البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

تلك : من أسماء الإشارة ، يطلق على المؤنثة في حالة البعد ، ويقال : تلك وتيلك وتالك ، بفتح التاء وسكون اللام ، وبكسرها وياء بعدها ، وكسر اللام وبفتحها ، وألف بعدها وكسر اللام ، قال :

إلى الجودي حتى صار حجرا

وحان لتالك الغمر انحسارا

هاتوا : معناه أحضروا ، والهاء أصلية لا بدل من همزة أتي ، لتعديها إلى واحد لا يحفظ هاتي الجواب ، وللزوم الألف ، إذ لو كانت همزة لظهرت ، إذ أزال موجب إبدالها ، وهو الهمزة قبلها ، فليس وزنها أفعل ، خلافا لمن زعم ذلك ، بل وزنها فاعل كرام. وهي فعل ، خلافا لمن زعم أنها اسم فعل ، والدليل على فعليتها اتصال الضمائر بها. ولمن زعم أنها صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر ، وهو الزمخشري ، وهو أمر وفعله متصرف. تقول : هاتي يهاتي مهاتاة ، وليس من الأفعال التي أميت تصريف لفظه إلا الأمر منه ، خلافا لمن زعم ذلك. وليست ها للتنبيه دخلت على أتى فألزمت همزة أتى الحذف ، لأن الأصل أن لا حذف ، ولأن معنى هات ومعنى ائت مختلفان. فمعنى هات أحضر ، ومعنى ائت أحضر. وتقول : هات هاتي هاتيا هاتوا هاتين ، تصرفها كرامي. البرهان : الدليل على صحة الدعوى ، قيل : هو مأخوذ من البرة ، وهو القطع ، فتكون النون زائدة. وقيل : من البرهنة ، وهي البيان ، قالوا : برهن إذا بين ، فتكون النون زائدة لفقدان فعلن ووجود فعلل ، فينبني على هذا الاشتقاق. التسمية ببرهان ، هل ينصرف أو لا ينصرف؟ الوجه : معروف ، ويجمع قلة على أوجه ، وكثرة على وجوه ، فينقاس أفعل في فعل الاسم الصحيح العين ، وينقاس فعول في فعل الاسم ليس عينه واوا. اليهود : ملة معروفة ، والياء أصلية ، فليست مادة الكلمة مادة هود من قوله : (هُوداً أَوْ نَصارى) ، لثبوتها في التصريف يهده. وأما هوّده فمن مادة هود. قال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين ، وهو الإمام الذي انتهى إليه علم اللسان في زمانه : يهود فيها وجهان ، أحدهما : أن تكون جمع يهودي ، فتكون نكرة مصروفة. والثاني : أن تكون علما لهذه القبيلة ، فتكون ممنوعة الصرف. انتهى كلامه. وعلى الوجه الأول دخلته الألف واللام فقالوا : اليهود ، إذ لو كان علما لما دخلته ، وعلى الثاني قال الشاعر :

أولئك أولى من يهود بمدحة

إذا أنت يوما قلتها لم تؤنب

ليس : فعل ماض ، خلافا لأبي بكر بن شقير ، وللفارسي في أحد قوليه ، إذ زعما أنها حرف نفي مثل ما ، ووزنها فعل بكسر العين. ومن قال : لست بضم اللام ، فوزنها عنده

٥٤١

فعل بضم العين ، وهو بناء نادر في الثلاثي اليائي العين ، لم يسمع منه إلا قولهم : هيؤ الرجل ، فهو هيىء ، إذا حسنت هيئته. وأحكام ليس كثيرة مشروحة في كتب النحو. الحكم : الفصل ، ومنه سمي القاضي : الحاكم ، لأنه يفصل بين الخصمين. الاختلاف : ضد الاتفاق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة ، بالنداء الدال على الإقبال عليهم ، وذلك أن أول نداء جاء أتى عامّا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (١) ، وثاني نداء أتى خاصا : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا) (٢) ، وهي الطائفة العظيمة التي اشتملت على الملتين : اليهودية والنصرانية ، وثالث نداء لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنين. فكان أول نداء عامّا ، أمروا فيه بأصل الإسلام ، وهو عبادة الله. وثاني نداء ، ذكروا فيه بالنعم الجزيلة ، وتعبدوا بالتكاليف الجليلة ، وخوّفوا من حلول النقم الوبيلة وثالث نداء : علموا فيه أدبا من آداب الشريعة مع نبيهم ، إذ قد حصلت لهم عبادة الله ، والتذكير بالنعم ، والتخويف من النقم ، والاتعاظ بمن سبق من الأمم ، فلم يبق إلا ما أمروا به على سبيل التكميل ، من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه. والتبجيل والخطاب بيا أيها الذين آمنوا متوجه إلى من بالمدينة من المؤمنين ، قيل : ويحتمل أن يكون إلى كل مؤمن في عصره. وروي عن ابن عباس : أنه حيث جاء هذا الخطاب ، فالمراد به أهل المدينة ، وحيث ورد يا أيها الناس ، فالمراد أهل مكة.

(لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) : بدىء بالنهي ، لأنه من باب التروك ، فهو أسهل. ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس ، قبل بالنهي. ثم لم يكن نهيا عن شيء سبق تحريمه ، ولكن لما كانت لفظة المفاعلة تقتضي الاشتراك غالبا ، فصار المعنى : ليقع منك رعي لنا ومنا رعي لك ، وهذا فيه ما لا يخفى مع من يعظم نهوا عن هذه اللفظة لهذه العلة ، وأمروا بأن يقولوا : انظرنا ، إذ هو فعل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا مشاركة لهم فيه معه. وقراءة الجمهور : راعنا. وفي مصحف عبد الله وقراءته ، وقراءة أبي : راعونا ، على إسناد الفعل لضمير الجمع. وذكر أيضا أن في مصحف عبد الله : ارعونا. خاطبوه بذلك إكبارا وتعظيما ، إذ أقاموه مقام الجمع. وتضمن هذا النهي ، النهي عن كل ما يكون فيه استواء مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ الحسن ، وابن أبي ليلى ، وأبو حيوة ، وابن محيصن : راعنا بالتنوين ، جعله

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٤٠.

٥٤٢

صفة لمصدر محذوف ، أي قولا راعنا ، وهو على طريق النسب كلابن وتامر. لما كان القول سببا في السبب ، اتصف بالرعن ، فنهوا في هذه القراءة عن أن يخاطبوا الرسول بلفظ يكون فيه ، أو يوهم شيئا من الغض ، مما يستحقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التعظيم وتلطيف القول وأدبه.

وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود كانت تقصد بذلك ، إذ خاطبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرعونة ، وكذا قيل في راعونا ، إنه فاعولا من الرعونة ، كعاشورا. وقيل : كانت لليهود كلمة عبرانية ، أو سريانية يتسابون بها وهي : راعينا ، فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا ، اقترضوه وخاطبوا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم يعنون تلك المسبة ، فنهي المؤمنون عنها ، وأمروا بما هو في معناها. ومن زعم أن راعنا لغة مختصة بالأنصار ، فليس قوله بشيء ، لأن ذلك محفوظ في جميع لغة العرب. وكذلك قول من قال : إن هذه الآية ناسخة لفعل قد كان مباحا ، لأن الأول لم يكن شرعا متقررا قبل. وقيل في سبب نزولها غير ذلك. وبالجملة ، فهي كما قال محمد بن جرير : كلمة كرهها الله أن يخاطب بها نبيه ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقولوا عبدي وأمتي وقولوا فتاي وفتاتي ولا تسموا العنب الكرم». وذكر في النهي وجوه : إن معناها اسمع لا سمعت ، أو إن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند المفر ، قاله قطرب ، أو أن اليهود كانوا يقولون : راعينا أي راعي غنمنا ، أو أنه مفاعلة فيوهم مساواة ، أو معناه راع كلامنا ولا تغفل عنه ، أو لأنه يتوهم أنه من الرعونة. وقوله : انظرنا ، قراءة الجمهور ، موصول الهمزة ، مضموم الظاء ، من النظرة ، وهي التأخير ، أي انتظرنا وتأنّ علينا ، نحو قوله :

فإنكما إن تنظراني ساعة

من الدهر تنفعني لدى أم جندب

أو من النظر ، واتسع في الفعل فعدى بنفسه ، وأصله أن يتعدى بإلى ، كما قال الشاعر :

ظاهرات الجمال والحسن ينظر

ن كما ينظر الأراك الظباء

يريد : إلى الأراك ، ومعناه : تفقدنا بنظرك. وقال مجاهد : معناه فهمنا وبين لنا ، فسر باللازم في الأصل ، وهو انظر ، لأنه يلزم من الرفق والإمهال على السائل ، والتأني به أن يفهم بذلك. وقيل : هو من نظر البصيرة بالتفكر والتدبر فيما يصلح للمنظور فيه ، فاتسع في الفعل أيضا ، إذ أصله أن يتعدى بفي ، ويكون أيضا على حذف مضاف ، أي انظر في أمرنا. قال ابن عطية : وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والظاهر عندي استدعاء نظر

٥٤٣

العين المقترن بتدبر الحال ، وهذا هو معنى : راعنا ، فبدلت للمؤمنين اللفظة ، ليزول تعلق اليهود. انتهى. وقرأ أبي والأعمش : أنظرنا ، بقطع الهمزة وكسر الظاء ، من الإنظار ، ومعناه : أخرنا وأمهلنا حتى نتلقى عنك. وهذه القراءة تشهد للقول الأول في قراءة الجمهور.

(وَاسْمَعُوا) : أي سماع قبول وطاعة. وقيل : معناه اقبلوا. وقيل : فرغوا أسماعكم حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة. وقيل : اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا تعودون إليه. أكد عليهم ترك تلك الكلمة. وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، فو الذي نفسي بيده ، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأضربن عنقه. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) : ظاهره العموم ، فيدخل فيه اليهود. وقيل : المراد به اليهود ، أي ولليهود الذين تهاونوا بالرسول وسبوه. ولما نهى أوّلا ، وأمر ثانيا ، وأمر بالسمع وحض عليه ، إذ في ضمنه الطاعة ، أخذ يذكر لمن خالف أمره وكفر ، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١).

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) : ذكر المفسرون أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه ، فأكذبهم الله بقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب : الذين بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والظاهر ، العموم في أهل الكتاب : وهم اليهود والنصارى ، وفي المشركين : وهم مشركو العرب وغيرهم ، ونفى بما ، لأنها لنفي الحال ، فهم ملتبسون بالبغض والكراهة أن ينزل عليكم. ومن ، في قوله : من أهل الكتاب ، تبعيضية ، فتتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب. ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس قال ذلك هنا ، وبه قال الزمخشري ، وأصحابنا لا يثبتون كونها للبيان. (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ، معطوف على : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ). ورأيت في كتاب لأبي إسحاق الشيرازي ، صاحب (التنبيه) ، كلاما يرد فيه على الشيعة ، ومن قال بمقالتهم : في أن مشروعية الرجلين في الوضوء هي المسح ، للعطف في قوله : (وَأَرْجُلَكُمْ) ، على قوله : (بِرُؤُسِكُمْ) ، خرج فيه أبو إسحاق قوله : وأرجلكم بالجر ، على أنه من الخفض على الجوار ، وأن أصله النصب فخفض عطفا على الجوار. وأشار في ذلك الكتاب إلى أن القرآن ولسان العرب يشهدان بجواز ذلك ، وجعل منه قوله : ولا المشركين ، في هذه الآية ،

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٦٣.

٥٤٤

وقوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) (١) ، وأن الأصل هو الرفع ، أي ولا المشركون ، عطفا على الذين كفروا ، وهذا حديث من قصر في العربية ، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة ، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح. ودخلت لا في قوله : ولا المشركين ، للتأكيد ، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها. ولم تأت في قوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) لمعنى يذكر هناك ، إن شاء الله تعالى.

(أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ) : في موضع المفعول بيود ، وبناؤه للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وللتصريح به في قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ). ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ). (مِنْ خَيْرٍ) ، من : زائدة ، والتقدير : خير من ربكم ، وحسن زيادتها هنا ، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي ، فليس نظير : ما يكرم من رجل ، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى ، لأنه إذا نفيت الودادة ، كان كأنه نفى متعلقها ، وهو الإنزال ، وله نظائر في لسان العرب ، من ذلك قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ) (٢). فلما تقدّم النفي حسن دخول الباء ، وكذلك قول العرب : ما ظننت أحدا يقول ذلك إلا زيد ، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول ، وإن لم يباشره حرف النفي ، لأن المعنى : ما يقول ذلك أحد إلا زيد ، فيما أظن. وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل. وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان ، فيجوز زيادتها ، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه ، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره. ويزيد الأخفش : أنه يجيز زيادتها في المعرفة. وذهب قوم إلى أن من للتبعيض ، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم ، ويكون المعنى : أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم.

(مِنْ رَبِّكُمْ) : من : لابتداء الغاية ، كما تقول : هذا الخير من زيد. ويجوز أن تكون للتبعيض. المعنى من خير كائن من خيور ربكم ، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله : ينزل ، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف ، وكان ذلك على حذف مضاف ، كما قدّرناه. والخير هنا : القرآن ، أو الوحي ، إذ يجمع القرآن وغيره ، أو ما خص به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التعظيم ؛ أو الحكمة والقرآن والظفر ؛ أو النبوة والإسلام ، أو العلم والفقه والحكمة ؛ أو هنا

__________________

(١) سورة البينة : ٩٨ / ١.

(٢) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٣٣.

