البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

فحكمه مشاهدة ذلك ، وإن كانوا مؤمنين بالبعث ، اطمئنان قلوبهم وانتفاء الشبهة عنهم ، إذ الذي كانوا مؤمنين به بالاستدلال آمنوا به مشاهدة.

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) : ظاهر هذا الكلام الاستئناف ، ويجوز أن يكون معطوفا على يحيي ، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى ، وهي ما أراهم من إحياء الميت ، والعصا ، والحجر ، والغمام ، والمنّ والسلوى ، والسحر ، والبحر ، والطور ، وغير ذلك. وكانوا مع ذلك أعمى الناس قلوبا ، وأشد قسوة وتكذيبا لنبيهم في تلك الأوقات التي شاهدوا فيها تلك العجائب والمعجزات. وقال صاحب المنتخب : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) ، وإن كانت آية واحدة ، لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات ، العالم بكل المعلومات ، المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا ، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل. انتهى كلامه.

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : أي لعلكم تمتنعون من عصيانه ، وتعملون على قضية عقولكم ، من أن من قدر على إحياء نفس واحدة ، قدر على إحياء الأنفس كلها ، لعدم الاختصاص ، (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) ، أي كخلق نفس واحدة وبعثها. وقال الزمخشري : في الأسباب والشروط حكم وفوائد ، وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة من التقرب ، وأداء التكليف ، واكتساب الثواب ، والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب ، وما في التشديد عليهم ، لتشديدهم من اللطف لهم ولآخرين في ترك التشديد ، والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى ، وارتسامها على الفور من غير تفتيش وتكثير سؤال ، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة ، والدلالة على بركة البر بالأبوين ، والشفقة على الأولاد ، وتجهيل الهازئ بما لا يعلم كنهه ، ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء. وبيان أن من حق المتقرب إلى ربه : أن يتنوق في اختيار ما يتقرب به ، وأن يختاره فتى السن غير فخم ولا ضرع ، حسن اللون بريئا من العيوب ، يونق من ينظر إليه ، وأن يغالي بثمنه ، كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه ، أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار ، وأن الزيادة في الخطاب نسخ له ، وأن النسخ قبل الفعل جائز ، وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البدء ، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت ، وحصول الحياة عقيبه ، وأن المؤثر هو المسبب لا الأسباب ، لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن يتولد منهما حياة. انتهى كلامه ، وهو حسن.

وقد ذكر المفسرون أحكاما فقهية ، انتزعوها واستدلوا عليها من قصة هذا القتل ، ولا

٤٢١

يظهر استنباطهم ذلك من هذه الآية. قالوا : هذه الآية دليل على حرمان القاتل ميراث المقتول ، وإن كان ممن يرثه. وأقول : لا تدل هذه الآية على ذلك ، وإنما القصة ، إن صحت ، تدل على ذلك ، لأن في آخرها : فما ورث قاتل بعدها ممن قتله. وروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن المسيب أنه لا ميراث له ، عمدا كان أو خطأ ، لا من ديته ، ولا من سائر ماله. وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو يوسف ، إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا : إن كان صبيا أو مجنونا ، ورث. وقال عثمان الليثي : يرث قاتل الخطأ. وقال ابن وهب ، عن مالك : لا يرث قاتل العمد من ديته ، ولا من ماله. وإن قتله خطأ ، يرث من ماله دون ديته. ويروى مثله عن الحسن ومجاهد والزهري ، وهو قول الأوزاعي. وقال المزني ، عن الشافعي : إذا قتل الباغي العادل ، أو العادل الباغي ، لا يتوارثان لأنهما قاتلان. وقالوا : استدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب بهذه القصة ، على صحة القول بالقسامة ، بقول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني ، وقال الجمهور خلافه. وقالوا في صفة البقرة استدلال لمن قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ، وهو مذهب مالك وجماعة من الفقهاء ، قالوا : في هذه الآيات أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته ، أنه إذا حصر بصفة يعرف بها جاز السلم فيه ، وبه قال مالك والأوزاعي والليث والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز السلم في الحيوان. ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب خلاف الفقهاء ، ولا يظهر استنباط شيء من هذا من هذه القصة. قال القشيري : أراد الله أن يحيي ميتهم ليفصح بالشهادة على قاتله ، فأمر بقتل حيوان لهم ، فجعل سبب حياة مقتولهم بقتل حيوان لهم صارت الإشارة منه ، أن من أراد حياة قلبه لم يصل إليه إلا بذبح نفسه. فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حيي قلبه بأنوار المشاهدات ، وكذلك من أراد حياة في الأبد أمات في الدنيا ذكره بالخمول.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، قال الزمخشري ، معنى ثم قست : استبعاد القسوة بعد ما ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه ، ثم أنتم تمترون. انتهى. وهو يذكر عنه أن العطف بثم يقتضي الاستبعاد ، ولذلك قيل عنه في قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١). وهذا الاستبعاد لا يستفاد من العطف بثم ، وإنما يستفاد من مجيء هذه الجمل ووقوعها بعد ما تقدّم مما لا يقتضي وقوعها ، ولأن صدور هذا الخارق العظيم الخارج عن مقدار البشر ، فيه من الاعتبار والعظات ما يقتضي لين القلوب والإنابة إلى الله

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١.

٤٢٢

تعالى ، والتسليم لأقضيته ، فصدر منهم غير ذلك من غلظ القلوب وعدم انتفاعها ، بما شاهدت ، والتعنت والتكذيب ، حتى نقل أنهم بعد ما حيي القتيل ، وأخبر بمن قتله قالوا : كذب. والضمير في قلوبكم ضمير ورثة القتيل ، قاله ابن عباس ، وهم الذين قتلوه ، وأنكروا قتله. وقيل : قلوب بني إسرائيل جميعا قست بمعاصيهم وما ارتكبوه ، قاله أبو العالية وغيره. وكنى بالقسوة عن نبوّ القلب عن الاعتبار ، وأن المواعظ لا تجول فيها. وأتى بمن في قوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إشعارا بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق ، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة ، فيتدافع معنى ثم ، ومعنى من ، فلا بد من تجوّز في أحدهما. والتجوز في ثم أولى ، لأن سجاياهم تقتضي المبادرة إلى المعاصي بحيث يشاهدون الآية العظيمة ، فينحرفون إثرها إلى المعصية عنادا وتكذيبا ، والإشارة بذلك قيل : إلى إحياء القتيل ، وقيل : إلى كلام القتيل ، وقيل : إشارة إلى ما سبق من الآيات من مسخهم قردة وخنازير ، ورفع الجبل ، وانبجاس الماء ، وإحياء القتيل ، قاله الزجاج.

(فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) : يريد في القسوة. وهذه جملة ابتدائية حكم فيها بتشبيه قلوبهم بالحجارة ، إذ الحجر لا يتأثر بموعظة ، ويعني أن قلوبهم صلبة ، لا تخلخلها الخوارق ، كما أن الحجر خلق صلبا. وفي ذلك إشارة إلى أن اعتياص قلوبهم ليس لعارض ، بل خلق ذلك فيها خلقا أوليا ، كما أن صلابة الحجر كذلك. والكاف المفيدة معنى التشبيه : حرف وفاقا لسيبويه وجمهور النحويين ، خلافا لمن ادّعى أنها تكون اسما في الكلام ، وهو عن الأخفش. فتعلقه هنا بمحذوف ، التقدير : فهي كائنة كالحجارة ، خلافا لابن عصفور ، إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء ، ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو. والألف واللام في الحجارة لتعريف الجنس. وجمعت الحجارة ولم تفرد ، فيقال كالحجر ، فيكون أخصر ، إذ دلالة المفرد على الجنس كدلالة الجمع ، لأنه قوبل الجمع بالجمع ، لأن قلوبهم جمع ، فناسب مقابلته بالجمع ، ولأن قلوبهم متفاوتة في القسوة ، كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة. فلو قيل : كالحجر ، لأفهم ذلك عدم التفاوت ، إذ يتوهم فيه من حيث الإفراد ذلك.

(أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ، أو : بمعنى الواو ، أو بمعنى أو للابهام ، أو للإباحة ، أو للشك ، أو للتخيير ، أو للتنويع ، أقوال : وذكر المفسرون مثلا لهذه المعاني ، والأحسن القول الأخير. وكأن قلوبهم على قسمين : قلوب كالحجارة قسوة ، وقلوب أشدّ قسوة من الحجارة ، فأجمل ذلك في قوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) ، ثم فصل ونوع إلى مشبه بالحجارة ، وإلى أشدّ منها ،

٤٢٣

إذ ما كان أشدّ ، كان مشاركا في مطلق القسوة ، ثم امتاز بالأشدية. وانتصاب قسوة على التمييز ، وهو من حيث المعنى تقتضيه الكاف ويقتضيه أفعل التفضيل ، لأن كلا منهما ينتصب عنه التمييز. تقول : زيد كعمروا حلما ، وهذا التمييز منتصب بعد أفعل التفضيل ، منقول من المبتدأ ، وهو نقل غريب ، فتؤخر هذا التمييز وتقيم ما كان مضافا إليه مقامه. تقول : زيد أحسن وجها من عمرو ، وتقديره : وجه زيد أحسن من وجه عمرو ، فأخرت وجها وأقمت ما كان مضافا مقامه ، فارتفع بالابتداء ، كما كان وجه مبتدأ ، ولما تأخر أدى إلى حذف وجه من قولك : من وجه عمرو ، وإقامة عمرو مقامه ، فقلت : من عمرو ، وإنما كان الأصل ذلك ، لأن المتصف بزيادة الحسن حقيقة ليس الرجل إنما هو الوجه ، ونظير هذا : مررت بالرجل الحسن الوجه ، أو الوجه أصل هذا الرفع ، لأن المتصف بالحسن حقيقة ليس هو الرجل إنما هو الوجه ، وإنما أوضحنا هذا ، لأن ذكر مجيء التمييز منقولا من المبتدأ غريب ، وأفرد أشدّ ، وإن كانت خبرا عن جمع ، لأن استعمالها هنا هو بمن ، لكنها حذفت ، وهو مكان حسن حذفها ، إذ وقع أفعل التفضيل خبرا عن المبتدأ وعطف ، أو أشد ، على قوله : كالحجارة ، فهو عطف خبر على خبر من قبيل عطف المفرد ، كما تقول : زيد على سفر ، أو مقيم ، فالضمير الذي في أشدّ عائد على القلوب ، ولا حاجة إلى ما أجازه الزمخشري من أن ارتفاعه يحتمل وجهين آخرين : أحدهما : أن يكون التقدير : أو هي أشدّ قسوة ، فيصير من عطف الجمل. والثاني : أن يكون ، التقدير : أو مثل أشدّ ، فحذف مثل وأقيم أشدّ مقامه ، ويكون الضمير في أشدّ إذ ذاك غير عائد على القلوب ، إذ كان الأصل أو مثل شيء أشدّ قسوة من الحجارة ، فالضمير في أشدّ عائد على ذلك الموصوف بأشدّ المحذوف. ويعضد هذا الاحتمال الثاني قراءة الأعمش ، بنصب الدال عطفا على ، كالحجارة ، قاله الزمخشري. وينبغي أن لا يصار إلى هذا إلا في هذه القراءة خاصة. وأما على قراءة الرفع ، فلها التوجيه السابق الذي ذكرناه ، ولا إضمار فيه ، فكان أرجح.

وقد رد أبو عبد الله بن أبي الفضل في منتخبه على الزمخشري قوله : إنه معطوف على الكاف ، فقال : هو على مذهب الأخفش ، لا على مذهب سيبويه ، لأنه لا يجيز أن يكون اسما إلا في الشعر ، ولا يجيز ذلك في الكلام ، فكيف في القرآن؟ فأولى أن يكون : أشدّ ، خبر مبتدأ مضمر ، أي وهي أشدّ. انتهى كلامه. وما ذهب إليه الزمخشري صحيح ، ولا يريد بقوله : معطوف على الكاف ، أن الكاف اسم ، إنما يريد معطوفا على الجار والمجرور ، لأنه في موضع مرفوع ، فاكتفى بذكر الكاف عن الجار والمجرور. وقوله :

٤٢٤

فالأولى أن يكون أشدّ خبر مبتدأ مضمر ، أي هي أشدّ ، قد بينا أن الأولى غير هذا ، لأنه تقدير لا حاجة إليه. قال الزمخشري : فإن قلت : لم قال أشدّ قسوة؟ وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب ، قلت : لكونه أبين وأدل على فرط القسوة. ووجه آخر ، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ، ولكن قصد وصف القسوة بالشدّة ، كأنه قيل : اشتدّت قسوة الحجارة ، وقلوبهم أشدّ قسوة. انتهى كلامه. ومعنى قوله : وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل ، وفعل التعجب أن قسا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل ، وفعل التعجب بجواز اجتماع الشرائط المجوزة لبناء ذلك ، وهي كونه من فعل ثلاثي مجرد متصرف تام قابل للزيادة ، والنقص مثبت. وفي كونه من أفعل ، أو من كون ، أو من مبني للمفعول خلاف. وقرأ أبو حيوة : أو أشدّ قساوة ، وهو مصدر لقسا أيضا.

(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) : لما شبه تعالى قلوبهم بالحجارة في القسوة ، ثم ذكر أنها أشد قسوة على اختلاف الناس في مفهوم ، أو بين أن هذا التشبيه إنما هو بالنسبة لما علمه المخاطب من صلابة الأحجار ، وأخذ يذكر جهة كون قلوبهم أشدّ قسوة : والمعنى أن قلوب هؤلاء جاسية صلبة لا تلينها المواعظ ، ولا تتأثر للزواجر ، وأن من الحجارة ما يقبل التخلخل ، وأنها متفاوتة في قبول ذلك ، على حسب التقسيم الذي أشار إليه تعالى ونتكلم عليه. فقد فضلت الأحجار على قلوبهم في أن منها ما يقبل التخلخل ، وأن قلوب هؤلاء في شدّة القساوة.

