البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

القفال : لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئا ، ولم تزل الرسل عليهم الصلاة والسلام من ذريتهما ، وكان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة الأيادي. ويقال : عبد المطلب بن هاشم ، جدّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعمرو بن الظرب ، كانا على دين الإسلام. وجوّز الزمخشري أن يكون من في قوله : ومن ذريتنا ، للتبيين ، قال كقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) (١) ، وقد تقدّم لنا أن كون من للتبيين يأباه أصحابنا ويتأولون ما فهم من ظاهره ذلك. وتقدّم شرح الأمة ، والمراد به هنا : الجماعة ، أو الجيل ، والمعنى : على أن من ذريتنا هو في موضع المفعول الأول لقوله : واجعل ، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير ، فالمعنى : واجعل ناسا من ذريتنا أمة مسلمة لك ، ويمتنع أن يكون ما قدّر من قوله : واجعل من ذريتنا بمعنى : أوجدوا خلق. وإن كان من جهة المعنى صحيحا ، فكان يكون الجعل هنا يتعدى إلى واحد. ومن ذريتنا متعلق بأجعل المقدرة ، لأنه إن كان من باب عطف المفردات ، فهو مشترك في العامل الأول ، والعامل الأول ليس معناه على الخلق والإيجاد. وإن كان من باب عطف الجمل ، فلا يحذف إلا ما دل عليه المنطوق. والمنطوق ليس بمعنى الإيجاد ، فكذلك المحذوف. ألا تراهم قد منعوا في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) (٢) أن يكون التقدير : وملائكته يصلون ، لاختلاف مدلولي الصلاتين لأنهما من الله الرحمة ، ومن الملائكة الدعاء ، وتأولوا ذلك وحملوه على القدر المشترك بين الصلاتين لا على الحذف؟ وأجاز أبو البقاء أن يكون المفعول الأول أمة ، ومن ذريتنا حال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال ، ومسلمة المفعول الثاني ، وكان الأصل : اجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك ، قال : فالواو داخلة في الأصل على أمة ، وقد فصل بينهما بقوله : من ذريتنا ، وهو جائز ، لأنه من جملة الكلام المعطوف بالظرف ، وجعلوا قوله :

يوما تراها كشبه أردية

العصب ويوما أديمها نغلا

من الضرورات ، فالفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف ، فصار نظير : ضربت الرجل ، ومتجردة المرأة تريد : والمرأة متجردة ، وينبغي أن يختص جواز هذا بالضرورة.

(وَأَرِنا مَناسِكَنا) : قال قتادة : معالم الحج. وقال عطاء وابن جريج : مذابحنا ، أي مواضع الذبح. وقيل : كل عبادة يتعبد بها الله تعالى. وقال تاج القراء الكرماني : إن كان المراد

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٥٥.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤٣.

٦٢١

أعمال الحج ، وما يفعل في المواقف ، كالطواف ، والسعي ، والوقوف ، والصلاة ، فتكون المناسك جمع منسك : المصدر ، جمع لاختلافها. وإن كان أراد المواقف التي يقام فيها شرائع الحج ، كمنى ، وعرفة ، والمزدلفة ، فيكون جمع منسك وهو موضع العبادة. وروي عن علي أن إبراهيم لما فرغ من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة ، بعث الله إليه جبريل عليه‌السلام ، فحج به. وفي قراءة ابن مسعود : وأرهم مناسكهم ، أعاد الضمير على الذرية ، ومعنى أرنا : أي بصّرنا. إن كانت من رأي البصرية. والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر ، لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد ، وإن كانت من رؤية القلب ، فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين ، نحو قوله :

وإنا لقوم ما نرى القتل سبة

إذا ما رأته عامر وسلول

وقال الكميت :

بأي كتاب أم بأية سنة

ترى حبهم عارا عليّ وتحسب

فإذا دخلت عليها همزة النقل ، تعدت إلى ثلاثة ، وليس هنا إلا اثنان ، فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين. وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب ، وشرحها بقوله : عرف ، فهي عنده تأتي بمعنى عرّف ، أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد ، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين ، ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب. وحكى ابن عطية عن طائفة أنها من رؤية البصر ، وعن طائفة أنها من رؤية القلب. قال ابن عطية : وهو الأصح ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين ، وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود :

أريني جوادا مات هزلا لأنني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

انتهى كلام ابن عطية وقوله. ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين ، إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ أن رأى. إذا كانت قلبية ، تعدت إلى اثنين ، وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة ، وقوله : وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعديا إلى اثنين ومعه همزة النقل ، كما استعمل متعديا إلى اثنين بغير الهمزة. وإذا كان كذلك ، ثبت أن لرأي ، إذا كانت قلبية ، استعمالين : أحدهما : أن يكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف ، والثاني : أن يكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين. واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أرى

٦٢٢

قلبية ، لا دليل فيه ، بل الظاهر أنها بصرية ، والمعنى على أبصريني جوادا. ألا ترى إلى قوله : مات هزلا؟ فإن هذا هو من متعلقات البصر ، فيحتاج في إثبات رأي القلبية متعدية لواحد إلى سماع. وقد قال ابن مالك ، وهو حاشد لغة ، وحافظ نوادر : حين عدى ما يتعدى إلى اثنين ، فقال في التسهيل ، ورأى لا لإبصار ، ولا رأى ، ولا ضرب ، فلو كانت رأى بمعنى عرف ، لنفى ذلك ، كما نفى عن رأي المتعدية إلى اثنين ، كونها لا تكون لأبصار ، ولا رأى ، ولا ضرب. وقال بعض الناس : المراد هنا بالرؤية رؤية البصر والقلب معا ، لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعا ، وهذا ضعيف ، لأن فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو حمل اللفظ المشترك على أكثر من موضوع واحد في حالة واحدة ، وهو لا يجوز عندنا. وقرأ ابن كثير : وأرنا ، وأرني خمسة بإسكان الراء. وروي عن أبي عمرو : الإسكان والاختلاس. وروي عنه : الإشباع ، كالباقين ، إلا أن أبا عامر ، وأبا بكر أسكنا في أرنا اللذين. فالإشباع هو الأصل ، والاختلاس حسن مشهور في العربية ، والإسكان تشبيه للمنفصل بالمتصل ، كما قالوا : فخذوا سهله ، كون الحركة فيه ليست لإعراب. وقد أنكر بعض الناس الإسكان من أجل أن الكسرة تدل على ما حذف ، فيقبح حذفها ، يعني أن الأصل كان أرء ، فنقلت حركة الهمزة إلى الراء ، وحذفت الهمزة ، فكان في إقرارها دلالة على المحذوف. وهذا ليس بشيء ، لأن هذا أصل مرفوض ، وصارت الحركة كأنها حركة للراء. وقال الفارسي : ما قاله هذا القائل ليس بشيء. ألا تراهم أدغموا في لكنا هو الله ربي ، أي الأصل لكن ، ثم نقلوا الحركة وحذفوا ، ثم أدغموا؟ فذهاب الحركة في أرنا ليس بدون ذهابها في الإدغام. وأيضا فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصا عن العرب ، قال الشاعر :