٥٤٥

عام في جميع أنواع الخير ، فهم يودون انتفاء ذلك عن المؤمنين ، سبعة أقوال ، أظهرها الآخر. وسبب عدم ودهم ذلك : أما في اليهود ، فلكون النبوّة كانت في بني إسماعيل ، ولخوفهم على رئاستهم ، وأما النصارى ، فلتكذيبهم في ادعائهم ألوهية عيسى ، وأنه ابن الله ، ولخوفهم على رئاستهم ، وأما المشركون ، فلسبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم ، ولحسدهم أن يكون رجل منهم يختص بالرسالة ، واتباع الناس له.

(وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) : أي يفرد بها ، وضد الاختصاص : الاشتراك. ويحتمل أن يكون يختصّ هنا لازما ، أي ينفرد ، أو متعدّيا ، أي يفرد ، إذ الفعل يأتي كذلك. يقال : اختصّ زيد بكذا ، واختصصته به ، ولا يتعين هنا تعديه ، كما ذكر بعضهم ، إذ يصح ، والله يفرد برحمته من يشاء ، فيكون من فاعلة ، وهو افتعل من : خصصت زيدا بكذا. فإذا كان لازما ، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو : اضطررت ، وإذا كان متعديا ، كان موافقا لفعل المجرّد نحو : كسب زيد مالا ، واكتسب زيد مالا. والرحمة هنا عامة بجميع أنواعها ؛ أو النبوّة والحكمة والنصرة ، اختص بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله عليّ والباقر ومجاهد والزجاج ؛ أو الإسلام ، قاله ابن عباس ؛ أو القرآن ، أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١) ، وهو نبي الرحمة ، أقوال خمسة ، أظهرها الأول.

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) : قد تقدّم أن ذو بمعنى صاحب. وذكر جملة من أحكام ذو ، والوصف بذو ، أشرف عندهم من الوصف بصاحب ، لأنهم ذكروا أن ذو أبدا لا تكون إلا مضافة لاسم ، فمدلولها أشرف. ولذلك جاء ذو رعين ، وذو يزن ، وذو الكلاع ، ولم يسمعوا بصاحب رعين ، ولا صاحب يزن ونحوها. وامتنع أن يقول في صحابي أبي سعيد أو جابر : ذو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاز أن يقول : صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولذلك وصف الله تعالى نفسه بقوله : (ذُو الْجَلالِ) (٢) ، (ذُو الْفَضْلِ) ، وسيأتي الفرق بين قوله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) (٣) ، وقوله تعالى : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (٤) ، إن شاء الله تعالى. وتقدّم تفسير (الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٥) ، ويجوز أن يراد به هنا : جميع أنواع التفضلات ، فتكون أل للاستغراق ، وعظمه من جهة سعته وكثرته ، أو فضل النبوّة. وقد وصف تعالى ذلك بالعظم في قوله : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (٦) ، أو الشريعة ، فعظمها من جهة بيان

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠٧.

(٢) سورة الرحمن : ٥٥ / ٥٧.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.

(٤) سورة القلم : ٦٨ / ٤٨.

(٥) سورة البقرة : ٢ / ١٠٥.

(٦) سورة النساء : ٤ / ١١٣.

٥٤٦

أحكامها ، من حلال ، وحرام ، ومندوب ، ومكروه ، ومباح ؛ أو الثواب والجزاء ، فعظمه من جهة السعة والكثرة ، (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١) ، أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وعلى هذه التأويلات تكون أل للعهد ، والأظهر القول الأول.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) : سبب نزولها ، فيما ذكروا ، أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة ، وطعنوا في الإسلام قالوا : إن محمدا يأمر أصحابه بأمر اليوم ، وينهاهم عنه غدا ، ويقول اليوم قولا ، ويرجع عنه غدا ، ما هذا القرآن إلا من عند محمد ، وأنه يناقض بعضه بعضا ، فنزلت.

وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه ، وما اتفق عليه منه ، وما اختلف فيه ، وفي جوازه عقلا ، ووقوعه شرعا ، وبماذا ينسخ ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام ، وطوّلوا في ذلك. وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه ، فيبحث في ذلك كله فيه. وهكذا جرت عادتنا : أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم ، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم ، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير ، فنخرج عن طريقة التفسير ، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، المعروف بابن خطيب الري ، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة ، لا حاجة بها في علم التفسير. ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال : فيه كل شيء إلا التفسير.

وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه علم التفسير. فمن زاد على ذلك ، فهو فضول في هذا العلم ، ونظير ما ذكره الرازي وغيره ، أن النحوي مثلا يكون قد شرع في وضع كتاب في النحو ، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة ، فذكر أن الألف في الله ، أهي منقلبة من ياء أو واو؟ ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى ، فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل. ثم استطرد إلى جواز إرسال الرسل منه تعالى إلى الناس. ثم استطرد إلى أوصاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه ، ثم استطرد إلى أن من مضمونه البعث والجزاء بالثواب والعقاب. ثم المثابون في الجنة لا ينقطع نعيمهم ، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم. فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة ، إذا هو يتكلم في الجنة والنار ، ومن هذا سبيله في العلم ، فهو من التخليط

__________________

(١) سورة السجدة : ٣٢ / ١٧.

٥٤٧

والتخبيط في أقصى الدرجة ، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي ، قدّس الله تربته ، يقول ما معناه : متى رأيت الرجل ينتقل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف ، فاعلم أن ذلك ، إما لقصور علمه بذلك الفن ، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه ، حيث يظنّ أن المتغايرات متماثلات.

وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به من يقف عليه ، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير ، بل إنما تركنا ذلك عمدا ، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير. وأسأل الله التوفيق للصواب.

وما من قوله : ما ننسخ ، شرطية ، وهي مفعول مقدّم ، وفي ننسخ التفات ، إذ هو خروج من غائب إلى متكلم. ألا ترى إلى قوله : (وَاللهُ يَخْتَصُ)؟ (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ)؟ وقرأ الجمهور : ننسخ من نسخ ، بمعنى أزال ، فهو عام في إزالة اللفظ والحكم معا ، أو إزالة اللفظ فقط ، أو الحكم فقط. وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة : ما ننسخ من الإنساخ ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال : ليست لغة ، لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي للتعدية ، لأن المعنى يجيء : ما يكتب من آية ، أي ما ينزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخا. وليس الأمر كذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نجده منسوخا ، كما يقال : أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا ، وأبخلته إذا وجدته بخيلا. قال أبو عليّ : وليس نجده منسوخا إلا بأن ينسخه ، فتتفق القراءات في المعنى ، وإن اختلفا في اللفظ. انتهى كلامه. فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية ، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه ، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب. وجعل الزمخشري الهزة فيه للتعدية قال : وإنساخها الأمر بنسخها ، وهو أن يأمر جبريل عليه‌السلام بأن يجعلها منسوخة ، بالإعلام بنسخها ، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية. وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد ، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين. تقول : نسخ زيد الشيء ، أي أزاله ، وأنسخه إياه عمرو : أي جعل عمرو زيدا ينسخ الشيء ، أي يزيله. وقال ابن عطية : التقدير ما ننسخك من آية ، أي ما نبيح لك نسخه ، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ ، فسمى تلك الإباحة إنساخا. وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضا هو جعل الهمزة للتعدية ، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف ، أهو جبريل أم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ. وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ. وخرّج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو : أن تكون الهمزة فيه