واختلف المفسرون في هذه الآية ، فقال قوم : إن قوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) إلى آخره ، هو على سبيل المثل ، بمعنى أنه لو كان الحجر ممن يعقل لسقط من خشية الله تعالى ، وتشقق من هيبته ، وأنتم قد جعل الله فيكم العقل الذي به إدراك الأمور ، والنظر في عواقب الأشياء ، ومع ذلك فقلوبكم أشدّ قسوة ، وأبعد عن الخير. وقال قوم : ليس ذلك على جهة المثل : بل أخبر عن الحجارة بعينها ، وقسمها لهذه الأقسام ، وتبين بهذا التقسيم كون قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة. وقرأ الجمهور : وإنّ مشدّدة ، وقرأ قتادة : وإن مخففة ، وكذا في الموضعين بعد ذلك ، وهي المخففة من الثقيلة ، ويحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون معملة ، ويكون من الحجارة في موضع خبرها ، وما في موضع نصب بها ، وهو اسمها ، واللام لام الابتداء ، أدخلت على الاسم المتأخر ، والاسم إذا تأخر جاز دخول اللام عليه ، نحو قوله : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) ، وأعمالها مخففة لا يجيزه الكوفيون ، وهم

٤٢٥

محجوجون بالسماع الثابت من العرب ، وهو قولهم : إن عمرو لمنطلق ، بسكون النون ، إلا أنها إذا خففت لا تعمل في ضمير لا ، تقول : إنك منطلق ، إلا إن ورد في الشعر.

والوجه الثاني : أن لا تكون معملة ، بل تكون ملغاة ، وما في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في الجار والمجرور قبله. واللام في لما مختلف فيها ، فمنهم من ذهب إلى أنها لام الابتداء لزمت للفرق بين أن المؤكدة وإن النافية ، وهو مذهب أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش الصغير. وأكثر نحاة بغداد ، وبه قال : من نحاة بلادنا أبو الحسن بن الأخضر ، ومنهم من ذهب إلى أنها لام اختلست للفرق ، وليست لام الابتداء ، وبه قال أبو علي الفارسي. ومن كبراء بلادنا ابن أبي العالية ، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو.

ولم يذكر المفسرون والمعربون في إن المخففة هنا إلا هذا الوجه الثاني ، وهو أنها الملغاة ، وأن اللام في لما لزمت للفرق. قال المهدوي : من خفف إن ، فهي المخففة من الثقيلة ، واللام لازمة للفرق بينها وبين إن التي بمعنى ما. وقال ابن عطية : فرق بينها وبين النافية لام التوكيد في لما. وقال الزمخشري : وقرىء : وإن بالتخفيف ، وهي إن المخففة من الثقيلة التي يلزمها اللام الفارقة ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ) (١) ، وجعلهم إن هي المخففة من الثقيلة ، هو مذهب البصريين. وأما الفراء فزعم فيما ورد من ذلك أنّ إن هي النافية ، واللام بمعنى إلا ، فإذا قلت : إن زيد لقائم ، فمعناه عنده : ما زيد إلا قائم. وأما الكسائي فزعم أنها إن وليها فعل ، كانت إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، وإن وليها اسم ، كانت المخففة من الثقيلة. وذهب قطرب إلى أنها إذا وليها فعل ، كانت بمعنى قد ، والكلام على هذا المذهب في كتب النحو.

وقرأ الجمهور : لما بميم مخففة وهي موصولة. وقرأ طلحة بن مصرف : لما بالتشديد ، قاله في الموضعين ، ولعله سقطت واو ، أي وفي الموضعين. قال محمد بن عطية : وهي قراءة غير متجهة ، وما قاله ابن عطية من أنها غير متجهة لا يتمشى إلا إذا نقل عنه أنه يقرأ وإنّ بالتشديد ، فحينئذ يعسر توجيه هذه القراءة. أما إذا قرأ بتخفيف إن ، وهو المظنون به ذلك ، فيظهر توجيهها بعض ظهور ، إذ تكون إن نافية ، وتكون لما بمنزلة إلا ، كقوله تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٢) ، (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٣) ، (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٤) ، في قراءة من قرأ لما بالتشديد ،

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٢.

(٢) سورة الطارق : ٨٦ / ٤.

(٣) سورة يس : ٣٦ / ٣٢.

(٤) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣٥.

٤٢٦

ويكون مما حذف منه المبتدأ لدلالة المعنى عليه ، التقدير : وما من الحجارة حجر إلا يتفجر منه الأنهار ، وكذلك ما فيها ، كقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١) ، أي وما منا أحد إلا له مقام معلوم ، (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (٢) ، أي وما من أهل الكتاب أحد ، وحذف هذا المبتدأ أحسن ، دلالة المعنى عليه ، إلا أنه يشكل معنى الحصر ، إذ يظهر بهذا التفضيل أن الأحجار متعدّدة ، فمنها ما يتفجر منه الأنهار ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ، ومنها ما يهبط من خشية الله. وإذا حصرت ، أفهم المفهوم قبله أن كل فرد فرد من الأحجار فيه هذه الأوصاف كلها ، أي تتفجر منه الأنهار ، ويتشقق منه الماء ، ويهبط من خشية الله. ولا يبعد ذلك إذا حمل اللفظ على القابلية ، إذ كل حجر يقبل ذلك ، ولا يمتنع فيه ، إذا أراد الله ذلك. فإذا تلخص هذا كله كانت القراءة متوجهة على تقدير : أن يقرأ طلحة ، وإن بالتخفيف. وأما إن صح عنه أنه يقرأ وإن بالتشديد ، فيعسر توجيه ذلك. وأما من زعم أن إن المشدّدة هي بمعنى ما النافية ، فلا يصح قوله ، ولا يثبت ذلك في لسان العرب. ويمكن أن توجه قراءة طلحة لما بالتشديد ، مع قراءة إن بالتشديد ، بأن يكون اسم إن محذوفا لفهم المعنى ، كما حذف في قوله :

ولكن زنجيّ عظيم المشافر

وفي قوله :

فليت دفعت الهم عني ساعة

وتكون لما بمعنى حين ، على مذهب الفارسي ، أو حرف وجوب لوجوب ، على مذهب سيبويه. والتقدير : وإن منها منقادا ، أو لينا ، وما أشبه هذا. فإذا كانوا قد حذفوا الاسم والخبر على ما تأوله بعضهم في لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال : إن وصاحبها ، فحذف الاسم وحده أسهل. وقرأ الجمهور : يتفجر بالياء ، مضارع تفجر. وقرأ مالك بن دينار : ينفجر بالياء ، مضارع انفجر ، وكلاهما مطاوع. أما يتفجر فمطاوع تفجر ، وأما ينفجر فمطاوع فجر مخففا. والتفجر : التفتح بالسعة والكثرة ، والانفجار دونه ، والمعنى : إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر. وقرأ أبيّ والضحاك : منها الأنهار. وقرأ الجمهور منه ، فالقراءة الأولى حمل على المعنى ، وقراءة الجمهور على اللفظ ، لأن ما لها هنا لفظ ومعنى ، لأن المراد به الحجارة ، ولا يمكن أن يراد به مفردا

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٦٤.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٥٩.

٤٢٧

لمعنى ، فيكون لفظه ومعناه واحدا ، إذ ليس المعنى (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) للحجر الذي يتفجر منه الماء ، إنما المعنى للأحجار التي يتفجر منها الأنهار. وقد سبق الكلام على الأنهار في قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (١) الآية. وقد ذهب بعضهم إلى أن الحجر الذي يتفجر منه الأنهار ، هو الحجر الذي ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.

(وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) ، التشقق : التصدّع بطول أو بعرض ، فينبع منه الماء بقلة حتى لا يكون نهرا. وقرأ الجمهور : يشقق ، بتشديد الشين ، وأصله يتشقق ، فأدغم التاء في الشين. وقرأ الأعمش : تشقق ، بالتاء والشين المخففة على الأصل ، ورأيتها معزوّة لابن مصرّف. وفي النسخة التي وقفت عليها من تفسير ابن عطية. ما نصه : وقرأ ابن مصرّف : ينشقق ، بالنون وقافين ، والذي يقتضيه اللسان أن يكون بقاف واحدة مشدّدة ، وقد يجيء الفك في شعر ، فإن كان المضارع مجزوما ، جاز الفك فصيحا ، وهو هنا مرفوع ، فلا يجوز الفك ، إلا أنها قراءة شاذة ، فيمكن أن يكون ذلك فيها ، وأما أن يكون المضارع بالنون مع القافين وتشديد الأولى منهما ، فلا يجوز. قال أبو حاتم : يجوز لما تتفجر بالتاء ، ولا يجوز لما تتفجر بالتاء ، ولا يجوز تتشقق بالتاء ، لأنه إذا قال : تتفجر فأنثه لتأنيث الأنهار ، ولا يكون في تشقق. وقال أبو جعفر النحاس : يجوز ما أنكره أبو حاتم حملا على المعنى ، لأن المعنى : وإن منها للحجارة التي تشقق ، وإمّا يشقق بالياء ، فمحمول على اللفظ. انتهى ، وهو كلام صحيح. ولم ينقل هنا أن أحدا قرأ منها الماء ، فيعيد على المعنى ، إنما نقل ذلك في قوله : لما يتفجر منه الأنهار ، فكان قوله يتفجر حملا على اللفظ ومنها حملا على المعنى ومحسن هذا هنا انه ولى الضمير جمع وهو الأنهار ، فناسب الجمع الجمع ، ولأن الأنهار من حيث هي جمع ، يبعد في العادة أن تخرج من حجر واحد ، وإنما تخرج الأنهار من أحجار ، فلذلك ناسب مراعاة المعنى هنا. وأما فيخرج منه الماء ، فالماء ليس جمعا ، فلا يناسب في حمل منه على المعنى ، بل أجرى يشقق ، ومنه على اللفظ.

(وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ، الهبوط هنا : التردّي من علو إلى أسفل. وقرأ الأعمش : يهبط ، بضم الباء ، وقد تقدم أنها لغة. وخشية الله : خوفه. واختلف المفسرون في تفسير هذا ، فذهب قوم إلى أن الخشية هنا حقيقة. واختلف هؤلاء ، فقال قوم معناه : من خشية الحجارة لله تعالى ، فهي مصدر مضاف للمفعول ، وأن الله تعالى جعل لهذه

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥.

٤٢٨

الأحجار التي تهبط من خشية الله تعالى تمييزا قام لها مقام الفعل المودع فيمن يعقل ، واستدل على ذلك بأن الله تعالى وصف بعض الحجارة بالخشية ، وبعضها بالإرادة ، ووصف جميعها بالنطق والتحميد والتقديس والتأويب والتصدّع ، وكل هذه صفات لا تصدر إلا عن أهل التمييز والمعرفة. قال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) (١) الآية ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٢) ، (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) (٣) ، وفي الحديث الصحيح : «إني لأعرف حجرا كان يسلم عليّ قبل أن أبعث وأنه بعد مبعثه ما مرّ بحجر ولا مدر إلا سلم عليه ، وفي الحجر الأسود إنه يشهد لمن يستلمه». وفي حديث الحجر الذي فرّ بثوب موسى عليه‌السلام وصار يعدو خلفه ويقول : «ثوبي حجر ثوبي حجر». وفي الحديث عن أحد : «أن هذا جبل يحبنا ونحبه». وفي حديث حراء : «لما اهتز أسكن حراء». وفي حديث : «تسبيح صغار الحصى بكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وقد دلت هذه الجملة وأحاديث أخر على نطق الحيوانات والجمادات ، وانقياد الشجر وغير ذلك. فلو لا أنه تعالى أودع فيها قوة مميزة ، وصفة ناطقة ، وحركة اختيارية ، لما صدر عنها شيء من ذلك ، ولا حسن وصفها به. وإلى هذا ذهب مجاهد وابن جريج وجماعة. وقال قوم : الخشية هنا حقيقة ، وهو مصدر أضيف إلى فاعل. والمراد بالحجر الذي يهبط من خشية الله هو البرد ، والمراد بخشية الله : إخافته عباده ، فأطلق الخشية ، وهو يريد الإخشاء ، أي نزول البرد به ، يخوّف الله عباده ، ويزجرهم عن الكفر والمعاصي. وهذا قول متكلف ، وهو مخالف للظاهر. والبرد ليس بحجارة ، وإن كان قد اشتدّ عند النزول ، فهو ماء في الحقيقة. وقال قوم : الخشية هنا حقيقة ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، وفاعله محذوف ، وهو العباد. والمعنى : أن من الحجارة ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزلة من خشية عباد الله إياه.

وتحقيقه : أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى ، صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط ، فكان المعنى : لما يهبط من أجل أن يحصل لعباد الله تعالى. وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة ، وأن الضمير في قوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) عائد على القلوب ، والمعنى : أن من القلوب قلوبا تطمئن وتسكن ، وترجع إلى الله تعالى ، فكنى بالهبوط عن هذا المعنى ، ويريد بذلك قلوب المخلصين. وهذا تأويل بعيد جدا ، لأنه بدأ بقوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) ، ثم قال : (وَإِنَّ مِنْها) ، فظاهر الكلام

__________________

(١) سورة الحشر : ٥٩ / ٢١.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٤٤.

(٣) سورة سبأ : ٣٤ / ١٠.

٤٢٩

التقسيم للحجارة ، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل واضح ، والهبوط لا يليق بالقلوب ، إنما يليق بالحجارة. وليس تأويل الهبوط بأولى من تأويل الخشية إن تأوّلناها. وقد أمكن في الوجوه التي تضمنت حملها على الحقيقة ، وإن كان بعض تلك الأقوال أقوى من بعض. وذهب بعضهم إلى أن الذي يهبط من خشية الله هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه‌السلام ، إذ جعله دكا. وذهب قوم إلى أن الخشية هنا مجاز من مجاز الاستعارة ، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) (١) ، وكما قال زيد الخيل :

بجمع تضل البلق في حجراته

ترى الأكم منه سجدا للحوافر

وكما قال الآخر :