أرنا أداوة عبد الله نملؤها

من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا

وأيضا فهي قراءة متواترة ، فإنكارها ليس بشيء. وذكر المفسرون في كيفية تأدية إبراهيم وإسماعيل هذه المناسك ، أقوالا سبعة مضطربة النقل. وذكروا أيضا من حج هذا البيت من الأنبياء ، ومن مات بمكة منهم. وذكروا أنه مات بها نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، وغيرهم ، ولم تتعرض الآية الكريمة لشيء من ذلك ، فتركنا نقل ذلك على عادتنا.

(وَتُبْ عَلَيْنا) : قالوا التوبة من حيث الشريعة تختلف باختلاف التائبين ، فتوبة سائر

٦٢٣

المسلمين الندم بالقلب ، والرجوع عن الذنب ، والعزم على عدم العود ، ورد المظالم إذا أمكن ، ونية الرد إذا لم يمكن ، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء ، والفتور في الأعمال ، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال ، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات ، والترقي في المقامات ، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة ، وكان الضمير في قوله : (وَتُبْ عَلَيْنا) خاصا بهما ، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير. قالوا : ويحتمل أن يريد التثبيت على تلك الحالة مثل : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ). وإن كان الضمير شاملا لهما وللذرية ، كان الدعاء بالتوبة منصرفا لمن هو من أهل التوبة. وإن كان الضمير قبله محذوفا مقدرا ، فالتقدير على عصاتنا ، ويكون دعا بالتوبة للعصاة. ولا تدل هذه الآية على جواز وقوع الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لما ذكرناه من الاحتمال ، خلافا لمن زعم ذلك وقال : التوبة مشروطة بتقدم الذنب ، إذ لو لا ذلك لاستحال طلب التوبة. والذي يقوي أن المراد الذرية العصاة قوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (١) ، إلى قوله : (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢) ، أي فأنت قادر على أن تتوب عليه وتغفر له ، وقراءة عبد الله ، وأرهم مناسكهم ، وتب عليهم ، واحتمال أن يكون : وأرنا مناسكنا على حذف مضاف ، أي وأر ذريتنا مناسكنا ، كقوله : ولقد خلقناكم ، أي خلقنا أباكم. وقال الزمخشري : وتب علينا ما فرط منا من الصغائر ، أو استتابا لذريتهما. انتهى. فقوله : ما فرط منا من الصغائر هو على مذهب المعتزلة ، إذ يقولون بتجويزها على الأنبياء. قال ابن عطية : وقد ذكر قولي التثبيت ، أو كون ذلك دعاء للذرية ، قال : وقيل وهو الأحسن عندي أنهما لما عرفا المناسك ، وبنيا البيت ، وأطاعا ، أرادا أن يسنّا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. وقال الطبري : ليس أحد من خلق الله إلا وبينه وبين الله تعالى معان يجب أن يكون أحسن مما هي. انتهى كلام ابن عطية ، وفيه خروج قوله : وتب علينا عن ظاهره إلى تأويل بعيد ، أي أن الدعاء بقوله : وتب علينا ، ليس معناه أنهما طلبا التوبة ، بل نبها بذلك الطلب على أن غيرهما يطلب في تلك المواضع التوبة ، فيكونان لم يقصدا الطلب حقيقة ، إنما ذكرا ذلك لتشريع غيرهما لطلب ذلك ، وهذا بعيد جدا. قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ، ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة ، واختلف في غير ذلك من الصغائر. انتهى كلامه. قال الإمام فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن

__________________

(١) سورة ابراهيم : ١٤ / ٣٥.

(٢) سورة ابراهيم : ١٤ / ٣٦.

٦٢٤

الرازي ، في (كتاب المحصول) له ما ملخصه : قالت الشيعة ، لا يجوز أن يقع منهم ذنب ، لا صغير ولا كبير ، لا عمدا ولا سهوا ، ولا من جهة التأويل. ثم ذكر الاتفاق على أنه لا يجوز منهم الكفر ، ولا التبديل في التبليغ ، ولا الخطأ في الفتوى. وذكر خلافا في أشياء ، ثم قال الذي يقول به إنه لا يقع منهم ذنب على سبيل القصد ، لا كبير ولا صغير ، وأما سهوا فقد يقع ، لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهوا.

(إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) : يجوز في أنت : الفصل والتأكيد والابتداء ، وهاتان الصفتان مناسبتان لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة ، وبأن يريهما مناسكهما ، وبأن يتوب عليهما. فناسب ذكر التوبة عليهما ، أو الرحمة لهما. وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة ، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله : (وَتُبْ عَلَيْنا). وتأخرت صفة الرحمة لعمومها ، لأن من الرحمة التوبة ، ولكنها فاصلة. والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا ، لأن قبلها (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، وبعدها : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) : لما دعا ربه بالأمن لمكة ، وبالرزق لأهلها ، وبأن يجعل من ذريته أمّة مسلمة ، ختم الدعاء لهم بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة ، وهو بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، فشمل دعاؤه لهم الأمن والخصب والهداية. وقد تقدم معنى البعث في قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) ، والمراد هنا : الإرسال إليهم. والضمير في فيهم يحتمل أن يعود على الذرية ، ويحتمل أن يعود على أمّة مسلمة ، ويحتمل أن يعود على أهل مكة ، ويؤيده قوله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) ، ولا خلاف أنه رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصح عنه أنه قال : «أنا دعوة أبي إبراهيم». ولم يبعث الله إلى مكة وما حولها إلا هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ أبيّ : وابعث فيهم في آخرهم ، قال ابن عباس : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ومحمد صلى الله عليهم وسلم. ومنهم في موضع الصفة لرسولا ، أي كائنا منهم لا من غيرهم ، فهم يعرفون وجهه ونسبه ونشأته ، كما قال : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، ودعا بأن يبعث الرسول فيهم منهم ، لأنه يكون أشفق على قومه ، ويكونون هم أعز به وأشرف وأقرب للإجابة ، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته. قال الربيع : لما دعا إبراهيم قيل له : قد استجيب لك ، وهو في آخر الزمان.

