البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

(وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي : وإذا انفرد بعضهم ببعض ، أي الذين لم ينافقوا إلى من نافق. وإلى ، قيل : بمعنى مع ، أي وإذا خلا بعضهم مع بعض ، والأجود أن يضمن خلا معنى فعل يعدّي بإلى ، أي انضوى إلى بعض ، أو استكان ، أو ما أشبهه ، لأن تضمين الأفعال أولى من تضمين الحروف. (قالُوا) : أي ذلك البعض الخالي ببعضهم. (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) : أي قالوا عاتبين عليهم ، أتحدّثون المؤمنين؟ (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) : وما موصولة ، والضمير العائد عليها محذوف تقديره : بما فتحه الله عليكم. وقد جوّزوا في ما أن تكون نكرة موصوفة ، وأن تكون مصدرية ، أي بفتح الله عليكم. والأولى الوجه الأول ، والذي حدّثوا به هو ما تكلم به جماعة من اليهود من صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله أبو العالية وقتادة ، أو ما عذب به أسلافهم ، قاله السدي. وقال مجاهد : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لبني قريظة : «يا إخوة الخنازير والقردة». فقال الأحبار لأتباعهم : ما عرف هذا إلا من عندكم. وقال ابن زيد : كانوا إذا سئلوا عن شيء قالوا : في التوراة كذا وكذا ، فكره ذلك أحبارهم ، ونهوا في الخلوة عنه. فعلى ما قاله أبو العالية يكون الفتح بمعنى الإعلام والإذكار ، أي أتحدثونهم بما أعلمكم الله من صفة نبيهم؟ ورواه الضحاك عن ابن عباس. وعلى قول السدي : يكون بمعنى الحكم والقضاء ، أي أتحدثونهم بما حكم الله به على أسلافكم وقضاه من تعذيبهم؟ وعلى قول ابن زيد يكون بمعنى : الإنزال ، أي أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ وقال الكلبي : المعنى بما قضى الله عليكم ، وهو راجع لمعنى الإنزال. وقيل : المعنى بما بين الله لكم من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصفته ، وشريعته ، وما دعاكم إليه من الإيمان به ، وأخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه ونصرته. وقيل : المعنى بما منّ الله عليكم من النصر على عدوّكم ، ومن تأويل كتابكم.

(لِيُحَاجُّوكُمْ) : هذه لام كي ، والنصب بأن مضمرة بعدها ، وهي جائزة الإضمار ، إلا إن جاء بعدها لا ، فيجب إظهارها. وهي متعلقة بقوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) ، فهي لام جر ، وتسمى لام كي ، بمعنى أنها للسبب ، كما أن كي للسبب. ولا يعنون أنّ النصب بعدها بإضمار كي ، وإن كان يصح التصريح بعدها بكى ، فتقول : لكي أكرمك ، لأن الذي يضمر إنما هو : أن لا : كي ، وقد أجاز ابن كيسان والسيرافي أن يكون المضمر بعد هذه اللام كي ، أو أن. وذهب الكوفيون إلى أن النصب بعد هذه اللام إنما هو بها نفسها ، وأن ما يظهر بعدها من كي وأن ، إنما ذلك على سبيل التأكيد. وتحرير الكلام في ذلك مذكور في مبسوطات النحو. وذهب بعض المعربين إلى أن اللام تتعلق بقوله : فتح ، وليس بظاهر ،

٤٤١

لأن المحاجة ليست علة للفتح ، إنما المحاجة ناشئة عن التحديث ، إلا أن تكون اللام لام الصيرورة عند من يثبت لها هذا المعنى ، فيمكن أن يصير المعنى : أن الذي فتح الله عليهم به حدثوا به ، فآل أمره إلى أن حاجوهم به ، فصار نظير : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١). لم يلتقطوه لهذا الأمر ، إنما آل أمره إلى ذلك. ومن لم يثبت لام الصيرورة ، جعلها لام كي ، على تجوّز ، لأن الناشئ عن شيء ، وإن لم يقصد ، كالعلة. ولا فرق بين أن يجعلها متعلقة بقوله : أتحدثونهم ، وبين : بما فتح ، إلا أن جعلها متعلقة بالأول أقرب وساطة ، كأنه قال : أتحدثونهم فيحاجوكم. وعلى الثاني يكون أبعد ، إذ يصير المعنى : فتح الله عليكم به ، فحدثتموهم به ، فحاجوكم. فالأولى جعله لأقرب وساطة ، والضمير في (بِهِ) عائد إلى ما من قوله : (بِما فَتَحَ اللهُ) ، وبهذا يبعد قول من ذهب إلى أنها مصدرية ، لأن المصدرية لا يعود عليها ضمير.

(عِنْدَ رَبِّكُمْ) معمول لقوله : ليحاجوكم ، والمعنى : ليحاجوكم به في الآخرة. فكنى بقوله : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) عن اجتماعهم بهم في الآخرة ، كما قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (٢). وقيل : معنى عند ربكم : في ربكم ، أي فيكونون أحق به جعل عند بمعنى في. وقيل : هو على حذف مضاف ، أي ليحاجوكم به عند ذكر ربكم. وقيل معناه : إنه جعل المحاجة في كتابكم محاجة عند الله ، ألا تراك تقول هو في كتاب الله كذا ، وهو عند الله كذا ، بمعنى واحد؟ وقيل : هو معمول لقوله : (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ، أي من عند ربكم ليحاجوكم ، وهو بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخذ ميثاقهم بتصديقه. قال ابن أبي الفضل : وهذا القول هو الصحيح ، لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدنيا. انتهى. والأولى حمل اللفظ على ظاهره من غير تقديم ولا تأخير ، إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن بحمل قوله : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) على بعض المعاني التي ذكرناها. وأما على ما ذهب إليه هذا الذاهب ، فيبعد جدا ، لأن ليحاجوكم متعلق بقوله : أتحدثونهم ، وعند ربكم متعلق بقوله : بما فتح الله عليكم ، فتكون قد فصلت بين قوله : عند ربكم ، وبين العامل فيه الذي هو : فتح الله عليكم ، بقوله : ليحاجوكم ، وهو أجنبي منهما ، إذ هو متعلق بقوله : أتحدثونهم على الأظهر ، ويبعد أن يجيء هذا التركيب هكذا في فصيح الكلام ، فكيف يجيء في كلام الله الذي هو أفصح الكلام؟.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) : ظاهره أنه مندرج تحت قول من قال : أتحدثونهم بما يكون حجة

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٨.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٣١.

٤٤٢

لهم عليكم؟ أفلا تعقلون فلا تحدثونهم بذلك؟ وقيل : هو خطاب من الله للمؤمنين ، أي أفلا تعقلون أن هؤلاء اليهود لا يؤمنون ، وهم على هذه الصفات الذميمة ، من اتباع أسلافهم المحرّفين كلام الله ، والتقليد لهم فيما حرّفوه ، وتظاهرهم بالنفاق ، وغير ذلك مما نعى عليهم ارتكابه؟.

