البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ، وأضافهم إلى لفظ إسرائيل ، وهو يعقوب ، ولم يقل : يا بني يعقوب ، لما في لفظ إسرائيل من أن معناه عبد الله أو صفوة الله ، وذلك على أحسن تفاسيره ، فهزهم بالإضافة إليه ، فكأنه قيل : يا بني عبد الله ، أو يا بني صفوة الله ، فكان في ذلك تنبيه على أن يكونوا مثل أبيهم في الخير ، كما تقول : يا ابن الرجل الصالح أطع الله ، فتضيفه إلى ما يحركه لطاعة الله ، لأن الإنسان يحب أن يقتفي أثر آبائه ، وإن لم يكن بذلك محمودا ، فكيف إذا كان محمودا؟ ألا ترى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (١) ، (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (٢) ، وفي قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) دليل على أن من انتمى إلى شخص ، ولو بوسائط كثيرة ، يطلق عليه أنه ابنه ، وعليه (يا بَنِي آدَمَ) (٣) ويسمى ذلك أبا. قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) (٤) ، وفي إضافتهم إلى إسرائيل تشريف لهم بذكر نسبتهم لهذا الأصل الطيب ، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. ونقل عن أبي الفرج بن الجوزي : أنه ليس لأحد من الأنبياء غير نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسمان إلا يعقوب ، فإنه يعقوب ، وهو إسرائيل. ونقل الجوهري في صحاحه : أن المسيح اسم علم لعيسى ، لا اشتقاق له. وذكر البيهقي عن الخليل بن أحمد خمسة من الأنبياء ذو واسمين : محمد وأحمد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعيسى والمسيح ، وإسرائيل ويعقوب ، ويونس وذو النون ، وإلياس وذو الكفل.

والمراد بقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا) من كان بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، وما والاها من بني إسرائيل ، أو من أسلم من اليهود وآمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أسلاف بني إسرائيل وقدماؤهم ، أقوال ثلاثة : والأقرب الأول ، لأن من مات من أسلافهم لا يقال له : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) ، إلا على ضرب بعيد من التأويل ، ولأن من آمن منهم لا يقال له : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) ، إلا بمجاز بعيد. ويحتمل قوله : اذكروا الذكر باللسان والذكر بالقلب : فعلى الأول يكون المعنى : أمرّوا النعم على ألسنتكم ولا تغفلوا عنها ، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب في أن لا تنسى. وعلى الثاني يكون المعنى : تنبهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها. وفي النعمة المأمور بشكرها أو بحفظها أقوال : ما استودعوا من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو ما أنعم به على أسلافهم من إنجائهم من آل فرعون وإهلاك عدوهم وإيتائهم التوراة ونحو

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٢٢ و ٢٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٧٠.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٢٦ و ٢٧ و ٣١ و ٣٥.

(٤) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

٢٨١

ذلك ، قاله الحسن والزجاج ، أو إدراكهم مدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو علم التوراة ، أو جميع النعم على جميع خلقه وعلى سلفهم وخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال. وأظهر هذه الأقوال ما اختص به بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله : (الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ، ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة : استنقذهم من بلاء فرعون وقومه ، وجعلهم أنبياء وملوكا ، وأنزل عليهم الكتب المعظمة ، وظلل عليهم في التيه الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى. قال ابن عباس : أعطاهم عمودا من النور ليضيء لهم بالليل ، وكانت رؤوسهم لا تتشعث ، وثيابهم لا تبلى. وإنما ذكروا بهذه النعم لأن في جملتها ما شهد بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو : التوراة والإنجيل والزبور ، ولئن يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان برسول الله والقرآن ، ولأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الخالفة ، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة. وهذه النعم ، وإن كانت على آبائهم ، فهي أيضا نعم عليهم ، لأن هذه النعم حصل بها النسل ، ولأن الانتساب إلى آباء شرفوا بنعم تعظيم في حق الأولاد. قال بعض العارفين : عبيد النعم كثيرون ، وعبيد المنعم قليلون ، فالله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم ، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر المنعم فقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (١) ، فدل ذلك على فضل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر الأمم ، وفي قوله : (نِعْمَتِيَ) ، نوع التفات ، لأنه خروج من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله : (بِآياتِنا) إلى ضمير المتكلم الذي لا يشعر بذلك. وفي إضافة النعمة إليه إشارة إلى عظم قدرها وسعة برها وحسن موقعها ، ويجوز في الياء من نعمتي الإسكان والفتح ، والقراء السبعة متفقون على الفتح. وأنعمت : صلة التي ، والعائد محذوف ، التقدير : أنعمتها عليكم.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ). العهد : تقدم تفسيره لغة في قوله : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) (٢) ، ويحتمل العهد أن يكون مضافا إلى المعاهد وإلى المعاهد. وفي تفسير هذين العهدين أقوال : أحدها : الميثاق الذي أخذه عليهم من الإيمان به والتصديق برسله ، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة. الثاني : ما أمرهم به وعهدهم ما وعدهم به ، قاله ابن عباس. الثالث : ما ذكر لهم في التوراة من صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. الرابع : أداء الفرائض وعهدهم قبولها والمجازاة عليها. الخامس : ترك الكبائر وعهدهم غفران الصغائر. السادس : إصلاح الدين وعهدهم إصلاح آخرتهم. السابع : مجاهدة النفوس وعهدهم المعونة على ذلك. الثامن : إصلاح

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٥٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٧.