٦٢٥

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) جملة في موضع الصفة لرسولا. وقيل : في موضع الحال منه ، لأنه قد وصف بقوله منهم ، ووصف إبراهيم الرسول بأنه يكون يتلو عليهم آيات الله ، أي يقرؤها ، فكان كذلك ، وأوتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، وهو أعظم المعجزات. وقبل الله دعاء إبراهيم ، فأتى بالمدعو له على أكمل الأوصاف التي طلبها إبراهيم ، والآيات هنا آيات القرآن. وقيل : خبر من مضى ، وخبر من يأتي إلى يوم القيامة ، وقال الفضل : معناه يبين لهم دينهم.

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) : هو القرآن ، والمعنى : أنه يفهمهم ويلقي إليهم معانيه. وكان ترتيب التعليم بعد التلاوة ، لأنه أول ما يقرع السمع هو التلاوة والتلفظ بالقرآن ، ثم بعد ذلك تتعلم معانيه ويتدبر مدلوله. وأسند التعليم للرسول ، لأنه هو الذي يلقي الكلام إلى المتعلم ، وهو الذي يفهمه ويتلطف في إيصال المعاني إلى فهمه ، ويتسبب في ذلك. والتعليم يكون بمعنى التفهيم وحصول العلم للمتعلم ، ويكون بمعنى إلقاء أسباب العلم ، ولا يحصل به العلم ، ولذلك يقبل النقيضين ، تقول : علمته فتعلم ، وعلمته فما تعلم ، وذلك لاختلاف المفهومين من تعلم. قال الزمخشري : يتلو عليهم آياتك : يقرأ عليهم ، ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ، ويعلمهم الكتاب القرآن ، (وَالْحِكْمَةَ) : الشريعة وبيان الأحكام. وقال قتادة : الحكمة : السنة ، وبيان النبي : الشرائع. وقال مالك وأبو رزين : الحكمة ، الفقه في الدين ، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى. وقال مجاهد : الحكمة : فهم القرآن. وقال مقاتل : العلم والعمل به لا يكون الرجل حكيما حتى يجمعهما. وقيل : الحكم والقضاء. وقيل : ما لا يعلم إلا من جهة الرسول. وقال ابن زيد : كل كلمة وعظتك ، أو دعتك إلى مكرمة ، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة. وقال بعضهم : الحكمة هنا الكتاب ، وكررها توكيدا. وقال أبو جعفر محمد بن يعقوب : كل صواب من القول ورّث فعلا صحيحا فهو حكمة. وقال يحيى بن معاذ : الحكمة جند من جنود الله ، يرسلها الله إلى قلوب العارفين حتى يروّح عنها وهج الدنيا. وقيل : هي وضع الأشياء مواضعها. وقيل : كل قول وجب فعله. وهذه الأقوال في الحكمة كلها متقاربة ، ويجمع هذه الأقوال قولان : أحدهما ، القرآن والآخر السنة ، لأنها المبينة لما انبهم من الكتاب ، والمظهرة لوجوه الأحكام. ويكون المعنى ، والله أعلم ، في قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) ، أي يفصح لهم عن ألفاظه ويوقفهم بقراءته على كيفية تلاوته ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي : «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» ، وذلك لأن يتعلم أبي منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيفية أداء القرآن

٦٢٦

ومقاطعه ومواصله. وفي قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) ، أي يبين لهم وجوه أحكامه : حلاله وحرامه ، ومفروضه ، ومسنونه ، ومواعظه ، وأمثاله ، وترغيبه ، وترهيبه ، والحشر ، والنشر ، والعقاب ، والثواب ، والجنة والنار. وفي قوله : والحكمة ، أي السنة تبين ما في الكتاب من المجمل ، وتوضح ما انبهم من المشكل ، وتفصح عن مقادير ، وعن إعداد مما لم يتعرض الكتاب إليه ، ويثبت أحكاما لم يتضمنها الكتاب. (وَيُزَكِّيهِمْ) باطنا من أرجاس الشرك وأنجاس الشك ، وظاهرا بالتكاليف التي تمحص الآثام وتوصل الإنعام. قال ابن عباس : التزكية : الطاعة والإخلاص. وقال ابن جريج : يطهرهم من الشرك. وقيل : يأخذ منهم الزكاة التي تكون سببا لطهرتهم. وقيل : يدعوا إلى ما يصيرون به أزكياء. وقيل : يشهد لهم بالتزكية من تزكية العدول ، ومعنى الزكاة لا تخرج عن التطهير أو التنمية.

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، العزيز : الغالب ، أو المنيع الذي لا يرام ، قاله المفضل بن سلمة ، أو الذي لا يعجزه شيء ، قاله ابن كيسان ، أو الذي لا مثل له ، قاله ابن عباس ، أو المنتقم ، قاله الكلبي ، أو القوي ، ومنه فعزنا بثالث ، أو المعز ومنه : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) (١). الحكيم : قد تقدم تفسير الحكيم في قصة الملائكة وآدم في قوله : (إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٢). وأنت : يجوز فيها ما جاز في (أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣) قبل من الأعاريب. وهاتان الصفتان متناسبتان لما قبلهما ، لأن إرسال رسول متصف بالأوصاف التي سألها إبراهيم لا تصدر إلا عمن اتصف بالعزة ، وهي الغلبة أو القوّة ، أو عدم النظير ، وبالحكمة التي هي إصابة مواقع الفعل ، فيضع الرسالة في أشرف خلقه وأكرمهم عليه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته. وتقدّمت صفة العزيز على الحكيم لأنها من صفات الذات ، والحكيم من صفات الأفعال ، ولكون الحكيم فاصلة كالفواصل قبلها. وفي المنتخب : يتلو عليهم آياتك : هي القرآن. وقيل : الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته. ومعنى التلاوة : تذكيرهم بها ودعاؤهم إليها وحملهم على الإيمان بها ، وحكمة التلاوة : بقاء لفظها على الألسنة ، فيبقى مصونا عن التحريف والتصحيف ، وكون نظمها ولفظها معجزا ، وكون تلاوتها في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة إلا أن الحكمة العظمى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام. وقال القفال ، عبر بعض الفلاسفة عن الحكمة ، بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ، وقيل الحكمة المتشابهات. وقيل :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢٦.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٣٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٧.

٦٢٧

الكتاب أحكام الشرائع ، والحكمة وجوه المصالح والمنافع فيها ، وقيل : كلها صفات للقرآن ، هو آيات ، وهو كتاب وهو حكمة. انتهى ما لخص من المنتخب.