لما أتى خبر الزبير تضعضعت

سور المدينة والجبال الخشع

أي من رأى الحجر متردّيا من علوّ إلى أسفل ، تخيل فيه الخشية ، فاستعار الخشية ، كناية عن الانقياد لأمر الله ، وأنها لا تمتنع على ما يريد الله تعالى فيها. فمن يراها يظنّ أن ذلك الانفعال السريع هو مخافة خشية الله تعالى. وهذا قول من ذهب إلى أن الحياة والنطق لا يحلان في الجمادات ، وذلك ممتنع عندهم. وتأوّلوا ما ورد في القرآن والحديث ، مما يدل على ذلك على أن الله تعالى قرن بها ملائكة ، هي التي تسلم وتتكلم ، كما ورد أن الرحم معلقة بالعرش ، تنادي : اللهم صل من وصلني ، واقطع من قطعني. والأرحام ليست بجسم ، ولا لها إدراك ، ويستحيل أن تسجد المعاني ، أو تتكلم ، وإنما قرن الله تعالى بها ملكا يقول ذلك القول. وتأوّلوا : هذا جبل يحبنا ونحبه ، أي يحبه أهله ونحب أهله ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢). واختيار ابن عطية ، رحمه‌الله تعالى ، أن الله يخلق للحجارة قدرا ما من الإدراك ، تقع به الخشية والحركة. واختيار الزمخشري أن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى وعدم امتناعها ، وترتيب تقسيم هذه الحجارة ترتيب حسن جدا ، وهو على حسب الترقي. فبدأ أولا بالذي تتفجر منه الأنهار ، أي خلق ذا خروق متسعة ، فلم ينسب إليه في نفسه تفعل ولا فعل ، أي أنها خلقت ذات خروق بحيث لا يحتاج أن يضاف إليها صدور فعل منها. ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالا يسيرا ، وهو أن يصدر منه تشقق بحيث ينبع منه الماء. ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالا عظيما ، بحيث يتحرك ويتدهده من علو إلى أسفل ، ثم رسخ هذا الانفعال التامّ بأن

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٧٧.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٨٢.

٤٣٠

ذلك هو من خشية الله تعالى ، من طواعيته وانقياده لما أراد الله تعالى منه ، فكنى بالخشية عن الطواعية والانقياد ، لأن من خشي أطاع وانقاد.

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : هذا فيه وعيد ، وذلك أنه لما قال : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، أفهم أنه ينشأ عن قسوة القلوب أفعال فاسدة وأعمال قبيحة ، من مخالفة الله تعالى ، ومعاندة رسله ، فأعقب ذلك بتهديدهم بأن الله تعالى ليس بغافل عن أعمالهم ، بل هو تعالى يحصيها عليهم ، وإذا لم يغفل عنها كان مجازيا عليها. والغفلة إن أريد بها السهو ، فالسهو لا يجوز على الله تعالى ، وإن أريد بها الترك عن عمد ، فذكروا أنه مما يجوز أن يوصف الله تعالى به. وعلى كلا التقديرين ، فنفى الله تعالى الغفلة عنه. وانتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا ، ولكونه لا يقع منه مع إمكانه. وقد ذهب القاضي إلى أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه ليس بغافل ، قال : لأنه يوهم جواز الغفلة عليه ، وليس الأمر كما ذهب إليه ، لأن نفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه. ألا ترى إلى قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (١)؟ وقوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (٢) ، فقد نفى عنه تعالى ما لا يستلزم إمكانه له. وبغافل : في موضع نصب ، على أن تكون ما حجازية. ويجوز أن تكون في موضع رفع ، على أن تكون ما تميمية ، فدخلت الباء في خبر المبتدأ ، وسوّغ ذلك النفي. ألا ترى أنها لا تدخل في الموجب؟ لا تقول : زيد بقائم ، ولا : ما زيد إلا بقائم. قال ابن عطية : وبغافل في موضع نصب خبر ما ، لأنها الحجازية ، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر ، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية. انتهى كلامه. وهذا الذي ذهب إليه أبو محمد بن عطية ، من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة ، لم يذهب إليه نحوي فيما علمناه ، بل القائلون قائلان ، قائل : بأن التميمية لا تدخل الباء في خبر المبتدأ بعدها ، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه ، وتبعه الزمخشري. وقائل : بأنه يجوز أن يجر بالباء ، وهو الصحيح. وقال الفرزدق :

لعمرك ما معن بتارك حقه

وأشعار بني تميم تتضمن جر الخبر بالباء كثيرا. وقرأ الجمهور : تعملون بالتاء ، وهو الجاري على نسق قوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ). وقرأ ابن كثير بالياء ، فيحتمل أن يكون الخطاب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن يكون الخطاب مع بني إسرائيل ، ويكون ذلك

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٥.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٤.

٤٣١

التفاتا ، إذ خرج من الخطاب في قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) إلى الغيبة في قوله : (يَعْلَمُونَ). وحكمة هذا الالتفات أنه أعرض عن مخاطبتهم ، وأبرزهم في صورة من لا يقبل عليهم بالخطاب ، وجعلهم كالغائبين عنه ، لأن مخاطبة الشخص ومواجهته بالكلام إقبال من المخاطب عليه ، وتأنيس له ، فقطع عنهم مواجهته لهم بالخطاب ، لكثرة ما صدر عنهم من المخالفات.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة فصولا عظيمة ، ومحاورات كثيرة ، وذلك أن موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، شافههم بأن الله تعالى يأمرهم بذبح البقرة ، وذلك امتحان من الله تعالى لهم ، فلم يبادروا لامتثال أمر الله تعالى ، وأخرجوا ذلك مخرج الهزؤ ، إذ لم يفهموا سر الأمر. وكان ينبغي أن يبادروا بالامتثال ، فأجابهم موسى باستعاذته بالله الذي أمره أن يكون ممن جهل ، فيخبر عن الله بما لم يأمره به ، فردّ عليهم بأن استعمال الهزء في التبليغ عن الله تعالى ، وفي غيره ، وهو يستعيذ منه ، فرجعوا إلى قوله ، وتعنتوا في البقرة ، وفي أوصافها ، وكان يجزئهم أن يذبحوا بقرة ، إذ المأمور به بقرة مطلقة ، فسألوا ما هي؟ وسألوا موسى أن يدعو الله تعالى أن يبينها لهم ، إذ كان دعاؤه أقرب للإجابة من دعائهم ، فأخبر عن الله تعالى بسنها. ثم خاف من كثرة سؤالهم ، ومن تعنتهم ، كما جاء ، إنما أهلك بني إسرائيل كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فبادر إلى أمرهم بأن يفعلوا ما يؤمرون ، حتى قطع سؤالهم ، فلم يلتفتوا إلى أمره ، وسألوا أن يسأل الله تعالى ثانيا عن لونها ، إذ قد أخبروا بسنها ، فأخبرهم عن الله تعالى بلونها ، ولم يأمرهم ثانيا أن يفعلوا ما يؤمرون به ، إذ علم منهم تعنتهم ، لأنهم خالفوا أمر الله أولا في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ، وخالفوا أمر موسى ثانيا في قوله : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ). فلم يكن إلا أن أبقاهم على طبيعتهم من كثرة السؤال. فسألوا ثالثا أن يسأل الله عنها ، فأخبرهم عن الله تعالى بحالها بالنسبة إلى العمل وباقي الأوصاف التي ذكرها ، فحينئذ صرحوا بأن موسى جاء بالحق الواضح الذي بين أمر هذه البقرة ، فالتمسوها حتى حصلوها وذبحوها امتثالا لأمر الله تعالى ، وذلك بعد ترديد كثير وبطء عظيم ، وقبل ذلك ما قاربوا ذبحها ، بل بقوا متطلبين أشياء ليتأخر عنهم تحصيلها وذبحها.