(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) : هذا توبيخ من الله لهم ، أي إذا كان علم الله محيطا بجميع أفعالهم ، وهم عالمون بذلك ، فكيف يسوغ لهم أن ينافقوا ويتظاهروا للمؤمنين بما يعلم الله منهم خلافه ، فلا يجامع حالة نفاقهم بحالة علمهم بأن الله عالم بذلك ، والأولى حمل ما يسرون وما يعلنون على العموم ، إذ هو ظاهر اللفظ. وقيل الذي أسرّوه الكفر ، والذي أعلنوه الإيمان. وقيل : العداوة والصداقة. وقيل : قولهم لشياطينهم إنا معكم ، وقولهم للمؤمنين آمنا. وقيل : صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتغيير صفته إلى صفة أخرى ، حتى لا تقوم عليهم الحجة. وقرأ ابن محيصن : أو لا تعلمون بالتاء ، قالوا : فيكون ذلك خطابا للمؤمنين ، وفيه تنبيه لهم على جهلهم بعالم السر والعلانية ، ويحتمل أن يكون خطابا لهم ، وفائدته التنبيه على سماع ما يأتي بعده ، ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة ، إهمالا لهم ، فيكون ذلك من باب الالتفات ، ويكون حكمته في الحالتين ما ذكرناه. وقد تقدم لنا أن مثل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، (أَوَلا يَعْلَمُونَ) ، أن الفاء والواو فيهما للعطف ، وأن أصلهما أن يكونا أول الكلام ، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدّمت. وذكرنا طريقة الزمخشري في ذلك ، فأغنى عن إعادته. و (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) : يحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفرد ، إذا قلنا : أن يعلمون متعد إلى واحد كعرف ، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفعولين ، إذا قلنا : أن يعلمون متعد إلى اثنين ، كظننت ، وهذا على رأي سيبويه. وأما الأخفش ، فإنها تسد عنده مسد مفعول واحد ، ويجعل الثاني محذوفا ، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف ، والعائد على ما محذوف تقديره : يسرّونه ويعلنونه. وظاهر هذا الاستفهام أنه تقرير لهم أنهم عالمون بذلك ، أي بأن الله يعلم السر والعلانية ، أي قد علموا ذلك ، فلا يناسبهم النفاق والتكذيب بما يعلمون أنه الحق. وقيل : ذلك تقريع لهم وحث على التفكر ، فيعلمون بالتفكر ذلك. وذلك أنهم لما اعترفوا بصحة التوراة ، وفيها ما يدل على نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لزمهم الاعتراف بالربوبية ، ودل على أن المعصية ، مع علمهم بها ، أقبح.

وفي هذه الآية وما أشبهها دليل على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يغضي عن المنافقين ، مع

٤٤٣

أن الله أظهره على نفاقهم ، وذلك رجاء أن يؤمنوا ، فأغضى عنهم ، حتى قبل الله منهم من قبل ، وأهلك من أهلك. واختلف ، هل هذا الحكم باق ، أو نسخ؟ فقال قوم : نسخ ، لأنه كان يفعل ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تأليفا للقلوب. وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم ، فلا حاجة إلى التأليف. وقال قوم : هو باق إلى الآن ، لأن أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان ، فيحتاجون إلى زيادة الأنصار وكثرة عددهم ، والأول هو الأشهر. وفي قوله : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ، حجة على من زعم أن الله لا يعلم الجزئيات ، بل يعلم الكليات.

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) : ظاهر الكلام أنها نزلت في اليهود المذكورين في الآية التي قبل هذه ، قاله ابن عباس. وقيل : في المجوس ، قاله عليّ بن أبي طالب. وقيل : في اليهود والمنافقين. وقال عكرمة والضحاك : في نصارى العرب ، فإنهم كانوا لا يحسنون الكتابة. وقيل : في قوم من أهل الكتاب ، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها ، فصاروا أمّيين. وقيل : في قوم لم يؤمنوا بكتاب ولا برسول ، فكتبوا كتابهم وقالوا : هذا من عند الله ، فسموا : أمّيين ، لجحودهم الكتاب ، فصاروا بمنزلة من لا يحسن شيئا. والقول الأول هو الأظهر ، لأن سياق الكلام إنما هو مع اليهود ، فالضمير لهم.

ومناسبة ارتباط هذه الآية : أنه لما بين أمر الفرقة الضالة التي حرفت كتاب الله ، وهم قد عقلوه وعلموا بسوء مرتكبهم ، ثم بين أمر الفرقة الثانية ، المنافقين ، وأمر الثالثة : المجادلة ، أخذ يبين أمر الفرقة الرابعة ، وهي : العامة التي طريقها التقليد ، وقبول ما يقال لهم. قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما ومن هؤلاء اليهود المذكورون ، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم ، أي أنهم لا يطمع في إيمانهم. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : أميون ، بتخفيف الميم ، وقد تقدم أن الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ، أي لا يحسنون الكتب ، فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها. و (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) : جملة في موضع الصفة ، والكتاب هو التوراة.

(إِلَّا أَمانِيَ) : استثناء منقطع ، لأن الأماني ليست من جنس الكتاب ، ولا مندرجة تحت مدلوله ، وهو أحد قسمي الاستثناء المنقطع ، وهو الذي يتوجه عليه العامل. ألا ترى أنه لو قيل لا يعلمون إلا أمانيّ لكان مستقيما؟ وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان ، أحدهما : النصب على الاستثناء ، وهي لغة أهل الحجاز. والوجه الثاني : الاتباع على البدل بشرط التأخر ، وهي لغة تميم. فنصب أماني من الوجهين ، والمعنى : إلا ما هم عليه من أمانيهم ، وأمانيهم أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء

٤٤٤

يشفعون لهم ، أو ما يمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة ، أو لا يعلمون إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فنقلوها على التقليد ، قاله ابن عباس ومجاهد ، واختاره الفراء. وقيل : معناه إلا تلاوة ، أي لا يعلمون فقه الكتاب ، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم. قال أبو مسلم : حمله على تمني القلب أولى ، لقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) (١). وقرأ الجمهور : أماني ، بالتشديد. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن جمار ، عن نافع وهارون ، عن أبي عمرو : أماني بالتخفيف ، جمعه على أفاعل ، ولم يعتد بحرف المد الذي في المفرد. قال أبو حاتم : كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد ، فلك فيه التشديد والتخفيف مثل : أثافي ، وأغاني ، وأماني ، ونحوه. قال الأخفش هذا ، كما يقال في جمع مفتاح مفاتيح ومفاتح ، وقال النحاس : الحذف في المعتل أكثر ، كما قال :

وهل رجع التسليم أو يكشف العمى

ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع

(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ، إن هنا : هي النافية ، بمعنى ما ، وهم : مرفوع بالابتداء ، وإلا يظنون : في موضع الخبر ، وهو من الاستثناء المفرغ. وإذا كانت إن نافية ، فدخلت على المبتدأ والخبر ، لم يعمل عمل ما الحجازية ، وقد أجاز ذلك بعضهم ، ومن أجاز شرط نفي الخبر وتأخيره ، والصحيح أنه لا يجوز ، لأنه لم يحفظ من ذلك إلا بيت نادر وهو :

إن هو مستوليا على أحد

إلا على أضعف المجانين

وقد نسب السهيلي وغيره إلى سيبويه جواز إعمالها إعمال ما ، وليس في كتابه نص على ذلك. ومعنى يظنون ، قال مجاهد : يكذبون ، وقال آخرون : يتحدثون ، وقال آخرون : يشكون ، وهو التردد بين أمرين ، لا يترجح أحدهما على الناظر فيهما ، والأولى حمله على موضوعه الأصلي ، وهو الترجيح لأحد الأمرين على الآخر ، إذ لا يمكن حمله على اليقين ، ولا يلزم من الترجيح عندهم أن يكون ترجيحا في نفس الأمر. وقال مقاتل : معناه ليسوا على يقين ، إن كذب الرؤساء ، أو صدقوا ، بايعوهم. انتهى كلامه. وأتى بالخبر فعلا مضارعا ، ولم يأت باسم الفاعل ، لأنه يدل على حدوث الظن وتجدده لهم شيئا فشيئا ، فليسوا ثابتين على ظن واحد ، بل يتجدد لهم ظنون دالة على اضطراب عقائدهم واختلاف أهوائهم. وفي هذه الآية دليل على أن المعارف كسبية ، وعلى بطلان التقليد ، وعلى أن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١١١.