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) : روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أن الله قال في التوراة : [إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد ، من آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون] ، فأسلم سلمة وأبي مهاجر ، فأنزل الله هذه الآية. ومن : اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهو استفهام معناه : الإنكار ، ولذلك دخلت إلا بعده. والمعنى : لا أحد يرغب ، فمعناه النفي العام. ومن سفه : في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في يرغب ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء ، والرفع أجود على البدل ، لأنه استثناء من غير موجب ، ومن في من سفه موصولة ، وقيل : نكرة موصوفة ، وانتصاب نفسه على أنه تمييز ، على قول بعض الكوفيين ، وهو الفراء ، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم ، أو مفعول به ، إمّا لكون سفه يتعدى بنفسه كسفه المضعف ، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدّى ، أي جهل ، وهو قول الزجاج وابن جني ، أو أهلك ، وهو قول أبي عبيدة ، أو على إسقاط حرف الجر ، وهو قول بعض البصريين ، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه ، حكاه مكي. أما التمييز فلا يجيزه البصريون ، لأنه معرفة ، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة ، وأما كونه مشبها بالمفعول ، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة ، ولا يجوز في الفعل ، تقول : زيد حسن الوجه ، ولا يجوز حسن الوجه ، ولا يحسن الوجه. وأما إسقاط حرف الجر ، وأصله من سفه في نفسه ، فلا ينقاس ، وأما كونه توكيدا وحذف مؤكده ففيه خلاف. وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني : أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد ، وأما التضمين فلا ينقاس ، وأما نصبه على أن يكون مفعولا به ، ويكون الفعل يتعدّى بنفسه ، فهو الذي نختاره ، لأن ثعلبا والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى ، كسفه بفتح الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة. قال الزمخشري : سفه نفسه : امتهنها واستخف بها ، وأصل السفه ، الخفة ، ومنه زمام سفيه. وقيل : انتصاب النفس على التمييز نحو : غبن رأيه ، وألم رأسه ، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :

ولا بفزارة الشعر الرقابا

أجب الظهر ليس له سنام

٦٢٨

وقيل : معناه سفه في نفسه فحذف لجار ، كقولهم : زيد ظني مقيم ، أي في ظني ، والوجه هو الأول ، وكفى شاهدا له بما جاء في الحديث : «الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس». انتهى كلامه. فأجاز نصبه على المفعول به ، إلا أن قوله : ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :

ولا بفزارة الشعر الرقابا

أجب الظهر ليس له سنام

ليس بصحيح ، لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة. والشعر جمع أشعر ، وكذلك أجب الظهر هو أيضا من باب الصفة المشبهة ، وأجب أفعل اسم وليس بفعل. وقبل النصف الأول قوله :

فما قومي بثعلبة بن سعدى

وقبل الآخر قوله :

ونأخذ بعده بذناب عيش

فليس نحوه ، لأن نفسه انتصب بعد فعل ، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم ، وهما من باب الصفة المشبهة. ومعنى الآية : أنه لا يزهد ويرفع نفسه عن طريقة إبراهيم ، وهو النبي المجمع على محبته من سائر الطوائف ، إلا من أذل نفسه وامتهنها. وقال ابن عباس : معنى سفه نفسه : خسر نفسه. وقال أبو روق : عجز رأيه عن نفسه. وقال يمان : حمق رأيه. وقال الكلبي : قتل نفسه. وقال ابن بحر : جهلها ولم يعرف ما فيها من الدلائل. وحكي عن بعضهم أن معناه : سفه حق نفسه ، فأما سفه بضم الفاء فمعناه : صار سفيها ، مثل فقه إذا صار فقيها ، قال :

فلا علم إذا جهل العليم

ولا رشد إذا سفه الحليم

(وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) : أي جعلناه صافيا من الأدناس ، واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى ووصى بها ، وبناء البيت ، والإمامة ، واتخاذ مقامه مصلى ، وتطهير البيت ، والنجاة من نار نمروذ ، والنظر في النجوم ، وأذانه بالحج ، وإراءته مناسكه ، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه ، من خصائصه ووجوه اصطفائه. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) : ذكر تعالى كرامة إبراهيم في الدارين ، بأن كان في الدنيا من صفوته ، وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير ، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد أن

٦٢٩

لا يعدل عن ملته. وهاتان الجملتان مؤكدتان ، أما الأولى فباللام ، وأما الثانية فبأن وباللام. ولما كان إخبارا عن حالة مغيبة في الآخرة ، احتاجت إلى مزيد تأكيد ، بخلاف حال الدنيا ، فإن أرباب المآل قد علموا اصطفاء الله له في الدنيا بما شاهدوه منه ونقلوه جيلا بعد جيل. وأما كونه في الآخرة من الصالحين ، فأمر مغيب عنهم يحتاج فيه إلى إخبار من الله تعالى ، فأخبر الله به مبالغا في التوكيد ، وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي وأنه لصالح في الآخرة. وقال بعضهم : هو على إضمار ، أعني : فهو للتبيين ، كلك بعد سقيا ، وإنما لم يتعلق بالصالحين ، لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام ، ولا يتقدّم معمول الوصف إذ ذاك. وكان بعض شيوخنا يجوّز ذلك ، إذا كان المعمول ظرفا أو جارا ومجرورا ، قال : لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما. وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة ، بل معرفة ، كهي في الرجل ، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك. وقيل : في الآخرة ، أي في عمل الآخرة ، فيكون على حذف مضاف ، وقيل : الآخرة هنا البرزخ ، والصلاح ما يتبعه من الثناء الحسن في الدنيا. وقيل : الآخرة يوم القيامة ، وهو الأظهر. قال ابن عباس : لمن الصالحين ، أي الأنبياء. وقيل : من الذين يستوجبون صالح الجزاء ، قال معناه الحسن. وقيل : الواردين موارد قدسه ، والحالين مواطن أنسه. وقال الحسن بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير ، ولقد اصطفيناه في الدنيا ، وفي الآخرة ، وأنه لمن الصالحين. وهذا الذي ذهب إليه خطأ ينزه كتاب الله عنه.