٥٤٨

للتعدية أيضا ، وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة له ، قال : ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله ، أي ذلك فعلنا ، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك ، أو بمثله ، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها عائدين على الضمير في ننسأها. انتهى كلامه. وذهل عن القاعدة النحوية ، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه. وما في قوله : ما ننسخ شرطية ، وقوله : أو ننساها ، عائد على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائدا عليها نفسها من حيث اللفظ والمعنى ، إنما يعود عليها لفظا لا معنى ، فهو نظير قولهم : عندي درهم ونصفه ، فهو في الحقيقة على إضمار ما الشرطية. التقدير : أو ما ننسأ من آية ، ضرورة أن المنسوخ هو غير المنسوء ، لكن يبقى قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) مفلتا من الجواب ، إذ لا رابط فيه منه له ، وذلك لا يجوز ، فبطل هذا المعنى.

من آية ، من : هنا للتبعيض ، وآية مفرد وقع موقع الجمع ، ونظيره فارس في قولك : هذا أول فارس ، التقدير : أول الفوارس. والمعنى : أي شيء من الآيات. وكذلك ما جاء من هذا النحو في القرآن ، وفي كلام العرب تخريجه هكذا ، نحو قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) (١) ، (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ) (٢) ، وقولهم : من يضرب من رجل اضربه. ويتضح بهذا المجرور ما كان معمولا لفعل الشرط ، لأنه مخصص له ، إذ في اسم الشرط عموم ، إذ لو لم يأت بالمجرور لحمل على العموم. لو قلت : من يضرب أضرب ، كان عاما في مدلول من. فإذا قلت : من رجل ، اختص جنس الرجال بذلك ، ولم يدخل فيه النساء ، وإن كان مدلول من عامّا للنوعين. ولهذا المعنى جعل بعضهم من آية ، وما أشبهه في موضع نصب على التمييز. قال : والمميز ما قال ، والتقدير : أي شيء نسخ من آية. قال : ولا يحسن أن يقدر أي آية ننسخ ، لأنك لا تجمع بين آية وبين المميز بآية. لا تقول : أي آية ننسخ من آية ، ولا أي رجل يضرب من رجل أضربه. وجوّزوا أيضا أن تكون من زائدة ، وآية حالا. والمعنى : أي شيء ننسخ قليلا أو كثيرا. قالوا : وقد جاءت الآية حالا في قوله تعالى هذه : (ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) (٣) ، وهذا فاسد لأن ، الحال لا يجرّ بمن وجوّزوا أيضا أن تكون ما مصدرا ، وآية مفعولا به ، التقدير : أي نسخ ننسخ آية ، ومجيء ما الشرطية مصدرا

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٥٣.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٧٣.

٥٤٩

جائز ، تقول : ما تضرب زيدا أضرب مثله ، التقدير : أي ضرب تضرب زيدا أضرب مثله ، وقال الشاعر :

نعب الغراب فقلت بين عاجل

ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب

وهذا فاسد ، لأن ما إذا جعلتها للنسخ ، عري الجواب من ضمير يعود عليها ، ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط. ألا ترى أنك لو قلت : أي ضرب يضرب هندا أضرب أحسن منها ، لم يجز لعرو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ، لأن الضمير في منها عائد على المفعول الذي هو هند ، لا على أي ضرب الذي هو اسم الشرط ، ولأن المفعول به لا تدخل عليه من الزائدة إلا بشرط أن يتقدّمه غير موجب ، وأن يكون ما دخلت عليه نكرة ، وهذا على الجادة من مشهور مذهب البصريين. والشرط ليس من قبيل غير الموجب ، فلا يجوز : إن قام من رجل أقم معه ، وفي هذا خلاف ضعيف لبعض البصريين.

(أَوْ نُنْسِها) : قرأ عمر ، وابن عباس ، والنخعي ، وعطاء ، ومجاهد ، وعبيد بن عمير ، ومن السبعة ابن كثير ، وأبو عمرو : أو ننسأها ، بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة. وقرأت طائفة كذلك ، إلا أنه بغير همز. وذكر أبو عبيد البكري في (كتاب اللآلئ) ذلك عن سعد بن أبي وقاص ، وأراه وهم ، وكذا قال ابن عطية ، قال : وقرأ سعد بن أبي وقاص تنساها بالتاء المفتوحة وسكون النون وفتح السين من غير همز ، وهي قراءة الحسن وابن يعمر. وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنهم همزوا : وقرأ أبو حيوة كذلك ، إلا أنه ضم التاء. وقرأ سعيد كذلك ، إلا أنه بغير همز. وقرأ باقي السبعة ، ننسها ، بضم النون وكسر السين من غير همز. وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنها همزت بعد السين. وقرأ الضحاك وأبو رجاء : بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين وبلا همز. وقرأ أبي : أو ننسك ، بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين من غير همز ، وبكاف للخطاب بدل ضمير الغيبة. وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة كذلك ، إلا أنه جمع بين الضميرين ، وهي قراءة أبي حذيفة. وقرأ الأعمش : ما ننسك من آية أو ننسخها نجيء بمثلها. وهكذا ثبت في مصحف عبد الله ، فتحصل في هذه اللفظة ، دون قراءة الأعمش ، إحدى عشرة قراءة : فمع الهمزة : ننسأها وننسئها وننسأها وتنسأها ، وبلا همز : ننسها وننسها وتنسها وتنسها ونسك وننسكها. وفسر النسخ هنا بالتبديل ، قاله ابن عباس والزجاج ، أو تبديل الحكم مع ثبوت الخط ، قاله عبد الله وابن عباس أيضا ، أو الرفع ، قاله السدّي. وأما قوله : أو ننسها بغير همز ، فإن كان

٥٥٠

من النسيان ضد الذكر ، فالمعنى : ننسكها إذا كان من أفعل ، أو ننسها إذا كان من فعل ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وإن كان من الترك ، فالمعنى : أو نترك إنزالها ، قاله الضحاك ، أو نمحها ، فلا نترك لها لفظا يتلى ولا حكما يلزم ، قاله ابن زيد ، أو نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء : أي أمرت بتركه ، ونسيته : تركته ، قال :