٤٤٥

المغتر بإضلال المضل مذموم ، وعلى أن الاكتفاء بالظن في الأصول غير جائز ، وعلى أن القول بغير دليل باطل ، وعلى أن ما تساوي وجوده وعدمه لا يجوز المصير إلى أحدهما إلا بدليل سمعي ، وتمسك بها أيضا منكرو القياس ، وخبر الواحد ، لأنهما لا يفيدان العلم.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) الآية. قيل : نزلت في الذين غيروا صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبدّلوا نعته ، فجعلوه آدم سبطا طويلا ، وكان في كتابهم على الصفة التي هو بها ، فقالوا لأصحابهم وأتباعهم : انظروا إلى صفة هذا النبي الذي يبعث في آخر الزمان ، ليس يشبه نعت هذا ، وكانت الأحبار من اليهود يخافون أن يذهب مأكلتهم بإبقاء صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حالها ، فلذلك غيروها. وقيل : خاف ملوكهم على ملكهم ، إذا آمن الناس كلهم ، فجاءوا إلى أحبار اليهود فجعلوا لهم عليهم وضائع ومآكل ، وكشطوها من التوراة ، وكتبوا بأيديهم كتابا ، وحللوا فيه ما اختاروا ، وحرموا ما اختاروا. وقيل : نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي ، ولم يتبعوا كتابا ، بل كتبوا بأيديهم كتابا ، وحللوا فيه ما اختاروا ، وحرموا ما اختاروا ، وقالوا : هذا من عند الله. وقال أبو مالك : نزلت في عبد الله بن سعد بن سرح ، كاتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يغيره فارتد. وقد تقدم شرح ويل عند الكلام على المفردات ، وذكر عن عثمان ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه جبل من نار جهنم ، وذكر أن أبا سعيد روى : أنه واد في جهنم بين جبلين ، يهوي فيه الهاوي ، وذكر أن سفيان وعطاء بن يسار رويا أنه واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار. وحكى الزهراوي وجماعة : أنه باب من أبواب جهنم. وقيل : هو صهريج في جهنم. وقيل ، عن سعيد بن جبير ، إنه واد في جهنم ، لو سجرت فيه جبال الدنيا لانماعت من حره ، ولو صح في تفسير الويل شيء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لوجب المصير إليه. وقد تكلمت العرب في نظمها ونثرها بلفظة الويل قبل أن يجيء القرآن ، ولم تطلقه على شيء من هذه التفاسير ، وإنما مدلوله ما فسره أهل اللغة ، وهو نكرة فيها معنى الدعاء ، فلذلك جاز الابتداء بها ، إذ الدعاء أحد المسوّغات لجواز الابتداء بالنكرة ، وهي تقارب ثلاثين مسوّغا ، وذكرناها في كتاب (منهج المسالك) من تأليفنا.

والكتابة معروفة ، ويقال أول من كتب بالقلم إدريس ، وقيل : آدم. والكتاب هنا قيل : كتبوا أشياء اختلقوها ، وأحكاما بدلوها من التوراة حتى استقر حكمها بينهم. وقيل : كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبنوها في سفهائهم ، وفي العرب ، وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل ، وصار سفهاؤهم ، ومن يأتيهم من مشركي العرب ، إذا سألوهم عن صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقولون : ما هو هذا الموصوف عندنا في

٤٤٦

التوراة المبدلة المغيرة ، ويقرأونها عليهم ويقولون لهم : هذه التوراة التي أنزلت من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. بأيديهم : تأكيد يرفع توهم المجاز ، لأن قولك : زيد يكتب ، ظاهره أنه يباشر الكتابة ، ويحتمل أن ينسب إليه على طريقة المجاز ، ويكون آمرا بذلك ، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب ، وإنما المعنى : أمر بالكتابة ، لأن الله تعالى قد أخبر أنه النبي الأمي ، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب. وقد قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (١). ونظير هذا التأكيد (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) ، و (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) ، وقوله :

نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا

فهذه كلها أتى بها لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، ولرفع المجاز الذي كان يحتمله. وفي هذا التأكيد أيضا تقبيح لفعلهم ، إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير ، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم ، واجترحوه بأيديهم. وقال ابن السرّاج : ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم ، ومن عند أنفسهم ، من غير أن ينزل عليهم. انتهى كلامه. ولا يدل على ما ذكر ، لأن مباشرة الشيء باليد لا تقتضي الاختلاق ، ولا بد من تقدير حال محذوفة يدل عليها ما بعدها ، التقدير : يكتبون الكتاب بأيديهم محرّفا ، أو نحوه مما يدل على هذا المعنى لقوله بعد ثم : (يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، إذ لا إنكار على من يباشر الكتاب بيده إلا إذا وضعه غير موضعه ، فلذلك قدرنا هذه الحال.

(ثُمَّ يَقُولُونَ) : أي لأتباعهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء لهم ، ومعمول القول هذه الجملة التي هي : (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا) ، علة في القول ، وهي لام كي ، وقد تقدم الكلام عليها قبل. وهي مكسورة لأنها حرف جر ، فيتعلق بيقولون. وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقة بالاستقرار ، وبنو العنبر يفتحون لام كي ، قال مكي في إعراب القرآن له. (بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ، به : متعلق بقوله : ليشتروا ، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم : (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، وهو المكتوب المحرّف. وتقدّم القول في الاشتراء في قوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) (٢). والثمن هنا : هو عرض الدنيا ، أو الرّشا والمآكل التي كانت لهم ، ووصف بالقلة لكونه فانيا ، أو حراما ، أو حقيرا ، أو لا يوازنه شيء ، لا ثمن ، ولا مثمن. وقد جمعوا في هذا الفعل أنهم ضلوا وأضلوا وكذبوا على الله ، وضموا إلى ذلك

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٦.

٤٤٧

حب الدنيا. وهذا الوعيد مرتب على كتابة الكتاب المحرّف ، وعلى إسناده إلى الله تعالى. وكلاهما منكر ، والجمع بينهما أنكر. وهذا يدل على تحريم أخذ المال على الباطل ، وإن كان برضا المعطي.

(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) : كتابتهم مقدمة ، نتيجتها كسب المال الحرام ، فلذلك كرر الويل في كل واحد منهما ، لئلا يتوهم أن الوعيد هو على المجموع فقط. فكل واحد من هذين متوعد عليه بالهلاك. وظاهر الكسب هو ما أخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام ، وهو الأليق بمساق الآية. وقيل : المراد بما يكسبون الأعمال السيئة ، فيحتاج في كلا القولين إلى اختصاص ، لأن ما يكسبون عام ، والأولى أن يقيد بما ذكرناه.

