلا من خطف الخطفة. وقال الزمخشري : الفتح ، يعني في المضارع أفصح ، انتهى. والكسر في طاء الماضي لغة قريش ، وهي أفصح ، وبعض العرب يقول : خطف بفتح الطاء ، يخطف بالكسر. قال ابن عطية ، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء ، وذلك وهم. وقرأ علي ، وابن مسعود : يختطف. وقرأ أبي : يتخطف. وقرأ الحسن أيضا : يخطف ، بفتح الياء والخاء والطاء المشددة. وقرأ الحسن أيضا ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق : يخطف ، بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة ، وأصله يختطف. وقرأ الحسن أيضا ، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدري ، وقتادة : يخطف ، بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وقرأ أيضا الحسن ، والأعمش : يخطف ، بكسر الثلاثة وتشديد الطاء. وقرأ زيد بن علي : يخطف ، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة من خطف ، وهو تكثير مبالغة لا تعدية. وقرأ بعض أهل المدينة : يخطف ، بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة ، والتحقيق أنه اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان ، لأنه يؤدّي إلى التقاء الساكنين على غير حد التقائهما.

فهذا الحرف قرىء عشر قراءات : السبعة يخطف ، والشواذ : يخطف يختطف يتخطف يخطف وأصله يتخطف ، فحذف التاء مع الياء شذوذا ، كما حذفها مع التاء قياسا. يخطف

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ١٥ ـ ١٦.

١٤٦

يخطف يخطف يخطف ، والأربع الأخر أصلها يختطف فعرض إدغام التاء في الطاء فسكنت التاء للإدغام فلزم تحريك ما قبلها ، فإما بحركة التاء ، وهي الفتح مبينة أو مختلسة ، أو بحركة التقاء الساكنين ، وهي الكسر. وكسر الياء اتباع لكسرة الخاء ، وهذه مسألة إدغام اختصم به ، وهي مسألة تصريفية يختلف فيها اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر ، وتبيين ذلك في علم التصريف. ومن فسر البرق بالزجر والوعيد قال : يكاد ذلك يصيبهم. ومن مثله بحجج القرآن وبراهينه الساطعة قال : المعنى يكاد ذلك يبهرهم.

وكل : منصوب على الظرف وسرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية لأنك إذا قلت : ما صحبتني أكرمتك ، فالمعنى مدّة صحبتك لي أكرمك ، وغالب ما توصل به ما هذه بالفعل الماضي ، وما الظرفية يراد بها العموم ، فإذا قلت : أصحبك ما ذر لله شارق ، فإنما تريد العموم. فكل هذه أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية ، ولا يراد في لسان العرب مطلق الفعل الواقع صلة لما ، فيكتفى فيه بمرة واحدة ، ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض العرب. والتكرار الذي يذكره أهل أصول الفقه والفقهاء في كلما ، إنما ذلك فيها من العموم ، لا إن لفظ كلما وضع للتكرار ، كما يدل عليه كلامهم ، وإنما جاءت كل توكيدا للعموم المستفاد من ما الظرفية ، فإذا قلت : كلما جئتني أكرمتك ، فالمعنى أكرمك في كل فرد فرد من جيئاتك إلي. وما أضاء : في موضع خفض بالإضافة ، إذ التقدير كل إضاءة ، وهو على حذف مضاف أيضا ، معناه : كلّ وقت إضاءة ، فقام المصدر مقام الظرف ، كما قالوا : جئتك خفوق النجم. والعامل في كلما قوله : مشوا فيه ، وأضاء عند المبرد هنا متعد التقدير ، كلما أضاء لهم البرق الطريق. فيحتمل على هذا أن يكون الضمير في فيه عائدا على المفعول المحذوف ، ويحتمل أن يعود على البرق ، أي مشوا في نوره ومطرح لمعانه ، ويتعين عوده على البرق فيمن جعل أضاء لازما ، أي : كلما لمع البرق مشوا في نوره ، ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة : كلما ضاء ثلاثيا ، وقد تقدّم أنها لغة. وفي مصحف أبيّ : مرّوا فيه ، وفي مصحف ابن مسعود : مضوا فيه. وهذه الجملة استئناف ثالث كأنه قيل : فأضاء لهم في حالتي وميض البرق وخفائه ، قيل : كلما أضاء لهم إلى آخره.

وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك : وإذا أظلم مبنيا للمفعول ، وأصل أظلم أن لا يتعدّى ، يقال : أظلم الليل. وظاهر كلام الزمخشري أن أظلم يكون متعديا بنفسه لمفعول ، فلذلك جاز أن يبنى لما لم يسم فاعله. قال الزمخشري : أظلم على ما لم يسم فاعله ، وجاء في شعر حبيب بن أوس الطائي :

١٤٧

هما أظلما حاليّ ثمت أجليا

ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب

وهو أن كان محدثا لا يستشهد بشعره في اللغة ، فهو من علماء العربية ، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة ، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه ، انتهى كلامه. فظاهره كما قلنا أنه متعدّ وبناؤه لما لم يسم فاعله ، ولذلك استأنس بقول أبي تمام : هما أظلما حالي ، وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري ، وهو أن يكون أظلم غير متعدّ بنفسه لمفعول ، ولكنه يتعدّى بحرف جر. ألا ترى كيف عدى أظلم إلى المجرور بعلى؟ فعلى هذا يكون الذي قام مقام الفاعل أو حذف هو الجار والمجرور ، فيكون في موضع رفع ، وكان الأصل : وإذا أظلم الليل عليهم ، ثم حذف ، فقام الجار والمجرور مقامه ، نحو : غضب زيد علي عمرو ، ثم تحذف زيدا وتبني الفعل للمفعول فتقول : غضب على عمرو ، فليس يكون التقدير إذ ذاك : وإذا أظلم الله الليل ، فحذفت الجلالة وأقيم ضمير الليل مقام الفاعل. وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به ، وقد نقد على أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب :

من كان مرعى عزمه وهمومه

روض الأماني لم يزل مهزولا

وكيف يستشهد بكلام من هو مولد ، وقد صنف الناس فيما وقع له من اللحن في شعره؟ ومعنى قاموا : ثبتوا ووقفوا ، وصدرت الجملة الأولى بكلما ، والثانية بإذا. قال الزمخشري : لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وتأتيه ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ، وليس كذلك التوقف والتحبس ، انتهى كلامه. ولا فرق في هذه الآية عندي بين كلما وإذا من جهة المعنى ، لأنه متى فهم التكرار من : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) لزم منه أيضا التكرار في أنه إذا أظلم عليهم قاموا ، لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام ، فمتى وجد هذا فقد هذا ، فيلزم من تكرار وجود هذا تكرار عدم هذا ، على أن من النحويين من ذهب إلى أن إذا تدل على التكرار ككلما ، وأنشد :

إذا وجدت أوار الحب في كبدي

أقبلت نحو سقاء القوم أبترد

قال : فهذا معناه معنى كلما.

وفي تأويل هذه الآية أقوال. قال ابن عباس والسدي : كلما أتاهم القرآن بما يحبونه تابعوه. وقال قتادة : إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم ، فيسرعون إلى متابعته. وقال مقاتل : البرق الإسلام ، ومشيهم فيه إهتداؤهم ، فإذا تركوا ذلك وقعوا في

١٤٨

ضلالهم. وقيل : إضاءته لهم : تركهم بلا ابتلاء ، ومشيهم فيه : إقامتهم على المسالمة بإظهار ما يظهرونه ، وقيل : كلما سمع المنافقون القرآن وحججه أنسوا ومشوا معه ، فإذا نزل ما يعمون فيه أو يكلفونه قاموا ، أي ثبتوا على نفاقهم. وقيل : كلما توالت عليهم النعم قالوا : دين حق ، وإذا نزلت بهم مصيبة سخطوا وثبتوا على نفاقهم. وقيل : كلما خفي نفاقهم مشوا ، فإذا افتضحوا قاموا ، وقيل : كلما أضاء لهم الحق اتبعوه ، فإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه. وقيل : ينتفعون بإظهار الإيمان ، فإذا وردت محنة أو شدة على المسلمين تحيروا ، كما قام أولئك في الظلمات متحيرين. قال الزمخشري : وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون ، إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم ، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فحطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة ، انتهى كلامه.

