البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

ضمير نصب منفصلا لا اسما ظاهرا أضيف خلافا لزاعمه ، وهل الضمير هو مع لواحقه أو هو وحده؟ واللواحق حروف ، أو هو واللواحق أسماء أضيف هو إليها ، أو اللواحق وحدها ، وايا زائدة لتتصل بها الضمائر ، أقوال ذكرت في النحو. وأما لغاته فبكسر الهمزة وتشديد الياء ، وبها قرأ الجمهور ، وبفتح الهمزة وتشديد الياء ، وبها قرأ الفضل الرقاشي ، وبكسر الهمزة وتخفيف الياء ، وبها قرأ عمرو بن فائد ، عن أبي ، وبإبدال الهمزة المكسورة هاء ، وبإبدال الهمزة المفتوحة هاء ، وبذلك قرأ ابن السوار الغنوي ، وذهاب أبي عبيدة إلى أن ايا مشتق ضعيف ، وكان أبو عبيدة لا يحسن النحو ، وإن كان إماما في اللغات وأيام العرب. وإذا قيل بالاشتقاق ، فاشتقاقه من لفظ ، أو من قوله :

فاو لذكراها إذا ما ذكرتها

فتكون من باب قوة ، أو من الآية فتكون عينها ياء كقوله :

لم يبق هذا الدهر من إيائه

قولان ، وهل وزنه إفعل وأصله إأوو أو إأوي أو فعيل فأصله أويو أو اويي أو فعول ، وأصله إووو أو اويي أو فعلى ، فأصله أووى أواويا ، أقاويل كلها ضعيفة ، والكلام على تصاريفها حتى صارت ايا تذكر في علم النحو ، وإضافة ايا لظاهر نادر نحو : وايا الشواب ، أو ضرورة نحو : دعني وايا خالد ، واستعماله تحذيرا معروف فيحتمل ضميرا مرفوعا يجوز أن يتبع بالرفع نحو : إياك أنت نفسك.

(نَعْبُدُ) ، العبادة : التذلل ، قاله الجمهور ، أو التجريد ، قاله ابن السكيت ، وتعديه بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف ، نحو : عبدت الرجل ذللته ، وعبدت الله ذللت له. وقرأ الحسن ، وأبو مجلز ، وأبو المتوكل : إياك يعبد بالياء مبنيا للمفعول ، وعن بعض أهل مكة نعبد بإسكان الدال. وقرأ زيد بن علي ، ويحيى بن وثاب ، وعبيد بن عمير الليثي : نعبد بكسر النون.

(نَسْتَعِينُ) ، الاستعانة ، طلب العون ، والطلب أحد معاني استفعل ، وهي اثنا عشر معنى ، وهي : الطلب ، والاتحاد ، والتحول ، وإلقاء الشيء بمعنى ما صيغ منه وعده كذلك ، ومطاوعة افعل وموافقته ، وموافقة تفعل وافتعل والفعل المجرد ، والإغناء عنه وعن فعل مثل ذلك استطعم ، واستعبده ، واستنسر واستعظمه واستحسنه ، وإن لم يكن كذلك ، واستشلى مطاوع اشلى ، واستبل موافق مطاوع ابل ، واستكبر موافق تكبر ، واستعصم موافق

٤١

اعتصم ، واستغنى موافق غنى ، واستنكف واستحيا مغنيان عن المجرد ، واسترجع ، واستعان حلق عانته ، مغنيان عن فعل ، فاستعان طلب العون ، كاستغفر ، واستعظم. وقال صاحب اللوامح : وقد جاء فيه وياك أبدل الهمزة واوا ، فلا أدري أذلك عن الفراء أم عن العرب ، وهذا على العكس مما فروا إليه في نحو أشاح فيمن همز لأنهم فروا من الواو المكسورة إلى الهمزة ، واستثقالا للكسرة على الواو. وفي وياك فروا من الهمزة إلى الواو ، وعلى لغة من يستثقل الهمزة جملة لما فيها من شبه التهوع ، وبكون استفعل أيضا لموافقة تفاعل وفعل. حكى أبو الحسن بن سيده في المحكم : تماسكت بالشيء ومسكت به واستمسك به بمعنى واحد ، أي احتبست به ، قال ويقال : مسكت بالشيء وأمسكت وتمسكت ، احتبست ، انتهى. فتكون معاني استفعل حينئذ أربعة عشر لزيادة موافقة تفاعل وتفعل. وفتح نون نستعين قرأ بها الجمهور ، وهي لغة الحجاز ، وهي الفصحى. وقرأ عبيد بن عمير الليثي ، وزر بن حبيش ، ويحيى بن وثاب ، والنخعي ، والأعمش ، بكسرها ، وهي لغة قيس ، وتميم ، وأسد ، وربيعة ، وكذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه. وقال أبو جعفر الطوسي : هي لغة هذيل ، وانقلاب الواو ألفا في استعان ومستعان ، وياء في نستعين ومستعين ، والحذف في الاستعانة مذكور في علم التصريف ، ويعدى استعان بنفسه وبالباء. إياك مفعول مقدم ، والزمخشري يزعم أنه لا يقدم على العامل إلا للتخصيص ، فكأنه قال : ما نعبد إلا إياك ، وقد تقدم الرد عليه في تقديره بسم الله اتلوا ، وذكرنا نص سيبويه هناك. فالتقديم عندنا إنما هو للاعتناء والاهتمام بالمفعول. وسب أعرابي آخر فأعرض عنه وقال : إياك أعني ، فقال له : وعنك أعرض ، فقدما الأهم ، وإياك التفات لأنه انتقال من الغيبة ، إذ لو جرى على نسق واحد لكان إياه. والانتقال من فنون البلاغة ، وهو الانتقال من الغيبة للخطاب أو التكلم ، ومن الخطاب للغيبة أو التكلم ، ومن التكلم للغيبة أو الخطاب. والغيبة تارة تكون بالظاهر ، وتارة بالمضمر ، وشرطه أن يكون المدلول واحدا. ألا ترى أن المخاطب بإياك هو الله تعالى؟ وقالوا فائدة هذا الالتفات إظهار الملكة في الكلام ، والاقتدار على التصرف فيه. وقد ذكر بعضهم مزيدا على هذا ، وهو إظهار فائدة تخص كل موضع موضع ، ونتكلم على ذلك حيث يقع لنا منه شيء ، وفائدته في إياك نعبد أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية والرحمة والملك والملك لليوم المذكور ، أقبل الحامد مخبرا بأثر ذكره الحمد المستقر له منه ومن غيره ، أنه وغيره يعبده ويخضع له. وكذلك أتى بالنون التي تكون له ولغيره ، فكما أن الحمد يستغرق الحامدين ،