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) سبب نزول هذه الآية : أنهم زعموا أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة ، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ، قالوا : إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم ، فتذهب جهنم وتهلك. روي ذلك عن ابن عباس. وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اليهود من أهل النار» قالوا : نحن ثم تخلفوننا أنتم ، فقال : «كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم» فنزلت هذه الآية. وروي عنهم أنهم يعذبون سبعة أيام ، عدد أيام الدنيا ، سبعة آلاف لكل ألف يوم ، ثم ينقطع العذاب. وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوما ، عدد عبادتهم العجل ، وقيل : أربعين يوما تحلة القسم. وقيل : أربعين ليلة ، ثم ينادي : اخرجوا كل مختون من بني إسرائيل ، فنزلت هذه الآية ، والضمير في : وقالوا ، عائد على الذين يكتبون الكتاب. جمعوا ، إلى تبديل كتاب الله وتحريفه ، وأخذهم به المال الحرام ، وكذبهم على أنه من عند الله ، الإخبار بالكذب البحت عن مدة إقامتهم في النار. وقد تقدم أن المس هو الإصابة ، أي لن تصيبنا النار إلا أياما ، استثناء مفرّغ ، أي لن تمسنا النار أبدا إلا أياما معدودة ، وقد تقدم ذكر العدد في الأيام بأنها سبعة أو أربعون. وقيل : أراد بقوله : معدودة ، أي قلائل يحصرها العدّ ، لا أنها معينة العد في نفسها.

ثم أخذ في رد هذه الدعوى والأخبار الكاذبة فقال : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) أي مثل هذا الإخبار الجزم لا يكون إلا ممن اتخذ عند الله عهدا بذلك ، وأنتم لم تتخذوا به عهدا ، فهو كذب وافتراء. وأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم بهذا الاستفهام الذي يدل على إنكار ما قالوه. وهمزة الوصل من اتخذ ، انحذفت لأجل همزة الاستفهام ، ومن سهل بنقل حركتها

٤٤٨

على اللام وحذفها قال : قل اتخذتم ، بفتح اللام ، لأن الهمزة كانت مفتوحة. وعند الله : ظرف منصوب باتخذتم ، وهي هنا تتعدى لواحد ، ويحتمل أن تتعدى إلى اثنين ، فيكون الثاني الظرف ، فيتعلق بمحذوف ، والعهد هنا : الميثاق والموعد ، وقال ابن عباس معناه : هل قلتم لا إله إلا الله ، وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار؟ فعلى التأويل الأول المعنى : هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون؟ وعلى الثاني : هل أسلفتم عند الله أعمالا توجب ما تدعون؟.

(فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) : هذه الجملة جواب الاستفهام الذي ضمن معنى الشرط ، كقولك : أيقصدنا زيد؟ فلن نجيب من برنا. وقد تقدم الخلاف في جواب هذه الأشياء ، هل ذلك بطريق التضمين أي يضمن الاستفهام والتمني والأمر والنهي إلى سائر باقيها معنى الشرط؟ أم يكون الشرط محذوفا بعدها؟ ولذلك قال الزمخشري : فلن يخلف متعلق بمحذوف تقديره : إن اتخذتم عنده عهدا فلن يخلف الله عهده ، كأنه اختار القول الثاني من أن الشرط مقدر بعد هذه الأشياء. وقال ابن عطية : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) ، اعتراض في أثناء الكلام ، كأنه يريد أن قوله : (أَمْ تَقُولُونَ) معادل لقوله : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) ، فصارت هذه الجملة ، بين هاتين اللتين وقع بينهما التعادل ، جملة اعتراضية ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وكأنه يقول : أي هذين واقع؟ أاتخاذكم العهد عند الله؟ أم قولكم على الله ما لا تعلمون؟ وأخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير ، وإن كان قد علم وقوع أحدهما ، وهو قولهم : (عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، ونظيره : (وَإِنَّا ، أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١). وقد علم أيهما على هدى وأيهما هو في ضلال. وقيل : أم هنا منقطعة فيتقدر ببل والهمزة ، كأنه قال : بل أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ وهو استفهام إنكار ، لأنه قد وقع منهم قولهم : على الله ما لا يعلمون ، فأنكروا عليهم صدور هذا منهم. وفي قوله : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) دليل على أن الله لا يخلف وعده. واختلف في الوعيد ، فذهب الجمهور إلى أنه لا يخلفه ، كما لا يخلف وعده. وذهب قوم إلى جواز إخلاف إيعاده ، وقالوا : إخلاف الوعد قبيح ، وإخلاف الوعيد حسن ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين.

(بَلى) : حرف جواب يثبت به ما بعد النفي ، فإذا قلت : ما قام زيد ، فقلت : نعم ، كان تصديقا في نفي قيام زيد. وإذا قلت : بلى ، كان نقضا لذلك النفي. فلما قالوا : (لَنْ

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٢٤.

٤٤٩

تَمَسَّنَا النَّارُ) ، أجيبوا بقوله : ومعناها : تمسكم النار. والمعنى على التأبيد ، وبين ذلك بالخلود. (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) من : يحتمل أن تكون شرطية ، ويحتمل أن تكون موصولة ، والمسوّغات لجواز دخول الفاء في الخبر ، إذا كان المبتدأ موصولا ، موجودة هنا ، ويحسنه المجيء في قسيمة بالذين ، وهو موصول. والسيئة : الكفر والشرك ، قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل : الموجبة للنار ، قاله السدي ، وعليه تفسير من فسر السيئة بالكبائر ، لأنها هي التي توجب النار ، أي يستحق فاعلها النار إن لم تغفر له.

(وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) : قرأ الجمهور بالإفراد ، ونافع : خطيئاته جمع سلامة ، وبعض القراء : خطاياه جمع تكسير ، والمعنى أنها أخذته من جميع نواحيه. ومعنى الإحاطة به أنه يوافي على الكفر والإشراك ، هذا إذا فسرت الخطيئة بالشرك. ومن فسرها بالكبيرة ، فمعنى الإحاطة به أن يموت وهو مصر عليها ، فيكون الخلود على القول الأول المراد به الإقامة ، لا إلى انتهاء. وعلى القول الثاني المراد به الإقامة دهرا طويلا ، إذ مآله إلى الخروج من النار. قال الكلبي : أوثقته ذنوبه. وقال ابن عباس : أحبطت حسناته. وقال مجاهد : غشيت قلبه. وقال مقاتل : أصرّ عليها. وقال الربيع : مات على الشرك. قال الحسن : كل ما توعد الله عليه بالنار فهو الخطيئة المحيطة. ومن ، كما تقدم ، لها لفظ ومعنى ، فحمل أولا على اللفظ ، فقال : من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ، وحمل ثانيا على المعنى ، وهو قوله : (فَأُولئِكَ) ، إلى آخره. وأفرد سيئة لأنه كنى به عن مفرد ، وهو الشرك. ومن أفرد الخطيئة أراد بها الجنس ومقابلة السيئة ، لأن السيئة مفردة ، ومن جمعها فلأن الكبائر كثيرة ، فراعى المعنى وطابق به اللفظ. وذهب قوم إلى أن السيئة والخطيئة واحدة ، وأن الخطيئة وصف للسيئة. وفرق بعضهم بينهما فقال : السيئة الكفر ، والخطيئة ما دون الكفر من المعاصي ، قاله مجاهد وأبو وائل والربيع بن أنس. وقيل : إن الخطيئة الشرك ، والسيئة هنا ما دون الشرك من المعاصي. قال الزمخشري : وأحاطت به خطيئته تلك ، واستولت عليه ، كما يحيط العدو ، ولم ينقص عنها بالتوبة. انتهى كلامه. وهذا من دسائسه التي ضمنها كتابه ، إذ اعتقاد المعتزلة أن من أتى كبيرة ، ولم يتب منها ، ومات ، كان خالدا في النار.