ومفعول شاء هنا محذوف للدلالة عليه التقدير : ولو شاء الله إذهاب سمعهم وأبصارهم. والكلام في الباء في بسمعهم كالكلام فيها في : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ، وتوحيد السمع تقدم الكلام عليه عند الكلام على قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ). وقرأ ابن أبي عبلة : لأذهب بأسماعهم وأبصارهم ، فالباء زائدة التقدير لأذهب أسماعهم ، كما قال بعضهم : مسحت برأسه ، يريد رأسه ، وخشنت بصدره ، يريد صدره ، وليس من مواضع قياس زيادة الباء ، وجمعه الإسماع مطابق لجمع الإبصار. ومعنى الجملة : أن ذهاب الله بسمعهم وأبصارهم كان يقع على تقدير مشيئة الله ذلك. وقيل : المعنى لإهلاكهم ، لأن في هلاكهم ذهاب سمعهم وأبصارهم. وقيل : وعيد بإذهاب الأسماع والأبصار من أجسادهم حتى لا يتوصلوا بهما إلى ما لهم ، كما لم يتوصلوا بهما إلى ما عليهم. وقيل : لأظهر عليهم بنفاقهم فذهب منهم عز الإسلام. وقيل : لأذهب أسماعهم فلا يسمعون الصواعق فيحذرون ، ولأذهب أبصارهم فلا يرون الضوء ليمشوا. وقيل ، عن ابن عباس : لذهب بسمعهم وأبصارهم لما تركوا من الحق بعد معرفته. وقيل : لعجل لهم العقوبة في الدنيا ، فذهب بسمعهم وأبصارهم ، فلم ينتفعوا بها في الدنيا ، لأنهم لم يستعملوها في الحق فينتفعوا بها في أخراهم. وقيل : لزاد في قصيف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرق فأعماهم. وقيل لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد. وقيل : لفضحهم عند المؤمنين وسلطهم عليهم. وقال الزمخشري : لذهب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق.

١٤٩

وظاهر الكلام أن هذا كله مما يتعلق بذوي صيب ، فصرف ظاهره إلى أنه مما يتعلق بالمنافقين غير ظاهر ، وإنما هذا مبالغة في تحير هؤلاء السفر وشدة ما أصابهم من الصيب الذي اشتمل على ظلمات ورعد وبرق ، بحيث تكاد الصواعق تصمهم والبرق يعميهم. ثم ذكر أنه لو سبقت المشيئة بذهاب سمعهم وأبصارهم لذهبت ، وكما اخترنا في قوله (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) إلى آخره أنه مبالغة في حال المستوقد ، كذلك اخترنا هنا أن هذا مبالغة في حالة السفر ، وشدة المبالغة في حال المشبه بهما يقتضي شدة المبالغة في حال المشبه ، فهو وإن لم تكن هذه الجزئيات التي للمشبه به ثابتة للمشبه بنظائرها ثابتة له ، ولا سيما إذا كان التمثيل من قبيل التمثيلات المفردة. وأما على ما اخترناه من أنه من التمثيلات المركبة ، فتكون المبالغة في التشبيه بما آل إليه حال المشبه به ، وقد تقدم الكلام على ذلك قبل ، وخص السمع والأبصار في قوله : (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) لتقدم ذكرهما في قوله : (فِي آذانِهِمْ) ، وفي قوله : (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ). وقال بعضهم : تقدم ذكر الرعد والصواعق ، ومدركهما السمع ، والظلمات والبرق ، ومدركهما : البصر ، ثم قال : لو شاء أذهب ذلك من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم ، أعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالإخبار عنه تعالى بالمقدرة لأن بهما تمام الأفعال ، أعني القدرة والإرادة وأتى بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه تعالى. وعلى كل شيء : متعلق بقوله : قدير ، وفي لفظ قدير ما يشعر بتخصيص العموم ، إذ القدرة لا تتعلق بالمستحيلات.

وقد تقدم لنا بعض كلام على تناسق الآي التي تقدم الكلام عليها ، ونحن نلخص ذلك هنا ، فنقول : افتتح تعالى هذه السورة بوصف كلامه المبين ، ثم بين أنه هدى لمؤمني هذه الأمة ومدحهم ، ثم مدح من ساجلهم في الإيمان وتلاهم من مؤمني أهل الكتاب ، وذكر ما هم عليه من الهدى في الحال ومن الظفر في المآل ، ثم تلاهم بذكر أضدادهم المختوم على قلوبهم وأسماعهم المغطي أبصارهم الميئوس من إيمانهم ، وذكر ما أعد لهم من العذاب العظيم ، ثم أتبع هؤلاء بأحوال المنافقين المخادعين المستهزئين وأخر ذكرهم وإن كانوا أسوأ أحوالا من المشركين ، لأنهم اتصفوا في الظاهر بصفات المؤمنين وفي الباطن بصفات الكافرين ، فقدم الله ذكر المؤمنين ، وثنّى بذكر أهل الشقاء الكافرين ، وثلّث بذكر المنافقين الملحدين ، وأمعن في ذكر مخازيهم فأنزل فيهم ثلاث عشرة آية ، كل ذلك تقبيح لأحوالهم وتنبيه على مخازي أعمالهم ، ثم لم يكتف بذكر ذلك حتى أبرز أحوالهم في صورة الأنفال ، فكان ذلك أدعى للتنفير عما اجترحوه من قبيح الأفعال. فانظر إلى حسن

١٥٠

هذا السياق الذي نوقل في ذروة الإحسان وتمكن في براعة أقسام البديع وبلاغة معاني البيان.

