البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

وقوله : ربنا تقبل منا ، قاله ابن جبير. الثامن : هو قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) (١) ، قاله يمان. التاسع : هي قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٢) الآيات ، قاله أبو روق. العاشر : هي ما ابتلاه به في ماله وولده ونفسه ، فسلم ماله للضيفان ، وولده للقربان ، ونفسه للنيران ، وقلبه للرحمن ، فاتخذه الله خليلا. الحادي عشر : هو أن الله أوحى إليه أن تطهر فتمضمض ، ثم أن تطهر فاستنشق ، ثم أن تطهر فاستاك ، ثم أن تطهر فأخذ من شاربه ، ثم أن تطهر ففرق شعره ، ثم أن تطهر فاستنجى ، ثم أن تطهر فحلق عانته ، ثم أن تطهر فنتف إبطه ، ثم أن تطهر فقلم أظفاره ، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ماذا يصنع ، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة. وفي البخاري ، أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم ، وأوحى الله إليه (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (٣) ، يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون. فإن صحت تلك الرواية ، فالتأويل أنه اختتن بعد عشرين ومائة سنة من ميلاده ، وابن ثمانين سنة من وقت نبوته ، فيتفق التاريخان ، والله أعلم. الثاني عشر : هي عشرة : شهادة أن لا إله إلا الله ، وهي الملة والصلاة ، وهي الفطرة والزكاة ، وهي الطهرة والصوم ، وهو الجنة والحج ، وهو الشعيرة والغزو ، وهو النصرة والطاعة ، وهي العصمة والجماعة ، وهي الألفة والأمر بالمعروف ، وهو الوفاء والنهي عن المنكر ، وهو الحجة. الثالث عشر : هي : تجعلني إماما ، وتجعل البيت مثابة وأمنا ، وترينا مناسكنا ، وتتوب علينا ، وهذا البلد آمنا ، وترزق أهله من الثمرات. فأجابه الله في ذلك بما سأله ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك.

وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما ابتلى الله به إبراهيم ، إذ كلها ابتلاه بها ، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد ، ولا على التعيين ، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض. وهذه الأشياء التي فسر بها الكلمات ، إن كانت أقوالا ، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات ، وإن كانت أفعالا ، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازا ، لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر ، والأوامر كلمات. سميت الذات كلمة لبروزها عن كلمة كن. قال تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) (٤). وقد تكلم بعض المفسرين في أحكام ما شرحت به الكلمات من : المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والفرق ، والسدل ، والسواك ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وتقليم الأظفار ،

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٨٠.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٧٨.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٤.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٧١.

٦٠١

والاستنجاء ، والختان ، والشيب وتغييره ، والثريد ، والضيافة. وهذا يبحث فيه في علم الفقه ، وليس كتابنا موضوعا لذلك ، فلذلك تركنا الكلام على ذلك.

فأتمهن : الضمير المستكن في فأتمهن يظهر أنه يعود إلى الله تعالى ، لأنه هو المسند إليه الفعل قبله على طريق الفاعلية. فأتمهن معطوف على ابتلى ، فالمناسب التطابق في الضمير. وعلى هذا ، فالمعنى : أي أكملهن له من غير نقص ، أو بينهن ، والبيان به يتم المعنى ويظهر ، أو يسر له العمل بهن وقوّاه على إتمامهن ، أو أتم له أجورهن ، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين ، أقوال خمسة. ويحتمل أن يعود الضمير المستكن على إبراهيم. فالمعنى على هذا أدامهن ، أو أقام بهن ، قاله الضحاك ؛ أو عمل بهن ، قاله يمان ؛ أو وفى بهن ، قاله الربيع ، أو أدّاهن ، قاله قتادة. خمسة أقوال تقرب من الترادف ، إذ محصولها أنه أتى بهن على الوجه المأمور به. واختلفوا في هذا الابتلاء ، هل كان قبل نبوته أو بعدها؟ فقال القاضي : كان قبل النبوة ، لأنه نبه على أن قيامه بهن كالسبب ، لأنه جعله إماما ، والسبب مقدم على المسبب ، فوجب كون الابتلاء مقدما في الوجود على صيرورته إماما. وقال آخرون : إنه بعد النبوة ، لأنه لا يعلم كونه مكلفا بتلك التكاليف إلا من الوحي ، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك. أجاب القاضي : بأنه يحتمل أنه أوحى إليه على لسان جبريل بهذه التكاليف الشاقة ، فلما تمم ذلك ، جعله نبيا مبعوثا إلى الخلق.

(قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) : تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفا ، كانت قال استئنافا ، فكأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً). وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها ، أي وقال إني جاعلك للناس إماما ، إذ ابتلاه ، ويجوز أن يكون بيانا لقوله : ابتلى ، وتفسيرا له. للناس : يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه ، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم ، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم. وللناس : في موضع الحال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها ، التقدير : إماما كائنا للناس ، قالوا : ويحتمل أن يكون متعلقا بجاعلك ، أي لأجل الناس. وجاعل هنا بمعنى مصير ، فيتعدى لاثنين ، الأول : الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل ، والثاني : إماما. قيل : قال أهل التحقيق : والمراد بالإمام هنا : النبي ، أي صاحب شرع متبع ، لأنه لو كان تبعا لرسول ، لكان مأموما لذلك الرسول لا إماما له. ولأن لفظ الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء ، ومن يكون كذلك ، لا يكون إلا نبيا. ولأن الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتباعهم هم

٦٠٢

أئمة ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (١). والخلفاء أيضا أئمة ، وكذلك القضاة والفقهاء والمصلي بالناس ، ومن يؤتم به في الباطل. قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) (٢). فلما تناول الاسم هؤلاء كلهم ، وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب وأعلاها ، لأنه ذكره في معرض الامتنان ، فلا بد أن يكون أعظم نعمة ، ولا شيء أعظم من النبوة.