وفي قوله : (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) : إشارة إلى أن المراد : الكفار ، ويدل على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون». وقد رتب كونهم أصحاب النار على وجود أمرين : أحدهما ، كسب السيئة ، والآخر : إحاطة الخطيئة.

٤٥٠

وما رتب على وجود شرطين لا يترتب على وجود أحدهما ، فدل ذلك على أن من لم يكسب سيئة ، وهي الشرك ، وإن أحاطت به خطيئته ، وهي الكبائر ، لا يكون من أصحاب النار ، ولا ممن يخلد فيها. ويعني بأصحاب النار : الذين هم أهلها حقيقة ، لا من دخلها ثم خرج منها.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) : لما ذكر أهل النار ، وما أعد لهم من الهلاك : أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان ، وما أعد لهم من الخلود في الجنان. والمراد بالذين آمنوا : أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومؤمنو الأمم قبله ، قاله ابن عباس وغيره ، وهو ظاهر اللفظ ، وقال ابن زيد : هو خاص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّته ، وقلّ ما ذكر في القرآن آية في الوعيد ، إلا وذكرت آية في الوعد. وفائدة ذلك ظهور عدله تعالى ، واعتدال رجاء المؤمن وخوفه ، وكمال رحمته بوعده وحكمته بوعيده.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة استبعاد طمع المؤمنين في إيمان من سبق من آبائه التشريف بسماع كلام الله ، ثم مقابلة ذلك بعظيم التحريف ، هذا على علم منهم بقبيح ما ارتكبوه. وهؤلاء المطموع في إيمانهم هم أبناء أولئك المحرفين ، فهم على طريقة آبائهم في الكفر ، ثم قد انطووا من حيث السريرة على مداجاة المؤمنين ، بحيث إذا لقوهم أفهموهم أنهم مؤمنون ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض ، أنكروا عليهم ما يتكلمون به مع المؤمنين من إخبار بشيء مما في كتبهم ، وذلك مخافة أن يحتج المؤمنون عليهم بما في كتابهم ، ثم أنكر تعالى عليهم ذلك بأنهم قد علموا أن الله يعلم سرّهم ونجواهم ، فلا يناسب ذلك إلا الانقياد إلى كتاب الله ، والإخبار بما فيه ، واتباع ما تضمنه من الأمر ، باتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإيمان بما يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، ولكنهم كفروا عنادا وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا.

ثم لما ذكر حال هؤلاء الذين هم من أهل العلم ، ولم ينتفعوا بعلمهم ، ذكر أيضا مقلدتهم وعوامّهم ، وأنهم لا يعلمون من الكتاب إلا ألفاظا مسموعة ، وأن طريقهم في أصول دياناتهم إنما هو حسن ظنهم بعلمائهم المحرّفين المبدّلين. ثم توعد الله تعالى بالهلاك والحسرة ، من حرّف كلام الله وادّعى أنه من عند الله ، لتحصيل غرض من الدنيا تافه نزر لا يبقى ، فباع باقيا بفان.

٤٥١

ثم كرّر الوعيد على ما فعلوه ، ثم أخبر عنهم بما صدر عنهم من الكذب البحت ، بأن لبثهم في النار أياما معدودة ، وأن ذلك إخبار ليس صادرا عن عهد اتخذوه عند الله ، بل قول على الله بما لا علم لهم به ، ثم ردّ عليهم دعواهم تلك بقوله : (بَلى) ، ثم قسم الناس إلى قسمين كافر ، وهو صاحب النار ، ومؤمن وهو صاحب الجنة ، وأنهم اندرجوا تحت قسم الكافر ، لأنهم كسبوا السيئات ، وأحاطت بهم الخطيئات ، وناهيك ما اقتص الله فيهم من أول السورة إلى هنا ، وما يقص بعد ذلك مما ارتكبوه من الكفر والمخالفات.

وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)

الوالدان : الأب والأمّ ، وكل منهما يطلق عليه والد ، وظاهر الإطلاق الحقيقة. قال :

وذي ولد لم يلده أبوان

ويقال للأم : والد ووالدة ، وقيل : الوالد للأب وحده ، وثنيا تغليبا للمذكر. الإحسان : النفع بكل حسن. ذو : بمعنى صاحب ، وهو من الأسماء الستة التي ترفع ، وفيها الواو ، وتنصب وفيها الألف ، وتجرّ وفيها الياء. وأصلها عند سيبويه ، ذوي ، ووزنها عنده : فعل ، وعند الخليل : ذوّة ، من باب خوّة ، وقوّة ، ووزنها عنده فعل ، وهو لازم الإضافة ،

٤٥٢

وتنقاس إضافته إلى اسم جنس ، وفي إضافته إلى مضمر خلاف ، وقد يضاف إلى العلم وجوبا ، إذا اقترنا وضعا ، كقولهم : ذو جدن ، وذو يزن ، وذو رعين ، وذو الكلاع ، وإن لم يقترنا وضعا ، فقد يجوز ، كقولهم : في عمرو ، وقطرى : ذو عمرو ، وذو قطرى ، ويعنون به صاحب هذا الاسم. وإضافته إلى العلم في وجهته مسموع ، وكذلك : أنا ذو بكة ، واللهم صلّ على محمد وعلى ذويه. ومما أضيف إلى العلم ، وأريد به معنى : ذي مال ، ومما أضيف إلى ضمير العلم ، وأضيف أيضا إلى ضمير المخاطب ، قال الشاعر :

وإنا لنرجو عاجلا منك مثل ما

رجونا قدما من ذويك الأفاضل

وقد أتت ذو في لغة طيّ موصولة ، ولها أحكام في النحو. القربى : مصدر كالرجعى ، والألف فيه للتأنيث ، وهي قرابة الرحم والصلب ، قال طرفة :

وقربت بالقربى وجدك أنه

متى يك أمر للنكيثة أشهد

وقال أيضا :

وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة

على الحر من وقع الحسام المهند

اليتامى : فعالى ، وهو جمع لا ينصرف ، لأن الألف فيه للتأنيث ، ومفرده : يتيم ، كنديم ، وهو جمع على غير قياس ، وكذا جمعه على أيتام. وقال الأصمعي : اليتم في بني آدم من قبل الأب ، وفي غيرهم من قبل الأم. وحكى الماوردي : إن اليتم في بني آدم يقال : من فقد الأم ، والأوّل هو المعروف ، وأصله الانفراد. فمعنى صبي يتيم : أي منفرد عن أبيه ، وسميت الدرّة التي لا مثيل لها : يتيمة لانفرادها ، قاله ثعلب. وقيل : أصل اليتم : الغفلة ، وسمي الصبي يتيما ، لأنه يتغافل عن بره. وقيل : أصل اليتم : الإبطاء ، ومنه أخذ اليتيم ، لأن البر يبطىء عنه ، قاله أبو عمرو. المساكين : جمع مسكين ، وهو مشتق من السكون ، فالميم زائدة ، كمحضير من الحضر. وقد روي : تمسكن فلان ، والأصح في اللغة تسكن ، أي صار مسكينا ، وهو مرادف للفقير ، وهو الذي لا شيء له. وقيل : هو الذي له أدنى شيء. الحسن والحسن ، قيل : هما لغتان : كالبخل والبخل. والحسن : مصدر حسن ، كالقبح مصدر قبح ، مقابل حسن. القليل : اسم فاعل من قلّ ، كما أن كثيرا مقابله اسم فاعل من كثر. يقال : قل يقل قلة وقلا وقلا ، الإعراض : التولي ، وقيل : التولي بالجسم ، والإعراض بالقلب. والعرض : الناحية ، فيمكن أن يكون قولك : أعرض زيد عن

٤٥٣

عمرو ، أي صار في ناحية منه ، فتكون الهمزة فيه للصيرورة : الدم : معروف ، وهو محذوف اللام ، وهي ياء ، لقوله :

جرى الدميان بالخبر اليقين

أو : واو ، لقولهم : دموان ، ووزنه فعل. وقيل : فعل ، وقد سمع مقصورا ، قال :

غفلت ثم أتت تطلبه

فإذا هي بعظام ودما

وقال :

ولكن على أعقابنا يقطر الدما

في رواية من رواه كذلك ، وقد سمع مشدّد الميم ، قال الشاعر :

أهان دمّك فرغا بعد عزته

يا عمرو نعيك إصرارا على الحسد

الديار : جمع دار ، وهو قياس في فعل الاسم ، إذا لم يكن مضاعفا ، ولا معتل لام نحو : طلل ، وفتى. والياء في هذا الجمع منقلبة عن واو ، إذ أصله دوار ، وهو قياس ، أعني هذا الإبدال إذا كان جمعا لواحد معتل العين ، كثوب وحوض ودار ، بشرط أن يكون فعالا صحيح اللام. فإن كان معتله ، لم يبدل نحو : رواو ، قالوا : في جمع طويل : طوال وطيال. أقرّ بالشيء : اعترف به. تظاهرون : تتعاونون ، كأنّ المتظاهرين يسند كل واحد منهم ظهره إلى صاحبه ، والظهر : المعين. الإثم : الذنب ، جمعه آثام. الأسرى : جمع أسير ، وفعلى مقيس في فعيل ، بمعنى : ممات ، أو موجع ، كقتيل وجريح. وأما الأسارى فقيل : جمع أسير ، وسمع الأسارى بفتح الهمزة ، وليست بالعالية. وقيل : أسارى جمع أسرى ، فيكون جمع الجمع ، قاله المفضل. وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى : من في اليد ، والأسارى : من في الوثاق ، والأسير : هو المأخوذ على سبيل القهر والغلبة. الفداء : يكسر أوله فيمد ، كما قال النابغة :

مهلا فداء لك الأقوام كلهم

وما أثمروا من مال ومن ولد

ويقصر ، قال :

فدا لك من رب طريفي وتالدي

وإذا فتح أوّله قصر ، يقال : قم فدا لك أبي ، قاله الجوهري. ومعنى فدى فلان فلانا : أي أعطى عوضه. المحرّم : اسم مفعول من حرم ، وهو راجع إلى معنى المنع.

٤٥٤

تقول : حرمه يحرمه ، إذا منعه. الجزاء : المقابلة ، ويطلق في الخير والشر. الخزي : الهوان. قال الجوهري : خزي ، بالكسر ، يخزى خزيا. وقال ابن السكيت : معنى خزي : وقع في بلية ، وأخزاه الله أيضا ، وخزى الرجل في نفسه يخزى خزاية ، إذا استحيا ، وهو خزيان ، وقوم خزايا ، وامرأة خزيا. الدنيا : تأنيث الأدنى ، ويرجع إلى الدنو ، بمعنى القرب. والألف فيه للتأنيث ، ولا تحذف منها الألف واللام إلا في شعر ، نحو قوله :

في سعي دنيا طالما قد مدّت

والدنيا تارة تستعمل صفة ، وتارة تستعمل استعمال الأسماء ، فإذا كانت صفة ، فالياء مبدلة من واو ، إذ هي مشتقة من الدنو ، وذلك نحو : العليا. ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) (١) ، فأما القصوى والحلوى فشاذ. وإذا استعملت استعمال الأسماء ، فكذلك. وقال أبو بكر بن السرّاج : في (المقصور والممدود) له الدنيا مؤنثة مقصورة ، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة ، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو ، فيقولون : دنوى ، مثل : شروى ، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو ، يفتحون أولها ويقلبون الواو ياء ، لأنهم يستثقلون الضمة والواو.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) الآية ، هذه الآية مناسبة للآيات الواردة قبلها في ذكر توبيخ بني إسرائيل وتقريعهم ، وتبيين ما أخذ عليهم من ميثاق العبادة لله ، وإفراده تعالى بالعبادة ، وما أمرهم به من مكارم الأخلاق ، من صلة الأرحام والإحسان إلى المساكين ، والمواظبة على ركني الإسلام البدني والمالي : ثم ذكر توليهم عن ذلك ، ونقضهم لذلك الميثاق ، على عادتهم السابقة وطريقتهم المألوفة لهم. وإذ : معطوف على الظروف السابقة قبل هذا. والميثاق : هو الذي أخذه تعالى عليهم ، وهم في صلب آبائهم كالذرّ ، قاله : مكي ، وضعف بأن الخطاب قد خصص ببني إسرائيل ، وميثاق الآية فيهم ، أو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه‌السلام وغيره من أنبيائهم ، قاله ابن عطية. وقيل : هو ميثاق أخذ عليهم في التوراة ، بأن يعبدوه ، إلى آخر الآيات. وقرأ

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٤.

٤٥٥

ابن كثير وحمزة والكسائي : لا يعبدون ، بالياء. وقرأ الباقون : بالتاء من فوق. وقرأ أبيّ وابن مسعود : لا يعبدوا ، على النهي. فأما لا يعبدون فذكروا في إعرابه وجوها.