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)

يا : حرف نداء ، وزعم بعضهم أنها اسم فعل معناها : أنادي ، وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلا بها ، وهي أعم حروف النداء ، إذ ينادي بها القريب والبعيد والمستغاث والمندوب. وأمالها بعضهم ، وقد تتجرد للتنبيه فيليها المبتدأ والأمر والتمني والتعليل ، والأصح أن لا ينوي بعدها منادي. أي : استفهام وشرط وصفة ووصلة لنداء ما فيه الألف واللام ، وموصولة ، خلافا لأحمد بن يحيى ، إذ أنكر مجيئها موصولة ، ولا تكون موصوفة خلافا للأخفش. ها : حرف تنبيه ، أكثر استعمالها مع ضمير رفع منفصل مبتدأ مخبر عنه باسم إشارة غالبا ، أو مع اسم إشارة لا لبعد ، ويفصل بها بين أي في النداء وبين المرفوع بعده ، وضمها فيه لغة بني مالك من بني أسد ، يقولون : يا أيه الرجل ، ويا أيتها المرأة. الخلق : الاختراع بلا مثال ، وأصله التقدير ، خلقت الأديم قدرته ، قال زهير :

ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

قال قطرب : الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب ، والخلق والخليقة تنطلق على المخلوق ، ومعنى الخلق والإيجاد ، والإحداث ، والإبداع ، والاختراع ، والإنشاء ، متقارب. قبل : ظرف زمان ، ولا يعمل فيها عامل فيخرجها عن الظرفية إلا من ، وأصلها وصف ناب عن موصوفة لزوما ، فإذا قلت : قمت قبل زيد ، فالتقدير قمت زمانا قبل زمان قيام زيد ، فحذف هذا كله وناب عنه قبل زيد. لعل : حرف ترجّ في المحبوبات ، وتوقع في المحدورات ، ولا تستعمل إلا في الممكن ، لا يقال : لعل الشباب يعود ، ولا تكون بمعنى كي ، خلافا لقطرب وابن كيسان ، ولا استفهاما خلافا للكوفيين ، وفيها لغات لم يأت منها في القرآن إلا الفصحى ، ولم يحفظ بعدها نصب الاسمين ، وحكى الأخفش أن من العرب من يجر بلعل ، وزعم أبو زيد أن ذلك لغة بني عقيل. الفراش : الوطاء الذي يقعد عليه وينام ويتقلب عليه. البناء : مصدر ، وقد براد به المنقول من بيت أو قبة أو خباء أو طراف وأبنية العرب أخبيتهم. الماء : معروف ، وقال بعضهم : هو جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه

١٥١

فعل وألفه منقلبة من واو وهمزته بدل من هاء يدل عليه : مويه ، ومياه ، وأمواه. الثمرة : ما تخرجه الشجرة من مطعوم أو مشموم. الند : المقاوم المضاهي مثلا كان أو ضدا أو خلافا. وقال أبو عبيدة والمفضل : الند : الضد ، قال ابن عطية ، وهذا التخصيص تمثيل لا حصر. وقال غيره : الند : الضد المبغض المناوي من الندود ، وقال المهدوي : الند : الكفؤ والمثل ، هذا مذهب أهل اللغة سوى أبي عبيدة. فإنه قال : الضد. قال الزمخشري : الند : المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف للبارىء ، قال جرير :

أتيما تجعلون إلي ندا

وما تيم لذي حسب نديد

وناددت الرجل : خالفته ونافرته ، من ند ندودا إذا نفر. ومعنى قولهم : ليس لله ند ولا ضد ، نفي ما يسد مسد ونفي ما ينافيه.

يا أيها الناس : خطاب لجميع من يعقل ، قاله ابن عباس ، أو اليهود خاصة ، قاله الحسن ومجاهد ، أو لهم وللمنافقين ، قاله مقاتل ، أو لكفار مشركي العرب وغيرهم ، قاله السّدي ، والظاهر قول ابن عباس لأن دعوى الخصوص تحتاج إلى دليل. ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤول إليه حال كل منهم ، انتقل من الإخبار عنهم إلى خطاب النداء ، وهو التفات شبيه بقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، بعد قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وهو من أنواع البلاغة كما تقدم ، إذ فيه هز للسامع وتحريك له ، إذ هو خروج من صنف إلى صنف ، وليس هذا انتقالا من الخطاب الخاص إلى الخطاب العام ، كما زعم بعض المفسرين ، إذ لم يتقدم خطاب خاص إلا إن كان ذلك تجوزا في الخطاب بأن يعني به الكلام ، فكأنه قال : انتقل من الكلام الخاص إلى الكلام العام ، قال هذا المفسر ، وهذا من أساليب الفصاحة ، فإنهم يخصون ثم يعمون. ولهذا لما نزل : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخص وعم ، فقال : «يا عباس عم محمد لا أغني عنك من الله شيئا ، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا ، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا». وقال الشاعر :

يا بني اندبوا ويا أهل بيتي

وقبيلي عليّ عاما فعاما

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٤.