٤٢

كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره. ونظير هذا أنك تذكر شخصا متصفا بأوصاف جليلة ، مخبرا عنه أخبار الغائب ، ويكون ذلك الشخص حاضرا معك ، فتقول له : إياك أقصد ، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ إياه ، ولأنه ذكر ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا. ومن ذهب إلى أن ملك منادى ، فلا يكون إياك التفاتا لأنه خطاب بعد خطاب وإن كان يجوز بعد النداء الغيبة ، كما قال :

يا دارمية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأبد

ومن الخطاب بعد النداء :

ألا يا أسلمي يا دارمي على البلى

ولا زال منهلا بجرعائك القطر

ودعوى الزمخشري في أبيات امرئ القيس الثلاثة أن فيه ثلاثة التفاتات غير صحيح ، بل هما التفاتان :

الأول : خروج من الخطاب المفتتح به في قوله :

تطاول ليلك بالإثمد

ونام الخلي ولم ترقد

إلى الغيبة في قوله :

وبات وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد

الثاني : خروج من هذه الغيبة إلى التكلم في قوله : وذلك من نبأ جاءني. وخبرته عن أبي الأسود وتأويل كلامه أنها ثلاث خطأ وتعيين. إن الأول هو الانتقال من الغيبة إلى الحضور أشد خطأ لأن هذا الالتفات هو من عوارض الألفاظ لا من التقادير المعنوية ، وإضمار قولوا قبل الحمد لله ، وإضمارها أيضا قبل إياك لا يكون معه التفات ، وهو قول مرجوح. وقد عقد أرباب علم البديع بابا للالتفات في كلامهم ، ومن أجلهم كلاما فيه ابن الأثير الجزري ، رحمه‌الله تعالى. وقراءة من قرأ إياك يعبد بالياء مبنيا للمفعول مشكلة ، لأن إياك ضمير نصب ولا ناصب له وتوجيهها إن فيها استعارة والتفاتا ، فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضمير المرفوع ، فكأنه قال أنت ، ثم التفت فأخبر عنه أخبار الغائب لما كان إياك هو الغائب من حيث المعنى فقال يعبد ، وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة ، وهو ينظر إلى قول الشاعر :

أأنت الهلالي الذي كنت مرة

سمعنا به والأرحبي المغلب

٤٣

وإلى قول أبي كثير الهذلي :

يا لهف نفسي كان جلدة خالد

وبياض وجهك للتراب الأعفر

وفسرت العبادة في إياك نعبد بأنها التذلل والخضوع ، وهو أصل موضوع اللغة أو الطاعة ، كقوله تعالى : (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) (١) ، أو التقرب بالطاعة أو الدعاء أن الذين يستكبرون عن عبادتي ، أي عن دعائي ، أو التوحيد إلا ليعبدون أي ليوحدون ، وكلها متقاربة المعنى. وقرنت الاستعانة بالعبادة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى ، وبين ما يطلبه من جهته. وقدمت العبادة على الاستعانة لتقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الإجابة إليها ، وأطلق العبادة والاستعانة لتتناول كل معبود به وكل مستعان عليه. وكرر إياك ليكون كل من العبادة والاستعانة سيقا في جملتين ، وكل منهما مقصودة ، وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف لو كان إياك نعبد ونستعين ، فإنه كان يحتمل أن يكون إخبارا بطلب لعون ، أي وليطلب العون من غير أن يعين ممن يطلب ..

ونقل عن المنتمين للصلاح تقييدات مختلفة في العبادة والاستعانة ، كقول بعضهم : إياك نعبد بالعلم ، وإياك نستعين عليه بالمعرفة ، وليس في اللفظ ما يدل على ذلك. وفي قوله : نعبد قالوا رد على الجبرية ، وفي نستعين رد على القدرية ، ومقام العبادة شريف ، وقد جاء الأمر به في مواضع ، قال تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ) (٢) (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (٣) ، والكناية به عن أشرف المخلوقين صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) (٤) ، (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) (٥) ، وقال تعالى ، حكاية عن عيسى ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام (قالَ : إِنِّي عَبْدُ اللهِ) (٦) ، وقال تعالى وتقدس : (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) (٧) فذكر العبادة عقيب التوحيد ، لأن التوحيد هو الأصل ، والعبادة فرعه. وقالوا في قوله : إياك. رد على الدهرية والمعطلة والمنكرين لوجود الصانع ، فإنه خطاب لموجود حاضر.

(اهْدِنَا) ، الهداية : الإرشاد والدلالة والتقدم ومنه الهوادي أو التبيين ، (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (٨) أو الإلهاء (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٩) ، قال المفسرون : معناه ألهم

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٦٠.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٩٩.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢١.

(٤) سورة الإسراء ١٧ / ١.

(٥) سورة الأنفال : ٨ / ٤١.

(٦) سوة مريم : ١٩ / ٣٠.

(٧) سورة طه : ٢٠ / ١٤.

(٨) سورة فصلت : ٤١ / ١٣.

(٩) سورة طه : ٢٠ / ٥٠.

٤٤

الحيوانات كلها إلى منافعها ، أو الدعاء ، ولكل قوم هاد أي داع والأصل في هدي أن يصل إلى ثاني معموله باللام (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١) أو إلى (لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢) ثم يتسع فيه فيعدي إليه بنفسه ، ومنه (اهْدِنَا الصِّراطَ) ، ونا ضمير المتكلم ومعه غيره أو معظم نفسه. ويكون في موضع رفع ونصب وجر.

(الصِّراطَ) الطريق ، وأصله بالسين من السرط ، وهو اللقم ، ومنه سمي الطريق لقما ، وبالسين على الأصل قرأ قبل ورويس ، وإبدال سينه صادا هي الفصحى ، وهي لغة قريش ، وبها قرأ الجمهور ، وبها كتبت في الإمام ، وزايا لغة رواها الأصمعي عن أبي عمرو ، وأشمامها زايا لغة قيس وبه قرأ حمزة بخلاف وتفصيل عن رواته. وقال أبو علي : وروي عن أبي عمرو ، السين والصاد والمضارعة بين الزاي والصاد ، ورواه عنه العريان عن أبي سفيان ، وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة. قال بعض اللغويين : ما حكاه الأصمعي في هذه القراءة خطأ منه إنما سمع أبا عمرو يقرؤها بالمضارعة فتوهمها زايا ، ولم يكن الأصمعي نحويا فيؤمن على هذا. وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد ، وقال أبو جعفر الطوسي في تفسيره ، وهو إمام من أئمة الإمامية : الصراط بالصاد لغة قريش ، وهي اللغة الجيدة ، وعامة العرب يجعلونها سينا ، والزاي لغة لعذرة ، وكعب ، وبني القين. وقال أبو بكر بن مجاهد ، وهذه القراءة تشير إلى أن قراءة من قرأ بين الزاي والصاد تكلف حرف بين حرفين ، وذلك صعب على اللسان ، وليس بحرف ينبني عليه الكلام ، ولا هو من حروف المعجم. لست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب ، إلا أن الصاد أفصح وأوسع ، ويذكر ويؤنث ، وتذكيره أكثر. وقال أبو جعفر الطوسي : أهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق ، والسبيل والزقاق والسوق ، وبنو تميم يذكرون هذا كله ويجمع في الكثرة على سرط ، نحو كتاب وكتب ، وفي القلة قياسه أسرطة ، نحو حمار وأحمره ، هذا إذا كان الصراط مذكرا ، وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع وشمال وأشمل. وقرأ زيد بن علي ، والضحاك ، ونصر بن علي ، عن الحسن : اهدنا صراطا مستقيما ، بالتنوين من غير لام التعريف ، كقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِراطِ اللهِ) (٣). (الْمُسْتَقِيمَ) ، استقام : استفعل بمعنى الفعل المجرد من الزوائد ، وهذا أحد معاني

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٩.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٥٢.