أحدها : أنه جملة منفية في موضع نصب على الحال من بني إسرائيل ، أي غير عابدين إلا الله أي موحدين الله ومفرديه بالعبادة ، وهو حال من المضاف إليه ، وهو لا يجوز على الصحيح. لا يقال إن المضاف إليه يمكن أن يكون معمولا في المعنى لميثاق ، إذ يحتمل أن يكون مصدرا ، أو حكمه حكم المصدر. وإذا كان كذلك ، جاز أن يكون المجرور بعده فاعلا في المعنى ، أو مفعولا لأن الذي يقدر فيه العمل هو ما انحل إلى حرف مصدري والفعل ، وهنا ليس المعنى على أن ينحل ، لذلك فلا يجوز الحكم على موضعه برفع ولا نصب ، لأنك لو قدرت أخذنا أن نواثق بني إسرائيل ، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل ، لم يصح ، بل لو فرضنا كونه مصدرا حقيقة : لم يجز فيه ذلك. ألا ترى أنك لو قلت : أخذت علم زيد ، لم ينحل لحرف مصدري والفعل : لا يقال : أخذت أن يعلم زيد. فإذا لم يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل ، ولا كان من ضربا زيدا ، لم يعمل على خلاف في هذا الأخير ، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه هذا. باب علم ما الكلم من العربية : أن يتقدر المصدّر بحرف مصدري والفعل ، وردّ ذلك على من أجازه. وممن أجازه أن تكون الجملة حالا : المبرد وقطرب ، قالوا : ويجوز أن يكون حالا مقارنة ، وحالا مقدرة. الوجه الثاني : أن تكون الجملة جوابا لقسم محذوف دل عليه قوله : (أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، أي استحلفناهم والله لا يعبدون ، ونسب هذا الوجه إلى سيبويه ، وأجازه الكسائي والفراء والمبرد. الوجه الثالث : أن تكون أن محذوفة ، وتكون أن وما بعدها محمولا على إضمار حرف جر ، التقدير : بأن لا تعبدوا إلا الله فحذف حرف الجر ، إذ حذفه مع أن ، وأن جائز مطرد ، إذ لم يلبس ، ثم حذف بعد ذلك ، أن ، فارتفع الفعل ، فصار لا تعبدون ، قاله الأخفش ، ونظيره من نثر العرب : مره يحفرها ، ومن نظمها قوله :

ألا أيهذا الزّاجري احضر الوغى

أصله : مره بأن يحفرها. وعن : أن أحضر الوغى ، فجرى فيه من العمل ما ذكرناه. وهذا النوع من إضمار أن في مثل هذا مختلف فيه ، فمن النحويين من منعه ، وعلى ذلك متأخر وأصحابنا. وذهب جماعة من النحويين إلى أنه يجوز حذفها في مثل هذا الموضع. ثم اختلفوا فقيل : يجب رفع الفعل إذ ذاك ، وهذا مذهب أبي الحسن. ومنهم من قال بنفي العمل ، وهو مذهب المبرد والكوفيين. والصحيح : قصر ما ورد من ذلك على السماع ، وما

٤٥٦

كان هكذا فلا ينبغي أن تخرج الآية عليه ، لأن فيه حذف حرف مصدري ، وإبقاء صلته في غير المواضع المنقاس ذلك فيها. الوجه الرابع : أن يكون التقدير : أن لا تعبدوا ، فحذف أن وارتفع الفعل ، ويكون ذلك في موضع نصب على البدل من قوله : (مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ). وفي هذا الوجه ما في الذي قبله من أن الصحيح عدم اقتياس ذلك ، أعني حذف أن ورفع الفعل ونصبه. الوجه الخامس : أن تكون محكية بحال محذوفة ، أي قائلين لا تعبدون إلا الله ، ويكون إذ ذاك لفظه لفظ الخبر ، ومعناه النهي ، أي قائلين لهم لا تعبدوا إلا الله ، قاله الفراء ، ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود ، والعطف عليه قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً). الوجه السادس : أن يكون المحذوف القول ، أي وقلنا لهم : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) ، وهو نفي في معنى النهي أيضا. قال الزمخشري : كما يقول تذهب إلى فلان ، تقول له كذا ، تريد الأمر ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي ، لأنه كان سورع إلى الامتثال والانتهاء ، فهو يخبر عنه. انتهى كلامه ، وهو حسن. الوجه السابع : أن يكون التقدير أن لا تعبدون ، وتكون أن مفسرة لمضمون الجملة ، لأن في قوله : (أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) معنى القول ، فحذف أن المفسرة وأبقى المفسر. وفي جواز حذف أن المفسرة نظر. الوجه الثامن : أن تكون الجملة تفسيرية ، فلا موضع لها من الإعراب ، وذلك أنه لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل ، كان في ذلك إيهام للميثاق ما هو ، فأتى بهذه الجملة مفسرة للميثاق ، فمن قرأ بالياء ، فلأن بني إسرائيل لفظ غيبة ، ومن قرأ بالتاء ، فهو التفات ، وحكمته الإقبال عليهم بالخطاب ، ليكون أدعى للقبول ، وأقرب للامتثال ، إذ فيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب. ومع جعل الجملة مفسرة ، لا تخرج عن أن يكون نفي أريد به نهي ، إذ تبعد حقيقة الخبر فيه.

إلا الله : استثناء مفرّع ، لأن لا تعبدون لم يأخذ مفعوله ، وفيه التفات. إذ خرج من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب. ألا ترى أنه لو جرى على نسق واحد لكان نظم الكلام لا تعبدون إلا إيانا؟ لكن في العدول إلى الاسم الظاهر من الفخامة ، والدلالة على سائر الصفات ، والتفرّد بالتسمية به ، ما ليس في المضمر ، ولأن ما جاء بعده من الأسماء ، إنما هي أسماء ظاهرة ، فناسب مجاورة الظاهر الظاهر.

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) المعنى : الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما وإكرامهما. وقد تضمنت آي من القرآن وأحاديث كثيرة ذلك ، حتى عد العقوق من الكبائر ، وناهيك احتفالا

٤٥٧

بهما كون الله قرن ذلك بعبادته تعالى ، ومن غريب الحكايات : أن عمر رأى امرأة تطوف بأبيها على ظهرها ، وقد جاءت به على ظهرها من اليمن ، فقال لها : جزاك الله خيرا ، لقد وفيت بحقه ، فقالت : ما وفيته ولا أنصفته ، لأن كان يحملني ويود حياتي ، وأنا أحمله وأود موته. واختلفوا فيما تتعلق به الباء في قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ) ، وفي انتصاب (إِحْساناً) على وجوه : أحدها : أن يكون معطوفا على لا تعبدون ، أعني على المصدر المنسبك من الحرف المصدري والفعل ، إذ التقدير عند هذا القائل بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين ، أي وببر الوالدين ، أو بإحسان إلى الوالدين ، ويكون انتصاب إحسانا على المصدر من ذلك المضاف المحذوف ، فالعامل فيه الميثاق ، لأنه به يتعلق الجار والمجرور ، وروائح الأفعال تعمل في الظروف والمجرورات. الوجه الثاني : أن يكون متعلقا بإحسانا ، ويكون إحسانا مصدرا موضوعا موضع فعل الأمر ، كأنه قال : وأحسنوا بالوالدين. قالوا : والباء ترادف إلى في هذا الفعل ، تقول : أحسنت به وإليه بمعنى واحد ، وقد تكون على هذا التقدير على حذف مضاف ، أي وأحسنوا ببر الوالدين ، المعنى : وأحسنوا إلى الوالدين ببرهما. وعلى هذين الوجهين يكون العامل في الجار والمجرور ملفوظا به. قال ابن عطية : ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له. انتهى كلامه. وهذا الاعتراض ، إنما يتم على مذهب أبي الحسن في منعه تقديم مفعول ، نحو : ضربا زيدا ، وليس بشيء ، لأنه لا يصح المنع إلا إذا كان المصدر موصولا بأن ينحل لحرف مصدري والفعل ، أما إذا كان غير موصول ، فلا يمتنع تقديمه عليه. فجائز أن تقول : ضربا زيدا ، وزيدا ضربا ، سواء كان العمل للفعل المحذوف العامل في المصدر ، أو للمصدر النائب عن الفعل ، لأن ذلك الفعل هو أمر ، والمصدر النائب عنه أيضا معناه الأمر. فعلى اختلاف المذهبين في العامل يجوز التقديم. الوجه الثالث : أن يكون العامل محذوفا ، ويقدر : وأحسنوا ، أو ويحسنون بالوالدين ، وينتصب إحسانا على أنه مصدر مؤكد لذلك الفعل المحذوف ، فتقديره : وأحسنوا ، مراعاة للمعنى ، لأن معنى لا تعبدون : لا تعبدوا ، أو تقديره : ويحسنون ، مراعاة للفظ لا تعبدون ، وإن كان معناه الأمر. وبهذين قدر الزمخشري هذا المحذوف. الوجه الرابع : أن يكون العامل محذوفا ، وتقديره : واستوصوا بالوالدين ، وينتصب إحسانا على أنه مفعول ، قاله المهدوي : الوجه الخامس : أن يكون العامل محذوفا ، وتقديره : ووصيناهم بالوالدين ، وينتصب إحسانا على أنه مفعول من أجله ، أي ووصيناهم بالوالدين إحسانا منا ، أي لأجل إحساننا ، أي أن التوصية بهما سببها إحساننا ، إما لأن من شأننا الإحسان ، أو