١٥٢

انتهى كلامه.

وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهم قالوا : كل شيء نزل فيه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مكي ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدني. أما في (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فصحيح ، وأما في (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فيحمل على الغالب ، لأن هذه السورة مدنية ، وقد جاء فيها يا أيها الناس. وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم ، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافا للكسائي والرياشي ، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادى توصل بنداء أي إلى ندائه ، وهي في موضع نصب ، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب ، فلذلك جاز مراعاة اللفظ ، ولا يجوز نصبه على الموضع ، خلافا لأبي عثمان. وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف ، فإذا قال : يا أيها الرجل ، فتقديره : يا من هو الرجل. والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو.

اعبدوا ربكم : ولما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة ، وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين. لا يقال : المؤمنون عابدون ، فكيف يصح الأمر بما هم ملتبسون به؟ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة ، فصح مواجهة الكل بالعبادة ، وانظر لحسن مجيء الرب هنا ، فإنه السيد والمصلح ، وجدير بمن كان مالكا أو مصلحا أحوال العبد أن يخص بالعبادة ولا يشرك مع غيره فيها. والخطاب ، إن كان عاما ، كان قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة مدح ، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح ، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين الله تعالى وبين آلهتهم ، ونبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره ، (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (١) ، أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة ، والتمييز عن غيرهم بالعقل ، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره ، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة ، إذ هو جامع لمحبة الاصطناع والاختراع ، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب. وقالوا : المحبة ثلاث ، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده ، وأدغم أبو عمرو خلقكم ، وتقدّم تفسير الخلق في اللغة ، وإذا كان بمعنى الاختراع والإنشاء فلا يتصف به إلا الله تعالى.

__________________

(١) سورة النمل : ١٦ / ١٧.

١٥٣

وقد أجمع المسلمون على أن لا خالق إلا الله تعالى ، وإذا كان بمعنى التقدير ، فمقتضى اللغة أنه قد يوصف به غير الله تعالى ، كبيت زهير. وقال تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١) ، (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) (٢). وقال أبو عبد الله البصري ، أستاذ القاضي عبد الجبار : إطلاق اسم الخالق على الله تعالى محال ، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والظن والحسبان ، وذلك في حق الله تعالى محال. وكأنّ أبا عبد الله لم يعلم أن الخلق في اللغة يطلق على الإنشاء ، وكلام البصري مصادم لقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) (٣) ، إذ زعم أنه لا يطلق اسم الخالق على الله ، وفي اللغة والقرآن والإجماع ما يرد عليه. وعطف قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) على الضمير المنصوب في خلقكم ، والمعطوف متقدّم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به ، وإن كان متأخرا في الزمان ، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره ، إذ أقرب الأشياء إليه نفسه ، ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة ، فتنبيههم أولا على أحوال أنفسهم آكد وأهم ، وبدأ أولا بصفة الخلق ، إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها ، وهم المخاطبون ، والناس تبع لهم ، إذ نزل القرآن بلسانهم. وقرأ ابن السميفع : وخلق من قبلكم ، جعله من عطف الجمل. وقرأ زيد بن علي : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) بفتح ميم من ، قال الزمخشري : وهي قراءة مشكلة ووجهها على أشكالها أن يقال : أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا ، كما أقحم جرير في قوله :

يا تيم تيم عدي لا أبا لكم

تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه ، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في لا أبا لك ، انتهى كلامه. وهذا التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعض النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له ، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة ، نحو قوله :

من النفر اللائي الذين أذاهم

يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٤.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١١٠.

(٣) سورة الحشر : ٥٩ / ٢٤.