قال ومن ذريتي ، قال الزمخشري : عطف على الكاف ، كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي ، كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيدا. انتهى كلامه. ولا يصح العطف على الكاف ، لأنها مجرورة ، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار ، ولم يعد ، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافا إليها ، لأنها حرف ، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلا مضافا إليها لا يصح ، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف ، لأنه نصب ، فيجعل من في موضع نصب ، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع ، على مذهب سيبويه ، لفوات المحرز ، وليس نظير : سأكرمك ، فتقول : وزيدا لأن الكاف هنا في موضع نصب. والذي يقتضيه المعنى أن يكون من ذريتي متعلقا بمحذوف ، التقدير : واجعل من ذريتي إماما ، لأن إبراهيم فهم من قوله إني جاعلك للناس إماما الاختصاص ، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماما. وقرأ زيد بن ثابت : ذريتي بالكسر في الذال. وقرأ أبو جعفر بفتحها. وقرأ الجمهور بالضم ، وذكرنا أنها لغات فيها ، ومن أي شيء اشتقت حين تكلمنا على المفردات.

(قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) : والضمير في قال الثانية ضمير إبراهيم ، وفي قال هذه عائد على الله تعالى. والعهد : الإمامة ، قاله مجاهد : أو النبوة ، قاله السدي ؛ أو الأمان ، قاله قتادة. وروي عن السدي ، واختاره الزجاج : أو الثواب قاله قتادة أيضا ؛ أو الرحمة ، قاله عطاء ؛ أو الدين ، قاله الضحاك والربيع ، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه ، قاله ابن عباس ؛ أو الأمر من قوله : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) (٣) ، (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) (٤) ؛ أو إدخاله الجنة من قوله : كان له (عِنْدَ اللهِ عَهْداً) (٥) ، أن يدخله الجنة ؛ أو طاعتي ، قاله الضحاك أيضا ؛ أو الميثاق ؛ أو الأمانة. والظاهر من هذه الأقوال : أن العهد هي الإمامة ،

__________________

(١) سورة السجدة : ٣٢ / ٢٤.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٣.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٣.

(٤) سورة يس : ٣٦ / ٦٠.

(٥) سورة البقرة : ٢ / ٨٠.

٦٠٣

لأنها هي المصدر بها ، فأعلم إبراهيم أن الإمامة لا تنال الظالمين. وذكر بعض أهل العلم أن قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) هو استعلام ، كأنه قيل : أتجعل من ذريتي إماما : وقد قدمنا أن الظاهر أنه على سبيل الطلب ، أي واجعل من ذريتي. وهذا الجواب الذي أجاب الله به إبراهيم هو من الجواب الذي يربو على السؤال ، لأن إبراهيم طلب من الله ، وسأل أن يجعل من ذريته إماما ، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين ، ودل بمفهومه الصحيح على أنه ينال عهده من ليس بظالم ، وكان ذلك دليلا على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم ، ويدلك على أن العهد هو الإمامة أن ظاهر قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أنه جواب لقول إبراهيم : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على سبيل الجعل ، إذ لو كان على سبيل المنع لقال لا ، أو لا ينال عهدي ذريتك ، ولم ينط المنع بالظالمين. وقرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش : الظالمون بالرفع ، لأن العهد ينال ، كما ينال أي عهدي لا يصل إلى الظالمين ، أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه. وقد فسر الظلم هنا بالكفر ، وهو قول ابن جبير ، وبظلم المعاصي غير الكفر ، وهو قول عطاء والسدي. واستدل بهذا على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده ، قال الحسن : لم يجعل الله لهم عهدا. قال ابن أبي الفضل : ما ذكره المفسرون من أنه سأل الإمامة لذريته ، وأنه أجيب إلى ملتمسه لا يظهر من اللفظ ، لأنه قال : ومن ذريتي ، وهو محتمل ، وجاعل من ذريتي ، أو تجعل من ذريتي ، أو اجعل من ذريتي. وإذا كان هذا كله محتملا غير منطوق به ، فمن أين لهم أنه سأل؟ وأما قولهم : أجيب إلى ملتمسه ، فاللفظ لا يدل على ذلك ، بل يدل على ضده ، لأن ظاهره : أن أولادك ظالمون. لكن دل الدليل على خلاف ذلك ، وهو : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) ، وغير ذلك من الآي التي تدل على أن في ذريته النبوة. ولو قال : لا ينال عهدي الظالمين منهم ، لدل ذلك على ما يقولون على أن اللفظ لا ينزل عليه نزولا بينا. انتهى ما ذكره ملخصا بعضه. وفيما ذكره ابن أبي الفضل نظر ، لأن تلك التقادير التي قدرها ظاهرها السؤال. أما من قدر : واجعل من ذريتي إماما ، فهو سؤال ؛ وأما من قدر : وتجعل وجاعل ، فهو استفهام على حذف الاستفهام ، إذ معناه : وأ جاعل أنت يا رب ، أو أتجعل يا رب من ذريتي. والاستفهام يؤول معناه إلى السؤال ، ولا يجوز أن يكون المقدر من قولهم : وجاعل ، أو تجعل من ذريتي إماما خبرا ، لأنه خبر من نبي. وإذا كان خبرا من نبي ، كان صدقا ضرورة. ولم يتقدم من الله إعلام لإبراهيم بذلك ، إنما أعلمه أنه يجعله للناس إماما. فمن أين يخبر بذلك؟ ومن يخاطب بذلك؟ إن كان الله قد أعلمه ذلك. وإنما ذلك التقدير على سبيل الاستفهام والاستعلام.

٦٠٤

هل تحصل الإمامة لبعض ذريته أم لا تحصل؟ فأجابه الله : إلى أن من كان ظالما لا يناله عهده. وأما قوله : إن ظاهر اللفظ أن أولادك ظالمون ، فليس كذلك ، بل ظاهره أنه لا يناله من ظلم من أولاده وغير أولاده ، ودل بمفهوم الصفة على أن غير الظالم ينالها. ولو كان على ما قاله ابن أبي الفضل ، لكان اللفظ لا ينالها ذريتك لظلمهم ، مع أنه يحتمل أن الظالمين تكون الألف واللام فيه معاقبة للضمير ، أي : ظالموهم ، أو الضمير محذوف ، أي منهم. ومن أغرب الانتزاعات في قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ما ذكر لي بعض الإمامية أنهم انتزعوا من هذا ، كون أبي بكر لا يكون إماما قالوا : لأن إطلاق اسم الظلم يقع عليه ، لأنه سجد للأصنام ، فقد ظلم. وقد قال تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، وذلك بخلاف عليّ ، فإنه لم يسجد لصنم قط. قلت له : فيلزم أن يسمي كل من أسلم من الصحابة ظالما ، كسلمان ، وأبي ذر ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وعمار. وهذا ما لا يذهب إليه أحد ، فلم يحر جوابا.