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) : هذا من الالتفات ، إذ لو جرى على الكلام السابق ، لكان : إذ قلنا له أسلم ، وعكسه في الخروج من الغائب إلى الخطاب قوله :

باتت تشكي إليّ النفس مجهشة

وقد حملتك سبعا بعد سبعينا

والعامل في إذ : قال أسلمت. وقيل : ولقد اصطفيناه ، أي اخترناه في ذلك الوقت ، وجوّز بعضهم أن يكون بدلا من قوله : في الدنيا ، وأبعد من جعل إذ قال في موضع الحال من قوله : ولقد اصطفيناه ، وجعل العامل في الحال اصطفيناه ، وقيل : محذوف تقديره أذكر. وعلى تقدير أن العامل اصطفيناه أو اذكر المقدّرة ، يبقى قوله : قال أسلمت ، لا ينتظم مع ما قبله ، إلا إن قدر ، يقال : فحذف حرف العطف ، أو جعل جوابا لكلام مقدّر ، أي ما كان جوابه؟ قال : أسلمت. وهل القول هنا على بابه ، فيكون ذلك بوحي من الله وطلب؟ أم هذا

٦٣٠

كناية عما جعل الله في سجيته من الدلائل المفضية إلى الوحدانية وإلى شريعة الإسلام؟ فجعلت الدلالة قولا على سبيل المجاز ، وإذا حمل على القول حقيقة ، فاختلفوا متى قيل له ذلك. فالأكثرون على أنه قيل له ذلك قبل النبوّة ، وقبل البلوغ ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس ، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها ، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية ، وأمارات الحدوث ، فلما عرف ربه ، قال تعالى له أسلم. وقيل : كان بعد النبوّة ، فتؤول الأمر بالإسلام على أنه أمر بالثبات والديمومة ، إذ هو متحل به وقت الأمر ، ويكون الإسلام هنا على بابه ، والمعنى : على شريعة الإسلام. وقيل : الإسلام هنا غير المعروف ، وأول على وجوه ، فقال عطاء : معناه سلم نفسك. وقال الكلبي وابن كيسان : أخلص دينك. وقيل : اخشع واخضع لله. وقيل : اعمل بالجوارح ، لأن الإيمان هو صفة القلب ، والإسلام هو صفة الجوارح ، فلما كان مؤمنا بقلبه كلفه بعد عمل الجوارح ، وفي قوله : أسلم ، تقدير محذوف ، أي أسلم لربك. وأجاب بأنه أسلم لرب العالمين ، فتضمن أنه أسلم لربه ، لأنه فرد من أفراد العموم ، وفي العموم من الفخامة ما لا يكون في الخصوص ، لذلك عدل عن أن يقول : أسلمت لربي ، ومن كان ربا للعالمين ينبغي أن يكون جميعهم مسلمين له منقادين.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة ابتداء قصص إبراهيم عليه‌السلام. فذكر أولا ابتلاءه بالكلمات ، وإتمامه إياهن ، واستحقاقه الإمامة بذلك على الناس كلهم في زمانه ، وسؤال إبراهيم الإمامة لذريته شفقة عليهم ومحبة منه لهم ، وإيثارا أن يكون في ذريته من يخلفه في الإمامة ، وإجابة الله له بأن عهده لا يناله ظالم ، وفي طيه أن من كان عادلا قد ينال ذلك. وكان في ابتداء قصص إبراهيم بنيه وذريته من بني إسرائيل وغيرهم ، على فضيلته وخصوصيته عند الله تعالى ، ليكون ذلك حاملا لهم على اتباعه ، فإنه إذا كان للشخص والد متصف بصفات الكمال ، أوشك ولده أن يتبعه وأن يسلك منهجه ، لما في الطبع من اتباع الآباء والاقتفاء لآثارهم ، ألا ترى إلى قوله : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (١)؟.

ثم ذكر تعالى شرف البيت الحرام ، وجعله مقصدا للناس يؤمون إليه ، وملجأ يأمنون فيه ، وأمره تعالى للناس بالاتخاذ من مقام إبراهيم مصلى ، فحصل لهم الاقتداء بأن جعل مقامه مكان عبادة ومحل إجابة. ثم ذكر عهده لإبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت ، حيث صار

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٢٣.

٦٣١

محل عبادة لله تعالى ، ومكان عبادة الله تعالى يجب أن يكون مطهرا من الأرجاس والأنجاس. وأشار بتطهير المحل إلى تطهير الحال فيه ظاهرا وباطنا ، وإلى تطهير ما يقع فيه من العبادة ، بالإخلاص لله تعالى ، فلا ينجس بشيء من الرياء ، بل يطهر بإخلاصها لله تعالى. ثم أشار إلى من طهر البيت لأجله ، وهم الطائفون والعاكفون والمصلون ، فنبه على هذه العبادات التي تكون في البيت ، ودل على أن البيت لا يصلح بشيء من أمور الدنيا ، كالبيع والشراء وعمل الصنائع والحرف والخصومات ، وأنه إنما هيىء لوقوع العبادات فيه.

ثم ذكر دعاء إبراهيم ربه بجعل هذا البيت محل أمن ، ودعاءه لهم بالخصب والرزق ، وتخصيص ذلك الدعاء بالمؤمنين ، إذ الأمن والخصب هما سببان لعمارة هذا البيت وقصد الناس له. ثم أخبر الله تعالى أن من كفر فتمتيعه قليل ومآله إلى النار ، ليكون التخويف حاملا على التقيد بالإيمان والانقياد للطاعات ، وليدل على أن الرزق في الدنيا ليس مختصا بمن آمن ، بل رزق الله يشترك فيه البر والفاجر. ثم ذكر رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت ، وما دعوا به إذ ذاك من طلب تقبل ما يفعلانه ، والثبات على الإسلام ، والدعاء بأن يكون من ذريتهما مسلمون ، وإراءة المناسك والتوبة ، وبعثة رسول من أمته يهديهم إلى طريق الإسلام بما يوحى إليه من عند الله ، ويطهرهم من الجرائم والآثام. فدل ذلك على مشروعية الأدعية الصالحة عند الالتباس بالعبادات ، وأفعال الطاعات ، وأن ذلك الوقت مظنة إجابة ، وفي ذلك جواز الدعاء للملتبس بالطاعة ، ولمن أحب أن يدعو له. وختم كل دعاء بما يناسبه مما قبله. ولم يكن في هذا الدعاء شيء متعلق بأحوال الدنيا ، إنما كان كله دعاء بما يتعلق بأمور الدين ، فدل ذلك على عدم اكتراث إبراهيم وابنه إسماعيل بأحوال الدنيا حالة بناء هذا البيت ورفع قواعده.

وقد تقدّم دعاؤه بالأمن والخصب ، لكن كان ذلك بعد أن كمل البيت وفرغ من التعبد ببنائه ورفع قواعده. ثم ذكر شرف إبراهيم وطواعيته لربه ، واختصاصه في زمانه بالإمامة ، وصيرورته مقتدى به. ذكر أنه لا يرغب عن طريقته إلا خاسر الصفقة ، لأنه المصطفى في الدنيا ، الصالح في الآخرة. وختم ذلك بانقياده لأمر الله تعالى ، فأول قصته إتمامه ما كلفه الله به ، وآخرها التسليم لله ، والانقياد إليه صلى الله على نبينا وعليه وسلم.