١٥٤

فإذا وجوابها صلة اللائي ، ولا صلة للذين ، لأنه إنما أتى به للتأكيد. قال أصحابنا : وهذا الذي ذهب إليه باطل ، لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله ، وإذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه ، ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة ، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه. وخرج أصحابنا البيت على أن الصلة للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف ، ذلك المبتدأ والموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللائي هم الذين أذاهم ، وجاز حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره ، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من ، ومن خبر مبتدأ محذوف ، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول وهو الذين ، التقدير والذين هم من قبلكم. وعلى قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) ، وفي ذلك إشكال ، لأن الذين أعيان ، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة ، فكذلك الوصل به إلا على تأويل ، وتأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبرا نحو : نحن في يوم طيب ، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل زمانكم. وهذا نظير قوله تعالى : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وإنما ذكر (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، وإن كان خلقهم لا يقتضي العبادة علينا لأنهم كالأصول لهم ، فخلق أصولهم يجري مجرى الإنعام على فروعهم ، فذكرهم عظيم إنعامه تعالى عليهم وعلى أصولهم بالإيجاد.

وليست لعل هنا بمعنى كي لأنه قول مرغوب عنه ولكنها للترجي والأطماع ، وهو بالنسبة إلى المخاطبين ، لأن الترجي لا يقع من الله تعالى إذ (هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (١) ، وهي متعلقة بقوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ، فكأنه قال : إذا عبدتم ربكم رجوتم التقوى ، وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة. قال ابن عطية : ويتجه تعلقها بخلقكم لأن كل مولود يوجد على الفطرة فهو بحيث يرجى أن يكون متقيا. ولم يذكر الزمخشري غير تعلقها بخلقكم ، قال : لعل واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة ، لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات ، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النجدين ، ووضع في أيديهم زمام الاختيار ، وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم ، وهم مختارون بين الطاعة ، والعصيان ، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل ، انتهى كلامه. وهو مبني على مذهبه الاعتزالي من أن العبد مختار ، وأنه لا يريد الله منه إلا فعل الخير ، وهي مسألة

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٧٣.

١٥٥

يبحث فيها في أصول الدين. والذي يظهر ترجيحه أن يكون : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) متعلقا بقوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ). فالذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة ، فناسب أن يتعلق بها ذلك وأتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلقت به العبادة ، فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة. وأما صلته فلم يجأ بها لإسناد مقصود لذاته ، إنما جيء بها لتتميم ما قبلها. وإذا كان كذلك فكونها لم يجأ بها لإسناد يقتضي أن لا يهتم بها فيتعلق بها ترج أو غيره ، بخلاف قوله : اعبدوا ، فإنها الجملة المفتتح بها أولا والمطلوبة من المخاطبين. وإذا تعلق بقوله : اعبدوا ، كان ذلك موافقا ، إذ قوله : اعبدوا خطاب ، ولعلكم تتقون خطاب.

ولما اختار الزمخشري تعلقه بالخلق قال : فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون ، فكذلك خلق الذين من قبلهم ، لذلك قصره عليهم دون من قبلهم ، قلت : لم يقصره عليهم ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعا ، انتهى كلامه. وقد تقدم ترجيح تعلقه بقوله : اعبدوا ، فيسقط هذا السؤال. وقال المهدوي : لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم ، لأن من درأه الله عزوجل لجهنم لم يخلقه ليتقي. والمعنى عند سيبويه : افعلوا ذلك على الرجاء والطمع أن تتقوا ، انتهى كلامه. ولما جعل الزمخشري لعلكم تتقون متعلقا بالخلق قال : فإن قلت : فهلا قيل : تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا المكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم؟ قلت : ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم ، وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده ، فإذا قال : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة وأشد إلزاما لها وأثبت لها في النفوس ، انتهى كلامه. وهو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى ، وقد تقدم ذلك. وأما قوله : ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم لأنه يصير المعنى : اعبدوا ربكم لعلكم تتقون ، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، وهذا بعيد في المعنى ، إذ هو مثل : اضرب زيدا لعلك تضربه ، واقصد خالدا لعلك تقصده. ولا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ وفساد المعنى ، والقرآن متنزه عن ذلك. والذي جاء به القرآن هو في غاية الفصاحة ، إذ المعنى أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم ، لأن التقوى مصدر اتقى ، واتقى معناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله ، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة. فعلى هذا ، العبادة ليست نفس التقوى ، لأن الاتقاء هو الاحتزاز عن المضار ، والعبادة فعل المأمور به ، وفعل المأمور به ليس نفس