(٣) سورة الشورى : ٤٢ / ٥٢ ـ ٥٣.

٤٥

استفعل ، وهو أن يكون بمعنى الفعل المجرد ، وهو قام ، والقيام هو الانتصاب والاستواء من غير اعوجاج.

(صِراطَ الَّذِينَ) اسم موصول ، والأفصح كونه بالياء في أحواله الثلاثة ، وبعض العرب يجعله بالواو في حالة الرفع ، واستعماله بحذف النون جائز ، وخص بعضهم ذلك بالضرورة ، إلا إن كان لغير تخصيص فيجوز في غيرها ، وسمع حذف أل منه فقالوا : لذين ، وفيما تعرف به خلاف ذكر في النحو ، ويخص العقلاء بخلاف الذي ، فإنه ينطلق على ذي العلم وغيره.

(أَنْعَمْتَ) ، النعمة : لين العيش وخفضه ، ولذلك قيل للجنوب النعامي للين هبوبها ، وسميت النعامة للين سهمها : نعم إذا كان في نعمة ، وأنعمت عينه أي سررتها ، وأنعم عليه بالغ في التفضيل عليه ، أي والهمزة في أنعم بجعل الشيء صاحب ما صيغ منه ، إلا أنه ضمن معنى التفضل ، فعدى بعلى ، وأصله التعدية بنفسه. أنعمته أي جعلته صاحب نعمة ، وهذا أحد المعاني التي لأفعل ، وهي أربعة وعشرون معنى ، هذا أحدها. والتعدية ، والكثرة ، والصيرورة ، والإعانة ، والتعريض ، والسلب ، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه ، وبلوغ عدد أو زمان أو مكان ، وموافقة ثلاثي ، وإغناء عنه ، ومطاوعة فعل وفعل ، والهجوم ، ونفي الغريزة ، والتسمية ، والدعاء ، والاستحقاق ، والوصول ، والاستقبال ، والمجيء بالشيء والتفرقة ، مثل ذلك ، أدنيته وأعجبني المكان ، وأغد البعير وأحليت فلانا ، وأقبلت فلانا ، واشتكيت الرجل ، وأحمدت فلانا ، وأعشرت الدراهم ، وأصبحنا ، وأشأم القوم ، وأحزنه بمعنى حزنه ، وأرقل ، وأقشع السحاب مطاوع قشع الريح السحاب ، وأفطر مطاوع فطرته ، وأطلعت عليهم ، وأستريح ، وأخطيته سميته مخطئا ، وأسقيته ، وأحصد الزرع ، وأغفلته وصلت غفلتي اليه ، وافقته استقبلته بأف هكذا مثل هذا. وذكر بعضهم أن أفعل فعل ، ومثل الاستقبال أيضا بقولهم : أسقيته أي استقبلته بقولك سقيا لك ، وكثرت جئت بالكثير ، وأشرقت الشمس أضاءت ، وشرقت طلعت. التاء المتصلة بأنعم ضمير المخاطب المذكر المفرد ، وهي حرف في أنت ، والضميران فهو مركب.

(عَلَيْهِمْ) ، على : حرف جر عند الأكثرين ، إلا إذا جرت بمن ، أو كانت في نحو هون عليك. ومذهب سيبويه أنها إذا جرت اسم ظرف ، ولذلك لم يعدها في حروف الجر ، ووافقه جماعة من متأخري أصحابنا ومعناها الاستعلاء حقيقة أو مجازا ، وزيد أن تكون بمعنى عن ، وبمعنى الباء ، وبمعنى في ، وللمصاحبة ، وللتعليل ، وبمعنى من ، وزائدة ،

٤٦

مثل ذلك (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (١) (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (٢) ، بعد على كذا حقيق علي أن لا أقول على ملك سليمان (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) (٣) ، (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) (٤) ، (حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) (٥).

أبى الله إلا أن سرحة مالك

على كل أفنان العضاه تروق

أي تروق كل أفنان العضاه. هم ضمير جمع غائب مذكر عاقل ، ويكون في موضع رفع ونصب وجر. وحكى اللغويون في عليهم عشر لغات ضم الهاء ، وإسكان الميم ، وهي قراءة حمزة. وكسرها وإسكان الميم ، وهي قراءة الجمهور. وكسر الهاء والميم وياء بعدها ، وهي قراءة الحسن. وزاد ابن مجاهد أنها قراءة عمر بن فائد. وكذلك بغير ياء ، وهي قراءة عمرو بن فائد. وكسر الهاء وضم الميم وواو بعدها ، وهي قراءة ابن كثير ، وقالون بخلاف عنه. وكسر الهاء وضم الميم بغير واو وضم الهاء والميم وواو بعدها ، وهي قراءة الأعرج والخفاف عن أبي عمرو. وكذلك بدون واو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها. كذلك بغير ياء. وقرىء بهما ، وتوضيح هذه القراءات بالخط والشكل : عليهم ، عليهم ، عليهموا ، عليهم ، عليهمي ، عليهم ، عليهم ، عليهمي ، عليهم ، عليهموا. وملخصها ضم الهاء مع سكون الميم ، أو ضمها بإشباع ، أو دونه ، أو كسرها بإشباع ، أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم ، أو كسرها بإشباع ، أو دونه ، أو ضمها بإشباع ، أو دونه ، وتوجيه هذه القراءات ذكر في النحو. اهدنا صورته صورة الأمر ، ومعناه الطلب والرغبة ، وقد ذكر الأصوليون لنحو هذه الصيغة خمسة عشر محملا ، وأصل هذه الصيغة أن تدل على الطلب ، لا على فور ، ولا تكرار ، ولا تحتم ، وهل معنى اهدنا أرشدنا ، أو وفقنا ، أو قدمنا ، أو ألهمنا ، أو بين لنا أو ثبتنا؟ أقوال أكثرها عن ابن عباس ، وآخرها عن علي وأبي. وقرأ ثابت البناني بصرنا الصراط ، ومعنى الصراط القرآن ، قاله علي وابن عباس : وذكر المهدوي أنه روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه فسره بكتاب الله أو الإيمان وتوابعه ، أو الإسلام وشرائعه ، أو السبيل المعتدل ، أو طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبي بكر وعمر ، قاله أبو العالية والحسن ، أو طريق الحج ، قاله فضيل بن عياض ، أو السنن ، قاله عثمان ، أو طريق الجنة ، قاله سعيد بن جبير ، أو

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٢٦.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٧٧.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٨٥.