٦٣٢

وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)

الوصية : العهد ، وصى بنيه : أي عهد إليهم وتقدم إليهم بما يعمل به مقترنا بوعظ. ووصى وأوصى لغتان ، إلا أنهم قالوا : إن وصى المشدّد يدل على المبالغة والتكثير. يعقوب : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية ، ويعقوب عربي ، وهو ذكر القبج ، وهو مصروف ، ولو سمي بهذا لكان مصروفا. ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان ، فخرج العيص أولا ثم خرج هو يعقبه ، أو سمي بذلك لكثرة عقبه ، فقوله فاسد ، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي ، فكان يكون

٦٣٣

مصروفا. الحضور : الشهود ، تقول منه : حضر بفتح العين ، وفي المضارع : يحضر بضمها ، ويقال : حضر بكسر العين ، وقياس المضارع أن يفتح فيه فيقال : يحضر ، لكن العرب استغنت فيه بمضارع فعل المفتوح العين فقالت : حضر يحضر بالضم ، وهي ألفاظ شذت فيها العرب ، فجاء مضارع فعل المكسور العين على يفعل بضمها ، قالوا : نعم ينعم ، وفضل يفضل ، وحضر يحضر ، ومت تموت ، ودمت تدوم ، وكل هذه جاء فيها فعل بفتح العين ، فلذلك استغنى بمضارعه عن مضارع فعل ، كما استغنت فيه بيفعل بكسر العين عن يفعل بفتحها. قالوا : ضللت بكسر العين ، تضل بالكسر ، لأنه يجوز فيه ضللت بفتح العين.

إسحاق : اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية ، وإسحاق : مصدر أسحق ، ولو سميت به لكان مصروفا ، وقالوا في الجمع : أساحقة وأساحيق ، وفي جمع يعقوب : يعاقبة ويعاقيب ، وفي جمع إسرائيل ، أسارلة. وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل : براهمة وسماعلة ، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة وزناديق. وقال أبو العباس : هذا الجمع خطأ ، لأن الهمزة ليست زائدة ، والجمع : أباره وأسامع ، ويجوز : أباريه وأساميع ، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال : إبراهيمون ، وإسماعيلون ، وإسحاقون ، ويعقوبون. وحكى الكوفيون أيضا : براهم ، وسماعل ، وإسحاق ، ويعاقب ، بغير ياء ولا هاء. وقال الخليل وسيبويه : براهيم ، وسماعيل. ردّ أبو العباس على من أسقط الهمزة ، لأن هذا ليس موضع زيادتها. وأجاز ثعلب : براه ، كما يقال في التصغير : بريه. وقال أبو جعفر : الصفار : أما إسرائيل ، فلا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله ، وإنما يقال : أساريل. وحكى الكوفيون : أسارلة وأسارل. انتهى. وقد تقدّم لنا الكلام في شيء من نحو جمع هذه الأشياء ، واستوفي النقل هنا. الحنف : لغة الميل ، وبه سمي الأحنف لميل كان في إحدى قدميه عن الأخرى ، قال الشاعر :

والله لو لا حنف في رجله

ما كان في صبيانكم من مثله

وقال ابن قتيبة : الحنف الاستقامة ، وسمي الأحنف على سبيل التفاؤل ، كما سمي اللديغ سليما. وقال القفال : الحنف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات. وقال عمر :

حمدت الله حين هدى فؤادي

إلى الإسلام والدين الحنيفي

٦٣٤

وقال الزجاج : الحنيف : المائل عما عليه العامّة إلى ما لزمه ، وأنشد :

ولكنا خلقنا إذ خلقنا

حنيفا ديننا عن كل دين

الأسباط : جمع سبط ، وهم في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل ، وهم ولد يعقوب اثنا عشر ، لكل واحد منهم أمة من الناس ، وسيأتي ذكر أسمائهم. سموا بذلك من السبط : وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون. ويقال : سبط عليه العطاء إذا تابعه. ويقال : هو مقلوب بسط ، ومنه السباطة والساباط. ويقال للحسن والحسين : سبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سموا بذلك لكثرتهم وانبساطهم وانتشارهم ، ثم صار إطلاق السبط على ابن البنت ، فيقال : سبط أبي عمر بن عبد البر ، وسبط حسين بن منده ، وسبط السلفي في أولاد بناتهم. وقيل : أصل الأسباط من السبط ، وهو الشجر الملتف ، والسبط : الجماعة الراجعون إلى أصل واحد. الشقاق : مصدر شاقه ، كما تقول : ضارب ضرابا ، وخالف خلافا ، ومعناه : المعاداة والمخالفة ، وأصله من الشق ، أي صار هذا في شق ، وهذا في شق. والشق : الجانب ، كما قال الشاعر :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشق وشق عندنا لم يحوّل

وقيل : هو من المشقة ، لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه. الكفاية : الأحساب. كفاني كذا : أي أحسبني ، قال الشاعر :

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال

أي أغناني قليل من المال. الصبغة : فعلة من صبغ ، كالجلسة من جلس ، وأصلها الهيئة التي يقع عليها الصبغ. والصبغ : المصبوغ به ، والصبغ : المصدر ، وهو تغيير الشيء بلون من الألوان ، وفعله على فعل بفتح العين ، ومضارعه المشهور فيه يفعل بضمها ، والقياس الفتح إذ لامه حرف حلق. وذكر لي عن شيخنا أبي العباس أحمد بن يوسف بن علي الفهري ، عرف بالليلى ، وهو شارح الفصيح ، أنه ذكر فيه صم الباء في المضارع والفتح والكسر.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) : قرأ نافع وابن عامر : وأوصى ، وقرأ الباقون : ووصى. قال ثعلب : أملى عليّ خلف بن هشام البزاز ، قال : اختلف مصحف أهل المدينة وأهل العراق في اثني عشر حرفا. كتب أهل المدينة : وأوصى ، وسارعوا ، يقول ، الذين آمنوا من يرتدد ، الذين اتخذوا ، مسجدا خيرا منهما ،

٦٣٥

فتوكل ، وأن يظهر ، بما كسبت أيديكم ، ما تشتهيه الأنفس ، فإن الله الغني ، ولا يخاف عقباها. وكتب أهل العراق : ووصى ، سارعوا ، ويقول ، من يرتد ، والذين اتخذوا ، خيرا منها ، وتوكل ، أن يظهر ، فيما كسبت أيديكم ، ما تشتهي ، فإن الله هو ، فلا يخاف. وبها متعلق بأوصى ، والضمير عائد على الملة في قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) (١) ، وبه ابتدأ الزمخشري ، ولم يذكر المهدوي غيره ، أو على الكلمة التي هي قوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) ، ونظيره ، وجعلها كلمة باقية في عقبه ، حيث تقدم (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ). وبهذا القول ابتدأ ابن عطية وقال : هو أصوب ، لأنه أقرب مذكور ، ورجح العود على الملة بأنه يكون المفسر مصرحا به ، وإذا عاد على الكلمة كان غير مصرح به ، وعوده على المصرح أولى من عوده على المفهوم. وبأن عوده على الملة أجمع من عوده على الكلمة ، إذ الكلمة بعض الملة. ومعلوم أنه لا يوصي إلا بما كان أجمع للفلاح والفوز في الآخرة. وقيل : يعود على الكلمة المتأخرة ، وهو قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). وقيل : على كلمة الإخلاص وهي : لا إله إلا الله ، وإن لم يجر لها ذكر ، فهي مشار إليها من حيث المعنى ، إذ هي أعظم عمد الإسلام. وقيل : يعود على الوصية الدال عليها ووصى. وقيل : يعود على الطاعة.