٢٨٢

السرائر وعهدهم إصلاح الظواهر. التاسع : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) (١) ، قاله الحسن. العاشر : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (٢). الحادي عشر : الإخلاص في العبادات وعهدهم إيصالهم إلى منازل الرعايات. الثاني عشر : الإيمان به وطاعته ، وعهدهم ما وعدهم عليه من حسن الثواب على الحسنات. الثالث عشر : حفظ آداب الظواهر وعهدهم في السرائر. الرابع عشر : عهد الله على لسان موسى عليه‌السلام لبني إسرائيل : إني باعث من بني إسماعيل نبيا فمن اتبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به غفرت له وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين ، قاله الكلبي. الخامس عشر : شرط العبودية وعهدهم شرط الربوبية. السادس عشر : أوفوا في دار محنتي على بساط خدمتي بحفظ حرمتي ، أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربي ورؤيتي ، قاله الثوري. السابع عشر : لا تفروا من الزحف أدخلكم الجنة ، قاله إسماعيل بن زياد. الثامن عشر : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا) (٣) الآية ، قاله ابن جريج ، وعهدهم إدخالهم الجنة. التاسع عشر : أوامره ونواهيه ووصاياه ، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي في التوراة ، قاله الجمهور. العشرون : أوفوا بعهدي في التوكل أوف بعهدكم في كفاية المهمات ، قاله أبو عثمان. الحادي والعشرون : أوفوا بعهدي في حفظ حدودي ظاهرا وباطنا أوف بعهدكم بحفظ أسراركم عن مشاهدة غيري. الثاني والعشرون : عهده حفظ المعرفة وعهدنا إيصال المعرفة ، قاله القشيري. الثالث والعشرون : أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم أخذ الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق. الرابع والعشرون : أوفوا بعهدي اكتفوا مني بي أوف بعهدكم أرض عنكم بكم. فهذه أقوال السلف في تفسير هذين العهدين.

والذي يظهر ، والله أعلم ، أن المعنى طلب الإيفاء بما التزموه لله تعالى ، وترتيب إنجاز ما وعدهم به عهدا على سبيل المقابلة ، أو إبرازا لما تفضل به تعالى في صورة المشروط الملتزم به فتتوفر الدواعي على الإيفاء بعهد الله ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) (٤) ، (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٥) ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن له عهدا عند الله أن يدخله الجنة».

وقرأ الزهري : أوف بعهدكم مشدّدا. ويحتمل أن يراد به

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٣.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٧.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ١٢.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ١١١.

(٥) سورة مريم : ١٩ / ٨٧.

٢٨٣

التكثير ، وأن يكون موافقا للمجرّد. فإن أريد به التكثير فيكون في ذلك مبالغة على لفظ أوف ، وكأنه قيل : أبالغ في إيفائكم ، فضمن تعالى إعطاء الكثير على القليل ، كما قال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١). وانجزام المضارع بعد الأمر نحو : اضرب زيدا يغضب ، يدل على معنى شرط سابق ، وإلا فنفس الأمر وهو طلب إيجاد الفعل لا يقتضي شيئا آخر ، ولذلك يجوز الاقتصار عليه فتقول : أضرب زيدا ، فلا يترتب على الطلب بما هو طلب شيء أصلا ، لكن إذا لوحظ معنى شرط سابق ترتب عليه مقتضاه. وقد اختلف النحويون في ذلك ، فذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر ضمنت معنى الشرط ، فإذا قلت : اضرب زيدا يغضب ، ضمن اضرب معنى : أن تضرب ، وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن خروف. وذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر نابت مناب الشرط ، ومعنى النيابة أنه كان التقدير : اضرب زيدا ، إن تضرب زيدا يغضب ، ثم حذفت جملة الشرط وأنيبت جملة الأمر منابها. وعلى القول الأول ليس ثم جملة محذوفة ، بل عملت الجملة الأولى الجزم لتضمن الشرط ، كما عملت من الشرطية الجزم لتضمنها معنى إن. وعلى القول الثاني عملت الجزم لنيابتها مناب الجملة الشرطية ، وفي الحقيقة ، العمل إنما هو للشرط المقدر ، وهو اختيار الفارسي والسيرافي ، وهو الذي نص عليه سيبويه عن الخليل. والترجيح بين القولين يذكر في علم النحو.

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). إياي : منصوب بفعل محذوف مقدرا بعده لانفصال الضمير ، وإياي ارهبوا ، وحذف لدلالة ما بعده عليه وتقديره قبله ، وهم من السجاوندي ، إذ قدره وارهبوا إياي ، وفي مجيئه ضمير نصب مناسبة لما قبله ، لأن قبله أمر ، ولأن فيه تأكيدا ، إذ الكلام مفروغ في قالب جملتين. ولو كان ضمير رفع لجاز ، لكن يفوت هذان المعنيان. وحذفت الياء ضمير النصب من فارهبون لأنها فاصلة ، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل ، قال الزمخشري : وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد. ومعنى ذلك أن الكلام جملتان في التقدير ، وإياك نعبد ، جملة واحدة ، والاختصاص مستفاد عنده من تقديم المعمول على العامل. وقد تقدم الكلام معه في ذلك ، وأنا لا نذهب إلى ما ذهب إليه من ذلك. والفاء في قوله : فارهبون ، دخلت في جواب أمر مقدّر ، والتقدير : تنبهوا فارهبون. وقد ذكر سيبويه في كتابه ما نصه : تقول : كل رجل يأتيك فاضرب ، لأن يأتيك صفة هاهنا ، كأنك قلت : كل رجل صالح فاضرب ، انتهى. قال ابن خروف : قوله كل رجل

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٠.

٢٨٤

يأتيك فاضرب ، بمنزلة زيدا فاضرب ، إلا أن هنا معنى الشرط لأجل النكرة الموصوفة بالفعل ، فانتصب كل وهو أحسن من : زيدا فاضرب ، انتهى. ولا يظهر لي وجه إلا حسنية التي أشار إليها ابن خروف ، والذي يدل على أن هذا التركيب ، أعني : زيدا فاضرب ، تركيب عربي صحيح ، قوله تعالى : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) (١) ، وقال الشاعر :

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

قال بعض أصحابنا : الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في : زيدا فاضرب ، تنبه : فاضرب زيدا ، ثم حذف تنبه فصار : فاضرب زيدا. فلما وقعت الفاء صدرا قدّموا الاسم إصلاحا للفظ ، وإنما دخلت الفاء هنا لتربط هاتين الجملتين ، انتهى ما لخص من كلامه.