ثم أخبر تعالى عنهم بقتل النفس ، وتدافعهم فيمن قتلها ، واختلافهم في ذلك ، فأمروا بأن يضربوا ذلك القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة ، فضربوه فحيي بإذن الله ، وانكشف لهم سرّ أمر الله بذبح البقرة ، وأنه ترتب على ذلك من الأمر المعجز الخارق ، ما

٤٣٢

يحصل به العلم الضروري الدال على صدق موسى عليه‌السلام ، وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. ثم بين تعالى أن مثل هذ الإحياء يحيي الموتى ، إذ لا فرق بين الإحياءين في مطلق الإحياء. ثم أخبر تعالى بأنه يريهم آياته ، لينتج عن تلك الإراءة كونهم يصيرون من أولي العقل ، الناظرين في عواقب الأمور ، المفكرين في المعاد. ثم أخبر تعالى بعد ذلك أنهم على مشاهدتهم هذا الخارق العظيم ، ورؤيتهم الآيات قبل ذلك ، لم يتأثروا لذلك ، بل ترتب على ذلك عكس مقتضاه من القسوة الشديدة ، حتى شبه قلوبهم بالحجارة ، أو هي أشد من الحجارة. ثم استطرد لذكر الحجارة بالتقسيم الذي ذكره ، على أن الحجارة تفضل قلوبهم في كون بعضها يتأثر تأثيرا عظيما ، بحيث يتحرك ويتدهده ، وكون بعضها يتشقق فيتأثر تأثيرا قليلا ، فينبع منه الماء ، وكون بعضها خلق منفرجا تجري منه الأنهار ، وقلوبهم على سجية واحدة ، لا تقبل موعظة ، ولا تتأثر لذكري ، ولا تنبعث لطاعة. ثم ختم ذلك بأنه تعالى لا يغفل عما اجترحوه في دار الدنيا ، بل يجازيهم بذلك في الدار الأخرى. وكان افتتاح هذه الآيات بأن الله تعالى يأمر ، واختتامها بأن الله لا يغفل. فهو العالم بمن امتثل ، وبمن أهمل ، فيجازي ممتثل أمره بجزيل ثوابه ، ومهمل أمره بشديد عقابه.

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ

٤٣٣

خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)

الطمع : تعلق النفس بإدراك مطلوب ، تعلقا قويا ، وهو أشدّ من الرجاء ، لأنه لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدّة إرادة ، وإذا اشتدّ صار طمعا ، وإذا ضعف كان رغبة ورجاء. يقال : طمع يطمع طمعا وطماعة وطماعية مخففا ، كطواعية ، قال الشاعر :

طماعية أن يغفر الذنب غافره

واسم الفاعل : طمع وطامع ، ويعدّى بالهمزة ، ويقال : طامعه مطامعة ، ويقال : طمع بضم الميم ، كثر طعمه ، وضدّ الطمع : اليأس ، قال كثير :

لا خير في الحب وقفا لا يحركه

عوارض اليأس أو يرتاجه الطمع

ويقال : امرأة مطماع ، أي تطمع ولا تمكن ، وقد توسع في الطمع فسمى به رزق الجند ، يقال : أمر لهم الأمير بإطماعهم ، أي أرزاقهم ، وهو من وضع المصدر موضع المفعول. الكلام : هو القول الدال على نسبة إسنادية مقصودة لذاتها ، ويطلق أيضا على الكلمة ، ويعبر به أيضا عن الخط والإشارة ، وما يفهم من حال الشيء. وهل يطلق على المعاني القائمة بالذهن التي يعبر عنها بالكلام؟ في ذلك خلاف ، وتقاليبه الست موضوعة ، وترجع إلى معنى القوة والشدة ، وهي : كلم ، كمل ، لكم ، لمك ، ملك ، مكل. التحريف : إمالة الشيء من حال إلى حال ، والحرف : الحد المائل. التحديث : الإخبار عن حادث ، ويقال منه يحدث ، وأصله من الحدوث ، وأصل فعله أن يتعدى إلى واحد بنفسه ، وإلى آخر بعن ، وإلى ثالث بالباء ، فيقال : حدثت زيدا عن بكر بكذا ، ثم إنه قد يضمن معنى أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين ، فيتعدى إلى ثلاثة ، وهي من إلحاق غير سيبويه بأعلم ، ولم يذكر سيبويه مما يتعدى إلى ثلاثة غير : أعلم ، وأرى ونبأ ، وأما حدّث فقد أنشدوا بيت الحارث بن حلزة :

أو منعتم ما تسألون فمن

حدثتموه له علينا العلاء

وجعلوا حدث فيه متعدية إلى ثلاثة ، ويحتمل أن يكون التقدير : حدثتموا عنه. والجملة بعده حال. كما خرج سيبويه قوله : ونبئت عبد الله ، أي عن عبد الله ، مع احتمال أن يكون ضمن نبئت معنى : أعلمت ، لكن رجح عنده حذف حرف الجر على التضمين.

٤٣٤

وإذا احتمل أن يخرج بيت الحرث على أن يكون مما حذف منه الحرف ، لم يكن فيه دليل على إثبات تعدى حدث إلى ثلاثة بنفسه ، فينبغي أن لا يذهب إلى ذلك ، إلا أن يثبت من لسان العرب. الفتح : القضاء بلغة اليمن ، (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (١). والأذكار : فتح على الإمام ، والظفر : (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) (٢). قال الكلبي : وبمعنى القصص. قال الكسائي : وبمعنى التبيين. قال الأخفش : وبمعنى المن. وأصل الفتح : خرق الشيء ، والسد ضده. المحاجة : من الاحتجاج ، وهو القصد للغلبة ، حاجة : قصد أن يغلب. والحجة : الكلام المستقيم ، مأخوذ من محجة الطريق.

أسر الشيء : أخفاه ، وأعلنه : أظهره. الأميّ : الذي لا يقرأ في كتاب ولا يكتب ، نسب إلى الأم لأنه ليس من شغل النساء أن يكتبن أو يقرأن في كتاب ، أو لأنه بحال ولدته أمه لم ينتقل عنها ، أو نسب إلى الأمة ، وهي القامة والخلقة ، أو إلى الأمة ، إذ هي ساذجة قبل أن تعرف المعارف. الأماني : جمع أمنية ، وهي أفعولة ، أصله : أمنوية ، اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ، وهي من منى ، إذا قدّر ، لأن المتمني يقدر في نفسه ويحزر ما يتمناه ، أو من تمنى : أي كذب. قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به : أهذا شيء رويته أم تمنيته؟ أي اختلقته. وقال عثمان : ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت ، أو من تمنى إذا تلا ، قال تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (٣) ، أي إذا تلا وقرأ ، وقال الشاعر :

تمنى كتاب الله أول ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

والتلاوة والكذب راجعان لمعنى التقدير ، فالتقدير أصله ، قال الشاعر :

ولا تقولن لشيء سوف أفعله

حتى تبين ما يمنى لك الماني

أي يقدر ، وجمعها بتشديد الياء لأنه أفاعيل. وإذا جمع على أفاعل خففت الياء ، والأصل التشديد ، لأن الياء الأولى في الجمع هي الواو التي كانت في المفرد التي انقلبت فيه ياء ، ألا ترى أن جمع أملود أماليد؟ ويل : الويل مصدر لا فعل له من لفظه ، وما ذكر من قولهم. وأل مصنوع ، ولم يجىء من هذه المادة التي فاؤها واو وعينها ياء إلا : ويل ، وويح ، وويس ، وويب ، ولا يثني ولا يجمع. ويقال : ويله ، ويجمع على ويلات. قال :

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٢٦.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ١٩.