(٥) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٥ ـ ٦.

٤٧

طريق السنة والجماعة ، قاله القشيري ، أو طريق الخوف والرجاء ، قاله الترمذي ، أو جسر جهنم ، قاله عمرو بن عبيد.

وروي عن المتصوفة في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أقوال ، منها : قول بعضهم : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بالغيبوبة عن الصراط لئلا يكون مربوطا بالصراط ، وقول الجنيد أن سؤال الهداية عند الحيرة من أشهار الصفات الأزلية ، فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية لئلا يستغرقوا في الصفات الأزلية. وهذه الأقوال ينبو عنها اللفظ ، ولهم فيما يذكرون ذوق وإدراك لم نصل نحن إليه بعد. وقد شحنت التفاسير بأقوالهم ، ونحن نلم بشيء منها لئلا يظن أنا إنما تركنا ذكرها لكوننا لم نطلع عليها. وقد رد الفخر الرازي على من قال إن الصراط المستقيم هو القرآن أو الإسلام وشرائعه ، قال : لأن المراد صراط الذين أنعمت عليهم من المتقدمين ولم يكن لهم القرآن ولا الإسلام ، يعني بالإسلام هذه الملة الإسلامية المختصة بتكاليف لم تكن تقدمتها. وهذه الرد لا يتأتى له إلا إذا صح أن الذين أنعم الله عليهم هم متقدمون ، وستأتي الأقاويل في تفسير الذين أنعم الله عليهم ، واتصال نا باهد مناسب لنعبد ونستعين لأنه لما أخبر المتكلم أنه هو ومن معه يعبدون الله ويستعينونه سأل له ولهم الهداية إلى الطريق الواضح ، لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة. ألا ترى أن من لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصح له بلوغ مقصوده؟ وقرأ الحسن ، والضحاك : صراطا مستقيما دون تعريف. وقرأ جعفر الصادق : صراط مستقيم بالإضافة ، أي الدين المستقيم. فعلى قراءة الحسن والضحاك يكون صراط الذين بدل معرفة من نكرة ، كقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِراطِ اللهِ) ، وعلى قراءة الصادق وقراءات الجمهور تكون بدل معرفة من معرفة صراط الذين بدل شيء من شيء ، وهما بعين واحدة ، وجيء بها للبيان لأنه لما ذكر قبل (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) كان فيه بعض إبهام ، فعينه بقوله : (صِراطَ الَّذِينَ) ليكون المسئول الهداية إليه ، قد جرى ذكره مرتين ، وصار بذلك البدل فيه حوالة على طريق من أنعم الله عليهم ، فيكون ذلك أثبت وأوكد ، وهذه هي فائدة نحو هذا البدل ، ولأنه على تكرار العامل ، فيصير في التقدير جملتين ، ولا يخفى ما في الجملتين من التأكيد ، فكأنهم كرروا طلب الهداية.

ومن غريب القول أن الصراط الثاني ليس الأول ، بل هو غيره ، وكأنه قرىء فيه حرف العطف ، وفي تعيين ذلك اختلاف. قيل هو العلم بالله والفهم عنه ، قاله جعفر بن محمد ، وقيل التزام الفرائض واتباع السنن ، وقيل هو موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة. قال

٤٨

تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) وقرأ : صراط من أنعمت عليهم ، ابن مسعود ، وعمر ، وابن الزبير ، وزيد بن علي. والمنعم عليهم هنا الأنبياء أو الملائكة أو أمة موسى وعيسى الذين لم يغيروا ، أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ، أو المؤمنون ، قاله ابن عباس. أو الأنبياء والمؤمنون ، أو المسلمون ، قاله وكيع ، أقوال ، وعزا كثيرا منها إلى قائلها ابن عطية ، فقال : قال ابن عباس : والجمهور أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، انتزعوا ذلك من آية النساء. وقال ابن عباس أيضا : هم المؤمنون. وقال الحسن : أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقالت فرقة : مؤمنو بني إسرائيل. وقال ابن عباس : أصحاب موسى قبل أن يبدلوا. وقال قتادة : الأنبياء خاصة. وقال أبو العالية : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر ، انتهى. ملخصا ولم يقيد الأنعام ليعم جميع الأنعام ، أعني عموم البدل. وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة ، وقيل بأن نجاهم من الهلكة ، وقيل بالهداية واتباع الرسول ، وروي عن المتصوفة تقييدات كثيرة غير هذه ، وليس في اللفظ ما يدل على تعيين قيد. واختلف هل لله نعمة على الكافر؟ فأثبتها المعتزلة ونفاها غيرهم. وموضع عليهم نصب ، وكذا كل حرف جر تعلق بفعل ، أو ما جرى مجراه ، غير مبني للمفعول. وبناء أنعمت للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية وتحصيلها ، أي طلبنا منك الهداية ، إذ سبق إنعامك ، فمن إنعامك إجابة سؤالنا ورغبتنا ، كمثل أن تسأل من شخص قضاء حاجة ونذكره بأن من عادته الإحسان بقضاء الحوائج ، فيكون ذلك آكد في اقتضائها وأدعى إلى قضائها. وانقلاب الفاعل مع المضمر هي اللغة الشهري ، ويجوز إقرارها معه على لغة ، ومضمون هذه الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم الله عليهم ، لأن من صدر منه حمد الله وأخبر بأنه يعبده ويستعينه فقد حصلت له الهداية ، لكن يسأل دوامها واستمرارها.

(غَيْرِ) مفرد مذكر دائما وإذا أريد به المؤنث جاز تذكير الفعل حملا على اللفظ ، وتأنيثه حملا على المعنى ، ومدلوله المخالفة بوجه ما ، وأصله الوصف ، ويستثنى به ويلزم الإضافة لفظا أو معنى ، وإدخال أل عليه خطأ ولا يتعرف ، وإن أضيف إلى معرفة. ومذهب ابن السراج أنه إذا كان المغاير واحدا تعرف بإضافته إليه ، وتقدم عن سيبويه أن كل ما إضافته غير محضة ، قد يقصد بها التعريف ، فتصير محضة ، فتتعرف إذ ذاك غير بما تضاف إليه إذا كان معرفة ، وتقرير هذا كله في كتب النحو. وزعم البيانيون أن غير أو مثلا في باب

٤٩

الإسناد إليهما مما يكاد يلزم تقديمه ، قالوا نحو قولك غيرك يخشى ظلمه ، ومثلك يكون للمكرمات ونحو ذلك ، مما لا يقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ، ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الصفة كان من مقتضى القياس ، وموجب العرف أن يفعل ما ذكر ، وقوله :