وإذا تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين : أحدهما : أن يكون التقدير وإياي ارهبوا ، تنبهوا فارهبون ، فتكون الفاء دخلت في جواب الأمر ، وليست مؤخرة من تقديم. والوجه الثاني : أن يكون التقدير وتنبهوا فارهبون ، ثم قدّم المفعول فانفصل ، وأخرت الفاء حين قدم المفعول وفعل الأمر الذي هو تنبهوا محذوف ، فالتقى بعد حذفه حرفان : الواو العاطفة والفاء ، التي هي جواب أمر ، فتصدّرت الفاء ، فقدم المفعول وأخرت الفاء إصلاحا للفظ ، ثم أعيد المفعول على سبيل التأكيد ولتكميل الفاصلة ، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون إياي معمولا لفعل محذوف ، بل معمولا لهذا الفعل الملفوظ به ، ولا يبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل ، كما أكد المتصل بالمنفصل في نحو : ضربتك إياك ، والمعنى : ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره ، وهذا قول ابن عباس. وقيل معنى فارهبون : أن لا تنقضوا عهدي ، وفي الأمر بالرهبة وعيد بالغ ، وليس قول من زعم أن هذا الأمر معناه التهديد والتخويف والتهويل ، مثل قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٢) ، تشديد لأن هذا في الحقيقة مطلوب ، واعملوا ما شئتم غير مطلوب فافترقا. وقيل : الخوف خوفان ، خوف العقاب ، وهو نصيب أهل الظاهر ، ويزول ، وخوف جلال ، وهو نصيب أهل القلب ، ولا يزول. وقال السلمي : الرهبة : خشية القلب من رديء خواطره. وقال سهل : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ، موضع اليقين بمعرفته ، (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) ، موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج. وقال القشيري : أفردوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد.

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٦.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٤٠.

٢٨٥

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) : ظاهره أنه أمر لبني إسرائيل ، لأن المأمورين قبل هم ، وهذا معطوف على ما قبله ، فظاهره اتحاد المأمور. وقيل : أنزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه ، علماء اليهود ورؤسائهم ، والظاهر الأول ، ويندرج فيه كعب ومن معه. وما في قوله : (بِما أَنْزَلْتُ) موصولة ، أي بالذي أنزلت ، والعائد محذوف تقديره : أنزلته ، وشروط جواز الحذف فيه موجودة ، والذي أنزل تعالى هو القرآن ، والذي معهم هو التوراة والإنجيل. وقال قتادة : المراد (بِما أَنْزَلْتُ) : من كتاب ورسول تجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، وأبعد من جعل ما مصدرية ، وأن التقدير : وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة ، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام. (مُصَدِّقاً). وعلى القول الأول يكون (لِما مَعَكُمْ) من تمام (مُصَدِّقاً) ، واللام على كلا التقديرين في لما مقوية للتعدية ، كهي في قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١). وإعراب مصدقا على قول من جعل ما مصدرية حال من ما في قوله : (لِما مَعَكُمْ). ولا نقول : يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال ، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقوّ للتعدية ، فهو كالحرف الزائد ، وصار نظير : زيد ضارب ، مجردة لهند ، التقدير : ضارب هندا مجردة ، ثم تقدمت هذه الحال ، وهذا جائز عندنا ، ويبعد أن يكون حالا من المصدر المقدر لوجهين : أحدهما : الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر. والوجه الثاني : أنه يبعد وصف الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوّز به ، ويراد به المنزل ، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه ، لأنه إذا أريد به المنزل لا يكون متعديا للمفعول. والظاهر أن مصدقا حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف ، وهي حال مؤكدة ، والعامل فيها أنزلت. وقيل : حال من ما في قوله : بما أنزلت ، وهي حال مؤكدة أيضا.

(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) : أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة ، فإنه يبقى مفردا مذكرا ، والنكرة تطابق ما قبلها ، فإن كان مفردا كان مفردا ، وإن كان تثنية كان تثنية ، وإن كان جمعا كان جمعا ، فتقول : زيد أفضل رجل ، وهند أفضل امرأة ، والزيدان أفضل رجلين ، والزيدون أفضل رجال. ولا تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غير صفة ، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا. وأجاز أبو العباس : إخوتك أفضل رجل ، بالإفراد ، ومنع ذلك الجمهور. وإن كانت صفة ، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد ، قال الشاعر : أنشده الفراء :

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٠٧.

٢٨٦

وإذا هم طعموا فألأم طاعم

وإذا هم جاعوا فشرّ جياع

فأفرد بقوله : طاعم ، وجمع بقوله : جياع. وإذا أفردت النكرة الصفة ، وقبل أفعل التفضيل جمع ، فهو عند النحويين متأوّل ، قال الفراء : تقديره من طعم ، وقال غيره : يقدر وصفا لمفرد يؤدي معنى جمع ، كأنه قال : فألأم طاعم ، وحذف الموصوف ، وقامت الصفة مقامه ، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه. وقال بعض الناس : يكون التجوز في الجمع ، فإذا قيل مثلا الزيدون أفضل عالم ، فالمعنى : كل واحد من الزيدين أفضل عالم. وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع ، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع. وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى ، فإذا قلت : أبوك أفضل عالم ، فتقديره : عندهم أبوك الأفضل العالم ، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى. وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو. وعلى ما قررناه تأولوا أول كافر بمن كفر ، أو أول حزب كفر ، أو لا يكن كل واحد منكم أول كافر. والنهي عن أن تكونوا أول كافر به لا يدل ذلك على إباحة الكفر لهم ثانيا أو آخرا ، فمفهوم الصفة هنا غير مراد. ولما أشكلت الأولية هنا زعم بعضهم أن أول صلة يعني زائدة ، والتقدير : ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ضعيف جدا. وزعم بعضهم أن ثم محذوفا معطوفا تقديره : ولا تكونوا أوّل كافر به ولا آخر كافر ، وجعل ذلك مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه ، وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش ، لما فيها من الابتداء بها ، وهذا شبيه بقول الشاعر :

من أناس ليس في أخلاقهم

عاجل الفحش ولا سوء جزع

لا يريد أن فيهم فحشا آجلا ، بل أراد لا فحش عندهم ، لا عاجلا ، ولا آجلا ، وتأوله بعضهم على حذف مضاف ، أي : ولا تكونوا مثل أول كافر به ، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفا مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له ، وبعضهم على صفة محذوفة ، أي أول كافر به من أهل الكتاب ، إذ هم منظور إليهم في هذا مظنون بهم علم ، وبعضهم على حذف صلة يصح بها المعنى ، التقدير : ولا تكونوا أول كافر به مع المعرفة ، لأن كفر قريش كان مع الجهل ، وهذا القول شبيه بالذي قبله. وبعضهم قدر صلة غير هذه ، أي ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم لذكره ، بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه. وقيل : ذكر الأولية تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول مؤمن به ، لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا هم المبشرين بزمانه والمستفتحين على الذين كفروا به ، فلما بعث كان أمرهم على