١٥٦

الاحتراز بل يوجب الاحتراز ، فكأنه قال : اعبدوه فتحترزوا عن عقابه ، فإن أطلق على نفس الفعل اتقاء فهو مجاز ، ومفعول يتقون محذوف. قال ابن عباس : الشرك ، وقال الضحاك : النار ، أو معناه تطيعون ، قاله مجاهد : ومن قال المعنى الذي خلقكم راجين للتقوى. قال بعض المفسرين : فيه بعد من حيث أنه لو خلقهم راجين للتقوى كانوا مطيعين مجبولين عليها ، والواقع خلاف ذلك ، انتهى كلامه. ويعني أنهم لو خلقوا وهم راجون للتقوى لكان ذلك مركوزا في جبلتهم ، فكان لا يقع منهم غير التقوى وهم ليسوا كذلك ، بل المعاصي هي الواقعة كثيرا ، وهذا ليس كما ذكر ، وقد يخلق الإنسان راجيا لشيء فلا يقع ما يرجوه ، لأن الإنسان في الحقيقة ليس له الخيار فيما يفعله أو يتركه ، بل نجد الإنسان يعتقد رجحان الترك في شيء ثم هو يفعله ، ولقد صدق الشاعر في قوله :

علمي بقبح المعاصي حين أركبها

يقضي بأني محمول على القدر

فلا يلزم من رجاء الإنسان لشيء وقوع ما يرتجي ، وإنما امتنع ذلك التقدير ، أعني تقدير الحال ، من حيث أن لعل للا يشاء ، فهي وما دخلت عليه ليست جملة خبرية فيصح وقوعها حالا.

قال الطبري : هذه الآية ، يريد : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا) من أدلّ دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق غير جائز ، وذلك أن الله عزوجل أمر بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون. والموصول الثاني في قوله : (الَّذِي جَعَلَ) يجوز رفعه ونصبه ، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، فهو رفع على القطع ، إذ هو صفة مدح ، قالوا : أو على أنه مبتدأ خبره قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) ، وهو ضعيف لوجهين : أحدهما : أن صلة الذي وما عطف عليها قد مضيا ، فلا يناسب دخول الفاء في الخبر. الثاني : أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن ، لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه ، فالذي مبتدأ ، و (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) جملة خبرية ، والرابط لفظ الله من لله كأنه قيل : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) ، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه. ولا نعرف إجازة ذلك إلا عن أبي الحسن. أجاز أن تقول : زيد قام أبو عمرو ، إذا كان أبو عمرو كنية لزيد ، ونص سيبويه على منع ذلك. وأما نصبه فيجوز أن يكون على القطع ، إذ هو وصف مدح ، كما ذكرنا ، ويجوز أن يكون وصفا لما كان له وصفا الذي خلقكم ، وهو ربكم ، قالوا : ويجوز نصبه على أن يكون نعتا لقوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) ، فيكون نعتا للنعت ونعت النعت مما يحيل تكرار النعوت. والذي نختاره أن النعت لا ينعت ، بل النعوت كلها

١٥٧

راجعة إلى منعوت واحد ، إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت ، فيكون إذ ذاك نعتا للنعت الأول ، نحو قولك : يا أيها الفارس ذو الجمة. وأجاز أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني ، وما قبله ليس بملتبس ، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني ، وأجاز أيضا نصبه بتتقون ، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله. وإنما أتى بقوله الذي دون واو لتكون هذه الصفة وما قبلها راجعين إلى موصوف واحد ، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفا آخر ، لأن العطف أصله المغايرة.

وجعل : بمعنى صير ، لذلك نصبت الأرض. وفراشا ، ولكم متعلق بجعل ، وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشا وبناء على الحال ، على أن يكون جعل بمعنى خلق ، فيتعدى إلى واحد ، وغاير اللفظ كما غاير في قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (١) ، لأنه قصد إلى ذكر جملتين ، فغاير بين اللفظين لأن التكرار ليس في الفصاحة ، كاختلاف اللفظ والمدلول واحد. وأدغم أبو عمرو لام جعل في لام لكم ، والألف واللام في الأرض يجوز أن تكون للجنس الخاص ، فيكون المراد أرضا مخصوصة ، وهي كل ما تمهد واستوى من الأرض وصلح أن يكون فراشا. ويجوز أن تكون لاستغراق الجنس ، ويكون المراد بالفراش مكان الاستقرار واللبث لكل حيوان. فالوهد مستقر بني آدم وغيرهم من الحيوانات ، والجبال والحزون مستقر لبعض الآدميين بيوتا أو حصونا ومنازل ، أو لبعض الحيوانات وحشا وطيرا يفترشون منها أوكارا ، ويكون الامتنان على هذا مشتملا على كل من جعل الأرض له قرارا. وغلب خطاب من يعقل على من لا يعقل ، أو يكون خطاب الامتنان وقع على من يعقل ، لأن ما عداهم من الحيوانات معد لمنافعهم ومصالحهم ، فخلقها من جملة المنة على من يعقل. وقرأ يزيد الشامي : بساطا ، وطلحة : مهادا. والفراش ، والمهاد ، والبساط ، والقرار ، والوطاء نظائر.