غيري بأكثر هذا الناس ينخدع

غرضه أنه ليس ممن ينخدع ويغتر ، وهذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما نحو : يكون للمكرمات مثلك ، وينخدع بأكثر هذا الناس غيري ، فأنت ترى الكلام مقلوبا على جهته. (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ، الغضب : تغير الطبع لمكروه ، وقد يطلق على الإعراض لأنه من ثمرته. لا حرف يكون للنفي وللطلب وزائدا ، ولا يكون اسما خلافا للكوفيين. (وَلَا الضَّالِّينَ) ، والضلال : الهلاك ، والخفاء ضل اللبن في الماء ، وقيل أصله الغيبوبة في كتاب لا يضل ربي ، وضللت الشيء جهلت المكان الذي وضعته فيه ، وأضللت الشيء ضيعته ، وأضل أعمالهم ، وضل غفل ونسي ، وأنا من الضالين ، (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) ، والضلال سلوك سبيل غير القصد ، ضل عن الطريق سلك غير جادتها ، والضلال الحيرة ، والتردد ، ومنه قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي ضلضلة ، وقد فسر الضلال في القرآن بعدم العلم بتفصيل الأمور وبالمحبة ، وسيأتي ذلك في مواضعه ، والجر في غير قراءة الجمهور. وروى الخليل عن ابن كثير النصب ، وهي قراءة عمر ، وابن مسعود ، وعلي ، وعبد الله بن الزبير. فالجر على البدل من الذين ، عن أبي علي ، أو من الضمير في عليهم ، وكلاهما ضعيف ، لأن غيرا أصل وضعه الوصف ، والبدل بالوصف ضعيف ، أو على النعت عن سيبويه ، ويكون إذ ذاك غير تعرفت بما أضيفت إليه ، إذ هو معرفة على ما نقله سيبويه ، في أن كل ما أضافته غير محضة قد تتمحض فيتعرف إلا في الصفة المشبهة ، أو على ما ذهب إليه ابن السراج ، إذ وقعت غير على مخصوص لا شائع ، أو على أن الذين أريد بهم الجنس لا قوم بأعيانهم. قالوا كما وصفوا المعرف بال الجنسية بالجملة ، وهذا هدم لما اعتزموا عليه من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ، ولا أختار هذا المذهب وتقرير فساده في النحو والنصب على الحال من الضمير في عليهم ، وهو الوجه أو من الذين قاله المهدوي وغيره ، وهو خطأ ، لأن الحال من المضاف إليه الذي لا موضع له لا يجوز ، أو

٥٠

على الاستثناء ، قاله الأخفش ، والزجاج وغيرهما ، وهو استثناء منقطع ، إذ لم يتناوله اللفظ السابق ، ومنعه القراء من أجل لا في قوله (وَلَا الضَّالِّينَ) ، ولم يسوغ في النصب غير الحال ، قال لأن لا ، لا تزاد إلا إذا تقدم النفي ، نحو قول الشاعر :

ما كان يرضى رسول الله فعلهم

والطيبان أبو بكر ولا عمر

ومن ذهب إلى الاستثناء جعل لا صلة ، أي زائدة مثلها في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) (١) وقول الراجز :

فما ألوم البيض أن لا تسخرا

وقول الأحوص :

ويلجئني في اللهو أن لا أحبه

واللهو داع دائب غير غافل

قال الطبري أي أن تسخر وأن أحبه ، وقال غيره معناه إرادة أن لا أحبه ، فلا فيه متمكنة ، يعني في كونها نافية لا زائدة ، واستدلوا أيضا على زيادتها ببيت أنشده المفسرون ، وهو :

أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود قائله

وزعموا أن لا زائدة ، والبخل مفعول بأبى ، أي أبى جوده البخل ، ولا دليل في ذلك ، بل الأظهر أن لا مفعول بأبى ، وأن لفظة لا لا تتعلق بها ، وصار إسنادا لفظيا ، ولذلك قال : واستعجلت به نعم ، فجعل نعم فاعلة بقوله استعجلت ، وهو إسناد لفظي ، والبخل بدل من لا أو مفعول من أجله ، وقيل انتصب غير بإضمار أعني وعزى إلى الخليل ، وهذا تقدير سهل ، وعليهم في موضع رفع بالمغضوب على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وفي إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل ، إذا حذف خلاف ذكر في النحو. ومن دقائق مسائلة مسألة يغني فيها عن خبر المبتدأ ذكرت في النحو ، ولا في قوله : (وَلَا الضَّالِّينَ) لتأكيد معنى النفي ، لأن غير فيه النفي ، كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، وعين دخولها العطف على قوله المغضوب عليهم لمناسبة غير ، ولئلا يتوهم بتركها عطف الضالين على الذين. وقرأ عمر وأبي وغير الضالين ، وروي عنهما في الراء في الحرفين النصب والخفض ، ويدل على أن المغضوب عليهم هم غير الضالين ، والتأكيد فيها أبعد ، والتأكيد في لا أقرب ، ولتقارب معنى غير من معنى لا ، أتى الزمخشري بمسألة ليبين بها تقاربهما فقال : وتقول أنا زيدا غير

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٢.

٥١

ضارب ، مع امتناع قولك أنا زيدا مثل ضارب ، لأنه بمنزلة قولك أنا زيدا لا ضارب ، يريد أن العامل إذا كان مجرورا بالإضافة فمعموله لا يجوز أن يتقدم عليه ولا على المضاف ، لكنهم تسمحوا في العامل المضاف إليه غير ، فأجازوا تقديم معموله على غير إجراء لغير مجرى لا ، فكما أن لا يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها ، فكذلك غير. وأوردها الزمخشري على أنها مسألة مقررة مفروغ منها ، ليقوى بها التناسب بين غير ولا ، إذ لم يذكر فيها خلافا. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري مذهب ضعيف جدا ، بناه على جواز أنا زيدا لا ضارب ، وفي تقديم معمول ما بعد لا عليها ثلاثة مذاهب ذكرت في النحو ، وكون اللفظ يقارب اللفظ في المعنى لا يقضى له بأن يجري أحكامه عليه ، ولا يثبت تركيب إلا بسماع من العرب ، ولم يسمع أنا زيدا غير ضارب. وقد ذكر أصحابنا قول من ذهب إلى جواز ذلك وردوه ، وقدر بعضهم في غير المغضوب محذوفا ، قال التقدير غير صراط المغضوب عليهم ، وأطلق هذا التقدير فلم يقيده بجر غير ولا نصبه ، وهذا لا يتأتى إلا بنصب غير ، فيكون صفة لقوله الصراط ، وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف ، والأصل العكس ، أو صفة للبدل ، وهو صراط الذين ، أو بدلا من الصراط ، أو من صراط الذين ، وفيه تكرار الإبدال ، وهي مسألة لم أقف على كلام أحد فيها ، إلا أنهم ذكروا ذلك في بدل النداء ، أو حالا من الصراط الأول أو الثاني.