إن عليّ عقبة أقضيها

لست بناسيها ولا منسيها

أي لا آمر بتركها. وقال الزجاج : قراءة ننسها ، بضم النون وسكون النون الثانية وكسر السين ، لا يتوجه فيها معنى الترك ، لأنه لا يقال : أنسى بمعنى ترك. وقال أبو علي الفارسي وغيره : ذلك متجه ، لأنه بمعنى نجعلك تتركها. وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نسي قرآنا. وقال أبو عليّ وغيره : ذلك جائز ، وقد وقع ، ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بنسئه. واحتج الزجاج بقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) (١) ، أي لم نفعل. قال أبو علي : معناه لم نذهب بالجميع ، وحكى الطبري قول الزجاج عن أقدم منه. قال ابن عطية : والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما أراد الله أن ينساه ، ولم يرد أن يثبته قرآنا جائزا. وأما النسيان الذي هو آفة في البشر ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم منه ، قبل التبليغ ، وبعد التبليغ ، ما لم يحفظه أحد من الصحابة ، وأما بعد أن يحفظ ، فجائز عليه ما يجوز على البشر ، لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه الحديث ، حين أسقط آية ، فلما فرغ من الصلاة قال : «أفي القوم أبي؟» قال : نعم يا رسول الله ، قال : «فلم لم تذكرني؟» قال : خشيت أنها رفعت». فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم ترفع ولكني نسيتها». انتهى كلام ابن عطية. وأما من قرأ بالهمز فهو من التأخير ، تقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض ، وأنسأ الإبل عن ظمئها يوما أو يومين ، أو اكثر أخرها عن الورد. وأما في الآية فالمعنى : نؤخر نسخها أو نزولها ، قاله عطاء وابن أبي نجيح ، أو نمحها لفظا وحكما ، قاله ابن زيد ، أو نمضها فلا ننسخها ، قاله أبو عبيدة ، وهذا يضعفه قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) ، لأن ما أمضى وأقر ، لا يقال فيه نأت بخير منها. وحكي عن ابن عباس أن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره : ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها ، أي أنفع منها لكم ، أو مثلها. ثم قال : أو ننساها ، أي نؤخرها ، فلا ننسخها ولا نبدلها. وهذه الحكاية لا تصح عن ذلك الحبر ابن عباس ، إذ هي محيلة لنظم القرآن.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٦.

٥٥١

(نَأْتِ) : هو جواب الشرط ، واسم الشرط هنا جاء بعده الشرط والجزاء مضارعين ، وهذا أحسن التراكيب في فعلى الشرط والجزاء ، وهو أن يكونا مضارعين. (بِخَيْرٍ مِنْها) : الظاهر أن خيرا هنا أفعل التفضيل ، والخيرية ظاهرة ، لأن المأتي به ، إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء ، فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف ، وإن كان أثقل ، فخيريته بالنسبة لزيادة الثواب. (أَوْ مِثْلِها) : أو مساو لها في التكليف والثواب ، وذلك كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة. وذهب قوم إلى أن خيرا هنا ليس بأفعل التفضيل ، وإنما هو خير من الخيور ، كخير في قوله : (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ، فهو عندهم مصدر ، ومن لابتداء الغاية. ويصير المعنى : أنه ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، نأت بخير من الخيور من جهة المنسوخ أو المنسوء ، لكن يبعد هذا المعنى قوله : (أَوْ مِثْلِها) ، فإنه لا يصح عطفه على قوله : (بِخَيْرٍ) على هذا المعنى ، إلا إن أطلق الخير على عدم التكليف ، فيكون المعنى : نأت بخير من الخيور ، وهو عدم التكليف ، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء ، فكأنه يقول : ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، فإلى غير بدل ، أو إلى بدل مماثل ، والذي إلى غيره بدل ، هو خير أتاكم من جهة الآية المنسوخة أو المنسوءة ، إذ هو راحتكم من التكاليف. وأما عطف مثلها على الضمير المجرور في منها فيضعف لعدم إعادة الجار.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)؟ قال ابن عطية : ظاهره الاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على قول جماعة : أم تريدون. وقال قوم : أم هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره : أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي. انتهى كلامه ونقله. وما قالوه ليس بجيد ، بل هذا استفهام معناه التقرير ، فلا يحتاج إلى معادل البتة ، والأولى أن يكون المخاطب السامع ، والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جدا ، خصوصا إذا دخل على النفي : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) (١)؟ (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٢)؟ (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) (٣)؟ (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) (٤)؟ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (٥)؟ فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ١٠.

(٢) سورة التين : ٩٥ / ٨.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٨.

(٤) سورة الضحى : ٩٣ / ٦.

(٥) سورة الشرح : ٩٤ / ١.

٥٥٢

معادل ، لأنه إنما يراد به التقرير. والمعنى : قد علمت أيها المخاطب أن الله قادر على كل شيء ، فله التصرف في تكاليف عباده ، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم ، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل. وحكمة إفراد المخاطب : أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك ، والمنبه به ، والمقرر على شيء ثابت عنده ، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء ، فلن يعجزه شيء ، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ ، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا رادّ لأمره ، ولا معقب لحكمه. وفي قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ) ، فيه خروج من ضمير جمع مخاطب وهو : (مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ، إلى ضمير مخاطب مفرد للحكمة التي بيناها ، وخروج من ضمير متكلم معظم نفسه ، إلى اسم ظاهر غائب وهو الله ، إذ هو الاسم العلم الجامع لسائر الصفات ، ففي ضمنه صفة القدرة ، فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم ، فلذلك عدل عن قوله : ا لم تعلم أننا إلى قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ) ، وقد تقدم تفسير قوله : (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) في أوائل هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ هذا أيضا استفهام دخل على النفي فهو تقرير ، فليس له معادل ، لأن التقرير معناه : الإيجاب ، أي قد علمت أيها المخاطب أن الله له سلطان السموات والأرض والاستيلاء عليهما ، فهو يملك أموركم ويدبرها ، ويجريها على ما يختاره لكم من نسخ وغيره ، وخص السموات والأرض بالملك ، لأنهما من أعظم المخلوقات ، ولأنهما قد اشتملا على جميع المخلوقات. وإذا كان استيلاؤه على الطرفين ، كان مستوليا على ما اشتملا عليه ، أو لأنه يعبر عن مخلوقاته العلوية بالسماوات ، والسفلية بالأرض.

وتضمنت هاتان الجملتان التقرير على الوصفين اللذين بهما كمال التصرف ، وهما : القدرة والاستيلاء ، لأن الشخص قد يكون قادرا ، بمعنى أن له استطاعة على فعل شيء ، لكنه ليس له استيلاء على ذلك الشيء ، فينفذ فيه ما يستطيع أن يفعل. فإذا اجتمعت الاستطاعة وعدم المانعية ، كمل بذلك التصرف مع الإرادة. وبدأ بالتقرير على وصف القدرة ، لأنه آكد من وصف الاستيلاء والسلطان. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) : انتقل من ضمير الإفراد في الخطاب إلى ضمير الجماعة ، وناسب الجمع هنا ، لأن المنفي بدخول من عليه صار نصا في العموم ، فناسب كون المنفي عنه يكون عاما أيضا ، كان المعنى : وما

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٠.