(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٢٥.

٤٣٥

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

وإذا أضيف ويل ، فالأحسن فيه النصب ، قال تعالى : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) (١). وزعم بعض أنه إذا أضيف لا يجوز فيه إلا النصب ، وإذا أفردته اختير الرفع ، قال : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ) ، ويجوز النصب ، قال :

فويلا لتيم من سرابيلها الخضر

والويل : معناه الفضيحة والحسرة ، وقال الخليل : الويل : شدة الشر ، وقال المفضل وابن عرفة : الويل : الحزن ، يقال : تويل الرجل : دعا بالويل ، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه. وقال غيره : الويل : الهلكة ، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ، وقال الأصمعي : هي كلمة تفجع ، وقد يكون ترحما ، ومنه :

ويل أمه مسعر حرب

الأيدي : جمع يد ، ويد مما حذف منه اللام ، ووزنه فعل ، وقد صرح بالأصل. قالوا : يدي ، وقد أبدلوا من الياء الأولى همزة ، قالوا : قطع الله أديه ، وأبدلوا منها أيضا جيما ، قالوا : لا أفعل ذلك جد الدهر ، يريدون يد الدهر ، وهي حقيقة في الجارحة ، مجاز في غيرها. وأما الأيادي فجمع الجمع ، وأكثر استعمال الأيادي في النعم ، والأصل : الأيدي ، استثقلنا الضمة على الياء فحذفت ، فسكنت الياء ، وقبلها ضمة ، فانقلبت واوا ، فصار الأيد. وكما قيل في ميقن موقن ، ثم إنه لا يوجد في لسانهم واو ساكنة قبلها ضمة في اسم ، وإذا أدى القياس إلى ذلك ، قلبت تلك الواو ياء وتلك الضمة قبلها كسرة ، فصار الأيدي. وقد تقدم الكلام على اليد عند الكلام على قوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْها) (٢). الكسب : أصله اجتلاب النفع ، وقد جاء في اجتلاب الضر ، ومنه : بلى من كسب سيئة ، والفعل منه يجيء متعديا إلى واحد ، تقول : كسبت مالا ، وإلى اثنين تقول : كسبت زيدا مالا. وقال ابن الأعرابي ؛ يقال : كسب هو نفسه وأكسب غيره ، وأنشد :

فأكسبني مالا وأكسبته حمدا

المسّ : الإصابة ، والمسّ : الجمع بين الشيئين على نهاية القرب ، واللمس : مثله لكن مع الإحساس ، وقد يجيء المسّ مع الإحساس. وحقيقة المس واللمس باليد. ونقل

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٦١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٦٦.

٤٣٦

من الإحساس إلى المعاني مثل : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) (١) (يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) (٢) ، ومنه سمي الجنون مسا ، وقيل : المسّ واللمس والجسّ متقارب ، إلا أن الجسّ عام في المحسوسات ، والمسّ فيما يخفى ويدق ، كنبض العروق ، والمسّ واللمس بظاهر البشرة ، والمسّ كناية عن النكاح وعن الجنون. المعدود : اسم مفعول من عدّ ، بمعنى حسب ، والعدد هو الحساب. الإخلاف : عدم الإيفاء بالشيء الموعود. بلى : حرف جواب لا يقع إلا بعد نفي في اللفظ أو المعنى ، ومعناها : ردّه ، سواء كان مقرونا به أداة الاستفهام ، أو لم يكن ، وقد وقع جوابا للاستفهام في مثل : هل يستطيع زيد مقاومتي؟ إذا كان منكرا لمقاومة زيد له ، لما كان معناه النفي ، ومما وقعت فيه جوابا للاستفهام قول الحجاف بن حكيم :

بل سوف نبكيهم بكل مهند

ونبكي نميرا بالرماح الخواطر

وقعت جوابا للذي قال له ، وهو الأخطل :

ألا فاسأل الحجاف هل هو ثائر

بقتلي أصيبت من نمير بن عامر

وبلى عندنا ثلاثي الوضع ، وليس أصله بل ، فزيدت عليها الألف خلافا للكوفيين. السيئة : فيعلة من ساء يسوء مساءة ، إذا حزن ، وهي تأنيث السيّء ، وقد تقدّم الكلام على هذا الوزن عند الكلام على قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ) (٣) ، فأغنى عن إعادته.

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) : ذكروا في سبب نزول هذه الآية أقاويل : أحدها : أنها نزلت في الأنصار ، وكانوا حلفاء لليهود ، وبينهم جوار ورضاعة ، وكانوا يودون لو أسلموا. وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون يودون إسلام من بحضرتهم من أبناء اليهود ، لأنهم كانوا أهل كتاب وشريعة ، وكانوا يغضبون لهم ويلطفون بهم طمعا في إسلامهم. وقيل : نزلت فيمن بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أبناء السبعين الذين كانوا مع موسى عليه‌السلام في الطور ، فسمعوا كلام الله ، فلم يمتثلوا أمره ، وحرّفوا القول في أخبارهم لقومهم ، وقالوا : سمعناه يقول إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا. وقيل : نزلت في علماء اليهود الذين يحرفون التوراة ، فيجعلون الحلال حراما ، والحرام حلالا ، اتباعا لأهوائهم. وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل علينا قصبة المدينة إلا مؤمن». قال كعب بن

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٤١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٩.

٤٣٧

الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما : اذهبوا وتجسسوا أخبار من آمن ، وقولوا لهم آمنا ، واكفروا إذا رجعتم ، فنزلت. وقيل : نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين : نحن نؤمن أنه نبي ، لكن ليس إلينا ، وإنما هو إليكم خاصة ، فلما خلوا ، قال بعضهم : أتقرون بنبوّته وقد كنا قبل نستفتح به؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه. وقيل : نزلت في قوم من اليهود كانوا يسمعون الوحي ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه.

وهذه الأقاويل كلها لا تخرج عن أن الحديث في اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم الذين يصح فيهم الطمع أن يؤمنوا ، لأن الطمع إنما يصح في المستقبل ، والضمير في (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) لليهود. والمعنى : استبعاد إيمان اليهود ، إذ قد تقدّم لأسلافهم أفاعيل ، وجزى أبناؤهم عليها. فبعيد صدور الإيمان من هؤلاء ، فإن قيل : كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين؟ قيل : قال القفال : يحتمل أن يكون المعنى : كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونه من قوم يحرفون عنادا؟ فإنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه ، والمقلدون يقبلون ذلك منهم ، فلا يلتفتون إلى الحق. وقيل : إياسهم من إيمان فرقة بأعيانهم.