وقرأ أيوب السختياني : ولا الضألين ، بإبدال الألف همزة فرارا من التقاء الساكنين. وحكى أبو زيد دأبة وشأبة في كتاب الهمز ، وجاءت منه أليفاظ ، ومع ذلك فلا ينقاس هذا الإبدال لأنه لم يكثر كثرة توجب القياس ، نص على أنه لا ينقاس النحويون ، قال أبو زيد : سمعت عمرو بن عبيد يقرأ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن ، فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة. قال أبو الفتح : وعلى هذه اللغة قول كثير :

إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت

وقول الآخر :

وللأرض إما سودها فتجلت

بياضا وإما بيضها فادهأمت

وعلى ما قال أبو الفتح إنها لغة ، ينبغي أن ينقاس ذلك ، وجعل الإنعام في صلة الذين ، والغضب في صلة أل ، لأن صلة الذين تكون فعلا فيتعين زمانه ، وصلة أل تكون اسما فينبهم زمانه ، والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله عليه وتحقق

٥٢

ذلك ، وكذلك أتى بالفعل ماضيا وأتى بالاسم في صلة أن ليشمل سائر الأزمان ، وبناه للمفعول ، لأن من طلب منه الهداية ونسب الإنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان ، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام ، وليكون المغضوب توطئة لختم السورة بالضالين لعطف موصول على موصول مثله لتوافق آخر الآي. والمراد بالإنعام ، الإنعام الديني ، والمغضوب عليهم والضالين عام في كل من غضب عليه وضل. وقيل المغضوب عليهم اليهود ، والضالّون النصارى ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وابن زيد. وروي هذا عن عدي بن حاتم ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا صح هذا وجب المصير إليه ، وقيل اليهود والمشركون ، وقيل غير ذلك. وقد روي في كتب التفسير في الغضب والضلال قيود من المتصوفة لا يدل اللفظ عليها ، كقول بعضهم غير المغضوب عليهم ، بترك حسن الأدب في أوقات القيام بخدمته ، ولا الضالين ، برؤية ذلك ، وقيل غير هذا. والغضب من الله تعالى إرادة الانتقام من العاصي لأنه عالم بالعبد قبل خلقه وقبل صدور المعصية منه ، فيكون من صفات الذات أو إحلال العقوبة به ، فيكون من صفات الأفعال ، وقدم الغضب على الضلال ، وإن كان الغضب من نتيجة الضلال ضل عن الحق فغضب عليه لمجاورة الإنعام ، ومناسبة ذكره قرينة ، لأن الإنعام يقابل بالانتقام ، ولا يقابل الضلال الإنعام ؛ فالإنعام إيصال الخير إلى المنعم عليه ، والانتقام إيصال الشر إلى المغضوب عليه ، فبينهما تطابق معنوي ، وفيه أيضا تناسب التسجيع ، لأن قوله ولا الضالين ، تمام السورة ، فناسب أواخر الآي ، ولو تأخر الغضب ، ومتعلقه لما ناسب أواخر الآي. وكان العطف بالواو الجامعة التي لا دلالة فيها على التقديم والتأخير لحصول هذا المعنى من مغايرة جمع الوصفين ، الغضب عليه ، والضلال لمن أنعم الله عليه ، وإن فسر اليهود والنصارى. فالتقديم إما للزمان أو لشدة العداوة ، لأن اليهود أقدم وأشد عداوة من النصارى.

وقد أنجز في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب ، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب ، وكان عالما بافتنان الكلام ، قادرا على إنشاء النثار البديع والنظام. وأما من لا اطلاع له على كلام العرب ، وجسا طبعه حتى عن الفقرة الواحدة من الأدب ، فسمعه عن هذا الفن مسدود ، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود. قالوا : وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع :

٥٣

النوع الأول : حسن الافتتاح وبراعة المطلع ، فإن كان أولها بسم الله الرحمن الرحيم ، على قول من عدها منها ، فناهيك بذلك حسنا إذ كان مطلعها ، مفتتحا باسم الله ، وإن كان أولها الحمد لله ، فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله ، ووصفه بماله من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام ، وقدم بين يدي النثر والنظام ، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور ، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح ، والحسن إلى ظاهر وخفي على ما قسم في علم البديع. النوع الثاني : المبالغة في الثناء ، وذلك لعموم أل في الحمد على التفسير الذي مر. النوع الثالث : تلوين الخطاب على قول بعضهم ، فإنه ذكر أن الحمد لله صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الأمر ، كقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) (١) ومعناه النهي. النوع الرابع : الاختصاص باللام التي في لله ، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به ، إذ هو مستحق لها وبالإضافة في ملك يوم الدين لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم ، وتفرده فيه بالملك والملك ، قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (٢) ، ولأنه لا مجازى في ذلك اليوم على الأعمال سواه. النوع الخامس : الحذف ، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر ، وتقدم ، هل يقدر من لفظ الحمد أو من غير لفظه؟ قال بعضهم؟ ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد ، وهو الذي يقدر بكائن أو مستقر ، قال : ومنه حذف صراط من قوله غير المغضوب ، التقدير غير صراط المغضوب عليهم ، وغير صراط الضالين ، وحذف سورة إن قدرنا العامل في الحمد إذا نصبناه ، اذكروا أو اقرأوا ، فتقديره اقرأوا سورة الحمد ، وأما من قيد الرحمن ، والرحيم ، ونعبد ، ونستعين ، وأنعمت ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة. النوع السادس : التقديم والتأخير ، وهو في قوله نعبد ، ونستعين ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، وتقدم الكلام على ذلك. النوع السابع : التفسير ، ويسمى التصريح بعد الإبهام ، وذلك في بدل صراط الذين من الصراط المستقيم. النوع الثامن : الالتفات ، وهو في إياك نعبد وإياك نستعين ، اهدنا. النوع التاسع : طلب الشيء ، وليس المراد حصوله بل دوامه ، وذلك في اهدنا. النوع العاشر : سرد الصفات لبيان خصوصية في الموصوف أو مدح أو ذم. النوع الحادي عشر : التسجيع ، وفي هذه السورة من التسجيع المتوازي ، وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والروي ، قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، وقوله تعالى : (نَسْتَعِينُ وَلَا الضَّالِّينَ) ، انقضى كلامنا على تفسير الفاتحة.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ١٦.

٥٤

وكره الحسن أن يقال لها أم الكتاب ، وكره ابن سيرين أن يقال لها أم القرآن ، وجوزه الجمهور. والإجماع على أنها سبع آيات إلا ما شذ فيه من لا يعتبر خلافه. عدّ الجمهور المكيون والكوفيون (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) آية ، ولم يعدوا (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، وسائر العادين ، ومنهم كثير من قراء مكة والكوفة لم يعدوها آية ، وعدوا (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية ، وشذ عمرو بن عبيد ، فجعل آية (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، فهي على عده ثمان آيات ، وشذ حسين الجعفي ، فزعم أنها ست آيات. قال ابن عطية : وقول الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) (١) هو الفصل في ذلك. ولم يختلفوا في أن البسملة في أول كل سورة ليست آية ، وشذ ابن المبارك فقال : إنها آية في كل سورة ، ولا أدري ما الملحوظ في مقدار الآية حتى نعرف الآية من غير الآية.