٥٥٣

لكل فرد فرد منكم فرد فرد. (مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) : وأتى بصيغة ولي ، وهو فعيل ، للمبالغة ، ولأنه أكثر في الاستعمال ، ولذلك لم يجىء في القرآن وال إلا في سورة الرعد ، لمواخاة الفواصل ، وأتى بنصير على وزن فعيل ، لمناسبة وليّ في كونهما على فعيل ، ولمناسبة أواخر الآي ، ولأنه أبلغ من فاعل. ومن زائدة في قوله : (مِنْ وَلِيٍ) ، فلا تتعلق بشيء. ومن : في (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلقة بما يتعلق به المجرور الذي هو لكم ، وهو يتعلق بمحذوف ، إذ هو في موضع الخبر ، ويجوز في ما هذه أن تكون تميمية ، ويجوز أن تكون حجازية على مذهب من يجيز تقدم خبرها ، إذا كان ظرفا أو مجرورا. أما من منع ذلك فلا يجوز في ما أن تكون حجازية ، ومعنى من الأولى ابتداء الغاية. وتكرر اسم الله ظاهرا في هذه الجمل الثلاث ، ولم يضمر للدلالة على استقلال كل جملة منها ، وأنها لم تجعل مرتبطة بعضها ببعض ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار.

ولما كانت الجملتان الأوليان للتقرير ، وهو إيجاب من حيث المعنى ، ناسب أن تكون الجملة الثالثة نفيا للولي والناصر ، أي أن الأشياء التي هي تحت قدرة الله وسلطانه واستيلائه ، فالله تعالى لا يحجزه عما يريد بها شيء ، ولا مغالب له تعالى فيما يريد.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) : اختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقيل عن ابن عباس : نزلت في عبد الله بن أمية ورهط من قريش ، قالوا : يا محمد اجعل الصفا ذهبا ، ووسع لنا أرض مكة ، وفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، ونؤمن لك. وقيل : تمنى اليهود وغيرهم من المشركين ، فمن قائل : ائتنا بكتاب من السماء جملة ، كما أتى موسى بالتوراة. ومن قائل : ائتني بكتاب من السماء فيه : من رب العالمين إلى عبد الله بن أمية ، إني قد أرسلت محمدا إلى الناس. ومن قائل : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. وقيل : إن رافع بن خزيمة ، ووهب بن زيد قالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائتنا بكتاب من السماء ، وفجر لنا أنهارا ، نتبعك. وقيل : إن جماعة من الصحابة قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل في تعجيل العقوبة في الدنيا ، فقال : «كانت بنو إسرائيل إذا أصابتهم خطيئة وجدوها مكتوبة على باب الخاطئ ، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة». وقيل : اليهود وكفار قريش سألوا ردّ الصفا ذهبا ، وقيل لهم : خذوه كالمائدة لبني إسرائيل ، فأبوا ونكصوا. وقيل : سأل قوم أن يجعل لهم ذات أنواط ، كما كانت للمشركين ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها الثمرة وغيرها من المأكولات وأسلحتهم. كما سأل بنو إسرائيل موسى فقالوا : اجعل لنا إلها

٥٥٤

كما لهم آلهة. ويحتمل أن تكون هذه كلها أسبابا في نزول هذه الآية ، وقد طولنا بذكر هذه الأسباب ، وذلك بخلاف مقصدنا في هذا الكتاب.

وأم : هنا منقطعة ، وتتقدر المنقطعة ببل والهمزة ، فالمعنى : بل أتريدون ، فبل تفيد الإضراب عما قبله ، ومعنى الإضراب هنا : هو الانتقال من جملة إلى جملة ، لا على سبيل إبطال الأولى. وقد تقدّم قول من جعل أم هنا معادلة للاستفهام الأول. وقد بينا ضعف ذلك. وقالت فرقة : أم استفهام مقطوع من الأول ، كأنه قال : أتريدون. وهذان القولان ضعيفان. والذي تقرر أن أم تكون متصلة ومنفصلة. فالمتصلة : شرطها أن يتقدّمها لفظ همزة الاستفهام ، وأن يكون بعدها مفرد ، أو في تقدير المفرد. والمنفصلة : ما انخرم الشرطان فيها أو أحدهما ، ويتقدر إذ ذاك ببل والهمزة معا ، وأما مجيئها مرادفة للهمزة فقط ، أو مرادفة لبل فقط ، أو زائدة ، فأقوال ضعيفة. وعلى الخلاف في المخاطبين ، يجيء الكلام في قوله : (رَسُولَكُمْ). فإن كان الخطاب للمؤمنين ، وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم ، فيكون رسولكم جاء على ما في نفس الأمر ، وعلى ما أقروا به من رسالته. وإن كان الخطاب للكفار ، كانت إضافة الرسول إليهم على حسب الأمر في نفسه ، لا على إقرارهم به. ورجح كون الخطاب للمؤمنين بقوله : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) ، وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمن ، وبأنه معطوف على قوله : (لا تَقُولُوا راعِنا) ، أي هل تفعلون ما أمرتم ، أم تريدون؟ ورجح أنهم اليهود ، لأنه سبق الكلام في الحكايات عنهم ما قالوا ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله ما يكون كفرا.

كما سئل : الكاف في موضع نصب ، فعلى رأي سيبويه : على الحال ، وعلى المشهور من مذاهب المعربين : نعت لمصدر محذوف ، فيقدر على قولهم : سؤالا كما سئل ، ويقدر على رأي سيبويه : أن تسألوه ، أي السؤال كما سئل ، وما مصدرية التقدير كسؤال. وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، التقدير : الذي سئله موسى. وقرأ الجمهور : وسيل. وقرأ الحسن وأبو السمال : بكسر السين وياء. وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري : بإشمام السين وياء. وقرأ بعض القراء : بتسهيل الهمزة بين بين وضم السين. وهذه القراءات مبنية على اللغتين في سأل ، وهو أن تكون الهمزة مقرة مفتوحة ، فتقول سأل. فعلى هذه اللغة تكون قراءة الجمهور ، وقراءة من سهل الهمز بين بين. واللغة الثانية أن تكون عين الكلمة واوا ، وتكون على فعل بكسر العين فتقول : سلت أسال ، كخفت أخاف ، أصله : سولت. وعلى هذه اللغة تكون قراءة الحسن ، وقراءة من أشم. وتخريج

٥٥٥

هاتين القراءتين على هذه اللغة أولى من التخريج على أن أصل الألف الهمز ، فأبدلت الهمزة ألفا ، فصار مثل : قال وباع ، فقيل فيه : سيل بالكسر المحض ، أو الإشمام ، لأن هذا الإبدال شاذ ولا ينقاس. وتلك لغة ثانية ، فكان الحمل على ما كان لغة أولى من الحمل على الشاذ غير المطرد. وحذف الفاعل هنا للعلم به ، التقدير : كما سأل قوم موسى موسى من قبل.