والهمزة في أفتطمعون للاستفهام ، وفيها معنى التقرير ، كأنه قال : قد طمعتم في إيمان هؤلاء وحالهم ما ذكر. وقيل : فيه ضرب من النكير على الرغبة في إيمان من شواهد امتناعه قائمة. واستبعد إيمانهم ، لأنهم كفروا بموسى ، مع ما شاهدوا من الخوارق على يديه ، ولأنهم ما اعترفوا بالحق ، مع علمهم ، ولأنهم لا يصلحون للنظر والاستدلال. والخطاب في أفتطمعون ، للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. خاطبه بلفظ الجمع تعظيما له ، قاله ابن عباس ومقاتل ، أو للمؤمنين ، قاله أبو العالية وقتادة ، أو للأنصار ، قاله النقاش ، أو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، أو لجماعة من المؤمنين ، أو لجماعة من الأنصار. والفاء بعد الهمزة أصلها التقديم عليها ، والتقدير : فأتطمعون ، فالفاء للعطف ، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدمت عليها. والزمخشري يزعم أن بين الهمزة والفاء فعل محذوف ، ويقر الفاء على حالها ، حتى تعطف الجملة بعدها على الجملة المحذوفة قبلها ، وهو خلاف مذهب سيبويه ، ومحجوج بمواضع لا يمكن تقدير فعل فيها ، نحو قوله : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) (١) ، (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (٢) ، (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) (٣). أن يؤمنوا معمول لتطمعون على إسقاط حرف

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ١٨.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ١٩.

(٣) سورة الرعد : ١٣ / ٣٣.

٤٣٨

الجر ، التقدير : في أن يؤمنوا ، فهو في موضع نصب ، على مذهب سيبويه ، وفي موضع جر ، على مذهب الخليل والكسائي. ولكم : متعلق بيؤمنوا ، على أن اللام بمعنى الباء ، وهو ضعيف ، ولام السبب أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم.

(وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) ، الفريق : قيل : هم الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مجاهد والسدّي. وقيل : جماعة من اليهود كانوا يسمعون الوحي ، إذا نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيحرفونه ، قصدا أن يدخلوا في الدين ما ليس فيه ، ويحصل التضاد في أحكامه. وقيل : كل من حرف حكما ، أو غيره ، كفعلهم في آية الرجم ونحوها. وقيل : هم السبعون الذين سمعوا مع موسى عليه‌السلام كلام الله ، ثم بدلوا بعد ذلك ، وقد أنكر أن يكونوا سمعوا كلام الله تعالى. قال ابن الجوزي : أنكر ذلك أهل العلم ، منهم : الترمذي ، صاحب النوادر ، وقال : إنما خص موسى عليه‌السلام بالكلام وحده. وكلام الله الذي حرفوه ، قيل : هو التوراة ، حرفوها بتبديل ألفاظ من تلقائهم ، وهو قول الجمهور. وقيل : بالتأول ، مع بقاء لفظ التوراة ، قاله ابن عباس. وقيل : هو كلام الله الذي سمعوه على الطور. وقيل : ما كانوا يسمعونه من الوحي المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ الأعمش : كلم الله ، جمع كلمة ، وقد يراد بالكلمة : الكلام ، فتكون القراءتان بمعنى واحد. وقد يراد المفردات ، فيحرفون المفردات ، فتتغير المركبات ، وإسنادها بتغير المفردات.

(ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) : التحريف الذي وقع ، قيل : في صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم وصفوه بغير الوصف الذي هو عليه ، حتى لا تقوم عليهم به الحجة. وقيل : في صفته ، وفي آية الرجم. (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أي من بعد ما ضبطوه وفهموه ، ولم تشتبه عليهم صحته. وما مصدرية ، أي من بعد عقلهم إياه ، والضمير في عقلوه عائد على كلام الله. وقيل : ما موصولة ، والضمير عائد عليها ، وهو بعيد.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) : ومتعلق العلم محذوف ، أي أنهم قد حرفوه ، أو ما في تحريفه من العقاب ، أو أنه الحق ، أو أنهم مبطلون كاذبون. والواو في قوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ) ، وفي قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، واو الحال. ويحتمل أن يكون العامل في الحال قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ)؟ ويحتمل أن يكون : (أَنْ يُؤْمِنُوا). فعلى الأول يكون المعنى : أفيكون منكم طمع في إيمان اليهود؟ وأسلافهم من عادتهم تحريف كلام الله ، وهم سالكو سننهم ومتبعوهم في تضليلهم ، فيكون الحال قيدا في الطمع المستبعد ، أي يستبعد الطمع في

٤٣٩

إيمان هؤلاء وصفتهم هذه. وعلى الثاني يكون المعنى استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء إيمان ، وقد كان أسلافهم على ما نص من تحريف كلام الله تعالى. فعلى هذا يكون الحال قيدا في إيمانهم. وعلى كلا التقديرين ، فكل منهما ، أعني من : أفتطمعون ، ومن يؤمنوا ، مقيد بهذه الحال من حيث المعنى. وإنما الذي ذكرناه تقتضيه صناعة الإعراب. وبيان التقييد من حيث المعنى أنك إذا قلت : أتطمع أن يتبعك زيد؟ وهو متبع طريقة أبيه ، فاستبعاد الطمع مقيد بهذه الحال ، ومتعلق الطمع ، الذي هو الاتباع المفروض وقوعه ، مقيد بهذه الحال. فمحصوله أن وجود هذه الحال لا يجامع الاتباع ، ولا يناسب الطمع ، بل إنما كان يناسب الطمع ويتوقع الاتباع ، مع انتفاء هذه الحال. وأما العامل في قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، فقوله : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) ، أي يقع التحريف منهم بعد تعقله وتفهمه ، عالمين بما في تحريفه من شديد العقاب ، ومع ذلك فهم يقدمون على ذلك ، ويجترئون عليه. والإنكار على العالم أشدّ من الإنكار على الجاهل ، لأن عند العالم دواعي الطاعة ، لما علم من ثوابها ، وتواني المعصية لما علم من عقابها. وذهب بعضهم إلى أن العامل في قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، قوله : (عَقَلُوهُ) ، والظاهر القول الأول ، وهو قوله : (يُحَرِّفُونَهُ).

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) : قرأ ابن السميفع : لاقوا ، قالوا : على التكثير. ولا يظهر التكثير ، إنما هو من فاعل الذي هو بمعنى الفعل المجرّد. فمعنى لاقوا ، ومعنى لقوا واحد ، وتقدّم شرح مفردات هذه الجملة الشرطية. ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة منبئة عن نوع من قبائح اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكاشفة عما أكنوه من النفاق. ويحتمل أن تكون جملة حالية معطوفة على قوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) الآية ، أي كيف يطمع في إيمانهم ، وقد كان من أسلافهم من يحرّف كلام الله ، وهؤلاء سالكو طريقتهم ، وهم في أنفسهم منافقون ، يظهرون موافقتكم إذا لقوكم ، وأنهم منكم وهم في الباطن كفار. فمن جمع بين هاتين الحالتين ، من اقتدائهم بأسلافهم الضلّال ، ومنافقتهم للمؤمنين ، لا يطمع في إيمانهم. والذين آمنوا هنا هم : أبو بكر وعمر وجماعة من المؤمنين ، قاله جمهور المفسرين. وقال بعضهم : المؤمنون هنا جماعة من اليهود آمنوا وأخلصوا في إيمانهم ، والضمير في لقوا لجماعة من اليهود غير معينة باقين على دينهم ، أو لجماعة منهم أسلموا ثم نافقوا ، أو لليهود الذين أمرهم رؤساؤهم من بني قريظة أن يدخلوا المدينة ويتجسسوا أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : ادخلوا المدينة وأظهروا الإيمان ، فإنه نهى أن يدخل المدينة إلا مؤمن.

٤٤٠