وذكر المفسرون عدد حروف الفاتحة ، وذكروا سبب نزولها ما لا يعد سبب نزول. وذكروا أحاديث في فضل بسم الله الرحمن الرحيم ، الله أعلم بها ، وذكروا للتسمية أيضا نزول ما لا يعد سببا ، وذكروا أن الفاتحة تسمى الحمد ، وفاتحة الكتاب ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني ، والواقية ، والكافية ، والشفاء ، والشافية ، والرقية ، والكنز ، والأساس ، والنور ، وسورة الصلاة ، وسورة تعليم المسألة ، وسورة المناجاة ، وسورة التفويض. وذكروا أن ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة ، والكلام على هذا كله من باب التذييلات ، لا أن ذلك من علم التفسير إلا ما كان من تعيين مبهم أو سبب نزول أو نسخ بما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذلك يضطر إليه علم التفسير. وكذلك تكلموا على آمين ولغاتها ، والاختلاف في مدلولها ، وحكمها في الصلاة ، وليست من القرآن ، فلذلك أضربنا عن الكلام عليها صفحا ، كما تركنا الكلام على الاستعاذة في أول الكتاب ، وقد أطال المفسرون كتبهم بأشياء خارجة عن علم التفسير حذفناها من كتابنا هذا ، إذا كان مقصودنا ما أشرنا إليه في الخطبة ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٨٥.

٥٥

سورة البقرة ٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

(الم) أسماء مدلولها حروف المعجم ، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم ، وهي موقوفة الآخر ، لا يقال إنها معربة لأنها لم يدخل عليها عامل فتعرب ولا يقال إنها مبنية لعدم سبب البناء ، لكن أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب ، تقول هذه ألف حسنة ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة ، أسماء العدد ، إذا عدّوا يقولون : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة. وقد اختلف الناس في المراد بها ، وسنذكر اختلافهم إن شاء الله تعالى. (ذلِكَ) ، ذا : اسم إشارة ثنائي الوضع لفظا ، ثلاثي الأصل ، لا أحادي الوضع ، وألفه ليست زائدة ، خلافا للكوفيين والسهيلي ، بل ألفه منقلبة عن ياء ، ولامه خلافا لبعض البصريين في زعمه أنها منقلبة من واو من باب طويت وهو مبني. ويقال فيه : ذا وذائه وهو يدل على القرب ، فإذا دخلت الكاف فقلت : ذاك دل على التوسط ، فإذا أدخلت اللام فقلت : ذلك دل على البعد ، وبعض النحويين رتبة المشار إليه عنده قرب وبعد. فمتى كان مجردا من اللام والكاف كان للقرب ، ومتى كانتا فيه أو إحداهما كان للبعد ، والكاف حرف خطاب تبين أحوال المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث كما تبينها إذا كان ضميرا ، وقالوا : ألك في معنى ذلك؟ ولاسم الإشارة أحكام ذكرت في النحو. (الْكِتابُ) ، يطلق بإزاء معان العقد المعروف بين العبد وسيده على مال مؤجل منجم للعتق (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (١) ، وعلى الفرض (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٣٣.

٥٦

الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١) ، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) (٢) (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٣) وعلى الحكم ، قاله الجوهري لأقضين بينكما بكتاب الله كتاب الله أحق وعلى القدر :

يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني

عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا

أي قدر الله وعلى مصدر كتبت تقول : كتبت كتابا وكتبا ، ومنه كتاب الله عليكم ، وعلى المكتوب كالحساب بمعنى المحسوب ، قال :

بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة

أتتك من الحجاج يتلى كتابها

(لا) نافية ، والنفي أحد أقسامها ، وقد تقدمت. (رَيْبَ) ، الريب : الشك بتهمة راب حقق التهمة قال :

ليس في الحق يا أمية ريب

إنما الريب ما يقول الكذوب

وحقيقة الريب قلق النفس : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة ومنه : أنه مر بظني خافق فقال لا يربه أحد بشيء ، وريب الدهر : صرفه وخطبه. (فِيهِ) : في للوعاء حقيقة أو مجاز ، أو زيد للمصاحبة ، وللتعليل ، وللمقايسة ، وللموافقة على ، والباء مثل ذلك زيد في المسجد (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (٤) (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) (٥) (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ) (٦) ، (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٧) (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (٨) (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) (٩) ، أي يكثركم به. الهاء المتصلة بفي من فيه ضمير غائب مذكر مفرد ، وقد يوصل بياء ، وهي قراءة ابن كثير ، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة والإسكان والاختلاس والإشباع في كتب النحو. (هُدىً) ، الهدى : مصدر هدي ، وتقدم معنى الهداية ، والهدي مذكر وبنو أسد يؤنثونه ، يقولون : هذه هدي حسنة ، قاله الفراء في كتاب المذكر والمؤنث. وقال ابن عطية : الهدي لفظ مؤنث ، وقال اللحياني : هو مذكر.

انتهى كلامه. قال ابن سيده : والهدي اسم من أسماء النهار ، قال ابن مقبل :

حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة

يخضعن في الآل غلفا أو يصلينا

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٠٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٨٧.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٨٣.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٧٩.

(٥) سورة الأعراف : ٧ / ٣٨.

(٦) سورة النور : ٢٤ / ١٤.

(٧) سورة يونس : ١٠ / ٦٤.

(٨) سورة طه : ٢٠ / ٧١.

(٩) سورة الشورى : ٤٢ / ١١.

٥٧

وهو على وزن فعلى ، كالسرى والبكى. وزعم بعض أكابر نحاتنا أنه لم يجئ من فعلى مصدر سوى هذه الثلاثة ، وليس بصحيح ، فقد ذكر لي شيخنا اللغوي الإمام في ذلك رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الشاطبي أن العرب قالت : لقيته لقى ، وأنشدنا لبعض العرب :

وقد زعموا حلما لقاك ولم أزد

بحمد الذي أعطاك حلما ولا عقلا

وقد ذكر ذلك غيره من اللغويين وفعل يكون جمعا معدولا وغير معدول ، ومفردا وعلما معدولا وغير معدول ، واسم جنس لشخص ولمعنى وصفة معدولة وغير معدولة ، مثل ذلك : جمع وغرف وعمر وأدد ونغر وهدى وفسق وحطم. (لِلْمُتَّقِينَ) المتقي اسم فاعل من اتقى ، وهو افتعل من وقى بمعنى حفظ وحرس ، وافتعل هنا : للاتخاذ أي اتخذ وقاية ، وهو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها افتعل ، وهو : الاتخاذ ، والتسبب ، وفعل الفاعل بنفسه ، والتخير ، والخطفة ، ومطاوعة أفعل ، وفعل ، وموافقة تفاعل ، وتفعل ، واستفعل ، والمجرد ، والإغناء عنه ، مثل ذلك : اطبخ ، واعتمل واضطرب ، وانتخب ، واستلب ، وانتصف مطاوع أنصف ، واغتم مطاوع غممته ، واجتور ، وابتسم ، واعتصم ، واقتدر ، واستلم الحجر. وإبدال الواو في اتقى تاء وحذفها مع همزة الوصل قبلها فيبقى تقى مذكور في علم التصريف.