وقال الزمخشري : وقالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته ، ولا تجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدم للصلاة؟ وكان أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن عليّ ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ، ابني عبد الله بن الحسين ، حتى قتل فقال : ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد ، وأرادوني على عد آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماما قط. وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ، والإمام إنما هو لكف المظلمة؟ فإذا نصب من كان ظالما في نفسه ، فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب فقد ظلم. انتهى كلامه. وزيد بن عليّ الذي ذكره ، هو زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، وهو أخو محمد الباقر بن عليّ ، وإليه تنتسب الزيدية اليوم. وكان من أهل العلم والفقه والفهم في القرآن والشجاعة ، وإنما ذكره الزمخشري ، لأنه كان بمكة مجاورا للزيدية ومصاحبا لهم ، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم. واللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة ، الذي ذكره الزمخشري ، هو هشام بن عبد الملك ، خرج عليه زيد بن عليّ ، وكان قد قال لأخيه الباقر : ما لك لا تقوم وتدعو الناس إلى القيام معك؟ فأعرض عنه وقال له : لهذا وقت لا يتعداه. فدعا إلى نفسه وقال : إنما الإمام منا من أظهر سيفه وقام بطلب

٦٠٥

حق آل محمد ، لا من أرخى عليه ستوره وجلس في بيته. فقال له الباقر : يا زيد! إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم ، مثل فرخ نهض من عشه من قبل أن يستوي جناحاه. فإذا فعل ذلك سقط ، فأخذه الصبيان يتلاعبون به. فاتق الله في نفسك أن لا تكون المصلوب غدا بالكناسة. فلم يلتفت زيد لكلام الباقر ، وخرج على هشام ، فظفر به وصلبه على كناسة الكوفة ، وأحرقه بالنار ، وكان كما حذره الباقر. وأما الدوانيقي ، فهو المنصور أخو السفاح ، سمي بذلك قيل لبخله. وقد ذكر بعض المصنفين أنه لم يكن بخيلا ، وذكر من عطائه وكرمه أخبارا كثيرة. وأما إبراهيم ومحمد ، اللذان ذكرهما الزمخشري ، فهما ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، كانا قد تغيبا أيام السفاح ، وأول أيام المنصور ، ثم ظهر محمد أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة ، ودخل مسجد المدينة قبل الفجر ، فخطب حتى حضرت الصلاة ، فنزل وصلى بالناس ، وبويع بالمدينة طوعا ، واستعمل العمال ، وغلب على المدينة والبصرة ، وجبى الأموال. وكان إبراهيم أخوه قد صار إلى البصرة يدعو إليه. وآخر أمرهما أن المنصور وجه إليهما العساكر وقتلا.

وقد ذكر بعض المفسرين هنا أحكام الإمامة الكبرى ، وإن كان موضوعها أصول الدين ، فهناك ذكرها ، لكني لا أخلي كتابي عن شيء ملخص فيها دون الاستدلال. فنقول : الذي عليه أصحاب الحديث والسنة ، أن نصب الإمام فرض ، خلافا لفرقة من الخوارج ، وهم أصحاب نجدة الحروري. زعموا أن الإمامة ليست بفرض ، وإنما على الناس إقامة كتاب الله وسنة رسوله ، ولا يحتاجون إلى إمام ، ولفرقة من الأباضية زعمت أن ذلك تطوع. واستناد فرضية نصب الإمام للشرع لا للعقل ، خلافا للرافضة ، إذ أوجبت ذلك عقلا ، ويكون الإمام من صميم قريش ، خلافا لفرقة من المعتزلة ، إذ قالوا : إذا وجد من يصلح لها قرشي ونبطي ، وجب نصب النبطي دون القرشي ، وسواء في ذلك بطون قريش كلها ، خلافا لمن خص ذلك بنسل عليّ ، أو العباس ، إما منصوصا عليه ، وإما باجتهاد ، ويكون أفضل القوم ، فلا ينعقد للمفضول مع وجود الفاضل ، خلافا لأبي العباس القلانسي ، فإنه يقول : ينعقد للمفضول ، إذا كان بصفة الإمامة ، مع وجود الفاضل ، وشروطه : أن يكون عدلا مجتهدا في أحكام الشريعة ، شجاعا ، والشجاعة في القلب بحيث يمكنه ضبط الأمر وحفظ بيضة الإسلام ، ولا يجوز نصب ساقط العدالة ابتداء ، فإن عقد لشخص كامل الشروط ثم طرأ منه فسق ، فقال أبو الحسن : يجوز الخروج عليه إذا أمن الناس. وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم. وقال أبو الحسن أيضا ، والقاضي أبو بكر بن الطيب : لا يجوز