بنيه : بنو إبراهيم ، إسماعيل وأمه هاجر القبطية ، وإسحاق وأمه سارة ، ومدين : ومديان ، ونقشان ، وزمزان ، ونشق ، ونقش سورج ، ذكرهم الشريف النسابة أبو البركات محمد بن علي بن معمر الحسيني الجواني وغيره ، وأم هؤلاء الستة قطورا بنت يقطن الكنعانية. هؤلاء الثمانية ولده لصلبه ، والعقب الباقي فيهم اثنان إسماعيل وإسحاق لا غير. قرأ الجمهور : ويعقوب بالرفع ، وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكي ، والضرير ، وعمرو بن فائد الأسواري : بالنصب. فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون معطوفا على إبراهيم ، ويكون داخلا في حكم توصية بنيه ، أي ووصى يعقوب بنيه. ويحتمل أن يكون مرفوعا على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره : قال يا بني إن الله اصطفى ، والأول أظهر. وأما قراءة النصب فيكون معطوفا على بنيه ، أي ووصى بها نافلته يعقوب ، وهو ابن ابنه إسحاق. وبنو يعقوب يأتي ذكر أسمائهم عند الكلام على الأسباط. يا بني : من قرأ ويعقوب بالنصب ، كان يا بني من مقولات إبراهيم ، ومن رفع على العطف فكذلك ، أو

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٣٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٣١.

٦٣٦

على الابتداء ، فمن كلام يعقوب. وإذا جعلناه من كلام إبراهيم ، فعند البصريين هو على إضمار القول ، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك ، لأن الوصية في معنى القول ، فكأنه قال : قال إبراهيم لبنيه يا بني ، ونحوه قول الراجز :

رجلان من ضبة أخبرانا

إنا رأينا رجلا عريانا

بكسر الهمزة على إضمار القول ، أو معمولا لا خبرانا على المذهبين ، وفي النداء لمن بحضرة المنادي. وكون النداء بلفظ البنين مضافين إليه تلطف غريب وترجئة للقبول وتحريك وهز ، لما يلقى إليهم من أمر الموافاة على دين الإسلام الذي ينبغي أن يتلطف في تحصيله ، ولذلك صدر كلامه بقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) ، وما اصطفاه الله لا يعدل عنه العاقل. وقرأ أبيّ وعبد الله والضحاك : أن يا بني ، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها. ومن لم يثبت معنى التفسير ، لأن جعلها هنا زائدة ، وهم الكوفيون. (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) ، أي استخلصه لكم وتخيره لكم صفوة الأديان. والألف واللام في الدين للعهد ، لأنهم كانوا قد عرفوه ، وهو دين الإسلام.

(فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : هذا استثناء من الأحوال ، أي إلا على هذه الحالة ، والمعنى : الثبوت على الإسلام ، والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الإسلام. إلا أن ذلك نهي عن الموت ، ونظير ذلك في الأمر. مت وأنت شهيد ، لا يكون أمرا بالموت ، بل أمر بالشهادة ، فكأنه قال : لتستشهد في سبيل الله ، وذكر الموت على سبيل التوطئة للشهادة. وقد تضمن هذا الكلام إيجازا بليغا ووعظا وتذكيرا ، وذلك أن الإنسان يتيقن بالموت ولا يدري متى يفاجئه. فإذا أمر بالتباس بحالة لا يأتيه الموت إلا عليها ، كان متذكرا للموت دائما ، إذ هو مأمور بتلك الحالة دائما. وهذا على الحقيقة نهي عن تعاطي الأشياء التي تكون سببا للموافاة على غير الإسلام ، ونظير ذلك قولهم : لا أرينك هاهنا ، لا ينهى نفسه عن الرؤية ، ولكن المعنى على النهي عن حضوره في هذا المكان ، فيكون يراه ، فكأنه قال : اذهب عن هذا المكان. ألا ترى أن المخاطب ليس له أن يحجب إدراك الآمر عنه إلا بالذهاب عن ذلك المكان ، فأتى بالمقصود بلفظ يدل على الغضب والكراهة ، لأن الإنسان لا ينهى إلا عن شيء يكره وقوعه.