وقد استدل بعض المنجمين بقوله : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) على أن الأرض مبسوطة لا كرية ، وبأنها لو كانت كرية ما استقر ماء البحار فيها. أما استدلاله بالآية فلا حجة له في ذلك ، لأن الآية لا تدل على أن الأرض مسطحة ولا كرية ، إنما دلت على أن الناس يفترشونها كما يتقلبون بالمفارش ، سواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة ، وأمكن الافتراش فيها لتباعد أقطارها واتساع جرمها. قال الزمخشري : وإذا كان يعني الافتراش سهلا في الجبل ، وهو وتد من أوتاد الأرض ، فهو أسهل في الأرض ذات الطول

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١.

١٥٨

والعرض. وأما استدلاله باستقرار ماء البحار فيها فليس بصحيح ، قالوا : لأنه يجوز أن تكون كرية ويكون في جزء منها منسطح يصلح للاستقرار ، وماء البحر متماسك بأمر الله تعالى لا بمقتضى الهيئة ، انتهى قولهم. ويجوز أن يكون بعض الشكل الكري مقرا للماء إذا كان ذلك الشكل ثابتا غير دائر ، أما إذا كان دائرا فيستحيل عادة قراره في مكان واحد من ذلك الشكل الكريّ. وهذه مسألة يتكلم عليها في علم الهيئة.

وقوله تعالى : (وَالسَّماءَ بِناءً) : هو تشبيه بما يفهم كقوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) (١) ، شبهت بالقبة المبنية على الأرض ، ويقال لسقف البيت بناء ، والسماء للأرض كالسقف ، روي هذا عن ابن عباس وجماعة. وقيل : سماها بناء ، لأن سماء البيت يجوز أن يكون بناء غير بناء ، كالخيام والمضارب والقباب ، لكن البناء أبلغ في الإحكام وأتقن في الصنعة وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته ، فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع ، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته ، إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها ، والسماء في غاية ما يكون من العظم ، وهي سبع طباق بعضها فوق بعض ، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصى عددها ، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها ولا عمد تقلها ولا أطناب تشدها ، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقات وأحكم المبدعات ، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) (٢). وقيل : سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض.

وأنزل من السماء : يجوز أن يراد به السحاب ، ويجوز أن يراد به السماء المعروفة. فعلى الأول الجامع بينهما هو القدر المشترك من السمو ، ولا يجوز الإضمار لأنه غير الأول ، وعلى الثاني فحسن الإظهار دون الإضمار هنا كون السماء الأولى في ضمن جملة ، والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لو لا عطفها ، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء ، لأنه لو تأخر لكان نعتا فلما تقدم انتصب على الحال ، ومعناها إذ ذاك التبعيض ، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر. ماء لأن المنزل لم يكن عاما فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم. فأخرج به : والهاء في به عائدة إلى الماء ، والباء معناها

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٤٧.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٤١.

١٥٩

السببية. فالماء سبب للخروج ، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد ، وهذه السببية مجاز ، إذ الباري تعالى قادر على أن ينشىء الأجناس ، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب ، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما ، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقيّ. ولله تعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها ، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار ، لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيما للباري. من الثمرات : من للتبعيض ، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه ، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية ، نحو : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) (١) ، و (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٢) ، فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري ، لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام ، فهو وإن كان جمع قلة ، فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم ، فلا فرق بين الثمرات والثمار ، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما ، ولذلك رد المحققون على من نقد على حسان قوله :

لنا الجفنات الغر يا معن في الضحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

بأن هذا جمع قلة ، فكان ينبغي على زعمه أن يقول : الجفان وسيوفنا ، وهو نقد غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله ، وأبعد من جعل من زائدة ، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين : أحدهما : زيادة من في الواجب ، وقيل معرفة ، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش. والثاني : أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمرات التي أخرجها رزقا لنا ، وكم من شجرة أثمرت شيئا لا يمكن أن يكون رزقا لنا ، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار رزقا لنا وبعضها لا يكون رزقا لنا ، وهو الواقع. وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق ، إذ المعنى : وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم ، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات ، إنما ذلك بعض رزقهم ، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج ، ويكون على هذا رزقا منصوبا على الحال إن أريد به المرزوق كالطحن والرعي ، أو مفعولا من أجله إن أريد به المصدر ، وشروط المفعول له فيه موجودة ، ويحتمل أن يكون متعلقا بأخرج ، ويكون رزقا مفعولا بأخرج. وقرأ ابن السميفع : من الثمرة على التوحيد ، يريد به

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٤ / ٢٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٨.

١٦٠