٢٨٧

العكس ، قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (١) ، وقال القشيري : لا تسنوا الكفر سنة ، فإن وزر المبتدئين فيما يسنون أعظم من وزر المقتدين فيما يتبعون. والضمير في به عائد على الموصول في بما أنزلت ، وهو القرآن ، قاله ابن جريج ، أو على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودل عليه المعنى ، لأن ذكر المنزل يدل على ذكر المنزل عليه ، قاله أبو العالية ، أو على النعمة على معنى الإحسان ، ولذلك ذكر الضمير ، قاله الزجاج ، أو على الموصول في لما معكم ، لأنهم إذا كفروا بما يصدقه ، فقد كفروا به ، والأرجح الأول ، لأنه أقرب ، وهو منطوق به مقصود للحديث عنه ، بخلاف الأقوال الثلاثة.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً). الاشتراء هنا مجاز يراد به الاستبدال ، كما قال :

كما اشترى المسلم إذ تنصرا

وقال آخر :

فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

ولما كان المعنى على الاستبدال ، جاز أن تدخل الباء على الآيات ، وإن كان القياس أن تدخل على ما كان ثمنا ، لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به ، لكن لما دخل الكلام على معنى الاستبدال جاز ذلك ، لأن معنى الاستبدال يكون المنصوب فيه هو الحاصل ، وما دخلت عليه الباء هو الزائل ، بخلاف ما يظن بعض الناس أن قولك : بدلت أو أبدلت درهما بدينار معناه : أخذت الدينار بدلا عن الدرهم ، والمعنى ، والله أعلم : ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة. ولو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس هذا المعنى ، إذ كان يصير المعنى : أنهم هم بذلوا ثمنا قليلا وأخذوا الآيات. قال المهدوي : ودخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن ، وكذلك كلّ ما لا عين فيه ، وإذا كان في الكلام دنانير أو دراهم دخلت الباء على الثمن ، قاله الفراء. انتهى كلام المهدوي ومعناه : أنه إذا لم يكن دنانير ولا دراهم في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمنا ومثمنا ، لكن يختلف دخول الباء بالنسبة لمن نسب الشراء إلى نفسه من المتعاقدين جعل ما حصل هو المثمن ، فلا تدخل عليه الباء ، وجعل ما بذل هو الثمن فأدخل عليه الباء ، ونفس الآيات لا يشترى بها ، فاحتيج إلى حذف مضاف ، فقيل تقديره : بتعليم آياتي ، قاله أبو العالية ، وقيل : بتغيير آياتي ، قاله الحسن. وقيل : بكتمان آياتي ، قاله السدي. وقيل : لا يحتاج إلى حذف مضاف ، بل كنى بالآيات عن الأوامر والنواهي.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٩.

٢٨٨

وعلى الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات ، ما أنزل من الكتب ، أو القرآن ، أو ما أوضح من الحجج والبراهين ، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة والإنجيل المتضمنة الأمر بالإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعلى الأقاويل في ذلك المضاف المقدر ، والقول بعدها اختلفوا في المعنى بقوله : ثمنا قليلا. فمن قال : إن المضاف هو التعليم ، قال : الثمن القليل هو الأجرة على التعليم ، وكان ذلك ممنوعا منه في شريعتهم ، أو الراتب المرصد لهم على التعليم ، فنهوا عنه ، ومن قال : هو التغيير ، قال الثمن القليل هو الرّياسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لو صاروا أتباعا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي ، جعل الثمن القليل هو ما يحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلوا بها عن إيقاع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه ، ووصف الثمن بالقليل ، لأن ما حصل عوضا عن آيات الله كائنا ما كان لا يكون إلا قليلا ، وإن بلغ ما بلغ ، كما قال تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) (١) ، فليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف التي تخصص النكرات ، بل من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات ، إذ لا يكون إلا قليلا. ويحتمل أن يكون ثم معطوف تقديره : ثمنا قليلا ولا كثيرا ، فحذف لدلالة المعنى عليه. وقد استدل بعض أهل العلم بقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله والعلم. وقد روي في ذلك أحاديث لا تصح ، وقد صح أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا نأخذ على كتاب الله أجرا ، فقال : «إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله». وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم ، وإنما نقل عن الزهري وأبي حنيفة الكراهة ، لكون ذلك عبادة بدنية ، ولا دليل لذلك الذاهب في الآية ، وقد مرّ تفسيرها.

(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) : الكلام عليه إعرابا ، كالكلام على قوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ، ويقرب معنى التقوى من معنى الرهبة. قال صاحب المنتخب : والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف ، وأمّا الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقي منه ، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم ، انتهى كلامه. ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا : أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب ، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى ، وشراء الثمن اليسير بآيات الله من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه ، إذ

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٧٧.

٢٨٩

لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، فقيل في ذلك : (فَارْهَبُونِ) ، وقيل في هذا : (فَاتَّقُونِ) ، أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به. والأحسن أن لا يقيد ارهبون واتّقون بشيء ، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه ، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولا واضحا ، فكان المعنى : ارهبون ، إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي ، واتقون ، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشتريتم بآياتي ثمنا قليلا.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) : أي الصدق بالكذب ، قاله ابن عباس ، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام ، قاله مجاهد ، أو التوراة بما كتبوه بأيديهم فيها من غيرها ، أو بما بدلوا فيها من ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن زيد ، أو الأمانة بالخيانة لأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة ، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله ، أو الإقرار بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غيرهم وجحدهم أنه ما بعث إليهم ، قاله أبو العالية ، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم ، أو صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفة الدجال. وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله بالباطل للإلصاق ، كقولك : خلطت الماء باللبن ، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل ، فلا يتيمز الحق من الباطل ، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة ، كهي في كتبت بالقلم ، قال : كان المعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم ، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب ، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك.

(وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) : مجزوم عطفا على تلبسوا ، والمعنى : النهي عن كل واحد من الفعلين ، كما قالوا : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، بالجزم نهيا عن كل واحد من الفعلين ، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار أن ، وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم ، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف. والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو ، وهذا مذكور في علم النحو. وما جوزوه ليس بظاهر ، لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحبا على الجمع بين الفعلين ، كما إذا قلت : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، معناه : النهي عن الجمع بينهما ، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما ، وذلك منهي عنه ، فلذلك رجح الجزم.

وقرأ عبد الله : (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) ، وخرج على أنها جملة في موضع الحال ، وقدره الزمخشري : كاتمين ، وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ، لأن الجملة المثبتة المصدّرة بمضارع ، إذا وقعت حالا لا تدخل عليها الواو ، والتقدير الإعرابي هو أن تضمر قبل

٢٩٠

المضارع هنا مبتدأ تقديره : وأنتم تكتمون الحق ، ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال ، لأن الحال قيد في الجملة السابقة ، وهم قد نهوا عن لبس الحق بالباطل ، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال إلا أن تكون الحال لازمة ، وذلك أن يقال : لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوما ، ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر ، وهو أن يكون الله قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق ، فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي ، على من يرى جواز ذلك ، وهو سيبويه وجماعة ، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل ، وكلا التخريجين تخريج شذوذ. والحق الذي كتموه هو أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو العالية ، والسدّي ، ومقاتل ، أو الإسلام ، قاله الحسن ، أو يكون الحق عامّا فيندرج فيه أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، وما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتمانه أنهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية ، ومفعول تعلمون محذوف اقتصارا ، إذ المقصود : وأنتم من ذوي العلم ، فلا يناسب من كان عالما أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل ، وقد قدروا حذفه حذف اختصار ، وفيه أقاويل ستة : أحدها : وأنتم تعلمون أنه مذكور هو وصفته في التوراة صلى‌الله‌عليه‌وسلم. الثاني : وأنتم تعلمون البعث والجزاء. الثالث : وأنتم تعلمون أنه نبي مرسل للناس قاطبة. الرابع : وأنتم تعلمون الحق من الباطل. وقال الزمخشري : وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون ، فجعل مفعول العلم اللبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين ، قال : وهو أقبح ، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه ، انتهى. فكان ما قدّره هو على حذف مضاف ، أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم ، وقال ابن عطية : وأنتم تعلمون ، جملة في موضع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم ، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا ، انتهى.

ومفهوم كلامه أن مفعول تعلمون هو الحق ، كأنه قال : ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمونه ، لأن المكتوم قد يكون حقا وغير حق ، فإذا كان حقا وعلم أنه حق ، كان كتمانه له أشد معصية وأعظم ذنبا ، لأن العاصي على علم أعصى من الجاهل العاصي. قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق ، قال : ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال ، انتهى. يعني أن الجملة تكون معطوفة ، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي ، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة عبد الله : وتكتمون.

والأظهر من هذه الأقاويل ما قدّمناه أوّلا من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار ،

٢٩١

إذ المقصود أن من كان من أهل العلم والاطلاع على ما جاءت به الرسل ، لا يصلح له لبس الحق بالباطل ولا كتمانه. وهذه الحال ، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم ، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل ، لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقا أو باطلا ، وإنما فائدتها : أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها. وقال القشيري : لا تتوهموا ، إن يلتئم لكم جمع الضدّين والكون في حالة واحدة في محلين ، فإما مبسوطة بحق ، وإما مربوطة بحط ، (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ، تدليس ، (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) تلبيس ، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن حق الحق تقديس ، انتهى. وفي هذه الآية دليل أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ، ويحرم عليه كتمانه.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) : تقدّم الكلام على مثل هذا في أوّل السورة في قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (١) ، ويعني بذلك صلاة المسلمين وزكاتهم ، فقيل : هي الصلاة المفروضة ، وقيل : جنس الصلاة والزكاة. قيل : أراد المفروضة ، وقيل : صدقة الفطر ، وهو خطاب لليهود ، فدل ذلك على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. قال القشيري : وأقيموا الصلاة : احفظوا أدب الحضرة ، فحفظ الأدب للخدمة من الخدمة ، وآتوا الزكاة ، زكاة الهمم ، كما تؤدى زكاة النعم ، قال قائلهم :

كلّ شيء له زكاة تؤدّى

وزكاة الجمال رحمة مثلي.

(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) : خطاب لليهود ، ويحتمل أن يراد بالركوع : الانقياد والخضوع ، ويحتمل أن يراد به : الركوع المعروف في الصلاة ، وأمروا بذلك وإن كان الركوع مندرجا في الصلاة التي أمروا بإقامتها ، لأنه ركوع في صلاتهم ، فنبه بالأمر به ، على أن ذلك مطلوب في صلاة المسلمين. وقيل : كنى بالركوع عن الصلاة : أي وصلوا مع المصلين ، كما يكنى عنها بالسجدة تسمية للكلّ بالجزء ، ويكون في قوله مع دلالة على إيقاعها في جماعة ، لأن الأمر بإقامة الصلاة أوّلا لم يكن فيها إيقاعها في جماعة. والراكعون : قيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وقيل : أراد الجنس من الراكعين.

وفي هذه الجمل ، وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيبا ترتيب

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٧١.

٢٩٢

عجيب ، من حيث الفصاحة وبناء الكلام بعضه على بعض ، وذلك أنه تعالى أمرهم أوّلا بذكر النعمة التي أنعمها عليهم ، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب إطاعته ، ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم ، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإيفاء بالعهد ، ثم أمرهم بالخوف من نقماته إن لم يوفوا ، فاكتنف الأمر بالإيفاء أمر بذكر النعمة والإحسان ، وأمر بالخوف من العصيان ، ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص ، وهو ما أنزل من القرآن ، ورغب في ذلك بأنه مصدّق لما معهم ، فليس أمرا مخالفا لما في أيديهم ، لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف. ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس ، ثم أمرهم تعالى باتقائه ، ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل ، وعن كتمان الحق ، فكان الأمر بالإيمان أمرا بترك الضلال ، والنهي عن لبس الحق بالباطل ، وكتمان الحق تركا للإضلال. ولما كان الضلال ناشئا عن أمرين : إما تمويه الباطل حقا إن كانت الدلائل قد بلغت المستتبع ، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه ، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا ، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم ، ثم أمرهم بعد تحصيل الإيمان وإظهار الحق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، إذ الصلاة آكد العبادات البدنية ، والزكاة آكد العبادات المالية. ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له تعالى مع جملة الخاضعين الطائعين.

فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم ، وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية. وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله على سائر الكلام ، وهذه الأوامر والنواهي ، وإن كانت خاصة في الصورة ببني إسرائيل ، فإنهم هم المخاطبون بها هي عامة في المعنى ، فيجب على كل مكلف ذكر نعمة الله ، والإيفاء بالعهد وسائر التكاليف المذكورة بعد هذا.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

الأمر : طلب إيجاد الفعل ، ويطلق على الشأن ، والفعل منه : أمر يأمر ، على : فعل يفعل ، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام ، فتقول : مر زيدا وإتمامه قليل ، أو مر زيدا ،

٢٩٣

فإن تقدم الأمر واو أو فاء ، فإثبات الهمزة أجود ، وهو مما يتعدّى إلى مفعولين : أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف جر. ويجوز حذف ذلك الحرف ، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازا تحفظ ولا يقاس عليها. البر : الصلة ، وأيضا : الطاعة. قال الراجز :

لا همّ ربّ إن بكرا دونكا

يبرك الناس ويفخرونكا

والبر : الفؤاد ، وولد الثعلب والهرّ ، وبرّ والده : أجله وأعظمه. يبره : على وزن فعل يفعل ، ورجل بارّ ، وبرّ ، وبرت يمينه ، وبرّ حجه : أجلها وجمع أنواعا من الخير ، والبر سعة المعروف والخير ، ومنه : البر والبريّة للسعة. ويتناول كل خير ، والإبرار : الغلبة ، قال الشاعر :

ويبرّون على الآبي المبر

النسيان : ضد الذكر ، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم ، ويطلق أيضا على الترك ، وضده الفعل ، والفعل : نسي ينسى على فعل يفعل ، ويتعدّى لواحد ، وقد يعلق نسي حملا على علم ، قال الشاعر :

ومن أنتم إنا نسينا من أنتم

وريحكم من أي ريح الأعاصر

وفي البيت احتمال ، التلاوة : القراءة ، وسميت بها لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر. والتلو : التبع ، وناقة مثل : يتبعها ولدها. العقل : الإدراك المانع من الخطأ ، ومنه عقال البعير ، يمنعه من التصرف ، والمعقل : مكان يمتنع فيه ، والعقل : الدّية لأن جنسها إبل تعقل في فناء الولي ، أو لأنها تمنع من قتل الجاني ، والعقل : ثوب موشى ، قال الشاعر :

عقلا ورقما تظل الطير تتبعه

كأنه من دم الأجواف مدموم

والعقال : زكاة العام ، قال الشاعر :

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين

ورمل عقنقل : متماسك عن الانهيار. الصبر : حبس النفس على المكروه ، والفعل : صبر يصبر على فعل يفعل ، وأصله أن يتعدى لواحد. قال الشاعر :

فصبرت عارفة لذلك حرّة

ترسو إذا نفس الجبان تطلع

وقد كثر حذف مفعوله حتى صار كأنه غير متعدّ. الكبيرة : من كبر يكبر ، ويكون ذلك

٢٩٤

في الجرم وفي القدر ، ويقال : كبر عليّ كذا ، أي شق ، وكبر يكبر ، فهو كبير من السنّ. قال الشاعر :

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا

إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم

الخشوع : قريب من الخضوع ، وأصله : اللين والسهولة ، وقيل : الاستكانة والتذلل. وقال الليث : الخضوع في البدن ، والخشوع في البدن والبصر والصوت ، والخشعة : الرّملة المتطامنة. وفي الحديث : «كانت الكعبة خشعة على الماء». الظنّ : ترجيح أحد الجانبين ، وهو الذي يعبر عنه النحويون بالشك ، وقد يطلق على التيقن. وفي كلا الاستعمالين يدخل على ما أصله المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو ، خلافا لأبي زيد السهيلي ، إذ زعم أنها ليست من نواسخ الابتداء. والظنّ أيضا يستعمل بمعنى : التهمة ، فيتعدى إذ ذاك لواحد ، قال الفراء : الظنّ يقع بمعنى الكذب ، والبصريون لا يعرفون ذلك.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) الهمزة : للاستفهام وضعا ، وشابها هنا التوبيخ والتقريع لأن المعنى : الإنكار ، وعليهم توبيخهم على أن يأمر الشخص بخير ، ويترك نفسه ونظيره في النهي ، قول أبي الأسود :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وقول الآخر :

وابدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإن انتهت عنه فأنت حكيم

فيقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخير وهو لا يأتيه ، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله. وفي تفسير البر هنا أقوال : الثبات على دين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم لا يتبعونه ، أو اتباع التوراة وهم يخالفونها في جحدهم صفته. وروي عن قتادة وابن جريج والسّدي : أو على الصدقة ويبخلون ، أو على الصدق وهم لا يصدّقون ، أو حض أصحابهم على الصلاة والزكاة ولا يأتونهما. وقال السلمي : أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم قلوبكم خالية عن ظواهر رسومها؟ وقال القشيري : أتحرّضون الناس على البدار وترضون بالتخلف؟ وقال : أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنا؟ وألفاظا من هذا المعنى. وأتى بالمضارع في : أتأمرون ، وإن كان قد وقع ذلك منهم لأنه يفهم منه في الاستعمال في كثير من المواضع : الديمومة وكثرة التلبس بالفعل ، نحو قولهم : زيد يعطي ويمنع ، وعبر عن ترك فعلهم بالنسيان مبالغة في

٢٩٥

الترك ، فكأنه لا يجري لهم على بال ، وعلق النساء بالأنفس توكيدا للمبالغة في الغفلة المفرطة.