(مُوسى مِنْ قَبْلُ) : يتعلق هذا الجار بقوله : سئل ، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظا ، وذلك أن المضاف إليه معرفة محذوف. فلذلك بنيت قبل على الضم ، والتقدير : من قبل سؤالكم ، وهذا توكيد ، لأنه قد علم أن سؤال بني إسرائيل موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، متقدّم على سؤال هؤلاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسؤال قوم موسى عليه‌السلام هو قولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (١) ، (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) (٢). فأراد تعالى أن يوبخهم على تعلق إرادتهم بسؤال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يقترحوا عليه ، إذ هم يكفيهم ما أنزل إليهم. وشبه سؤالهم بسؤال ما اقترحه آباء اليهود من الأشياء التي مصيرها إلى الوبال. وظاهر الآية يدل على أن السؤال لم يقع منهم. ألا ترى أنه قال : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا)؟ فوبخهم على تعلق إرادتهم بالسؤال ، إذ لو كان السؤال قد وقع ، لكان التوبيخ عليه ، لا على إرادته ، وكان يكون اللفظ : أتسألون رسولكم؟ أو ما أشبه ذلك مما يؤدّي معنى وقوع السؤال ، لكن تظافرت نقولهم في سبب نزول هذه الآية ، وإن اختلفوا في التعيين على أن السؤال قد وقع.

(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ)؟ تقدّم الكلام في التبديل ، أي : من يأخذ الكفر بدل الإيمان؟ وهذه كناية عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر ، كما جاء في قوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) (٣). وفسر الزمخشري هذا بأن قال : ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها. وقال أبو العالية : الكفر هنا : الشدة ، والإيمان : الرخاء. وهذا فيه ضعف ، إلا أن يريد أنهما مستعاران في الشدة على نفسه والرخاء لها عن العذاب والنعيم. وأما المعروف من شدة أمور الدنيا ورخائها ، فلا تفسر الآية بذلك ، والظاهر حمل الكفر والإيمان على؟؟؟ هما الشرعية ، لأن من سأل الرسول ما سأل مع ظهور المعجزات ووضوح الدلائل على صدقه ، كان سؤاله تعنتا وإنكارا ، وذلك كفر.

(فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) : هذا جواب الشرط ، وقد تقدم الكلام على الضلال في

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٥٣.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٨.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٦.

٥٥٦

قوله : (وَلَا الضَّالِّينَ) (١) ، وعلى سواء في قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) (٢) ، وأن سواء يكون بمعنى مستو. ولذلك يتحمل الضمير في قولهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، ويوصف به : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) ، ويفسر بمعنى العدل والنصفة ، لأن ذلك مستو ، وقال زهير :

أرونا خطة لا عيب فيها

يسوى بيننا فيها السواء

ويفسر بمعنى الوسط. قال تعالى : (فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) (٣) ، أي في وسطها.

وقال عيسى بن عمر : كتبت حتى انقطع سواي ، وقال حسان :

يا ويح أنصار النبي ورهطه

بعد المغيب في سواء الملحد

وبذلك فسر السواء في الآية أبو عبيدة ، وفسره الفراء بالقصد. ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى ، كنى عنها بالسبيل ، وجعل من حاد عنها : كالضال عن الطريق ، وكنى عن سؤالهم نبيهم ما ليس لهم أن يسألوه بتبدل الكفر بالإيمان ، وأخرج ذلك في صورة شرطية ، وصورة الشرط لم تقع بعد تنفيرا عن ذلك ، وتبعيدا منه. فوبخهم أولا على تعلق إرادتهم بسؤال ما ليس لهم سؤاله ، وخاطبهم بذلك ، ثم أدرجهم في عموم الجملة الشرطية. وإن مثل هذا ينبغي أن لا يقع ، لأنه ضلال عن المنهج القويم ، فصار صدر الآية إنكارا وتوبيخا ، وعجزها تكفيرا وضلالا. وما أدى إلى هذا فينبغي أن لا يتعلق به غرض ولا طلب ولا إرادة. وإدغام الدال في الضاد من الإدغام الجائز. وقد قرىء : (فَقَدْ ضَلَ) ، بالإدغام وبالإظهار في السبعة.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : المعنيّ بكثير : كعب بن الأشرف ، أو حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر ، أو نفر من اليهود حاولوا المسلمين بعد وقعة أحد أن يرجعوا إلى دينهم ، أو فنحاص بن عاذوراء وزيد بن قيس ونفر من اليهود حاولوا حذيفة وعمارا في رجوعهما إلى دينهم ، أقوال. والقرآن لم يعين أحدا ، إنما أخبر بودادة كثير من أهل الكتاب. والخلاف في سبب النزول مبني على الخلاف في تفسير كثير من أهل الكتاب ، وتخصصت الصفة بقوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ، فلذلك حسن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه. والكتاب هنا : التوراة.

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٦.

(٣) سورة الصافات : ٣٧ / ٥٥.

٥٥٧

(لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) : الكلام في لو هنا ، كالكلام عليها في قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) (١). فمن قال : إنها مصدرية ، قال : لو ، والفعل في تأويل المصدر ، وهو مفعول. ودّ : أي ودّردكم ، ومن جعلها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، جعل الجواب محذوفا ، وجعل مفعول ودّ محذوفا التقدير : ودّردكم كفارا ، لو يردونكم كفارا لسرّوا بذلك. وقال بعض الناس تقديره : لو يردونكم كفارا لودوا ذلك. فودّ دالة على الجواب ، ولا يجوز لودّ الأولى أن تكون هي الجواب ، لأن شرط لو أن تكون متقدّمة على الجواب. انتهى. وهذا الذي قدره ليس بشيء ، لأنك إذا جعلت جواب لو قوله : لودوا ذلك ، كان ذلك دالا على أن الودادة لم تقع ، لأنه جواب للو ، وهو لما كان سيقع لوقوع غيره ، فامتنع وقوع الودادة ، لامتناع وقوع الرد. والغرض أن الودادة قد وقعت. ألا ترى إلى أقوال المفسرين في سبب نزول هذه الآية؟ وهي وإن اختلفت فاتفقوا على وقوع الودادة ، وإن اختلفت أقوالهم بمن وقعت ، وتقدير جواب لو لودوا ذلك ، يدل على أن الودادة لم تقع ، فلذلك كان تقديره لسروا أو لفرحوا بذلك هو المتعين ، إذا جعلت لو تقتضي جوابا. ويرد هنا بمعنى يصير ، فيتعدّى إلى مفعولين : الأول هو ضمير الخطاب ، والثاني كفارا ، وقد أعربه بعضهم حالا ، وهو ضعيف ، لأن الحال مستغنى عنها في أكثر مواردها ، وهذا لا بد منه في هذا المكان. ومن متعلقة بيرد ، وهي لابتداء الغاية ، وظاهر الواو في يردونكم أنها للجمع ، ومن فسر كثيرا بواحد أو باثنين ، فجعل الواو له أو لهما ، ليس على الأصل.

(حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) : انتصاب حسدا على أنه مفعول من أجله ، والعامل فيه ودّ ، أي الحامل لهم على ودادة ردكم كفارا هو الحسد ، وجوزوا فيه أن يكون مصدرا منصوبا على الحال ، أي حاسدين ، ولم يجمع لأنه مصدر ، وهذا ضعيف ، لأن جعل المصدر حالا لا ينقاس. وجوزوا أيضا أن يكون نصبه على المصدر ، والعامل فيه فعل محذوف يدل عليه المعنى ، التقدير : حسدوكم حسدا. والأظهر القول الأول ، لأنه اجتمعت فيه شرائط المفعول من أجله. ويتعلق المجرور الذي هو : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ، إما بملفوظ به وهو ود ، أي ودوا ذلك من قبل شهوتهم ، لا أن ودادتهم ذلك هي من جهة التدين واتباع الحق. ألا ترى إلى قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ)؟ وإما بمقدر ، فيكون في موضع الصفة ، التقدير : حسدا كائنا من عند أنفسهم. وعلى كلا التقديرين يكون توكيدا ، أي ودادتهم أو حسدهم من تلقائهم. ألا ترى أن ودادة الكفر والحسد على الإيمان

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٦.

٥٥٨

لا يكون إلا من عند أنفسهم؟ فهو نظير ، ولا طائر يطير بجناحيه. وقيل : يتعلق الجار والمجرور بقوله : يردونكم ، ومن سببية ، أي يكون الرد من تلقائهم وبإغوائهم وتزيينهم.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) : تتعلق من هذه بقوله : ود ، أي ودادتهم كفركم للحسد المنبعث من عند أنفسهم. وتلك الودادة ابتدأت من زمان وضوح الحق وتبينه لهم ، فليسوا من أهل الغباوة الذين قد يعزب عليهم وضوح الحق ، بل ذلك على سبيل الحسد والعناد. وهذا يدل على أن الكفر يكون عنادا. ألا ترى إلى ظاهر قوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ)؟ قال ابن عطية : واختلف أهل السنة في جواز ذلك. والصحيح عندي جوازه عقلا ، وبعده وقوعا ، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب من ثاني حال من العناد. انتهى كلامه ، والألف واللام في الحق ، إما للعهد ، ويراد به الإيمان ، ويدل عليه جريانه قبل هذا ، أو الألف واللام للاستغراق ، أي من بعد ما اتضحت لهم وجوه الحق وأنواعه.

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) ، قال ابن عباس : هي منسوخة بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (١). وقيل : بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (٢) ، وقال قوم : ليس هذا حد المنسوخ ، لأن هذا في نفس الأمر كان للتوقيف على مدته. (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) : غيا العفو والصفح بهذه الغاية ، وهذه موادعة إلى أن أتى أمر الله بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بالجزية ، وغير ذلك مما أتى من أحكام الشرع فيهم وترك العفو والصفح. وقال الكلبي : هو إسلام بعض واصطلام بعض. وقيل : آجال بني آدم. وقيل : القيامة ، وقيل : المجازاة يوم القيامة. وقيل : قوة الرسالة وكثرة الأمة ، والجمهور على أنه الأمر بالقتال. وعن الباقر : أنه لم يؤمر بقتال حتى نزل أذن للذين يقاتلون ، والأمر بالعفو والصفح هو أن لا يقاتلوا وأن يعرض عن جوابهم فيكون أدعى لتسكين الثائرة وإطفاء الفتنة وإسلام بعضهم ، لا أنه يكون ذلك على وجه الرضا ، لأن ذلك كفر. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : مر تفسير هذه الآية ، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ، ووعد للمؤمنين بالنصر والتمكين. ألا ترى أنه أمر بالموادعة بالعفو والصفح ، وغيا ذلك إلى أن يأتي الله بأمره ، ثم أخبر بأنه قادر على كل شيء؟.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) : لما أمر بالعفو والصفح ، أمر بالمواظبة على عمودي الإسلام : العبادة البدنية ، والعبادة المالية ، إذ الصلاة فيها مناجاة الله تعالى والتلذذ بالوقوف بين يديه ، والزكاة فيها الإحسان إلى الخلق بالإيثار على النفس ، فأمروا بالوقوف بين يدي

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٩.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٥.

٥٥٩

الحق وبالإحسان إلى الخلق. قال الطبري : إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة ليحط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود : راعنا ، لأن ذلك نهي عن نوعه ، ثم أمر المؤمنون بما يحطه. انتهى كلامه. وليس له ذلك الظهور.

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) : لما قدم الأمر بالصلاة والزكاة أتى بهذه الجملة الشرطية عامة لجميع أنواع الخير ، فيندرج فيها الصلاة والزكاة وغيرهما. والقول في إعراب ما ومن خير ، كالقول في إعراب : ما ننسخ من آية ، من أنهم قالوا : يجوز أن تكون ما مفعولة ، ومن خير : حال أو مصدر ، ومن خير : مفعول ، أو مفعولة ، ومن خير : تمييز أو مفعولة ، ومن خير ، تبعيضية متعلقة بمحذوف وهو الذي اخترناه. لأنفسكم : متعلق بتقدموا ، وهو على حذف مضاف ، أي لنجاة أنفسكم وحياتها ، قال تعالى : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (١). وقد فسر الخير هنا بالزكاة والصدقة ، والأظهر العموم تجدوه جواب الشرط ، والهاء عائدة على ما ، والخيور المتقدمة هي أفعال منقضية. ونفس ذلك المنقضي لا يوجد ، فإنما ذلك على حذف مضاف ، أي تجدوا ثوابه. فجعل وجوب ما ترتب عليه وجودا له ، وتجدوه متعد إلى واحد ، لأنه بمعنى الإصابة. والعامل في قوله : (عِنْدَ اللهِ) ، إما نفس الفعل ، أو محذوف ، فيكون في معنى الحال من الضمير ، أي تجدوه مدّخرا ومعدّا عند الله. والظرفية هنا المكانية ممتنعة ، وإنما هي مجاز بمعنى القبل ، كما تقول لك : عندي يد ، أي في قبلي ، أو بمعنى في علم الله نحو : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) (٢) ، أي في علمه وقضائه ، أو بمعنى الاختصاص بالإضافة إلى الله تعالى تعظيما كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) (٣).

(إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) : المجيء بالاسم الظاهر يدل على استقلال الجمل ، فلذلك جاء إن الله ، ولم يجىء إنه ، مع إمكان ذلك في الكلام. وهذه جملة خبرية ظاهرة التناسب في ختم ما قبلها بها ، تتضمن الوعد والوعيد. وكنى بقوله : بصير عن علم المشاهد ، أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيعه ، ومن كان مبصرا لفعلك ، لم يخف عليه ، هل هو خير أو شر ، وأتى بلفظ بصير دون مبصرا ، إما لأنه من بصر ، فهو يدل على التمكن والسجية في حق الإنسان ، أو لأنه فعيل للمبالغة بمعنى مفعل ، الذي هو للتكثير. ويحتمل أن يكون فعيل بمعنى مفعل ، كالسميع بمعنى المسمع ، قال بعض الصوفية : على

__________________

(١) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٤.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٤٧.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠٦.

٥٦٠