وقد اشتملت هذه الجملة على لطائف ، منها : الوصية ، ولا تكون إلا عند خوف

٦٣٧

الموت. ففي ذلك ما كان عليه إبراهيم من الاهتمام بأمر الدين ، حتى وصى به من كان ملتبسا به ، إذ كان بنوه على دين الإسلام. ومنها اختصاصه ببنيه ، ولا يختصهم إلا بما فيه سلامة عاقبتهم. ومنها أنه عمم بنيه ، ولم يخص أحدا منهم ، كما جاء في حديث النعمان بن بشير ، حين نحله أبوه شيئا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟» ورد نحله إياه وقال : لا أشهد على جور. ومنها إطلاق الوصية ، ولم يقيدها بزمان ولا مكان. ثم ختمها بأبلغ الزجر أن يموتوا غير مسلمين. ثم التوطئة لهذا النهي والزجر بأن الله تعالى هو الذي اختار لكم دين الإسلام ، فلا تخرجوا عما اختاره الله لكم. قال المؤرخون : نقل إبراهيم ولده إسماعيل إلى مكة وهو رضيع ، وقيل : ابن سنتين. وقيل : ابن أربع عشرة سنة ، وولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة ، ومات وله مائة وثلاثون سنة. وكان لإسماعيل ، لما مات أبوه إبراهيم ، تسع وثمانون سنة. وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة ، ومات بالأرض المقدّسة ، ودفن عند أبيه إبراهيم. وكان بين وفاة أبيه إبراهيم ومولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو من ألفي سنة وستمائة سنة ، واليهود تنقص من ذلك نحوا من أربعمائة سنة.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) : نزلت في اليهود. قالوا : ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟ قال الكلبي : لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيرين ، فجمع بنيه وخاف عليهم ذلك ، فقال لهم : ما تعبدون من بعدي؟ فأنزل الله هذه الآية إعلاما لنبيه بما وصى به يعقوب ، وتكذيبا لليهود. وأم هنا منقطعة ، تتضمن معنى بل وهمزة الاستفهام الدالة على الإنكار ، والتقدير : بل أكنتم شهداء؟ فمعنى الإضراب : الانتقال من شيء إلى شيء ، لا أن ذلك إبطال لما قبله. ومعنى الاستفهام هنا : التقريع والتوبيخ ، وهو في معنى النفي ، أي ما كنتم شهداء ، فكيف تنسبون إليه ما لا تعلمون؟ ولا شهدتموه أنتم ولا أسلافكم. وقيل : أم هنا بمعنى : بل ، والمعنى بل كنتم ، أي كان أسلافكم ، أو تنزلهم منزلة أسلافهم ، إذ كان أسلافهم قد نقلوا ذلك إليهم ، وفي إثبات ذلك إنكار عليهم ما نسبوه إلى يعقوب من اليهودية. والخطاب في كنتم لمن كان بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحبار اليهود والنصارى ورؤسائهم. وقال ابن عطية : قال لهم على جهة التقرير والتوبيخ أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى ، فتدّعون عن علم ، أي لم تشهدوا. بل أنتم تفترون. وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية. انتهى ما ذكره. ولم أقف لأحد من النحويين على أن أم يستفهم بها في صدر الكلام. وأين ذلك؟ وإذا صح النقل فلا مدفع فيه ولا مطعن. وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط

٦٣٨

كلام قد تقدم صدره ، وهذا منه. ومنه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ). انتهى ، وهذا أيضا قول غريب. وتلخص أن أم هنا فيها ثلاثة أقوال : (المشهور) أنها هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة. (الثاني) : أنها للإضراب فقط ، بمعنى بل. (الثالث) : بمعنى همزة الاستفهام فقط.

وقال الزمخشري : الخطاب للمؤمنين بمعنى : ما شاهدتم ذلك ، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي. وقيل : الخطاب لليهود ، لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبي إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شهدوه ، ولو سمعوا ما قاله لبنيه ، وما قالوه ، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام ، ولما ادعوا عليه اليهودية. فالآية منافية لقولهم ، فكيف يقال لهم : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ)؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة ، على أن يقدر قبلها محذوف ، كأنه قيل : أتدعون على الأنبياء اليهودية؟ (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ)؟ يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له ، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام ، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ انتهى كلامه. وملخصه : أنه جعل أم متصلة ، وأنه حذف قبلها ما يعادلها ، ولا نعلم أحدا أجاز حذف هذه الجملة ، ولا يحفظ ذلك ، لا في شعر ولا غيره ، فلا يجوز : أم زيد؟ وأنت تريد : أقام عمرو أم زيد؟ ولا أم قام خالد؟ وأنت تريد : أخرج زيد؟ أم قام خالد؟ والسبب في أنه لا يجوز الحذف. إن الكلام في معنى : أي الأمرين وقع؟ فهي في الحقيقة جملة واحدة. وإما يحذف المعطوف عليه ويبقى المعطوف مع الواو والفاء ، إذا دل على ذلك دليل نحو قولك : بلى وعمرا ، جوابا لمن.

قال : ألم تضرب زيدا؟ ونحو قوله تعالى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) (١) ، أي فضرب فانفجرت. وندر حذف المعطوف عليه مع أو ، نحو قوله :

فهل لك أو من والد لك قبلنا

أراد : فهل لك من أخ أو من والد؟ ومع حتى على نظر فيه في قوله :

فيا عجبا حتى كليب تسبني

أي : يسبني الناس حتى كليب ، لكن الذي سمع من كلام العرب حذف أم المتصلة مع المعطوف ، قال :

دعاني إليها القلب إني لأمرها

سميع فما أدري أرشد طلابها

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٠.

٦٣٩

يريد : أم غير رشد ، فحذف لدلالة الكلام عليه ، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه. فالمعنى : أقام زيد أم لم يقم ، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا ، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله : أرشد طلابها ، أي أم غير رشد. ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دل عليها المعنى. ألا ترى إلى قوله : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (١) ، كيف حذف والبرد؟ إذ حضر العامل في إذ شهداء ، وذلك على جهة الظرف ، لا على جهة المفعول ، كأنه قيل : حاضري كلامه في وقت حضور الموت ، وكنى بالموت عن مقدّماته لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئا ، ومنه : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) (٢) ، أي ويأتيه دواعيه وأسبابه ، وقال الشاعر :

وقل لهم بادروا العذر والتمسوا

قولا يبرئكم إني أنا الموت

وفي قوله : حضر ، كناية غريبة ، إنه غائب لا بد أن يقدم ، ولذلك يقال في الدعاء : واجعل الموت خير غائب ننتظره. وقرىء : حضر بكسر الضاد ، وقد ذكرنا أن ذلك لغة ، وأن مضارعها بضم الضاد شاذ ، وقدم المفعول هنا على الفاعل للاعتناء. (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) ، إذ : بدل من إذ في قوله : إذ حضر ، فالعامل فيه إما شهداء العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه ، وإما شهداء مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل. وزعم القفال أن إذ وقت للحضور ، فالعامل فيه حضر ، وهو يؤول إلى اتحاد الظرفين ، وإن اختلف عاملهما.

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) ما : استفهام عما لا يعقل ، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده. فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء ، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل ، لأنه قد عبد بنو آدم والملائكة والشمس والقمر وبعض النجوم والأوثان المنحوتة ، وأما من يذهب إلى تخصيص ما بغير العاقل ، فقيل : هو سؤال عن صفة المعبود ، لأن ما يسأل بها عن الصفات تقول : ما زيد ، أفقيه أم شاعر؟ وقيل : سأل بما لأن المعبودات المتعارفة في ذلك الوقت كانت جمادات ، كالأوثان والنار والشمس والحجارة ، فاستفهم بما التي يستفهم بها عما لا يعقل. وفهم عنه بنوه فأجابوه : بأنا لا نعبد شيئا من هؤلاء. وقيل : استفهم بما عن المعبود تجربة لهم ، ولم يقل من لئلا يطرّق لهم الاهتداء ، وإنما أراد أن يختبرهم وينظر ثبوتهم على ما هم عليه. وظاهر الكلام أنه استفهم عن الذي يعبدون ، أي

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٨١.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٧.

٦٤٠