٦٠٦

الخروج عليه ، وإن أمن الناس ذلك ، إلا أن يكفر أو يدعو إلى ضلالة وبدعة ، والمرجوع في نصبه إلى اختيار أهل الاجتهاد في الدين ، والعامة في ذلك تبع لهم ولا اعتبار بهم في ذلك ، وليس من شرطه اجتماع كل المجتهدين ، ولا اعتبار في ذلك بعدد ، بل إذا عقد واحد من أهل الحل والعقد ، وجبت المبايعة على كلهم ، خلافا لمن خص أهل البيعة بأربعة. وقال : لا ينعقد بأقل من ذلك ، أو لمن قال : لا ينعقد إلا بأربعين ، أو لمن قال : لا ينعقد إلا بسبعين ، ثم من خالف كان باغيا أو ناظرا أو غالطا ، ولكل واحد منهم حكم يذكر في علم الفقه. ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد ، خلافا للكرامية ، إذ أجازوا ذلك ، وزعموا أن عليا ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد ، والقول بالتقية باطل ، خلافا للإمامية ، ومعناها : أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماما مستورا ، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة. وليس من شرط الإمام العصمة ، خلافا للرّافضة ، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرّا وعلنا. وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها ، خلافا للإمامية ، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدّي إليه اجتهاده. وليس لأحد الخروج عليه بالسيف ، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب ، خلافا لمن رأي ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم. وقد تكلم بعض الناس هنا في الإمامة الصغرى وهي : الإمامة في الصلاة ، وموضوعها علم الفقه.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) : لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة ، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم ، كانوا أحق بتعظيمها ، لأنها من مآثر أبيهم. ولوجه آخر من إظهار فضلها ، وهو كونها مثابة للناس وأمنا ، وأن فيها مقام إبراهيم ، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها ، وجعلها محلا للطائف والعاكف والراكع والساجد ، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها. والبيت هنا : الكعبة ، على قول الجمهور. وقيل : المراد البيت الحرام لا نفس الكعبة ، لأنه وصفه بالأمن ، وهذه صفة جميع الحرم ، لا صفة الكعبة فقط. ويجوز إطلاق البيت ، ويراد به كل الحرم. وأما الكعبة فلا تطلق إلا على البناء الذي يطاف به ، ولا تطلق على كل الحرم. والتاء في مثابة للمبالغة ، لكثرة من يثوب إليه ، قاله الأخفش ، أو لتأنيث المصدر ، أو لتأنيث البقعة ، كما يقال مقام ومقامة ، قال الشاعر :

ألم تر أن الأرض رحب فسيحة

فهل يعجزني بقعة من بقاعها

٦٠٧

ذكر رحبا على مراعاة المكان ، وأنث فسيحة على اللفظ. وقرأ الأعمش وطلحة : مثابات على الجمع ، وقال ورقة بن نوفل :

مثابا لا فناء القبائل كلها

تخب إليها اليعملات الطلائح

ويروى : الذوابل. ووجه قراءة الجميع أنه مثابة لكل من الناس ، لا يختص به واحد منهم ، (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ). ومثابة ، قال مجاهد وابن جبير معناه : يثوبون إليه من كل جانب ، أي يحجونه في كل عام ، فهم يتفرّقون ، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم ، ولا يقضي أحد منهم وطرا ، وقال الشاعر :

جعل البيت مثابا لهم

ليس منه الدهر يقضون الوطر

وقال ابن عباس : معاذا وملجأ. وقال قتادة والخليل : مجمعا. وقال بعض أهل اللغة ، فيما حكاه الماوردي : أي مكان. إثابة : واحدة من الثواب ، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالا منه. والألف واللام في قوله للناس : أما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان ، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك. وجعلنا هنا بمعنى صيرنا ، فمثابة مفعول ثان. وقيل : جعل هنا بمعنى : خلق ، أو وضع ، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره : مثابة كائنة ، إذ هو في موضع الصفة. وقيل : يتعلق بلفظ جعلنا ، أي لأجل الناس. والأمن : مصدر جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن ، أو على حذف مضاف ، أي ذا أمن ، أو على أنه أطلق على اسم الفاعل مجازا ، أي آمنا ، كما قال تعالى : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (١) ، وجعله آمنا ، اختلفوا ، هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة؟ فمن قال : إنه في الدنيا ، فقيل معناه : أن الناس كانوا يقتتلون ، ويغير بعضهم على بعض حول مكة ، وهي آمنة من ذلك ، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه ، لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة ، وجعلها أمنا للناس والطير والوحش ، إلا الخمس الفواسق ، فخصصت من ذلك على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما من أحدث حدثا خارج الحرم ، ثم أتى الحرم ، ففي أمنه من أن يهاج فيه خلاف مذكور في الفقه. وقيل معناه : إنه آمن لأهله ، يسافر أحدهم الأماكن البعيدة ، فلا يروعه أحد. وقيل : معناه : إنه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه وبين من قصده. ومن قال هذا الأمن في الآخرة ، قيل : من المكر عند الموت. وقيل : من عذاب النار. وقيل : من بخس ثواب من

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٢٦.

٦٠٨

قصده ، قال قوم : وهذا الأمن مختص بالبيت. وقيل : يشمل البيت والحرم. وقال في ريّ الظمآن معناه : ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكان البوادي وسائر بلدان العرب. والظاهر أن قوله : وأمنا ، معطوف على قوله : مثابة ، ويفسر الأمن بما تقدّم ذكره. وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر ، التقدير : واجعلوه آمنا ، أي جعلناه مثابة للناس ، فاجعلوه آمنا لا يتعدّى فيه أحد على أحد. فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمنا من الغارة والقتل ، وكان البيت محرّما بحكم الله ، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ : واتخذوا على الأمر ، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل ، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية ، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات.

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) : قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، والجمهور : واتخذوا ، بكسر الخاء على الأمر. وقرأ نافع ، وابن عامر : بفتحها ، جعلوه فعلا ماضيا. فأما قراءة : واتخذوا على الأمر ، فاختلف من المواجه به ، فقيل : إبراهيم وذريته ، أي وقال الله لإبراهيم وذريته : اتخذوا. وقيل : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، أي : وقلنا اتخذوا. ويؤيده ما روي عن عمر أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، فذكر منها وقلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى! وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أخذ بيد عمر فقال : «هذا مقام إبراهيم» ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى؟ فقال : «لم أومر بذلك». فلم تغب الشمس حتى نزلت. وعلى هذين القولين يكون اتخذوا معمولا لقول محذوف. وقيل : المواجه به بنو إسرائيل ، وهو معطوف على قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) (١). وقيل : هو معطوف على قوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً) ، قالوا : لأن المعنى : ثوبوا إلى البيت ، فهو معطوف على المعنى. وهذان القولان بعيدان. وأما قراءة : واتخذوا ، بفتح الخاء ، فمعطوف على ما قبله ، فأما على مجموع ، إذ جعلنا فيحتاج إلى إضمار إذ ، وأما على نفس جعلنا ، فلا يحتاج إلى تقديرها ، بل يكون في صلة إذ. والمعنى : واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به ، وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها ، قاله الزمخشري. من مقام : جوّزوا في من أن تكون تبعيضية ، وبمعنى في ، وزائدة على مذهب الأخفش ، والأظهر الأول. وقال القفال : هي مثل اتخذت من فلان صديقا ، وأعطاني الله من فلان أخا صالحا ، دخلت من لبيان المتخذ الموهوب ، وتميزه في ذلك المعنى والمقام

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٤٠.