فأما هذه الحروف المقطعة أوائل السور ، فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة ، وغيرهم يذهب إلى أنها أسماء عبر بها عن حروف المعجم التي ينطق بالألف واللام منها في نحو : قال ، والميم في نحو : ملك ، وبعضهم يقول : إنها أسماء السور ، قاله زيد بن أسلم. وقال قوم : إنها فواتح للتنبيه والاستئناف ليعلم أن الكلام الأول قد انقضى. قال مجاهد : هي في فواتح السور كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد. بل ولا بل نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش. وقال الحسن : هي أسماء السور وفواتحها ، وقوم : إنها أسماء الله أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها. وروي عن ابن عباس وقوم : هي حروف متفرقة دلت على معان مختلفة ، وهؤلاء اختلفوا في هذه المعاني فقال قوم : يتألف منها اسم الله الأعظم ، قاله علي وابن عباس ، إلا أنّا لا نعرف تأليفه منها ، أو اسم ملك من ملائكته ، أو نبي من أنبيائه ، لكن جهلنا طريق التأليف. وقال سعيد بن جبير : هي أسماء الله تعالى مقطعة ، لو أحسن الناس تأليفها تعلموا اسم الله الأعظم. وقال قتادة : هي أسماء القرآن كالفرقان. وقال أبو العالية : ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله تعالى.

٥٨

وقيل : هي حروف تدل على مدة الملة ، وهي حساب أبي جاد ، كما ورد في حديث حيي بن أخطب. وروي هذا عن أبي العالية وغيره. وقيل : مدة الأمم السالفة وقيل : مدة الدنيا. وقال أبو العالية أيضا : ليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين ، وقيل : هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه قال للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم. وقال قطرب وغيره وغيره : هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم فقوله : (الم) بمنزلة : أب ت ث ، ليدل بها على التسعة وعشرين حرفا. وقال قوم : هي تنبيه كما في النداء. وقال قوم : إن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيستمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقيل : هي أمارة لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاب في أول سور منه حروف مقطعة ، وقيل : حروف تدل على ثناء أثنى الله به على نفسه. وقال ابن عباس : (الم) أنا الله أعلم ، والمراد أنا الله أرى. و (المص) أنا الله أفصل. وروي عن سعيد بن جبير مثل ذلك. وروي عن ابن عباس الألف : من الله ، واللام : من جبريل ، والميم : من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الأخفش : هي مبادئ كتب الله المنزلة بالألسن المختلفة ومبان من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وأصول كلام الأمم. وقال الربيع بن أنس : ما منها حرف إلا يتضمن أمورا كثيرة ذارت فيها الألسن ، وليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو في الأبد وللأبد ، وليس منها حرف إلا في مدة قوم وآجالهم. وقال قوم : معانيها معلومة عند المتكلم بها لا يعلمها إلا هو ، ولهذا قال الصديق رضي‌الله‌عنه : في كتاب الله سر ، وسر الله في القرآن في الحروف التي في أوائل السور. وبه قال الشعب. وقال سلمة بن القاسم : ما قام الوجود كله إلا بأسماء الله الباطنة والظاهرة ، وأسماء الله المعجمة الباطنة أصل لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة ، وهي خزانة سرّه ومكنون علمه ، ومنها تتفرع أسماء الله كلها ، وهي التي قضى بها الأمور وأودعها أم الكتاب ، وعلى هذا حوّم جماعة من القائلين بعلوم الحروف ، وممن تكلم في ذلك : أبو الحكم بن برجان ، وله تفسير للقرآن ، والبوني ، وفسر القرآن والطائي بن العربي ، والجلالي ، وابن حمويه ، وغيرهم ، وبينهم اختلاف في ذلك. وسئل محمد بن الحنفية عن (كهيعص) فقال للسائل : لو أخبرت بتفسيرها لمشيت على الماء لا يوارى قدميك. وقال قوم : معانيها معلومة ويأتي بيان كل حرف في موضعه. وقال قوم : اختص الله بعلمها نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد أنكر جماعة من المتكلمين أن يكون في القرآن ما لا يفهم معناه ، فانظر إلى هذا الاختلاف المنتشر الذي لا يكاد ينضبط في تفسير هذه الحروف والكلام

٥٩

عليها. والذي أذهب إليه : أن هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وسائر كلامه تعالى محكم. وإلى هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد اليزيدي ، وهو قول الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين ، قالوا : هي سر الله في القرآن ، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ، ولا يجب أن نتكلم فيها ، ولكن نؤمن بها وتمر كما جاءت. وقال الجمهور : بل يجب أن يتكلم فيها وتلتمس الفوائد التي تحتها ، والمعاني التي تتخرج عليها ، واختلفوا في ذلك الاختلاف الذي قدمناه. قال ابن عطية : والصواب ما قال الجمهور ، فنفسر هذه الحروف ونلتمس لها التأويل لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظما ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها ، كقول الشاعر :

قلت لها قفي فقالت قاف

أراد قالت وقفت

وكقول القائل :

بالخير خيرات وإن شرّفا

ولا أريد الشر إلا أن تا

أراد وإن شرا فشر ، وأراد إلا أن تشاء : والشواهد في هذا كثيرة فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها ، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب ، أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه ، انتهى كلامه.

وفرق بين ما أنشد وبين هذه الحروف ، وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير ، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان. وقد تكلم المعربون على هذه الحروف فقالوا : لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ ، فهي كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها ، ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ ، والنصب بإضمار فعل ، والجر على إضمار حرف القسم ، هذا إذا جعلناها اسما للسور ، وأما إذا لم تكن اسما للسور فلا محل لها ، لأنها إذ ذاك كحروف المعجم أو ردت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة كأسماء الأعداد ، أو ردتها لمجرد العدد بغير عطف ، وقد تكلم النحويون على هذه الحروف على أنها أسماء السور ، وتكلموا على ما يمكن إعرابه منها وما لا يمكن ، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع الصرف ، ومنه ما لا يمنع الصرف ، وتفصيل ذلك في علم النحو. وقد نقل خلاف في كون هذه الحروف آية ، فقال الكوفيون : (الم) آية ، وكذلك هي آية في أول كل سورة ذكرت فيها ، وكذلك (المص) و (طسم) وأخواتها و (طه) و (يس)

٦٠