٤٥٨

إحسانا منا للموصين ، إذ يترتب لهم على امتثال ذلك الثواب الجزيل والأجر العظيم ، أو إحسانا منا للموصى بهم. وقد جاء هذا الفعل مصرّحا به في قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) (١). والمختار ، الوجه الثاني : لعدم الإضمار فيه ، ولاطراد مجيء المصدر في معنى فعل الأمر.

(وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) : معطوف على قوله : وبالوالدين. وكان تقديم الوالدين لأنهما آكد في البر والإحسان ، وتقديم المجرور على العامل اعتناء بمتعلق الحرف ، وهما الوالدان ، واهتماما بأمرهما. وجاء هذا الترتيب اعتناء بالأوكد. فبدأ بالوالدين ، إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما ، ثم بذي القربى ، لأن صلة الأرحام مؤكدة أيضا ، ولمشاركته الوالدين في القرابة ، ثم باليتامى ، لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب ، وقد جاء : «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وغير ذلك من الآثار ، ثم بالمساكين لما في الإحسان إليهم من الثواب. وتأخرت درجة المساكين ، لأنه يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام ، ويصلح معيشته ، بخلاف اليتامى ، فإنهم لصغرهم لا ينتفع بهم ، وهم محتاجون إلى من ينفعهم. وأول هذه التكاليف هو إفراد الله بالعبادة ، ثم الإحسان إلى الوالدين ، ثم إلى ذي القربى ، ثم إلى اليتامى ، ثم إلى المساكين. فهذه خمسة تكاليف تجمع عبادة الله ، والحض على الإحسان للوالدين ، والمواساة لذي القربى واليتامى والمساكين ، وأفرد ذا القربى ، لأنه أراد به الجنس ، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة.

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) : لما ذكر بعد عبادة الله الإحسان لمن ذكر ، وكان أكثر المطلوب فيه الفعل من الصلة والإطعام والافتقاد ، أعقب بالقول الحسن ، ليجمع المأخوذ عليه الميثاق امتثال أمر الله تعالى في الأفعال والأقوال ، فقال تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً). ولما كان القول سهل المرام ، إذ هو بذل لفظ ، لا مال ، كان متعلقه بالناس عموما إذ لا ضرر على الإنسان في الإحسان إلى الناس بالقول الطيب. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب : حسنا بفتح الحاء والسين. وقرأ عطاء بن أبي رباح وعيسى بن عمر : حسنا بضمهما. وقرأ أبي وطلحة بن مصرّف : حسنى ، على وزن فعل. وقرأ الجحدري : إحسانا. فأما قراءة الجمهور حسنا ، فظاهره أنه مصدر ، وأنه كان في الأصل قولا حسنا ، أما على حذف مضاف ، أي ذا حسن ، وأما على الوصف بالمصدر لإفراط حسنه ، وقيل : يكون

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٨.

٤٥٩

أيضا صفة ، لا أن أصله مصدر ، بل يكون كالحلو والمرّ ، فيكون الحسن والحسن لغتين ، كالحزن والحزن ، والعرب والعرب. وقيل : انتصب على المصدر من المعنى ، لأن المعنى : وليحسن قولكم حسنا. وأما من قرأ : حسنا بفتحتين ، فهو صفة لمصدر محذوف ، أي وقولوا للناس قولا حسنا. وأما من قرأ بضمتين ، فضمة السين إتباع لضمة الحاء. وأما من قرأ : حسنى ، فقال ابن عطية : رده سيبويه ، لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة ، إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ويبقى مصدرا ، كالعقبى ، فذلك جائز ، وهو وجه القراءة بها. انتهى كلامه. وفي كلامه ارتباك ، لأنه قال : لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة ، وليس على ما ذكر. أما أفعل فله استعمالات : أحدها : أن يكون بمن ظاهرة ، أو مقدرة ، أو مضافا إلى نكرة ، فهذا لا يتعرف بحال ، بل يبقى نكرة. والاستعمال الثاني : أن يكون بالألف واللام ، فإذ ذاك يكون معرفة بهما. الثالث : أن يضاف إلى معرفة ، وفي التعريف بتلك الإضافة خلاف ، وذلك نحو : أفضل القوم. وأما فعلى فلها استعمالان : أحدهما : بالألف واللام ، ويكون معرفة بهما. والثاني : بالإضافة إلى معرفة نحو : فضلى النساء. وفي التعريف بهذه الإضافة الخلاف الذي في أفعل ، فقول ابن عطية : لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة ، ليس بصحيح. وقوله : إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ، ويبقى مصدرا ، فيكون فعلى الذي هو مؤنث أفعل ، إذا أزلت منه معنى التفضيل يبقى مصدرا ، وليس كذلك ، بل لا ينقاس مجيء فعلى مصدرا إنما جاءت منه أليفاظ يسيرة. فلا يجوز أن يعتقد في فعلى ، التي مذكرها أفعل ، أنها تصير مصدرا إذا زال منها معنى التفضيل. ألا ترى أن كبرى وصغرى وجلى وفضلى ، وما أشبه ذلك ، لا ينقاس جعل شيء منها مصدرا بعد إزالة معنى التفضيل؟ بل الذي ينقاس على رأي أنك إذا أزلت منها معنى التفضيل ، صارت بمعنى : كبيرة وصغيرة وجليلة وفاضلة. كما أنك إذا أزلت من مذكرها معنى التفضيل ، كان أكبر بمعنى كبير ، وأفضل بمعنى فاضل ، وأطول بمعنى طويل. ويحتمل أن يكون الضمير في عنها عائدا إلى حسنى ، لا إلى فعلى ، ويكون استثناء منقطعا ، كأنه قال : إلا أن يزال عن حسنى ، وهي اللفظة التي قرأها أبي وطلحة معنى التفضيل ، ويبقى مصدرا ، ويكون معنى الكلام إلا إن كانت مصدرا ، كالعقبى. ومعنى قوله : وهو وجه القراءة بها ، أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين : أحدهما : المصدر ، كالبشرى ، ويحتاج ذلك إلى نقل أن العرب تقول : حسن حسنى ، كما تقول : رجع رجعى ، وبشر بشرى ، إذ مجيء فعلى كما ذكرنا مصدرا لا ينقاس. والوجه الثاني : أن يكون صفة

٤٦٠