٦٠٩

مفعل من القيام ، يراد به المكان ، أي مكان قيامه ، وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت ، وغرقت قدماه فيه ، قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم ، وخرجه البخاري ، وهو الآن موضع ذلك الحجر والمسمى مقام إبراهيم. وعن عمر أنه سأل المطلب بن أبي رفاعة : هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال نعم ، فأراه موضعه اليوم. قال أنس : رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، حكاه القشيري. أو حجر جاءت به أم إسماعيل إليه وهو راكب ، فاغتسل عليه ، فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه ، قاله الربيع بن أنس ؛ أو مواقف الحج كلها ، قاله ابن عباس أيضا وعطاء ومجاهد ، أو عرفة والمزدلفة والجمار ، قاله عطاء والشعبي ، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها ؛ أو الحرم كله ، قاله النخعي ومجاهد ؛ أو المسجد الحرام ، قاله قوم. واتفق المحققون على القول الأول ورجح بحديث عمر : أفلا نتخذه مصلى؟ الحديث ، وبقراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من الطواف وأتى المقام : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) ، فدل على أن المراد منه ذلك الموضع ، ولأن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع ، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه ، وفي ذلك معجزة له ، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره. فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى ، ولأن المقام هو موضع القيام ، وثبت قيامه على الحجر ولم يثبت على غيره. مصلى : قبلة ، قاله الحسن. موضع صلاة ، قاله قتادة. موضع دعاء ، قاله مجاهد ، والأولى الحمل على الصلاة الشرعية لا على الصلاة لغة. قال ابن عطية : موضع صلاة على قول من قال المقام : الحجر ، ومن قال غيره قال : مصلى ، مدعى على أصل الصلاة ، يعني في اللغة. انتهى.

(وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أي أمرنا أو وصينا ، أو أوحينا ، أو قلنا أقوال متقاربة المعنى. (أَنْ طَهِّرا) : يحتمل أن تكون أن تفسيرية ، أي طهرا ، ففسر بها العهد ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، أي بأن طهرا. فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب ، وعلى الثاني يحتمل الجرّ والنصب على اختلاف النحويين. إذا حذف من أن حرف الجر ، هل المحل نصب أو خفض؟ وقد تقدّم لنا الكلام مرة في وصل أن بفعل الأمر ، وأنه نص على ذلك سيبويه وغيره ، وفي ذلك نظر ، لأن جميع ما ذكر من ذلك محتمل ، ولا أحفظ من كلامهم : عجبت من أن أضرب زيدا ، ولا يعجبني أن أضرب زيدا ، فتوصل بالأمر ، ولأن انسباك المصدر يحيل معنى الأمر ويصيره مستندا إليه وينافي ذلك الأمر. والتطهير : المأمور

٦١٠

به هو التنظيف من كل ما لا يليق به. وقد فسروا التطهير بالبناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد ، قاله السدّي ، وهو بعيد ، وبالتطهير من الأوثان. وذكروا أنه كان عامرا على عهد نوح ، وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم ، وأنه طال العهد ، فعبدت من دون الله ، فأمر الله بتطهيره من تلك الأوثان ، قاله جبير ومجاهد وعطاء ومقاتل. والمعنى : أنه لا ينصب فيه وثن ، ولا يعبد فيه غير الله. وقال يمان : معناه بخّراه ونظفاه وخلقاه. وقيل : من الآفات والريب. وقيل : من الكفار. وقيل : من الفرث والدم الذي كان يطرح فيه. وقيل : معناه أخلصاه لهؤلاء ، لا يغشاه غيرهم ، والأولى حمله على التطهير مما لا يناسب بيوت الله ، فيدخل فيه الأوثان والإنجاس ، وجميع الخبائث ، وما يمنع منه شرعا ، كالحائض.

(بَيْتِيَ) : هذه إضافة تشريف ، لا أن مكانا محل لله تعالى ، ولكن لما أمر ببنائه وتطهيره وإيفاد الناس من كل فج إليه ، صار له بذلك اختصاص ، فحسنت إضافته إلى الله بذلك ، وصار نظير قوله : (ناقَةُ اللهِ) (١) و (رَوْحِ اللهِ) (٢) ، من حيث أن في كل منهما خصوصية لا توجد في غيره ، فناسب الإضافة إليه تعالى. والأمر بتطهيره يقتضي سبق وجوده ، إلا إذا حملنا التطهير على البناء والتأسيس على الطهارة والتقوى. وقد تقدّم أنه كان مبنيا على عهد نوح. (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ) : ظاهره أنه كل من يطوف من حاضر أو باد ، قاله عطاء وغيره. وقال ابن جبير : الغرباء الطارئون على مكة حجاجا وزوّارا ، فيرحلون عن قريب ، ويؤيده أنه ذكر بعده. والعاكفين ، قال : وهم أهل البلد الحرام المقيمون ، والمقيم مقابل المسافر. وقال عطاء : العاكفون هم الجالسون من غير طواف من بلديّ وغريب. وقال مجاهد : المجاورون له من الغرباء. وقال ابن عباس : المصلون ، لأن الذي يكون يدخل إلى البيت ، إنما يدخل لطواف أو صلاة. وقيل : هم المعتكفون. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالعاكفين : الواقفين ، يعني القائمين ، كما قال للطائفين والقائمين والركع السجود. والمعنى للطائفين والمصلين ، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي. انتهى. ولو قال : القائم هنا معناه : العاكف ، من قوله : ما دمت عليه قائما ، لكان حسنا ، ويكون في ذلك جمع بين أحوال من دخل البيت للتعبد ، لأنه لا يخلو إذ ذاك من طواف أو اعتكاف أو صلاة ، فيكون حمله على ذلك أجمع لما هيىء البيت له.

(وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) : هم المصلون عند الكعبة ، قاله عطاء وغيره. وقال الحسن : هم

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٧٣.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٨٧.