(وَتَنْسَوْنَ) : معطوف على تأمرون ، والمنعي عليهم جمعهم بين هاتين الحالتين من أمر الناس بالبر الذي في فعله النجاة الأبدية ، وترك فعله حتى صار نسيا منسيا بالنسبة إليهم. (أَنْفُسَكُمْ) ، والأنفس هنا : ذواتهم ، وقيل : جماعتهم وأهل ملتهم ، ثم قيد وقوع ذلك منهم بقوله : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) : أي أنكم مباشرو الكتاب وقارئوه ، وعالمون بما انطوى عليه ، فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم؟ وخالفتموه أنفسكم؟ كقوله تعالى : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١). والجملة حالية ولا يخفى ما في تصديرها بقوله : (وَأَنْتُمْ) ، من التبكيت لهم والتقريع والتوبيخ لأجل المخاطبة بخلافها لو كانت اسما مفردا. والكتاب هنا : التوراة والإنجيل ، وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم ، وهذا قول الجمهور. وقيل : الكتاب هنا القرآن ، قالوا : ويكون قد انصرف من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب المؤمنين ، ويكون ذلك من تلوين الخطاب ، مثل قوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) (٢) ، وفي هذا القول بعد ، إذ الظاهر أن هذا كله خطاب مع أهل الكتاب.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) : مذهب سيبويه والنحويين : أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أثم إذا ما وقع ، لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام ، قدمت على حرف العطف ، وذلك بخلاف هل. وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها ، ولا تقديم ولا تأخير ، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها ، وكأنه رأى أن الحذف أولى من التقديم والتأخير. وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة ، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل. فعلى قول الجماعة يكون التقدير : فألا تعقلون ، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير : أتعقلون فلا تعقلون ، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض ، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعد حرف العطف ، ونبههم بقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، على أن فيهم إدراكا شريفا يمنعهم من قبيح ما ارتكبوه من أمر غيرهم بالخير ونسيان أنفسهم عنه ، وإن هذه حالة من سلب العقل ، إذ العاقل ساع في

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٤٢.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٢٩.

٢٩٦

تحصيل ما فيه نجاته وخلاصه أولا ، ثم يسعى بعد ذلك في خلاص غيره ، ابدأ بنفسك ثم بمن تعول. ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل لنفسه مصلحة ، فكيف يحصلها لغيره؟ ألا ترى إلى قول الشاعر :

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بخزان

فإذا صدر من الإنسان تحصيل المصلحة لغيره ، ومنع ذلك لنفسه ، كان ذلك خارجا عن أفعال العقلاء ، خصوصا في الأمور التي يرجى بسلوكها النجاة من عذاب الله ، والفوز بالنعيم السرمدي. وقد فسروا قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بأقوال : أفلا تعقلون : أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية بكم ، أو أفلا تفهمون قبح ما تأتون من معصية ربكم في اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به ، أو أفلا تنتهون ، لأن العقل ينهى عن القبيح ، أو أفلا ترجعون ، لأن العقل يراد إلى الأحسن ، أو أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه ، أو إن وبال ذلك عليكم راجع ، أو أفلا تمتنعون من المعاصي ، أو أفلا تعقلون ، إذ ليس في قضية العقل أن تأمر بالمعروف ولا تأتيه ، أو أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه ، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقل ، لأن العقول تأباه وتدفعه. وشبيه بهذه الآية (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (١) الآية. والمقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : الإرشاد إلى المنفعة والتحذير عن المفسدة ، وذلك معلوم بشواهد العقل ، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل ، ويصير ذلك الوعظ سببا للرغبة في المعصية ، لأنه يقال : لو لا اطلاع الواعظ على أن لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية ، فتكون النفس نافرة عن قبول وعظ من لم يتعظ ، وأنشدوا :

مواعظ الواعظ لن تقبلا

حتى يعيها قبله أولا

وقال عليّ كرم الله وجهه : قصم ظهري رجلان : عالم متهتك ، وجاهل متنسك. ولا دليل في الآية لمن استدل بها على أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ولا في قوله تعالى : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) ، ولا للمعتزلة في أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى ، قالوا : التوبيخ لا يحسن إلا إذا كانوا فاعلي أفعالهم ، وهذه مسألة مشكلة يبحث فيها في علم الكلام. وهذا الإنكار والتوبيخ والتقريع ، وإن كان خطابا لبني إسرائيل ، فهو عام من حيث المعنى. وعن محمد بن واسع : بلغني أن ناسا من أهل الجنة أطلعوا على

__________________

(١) سورة الصف : ٦١ / ٢.

٢٩٧

ناس من أهل النار فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة ، قالوا : كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) : تقدم ذكر معاني استفعل عند ذكر المادة في قوله تعالى : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (١) ، وأن من تلك المعاني الطلب ، وأن استعان معناه طلب المعونة ، وظاهر الصبر أنه يراد به ما يقع عليه في اللغة. وقال مجاهد : الصبر : الصوم ، والصوم : صبر ، لأنه إمساك عن الطعام ، وسمي رمضان : شهر الصبر. والصلاة : هي المفروضة مع ما يتبعها من السنن والنوافل ، قاله مجاهد. وقيل : الصلاة الدعاء وقد أضمر ، والصبر صلة تقيده ، فقيل : بالصبر على ما تكرهه نفوسكم من الطاعة والعمل ، أو على أداء الفرائض ، روي ذلك عن ابن عباس ، أو عن المعاصي ، أو على ترك الرياسة ، أو على الطاعات وعن الشهوات ، أو على حوائجكم إلى الله ، أو على الصلاة. ولما قدر هذا التقدير ، أعني بالصبر على الصلاة ، توهم بعض من تكلم على القرآن ، أن الواو التي في الصلاة هنا بمعنى على ، وإنما يريد قائل هذا : أنهم أمروا بالاستعانة بالصبر على الصلاة وبالصلاة ، لأن الواو بمعنى على ، ويكون ينظر إلى قوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) (٢) وأمروا بالاستعانة بالصلاة ، لأنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا ، أو لما فيها من تمحيص الذنوب وترقيق القلوب ، أو لما فيها من إزالة الهموم ، ومنه الحديث : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة». وقد روي أن ابن عباس نعى إليه قثم أخوه ، فقام يصلي ، وتلا : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) ، أو لما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر ، وكل هذه الوجوه ذكروها. وقدم الصبر على الصلاة ، قيل : لأن تأثير الصبر في إزالة ما لا ينبغي ، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي ، والنفي مقدم على الإثبات ، ويظهر أنه قدم الاستعانة به على الاستعانة بالصلاة ، لأنه سبق ذكر تكاليف عظيمة شاق فراقها على من ألفها واعتادها من ذكر ما نسوه والإيفاء بما أخلفوه والإيمان بكتاب متجدد وترك أخذهم الرشا على آيات الله وتركهم إلباس الحق بالباطل وكتم الحق الذي لهم بذلك الرياسة في الدنيا والاستتباع لعوامهم وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وهذه أمور عظيمة ، فكانت البداءة بالصبر لذلك. ولما كان عمود الإسلام هو الصلاة ، وبها يتميز المسلم من المشرك ، أتبع الصبر بها ، إذ يحصل بها الاشتغال عن الدنيا ، وبالتلاوة فيها الوقوف على ما تضمنه كتاب الله من الوعد والوعيد ، والمواعظ والآداب ، ومصير الخلق

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٥.