٦١١

جميع المؤمنين ، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي ، لأنهما أقرب أحواله إلى الله ، وقدّم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان ، وجمعا جمع تكسير لمقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة ، فكان ذلك تنويعا في الفصاحة ، وخالف بين وزني تكسيرهما تنويعا في الفصاحة أيضا ، وكان آخرهما على فعول ، لا على فعل ، لأجل كونها فاصلة ، والفواصل قبلها وبعدها آخر ما قبله حرف مدّ ولين ، وعطفت تينك الصفتان لفرط التباين بينهما بأي تفسير فسرتهما مما سبق. ولم يعطف السجود على الركع ، لأن المقصود بهما المصلون. والركع والسجود ، وإن اختلفت هيآتهما فيقابلهما فعل واحد وهو الصلاة. فالمراد بالركع السجود : المصلون ، فناسب أن لا يعطف ، لئلا يتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها ، وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة ، وليس كذلك. وفي قوله : (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) دلالة على جواز الصلاة في البيت فرضا ونفلا ، إذ لم يخصص.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) : ذكروا أن العامل في إذا ذكر محذوفة ، ورب : منادى مضاف إلى الياء ، وحذف منه حرف النداء ، والمضاف إلى الياء فيه لغات ، أحسنها : أن تحذف منه ياء الإضافة ، ويدل عليها بالكسرة ، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف. ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو ، وسيأتي منها في القرآن شيء ، ونتكلم عليه في مكانه ، إن شاء الله تعالى. وناداه بلفظ الرب مضافا إليه ، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته. واجعل هنا بمعنى : صير ، وصورته أمر ، وهو طلب ورغبة. وهذا إشارة إلى الوادي الذي دعا لأهله حين أسكنهم فيه ، وهو قوله : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) (١) ، أو إلى المكان الذي صار بلدا ، ولذلك نكره فقال : (بَلَداً آمِناً). وحين صار بلدا قال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي) (٢) ، وقال : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (٣) ، هذا إن كان الدعاء مرتين في وقتين. وقيل : الآيتان سواء ، فتحتمل آية التنكير أن يكون قبلها معرفة محذوفة ، أي اجعل هذا البلد بلدا آمنا ، ويكون بلدا النكرة ، توطئة لما يجيء بعده ، كما تقول : كان هذا اليوم يوما حارا ، فتكون الإشارة إليه في الآيتين بعد كونه بلدا. ويحتمل وجها آخر وهو : أنه لا يكون محذوف ولا يكون إذ ذاك بلدا ، بل دعى له بذلك ، وتكون المعرفة الذي جاء في قوله : (هَذَا الْبَلَدَ) ، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلدا. ووصف بلد بآمن ، إما

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٧.

(٢) سورة ابراهيم : ١٤ / ٣٥.

(٣) سورة البلد : ٩٠ / ١.

٦١٢

على معنى النسب ، أي ذا أمن ، كقولهم : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (١) ، أي ذات رضا ، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمنا كقولهم : نهارك صائم وليلك قائم. وهل الدعاء بأن يجعله آمنا من الجبابرة والمسلطين ، أو من أن يعود حرمه حلالا ، أو من أن يخلو من أهله ، أو آمنا من القتل ، أو من الخسف والقذف ، أو من القحط والجذب ، أو من دخول الدجال ، أو من أصحاب الفيل؟ أقوال. ومن فسر آمنا بكونه آمنا من الجبابرة ، فالواقع يرده ، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا ، كعمرو بن لحي الجرهمي ، والحجاج بن يوسف ، والقرامطة ، وغيرهم. وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب ، فهي أكثر بلاد الله قحطا وجدبا. وقال القفال : معناه مأمونا فيه ، وكانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن ، حتى أن أحدهم إذا وجد بمفازة أو برّية ، لا يتعرض إليه عند ما يعلم أنه من سكان الحرم.

(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) : لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة ، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة ، دعا الله للبلد بالأمن ، وبأن يجبى له الأرزاق. فإنه إذا كان البلد ذا أمن ، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح. ولما سمع في الإمامة قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). قيد هنا من سأل له الرزق فقال : (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، والضمير في منهم عائد على أهله. دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب ، لأن الكافر لا يدعى له بذلك. ألا ترى أن قريشا لما طغت ، دعا عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين ، كسني يوسف» ، وكانت مكة إذ ذاك قفرا ، لا ماء بها ولا نبات ، كما قال : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) فبارك الله فيما حولها ، كالطائف وغيره ، وأنبت الله فيه أنواعا من الثمر. وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم ، أمر جبريل فاقتلع فلسطين ، وقيل : بقعة من الأردن ، فطاف بها حول البيت سبعا ، فأنزلها بواد ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف ، وقال بعضهم :

كل الأماكن إعظاما لحرمتها

تسعى لها ولها في سعيها شرف

وذكر متعلق الإيمان ، وهو الله تعالى واليوم الآخر ، لأن في الإيمان بالله إيمانا بالصانع الواجب الوجود ، وبما يليق به تعالى من الصفات ، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبرا

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٢١.

٦١٣

صادقا به ، وهم الأنبياء. فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، وبما جاءوا به. فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به ، اقتصر على ذلك ، لأن غيره في ضمنه. ودعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم ، ولا يختص ذلك بذريته ، وإن كان ظاهر قوله : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) مختصا بذريته لقوله : (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) لعود الضمير في وارزقهم عليه ، فيحتمل أن يكونا سؤالين. ومن : في قوله : من الثمرات للتبعيض ، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات. وقيل : هي لبيان الجنس ، ومن بدل من أهله ، بدل بعض من كل ، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه ، وفائدته أنه يصير مذكورا مرتين : إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه ، والثانية بالتنصيص عليه ، وتبيين أن المبدل منه إنما عنى به وأريد البدل فصار مجازا ، إذ أريد بالعام الخاص. هذه فائدة هذين البدلين ، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم ، وهو البدل ، إذ ذكر مرتين.

(قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) : قرأ الجمهور من السبعة : فأمتعه ، مشدّدا على الخبر. وقرأ ابن عامر : فأمتعه ، مخففا على الخبر. وقرأ هؤلاء : ثم اضطره خبرا. وقرأ يحيى بن وثاب : فأمتعه مخففا ، ثم أضطره بكسر الهمزة ، وهما خبران. وقرأ ابن محيصن : ثم أضطره ، بإدغام الضاد في الطاء خبرا. وقرأ يزيد بن أبي حبيب : ثم اضطره بضم الطاء ، خبرا. وقرأ أبي بن كعب : فنمتعه ثم نضطره بالنون فيهما. وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما : (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) على صيغة الأمر فيهما ، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في : قال ، عائدا على إبراهيم ، لما دعا للمؤمنين بالرزق ، دعا على الكافرين بالإمتاع القليل والإلزاز إلى العذاب. ومن : على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع ، على أن تكون موصولة أو شرطية ، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضا. وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في : قال ، عائدا على الله تعالى ، ومن : يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره : قال الله وارزق من كفر فأمتعه ، ويكون فأمتعه معطوفا على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن. ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء ، إما موصولا ، وإما شرطا ، والفاء جواب الشرط ، أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط. ولا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطا ، لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط ، لا الفعل الواقع جزاء ، ولا إذا

٦١٤

كانت موصولة ، لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيها ، للموصول باسم الشرط. فكما لا يفسر الجزاء ، كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء. وأما إذا كان أمرا ، أعني الخبر نحو : زيدا فاضربه ، فيجوز أن يفسر ، ولا يجوز أن تقول : زيدا فتضربه على الاشتغال ، ولجواز : زيدا فاضربه على الأمر ، علة مذكورة في كتب النحو. قال أبو البقاء : لا يجوز أن تكون من مبتدأ ، وفأمتعه الخبر ، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها ، إلا إذا كان الخبر مستحقا لصلتها ، كقولك : الذي يأتيني فله درهم. والكفر لا يستحق به التمتع. فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز ، أو الخبر محذوفا ، وفأمتعه دليل عليه جاز ، تقديره : ومن كفر أرزقه فأمتعه. ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وقيل : الجواب محذوف تقديره : ومن يكفر ارزق. ومن على هذا رفع بالابتداء ، ولا يجوز أن تكون منصوبة ، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها ، بل الشرط. انتهى كلامه. وقوله أولا لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح ، لأن الخبر مستحق بالصلة ، لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر. ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضا. فلو كان التمتع قليلا ليس مستحقا بالصلة ، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة ، ناسب أن يقع خبرا من حيث وقع جزاء ، وقد جوّز هو ذلك. وأما تقدير زيادة الفاء ، وإضمار الخبر ، وإضمار جواب الشرط ، إذا جعلنا من شرطية ، فلا حاجة إلى ذلك ، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار. وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها ، ونحن ننزه القرآن عن ذلك. وقال الزمخشري : ومن كفر : عطف على من آمن ، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك. انتهى كلامه. وتقدم لنا الردّ عليه في زعمه أن ومن ذريتي عطف على الكاف في جاعلك. وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح ، لأنه يتنافى في تركيب الكلام ، لأنه يصير المعنى : قال إبراهيم : وارزق من كفر ، لأنه لا يكون معطوفا عليه حتى يشركه في العامل ، ومن آمن العامل فيه فعل الأمر ، وهو العامل في ومن كفر. وإذا قدرته أمرا ، تنافي مع قوله : فأمتعه ، لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبة التمتع وإلجائهم إليه تعالى ، وأن كلا من الفعلين يضمن ضمير الله تعالى ، وذلك لا يجوز إلا على بعد ، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى ، أي قال إبراهيم : وارزق من كفر ، فقال الله : أمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار. ثم ناقض الزمخشري قوله هذا ، أنه عطف على من ، كما عطف

٦١٥

ومن ذريتي على الكاف في جاعلك فقال : فإن قلت : لم خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه؟ قلت : قاس الرزق على الإمامة ، فعرف الفرق بينهما ، لأن الاستخلاف استرعاء مختص بمن ينصح للمرعى. وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ، بخلاف الرزق ، فإنه قد يكون استدراجا للمرزوق وإلزاما للحجة له. والمعنى : وارزق من كفر فأمتعه. انتهى كلامه. فظاهر قوله والمعنى : وارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال ، ومن كفر عائد على الله ، وأن من كفر منصوب بارزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى الله تعالى ، وهو يناقص ما قدم أولا من أن من كفر معطوف على من آمن. وفي قوله خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه سوء أدب على الأنبياء ، لأنه لم يرد عليه ، لأنه لا يدعي ، ويرغب في أن يرزق الكافر ، بل قوله تعالى : (قالَ وَمَنْ كَفَرَ) ، إخبار من الله تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل والصيرورة إلى النار ، وليس هنا قياس الرزق على الإمامة ، ولا تعريف الفرق بينهما ، كما زعم.

وقد تقدم تفسير المتاع ، وأنه كل ما انتفع به ، وفسر هنا التمتيع والإمتاع بالإبقاء ، أو بتيسير المنافع ، ومنه متاع الحياة الدنيا ، أي منفعتها التي لا تدوم ، أو بالتزويد ، ومنه : فمتعوهن ؛ أي زوّدوهنّ نفقة. والمتعة : ما يتبلغ به من الزاد ، والجمع متع ، ومنه : متاعا لكم. وللسيارة والهمزة في أمتع يجعل الشيء صاحب ما صيغ منه : أمتعت زيدا ، جعلته صاحب متاع ، كقولهم : أقبرته وأنعلته ، وكذلك التضعيف في متع هو : يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو قولهم : عدلته. وليس التضعيف في متع يقتضي التكثير ، فينافي ظاهر ذلك القلة ، فيحتاج إلى تأويل ، كما ظنه بعضهم وتأوّله على أن الكثرة بإضافة بعضها إلى بعض ، والقلة بالإضافة إلى نعيم الآخرة. فقد اختلفت جهتا الكثرة والقلة فلم يتنافينا. وانتصاب قليلا على أنه صفة لظرف محذوف ، أي زمانا قليلا ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي تمتيعا قليلا ، على تقدير الجمهور ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف ، الدال عليه الفعل ، وذلك على مذهب سيبويه. والوصف بالقلة لسرعة انقضائه ، إما لحلول الأجل ، وإما بظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقتله ، أو يخرجه عن هذا البلد ، إن أقام على الكفر والإمتاع بالنعيم والزينة ، أو بالإمهال عن تعجيل الانتقام فيها ، أو بالرزق ، أو بالبقاء في الدنيا ، أقوال للمفسرين. وقراءة يحيى بن وثاب : ثم اضطره بكسر الهمزة. قال ابن عطية ، على لغة قريش ، في قولهم : لا إخال ، يعني بكسر الهمزة. وظاهر هذا النقل في أن ذلك ، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو اضطر ، وهو ما أوله همزة