(٢) سورة طه : ٢٠ ـ ١٣٢.

٢٩٨

إلى دار الجزاء ، فيرغب المشتغل بها في الآخرة ، ويرغب عن الدنيا. وناهيك من عبادة تتكرر على الإنسان في اليوم والليل خمس مرات ، يناجي فيها ربه ويستغفر ذنبه. وبهذا الذي ذكرناه تظهر الحكمة في أن أمروا بالاستعانة بالصبر والصلاة. ويبعد دعوى من قال : إنه خطاب للمؤمنين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : لأن من ينكره لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة. قال : ولا يبعد أن يكون الخطاب أولا لبني إسرائيل ، ثم يقع بعد الخطاب للمؤمنين ، والذي يظهر أن ذلك كله خطاب لبني إسرائيل ، لأن صرف الخطاب إلى غيرهم لغير موجب ، ثم يخرج عن نظم الفصاحة.

(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) : الضمير عائد على الصلاة. هذا ظاهر الكلام ، وهو القاعدة في علم العربية : أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل ، وقيل : يعود على الاستعانة ، وهو المصدر المفهوم من قوله : (وَاسْتَعِينُوا) ، فيكون مثل (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (١) ، أي العدل أقرب ، قاله البجلي. وقيل : يعود على إجابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه ، قاله الأخفش. وقيل : على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة. وقيل : يعود على الكعبة ، لأن الأمر بالصلاة إليها. وقيل : يعود على جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها ، من قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) إلى (وَاسْتَعِينُوا). وقيل : المعنى على التثنية ، واكتفى بعوده على أحدهما ، فكأنه قال : وإنهما كقوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) (٢) في بعض التأويلات ، وكقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، وقول الشاعر :

إن شرخ الشباب والشعر

الأسود ما لم يعاص كان جنونا

فهذه سبعة أقوال فيما يعود الضمير عليه ، وأظهرها ما بدأنا به أولا ، قال مؤرج في عود الضمير : لأن الصلاة أهم وأغلب ، كقوله تعالى : (انْفَضُّوا إِلَيْها) (٣) ، انتهى. يعني أن ميل أولئك الذين انصرفوا في الجمعة إلى التجارة أهم وأغلب من ميلهم إلى اللهو ، فلذلك كان عود الضمير عليها ، وليس يعني أن الضميرين سواء في العود ، لأن العطف بالواو يخالف العطف بأو ، فالأصل في العطف بالواو مطابقة الضمير لما قبله في تثنية وجمع ، وأما العطف بأو فلا يعود الضمير فيه إلا على أحد ما سبق. ومعنى كبر الصلاة : ثقلها وصعوبتها

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٨.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٣٤.

(٣) سورة الجمعة : ٦٢ / ١١.

٢٩٩

على من يفعلها مثل قوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (١) ، أي شق ذلك وثقل.

(إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) : استثناء مفرغ ، لأن المعنى : وإنها لكبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين ، وهم المتواضعون المستكينون ، وإنما لم تشق على الخاشعين ، لأنها منطوية على أوصاف هم متحلون بها لخشوعهم من القيام لله والركوع له والسجود له والرجاء لما عنده من الثواب. فلما كان مآل أعمالهم إلى السعادة الأبدية ، سهل عليهم ما صعب على غيرهم من المنافقين والمرائين بأعمالهم الذين لا يرجون لها نفعا. ويجوز في (الَّذِينَ) الاتباع والقطع إلى الرفع أو النصب ، وذلك صفة مدح ، فالقطع أولى بها. و (يَظُنُّونَ) معناه : يوقنون ، قاله الجمهور ، لأن من وصف بالخشوع لا يشك أنه ملاق ربه ويؤيده أن في مصحف عبد الله الذين يعلمون. وقيل معناه : الحسبان ، فيحتاج إلى مصحح لهذا المعنى ، وهو ما قدّروه من الحذف ، وهو بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاء ربهم مذنبين ، والصحيح هو الأول ، ومثله (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) (٢) ، فظنوا أنهم مواقعوها. وقال دريد :

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

سراتهم في السائريّ المسرّد

قال ابن عطية : قد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة ، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس. لا تقول العرب في رجل مرئيّ حاضر : أظن هذا إنسانا ، وإنّما نجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس ، انتهى. والظن في كلا استعماليه من اليقين ، أو الشك يتعدّى إلى اثنين ، وتأتي بعد الظن أن الناصبة للفعل وإنّ الناصبة للاسم الرافعة للخبر فتقول : ظننت أن تقوم ، وظننت أنك تقوم. وفي توجيه ذلك خلاف. مذهب سيبويه : أن أن وإن كل واحدة منهما مع ما دخلت عليه تسد مسد المفعولين ، وذلك بجريان المسند والمسند إليه في هذا التركيب. ومذهب أبي الحسن وأبي العباس : أن أن وما عملت فيه في موضع مفعول واحد أول ، والثاني مقدّر ، فإذا قلت : ظننت أن زيدا قائم ، فتقديره : ظننت قيام زيد كائنا أو واقعا. والترجيح بين المذهبين يذكر في علم النحو.

(أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ، الملاقاة : مفاعلة تكون من اثنين ، لأن من لاقاك فقد لاقيته. وقال المهدوي والماوردي وغيرهما : الملاقاة هنا ، وإن كانت صيغتها تقتضي التشريك ،

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ١٣.

(٢) سورة الحاقة : ٦٩ / ٢٠.

٣٠٠