٦١٦

وصل. وفي نحو إخال ، وهو افعل المفتوح العين من فعل المكسور العين مخالف لما نقله النحويون. فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوّله همزة وصل ، ومما كان على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها ، أو ذا ياء مزيدة في أوله ، وذلك نحو : علم يعلم ، وانطلق ينطلق ، وتعلم بتعلم ، إلا إن كان حرف المضارعة ياء ، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء ، بل يفتحها. وفي مثل يوجل بالياء مضارع وجل ، مذاهب تذكر في علم النحو ، وإنما المقصود هنا : أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة ، إلا إن كان نقل أن إخال بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره ، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب ، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحا.

وقد تقدم لنا في سورة الحمد في قوله : (نَسْتَعِينُ) أن الكسرة لغة قيس وتميم وأسد وربيعة. وقد أمعنا الكلام على ذلك في (كتاب التكميل لشرح كتاب التسهيل) من تأليفنا. وقراءة ابن محيصن : ثم اطره ، بإدغام الضاد في الطاء. قال الزمخشري : هي لغة مرذولة ، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها ، ولا تدغم هي فيما يجاورها ، وهي حروف ضم شفر. انتهى كلامه. إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب ، فالأوجه البيان ، وإن أدغم قلب الثاني للأول فقيل : مضرب ، كما قيل : مصبر في مصطبر. قال سيبويه : وقد قال بعضهم : مطجع ، في مضطجع ومضجع أكثر ، وجاز مطجع ، وإن لم يجز في مصطبر مطبر ، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد ، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد. فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة ، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع ، وإلى قوله : ومضجع أكثر ، فيدل على أن مطجعا كثير؟ وألا ترى إلى تعليله ، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت ، ولم يفعل ذلك بالصاد ، وإبداء الفرق بينهما؟ وهذا كله من كلام سيبويه ، يدل على الجواز. وقد أدغمت الضاد في الذال في قوله تعالى : (الْأَرْضَ ذَلُولاً) (١) ، رواه اليزيدي ، عن أبي عمرو ، وهو ضعيف. وفي الشين في قوله تعالى : (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) (٢) ، (وَالْأَرْضِ شَيْئاً) (٣) ، وهو ضعيف أيضا. وأما الشين فأدغمت في السين. روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى : (إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (٤) ، والبصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو ، وهو رأس من رؤوس

__________________

(١) سورة الملك : ٦٧ / ١٥.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٦٢.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٧٣.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٤٢.

٦١٧

البصريين. وأما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ) (١) ، وهو إمام الكوفيين. وأما الراء ، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها ، ولا في النون. وأجاز ذلك في اللام : يعقوب ، وأبو عمرو ، والكسائي ، والفراء ، وأبو جعفر الرؤاسي ، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الكوفيين ، حكوه سماعا عن العرب. وإنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها ، وذكر الخلاف فيها ، لئلا يتوهم من قول الزمخشري : لا تدغم فيما يجاورها ، أنه لا يجوز ذلك بإجماع من النحويين. فأوردت هذا الخلاف فيها ، تنبيها على أن ذلك ليس بإجماع ، إذ إطلاقه يدل على المنع البتة. وقراءة ابن أبي حبيب : بضم الطاء ، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء ، وهو شاذ. وأما قراءة أبي بالنون فيهما ، فهي مخالفة لرسم المصحف ، فهي شاذة. وقراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير قال على سبيل التوكيد ، أو ليكون ذلك جملتين ، جملة بالدعاء لمن آمن ، وجملة بالدعاء على من كفر ، فلا يندرجان تحت معمول واحد ، بل أفرد كلا بقول. واضطره على هذه القراءة ، هو بفتح الراء المشدّدة ، كما تقول : عضه بالفتح ، وهذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين ، لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك. ولو قرأ على لغة قومه ، لكان اضطره إلى عذاب يتعلق بقوله : ثم أضطره. ومعنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ ويلز إلى العذاب ، بحيث لا يجد محيصا عنه إذا حد ، لا يؤثر دخول النار ولا يختاره. ومفهوم الشرط هنا ملغى ، إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى ، أي وبئس المصير النار ، إن كان المصير اسم مكان ، وإن كان مصدرا على رأي من أجاز ذلك فالتقدير : وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ) : هذه الجملة معطوفة على ما قبلها ، فالعامل في إذ ما ذكر أنه العامل في إذ قبلها. ويرفع في معنى رفع ، وإذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي ، لأنها ظرف لما مضى من الزمان. والرفع حالة الخطاب قد وقع. وقال الزمخشري : هي حكاية حال ماضية ، وفي ذلك نظر. من البيت : هو الكعبة. ذكر المفسرون في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه ، ومن أي شيء كان باباه ، وكم مرة حجه آدم ، ومن أي شيء بناه إبراهيم ، ومن ساعده على البناء ، قصصا كثيرة. واستطردوا من ذلك للكلام في البيت المعمور ، وفي طول آدم ، والصلع الذي عرض له ولولده ، وفي

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٩.

٦١٨

الحجر الأسود ، وطولوا في ذلك بأشياء لم يتضمنها القرآن ولا الحديث الصحيح. وبعضها يناقض بعضا ، وذلك على جري عاداتهم في نقل ما دب وما درج. ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما صح في كتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عطية : والذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع القواعد من البيت ونشاحه في قوله : أمر ، إذ لم يأت النص بأن الله أمر بذلك. (الْقَواعِدَ) : تقدّم تفسيرها في الكلام على المفردات ، وهل هي الأساس أو الجدر؟ فإن كانت الأساس ، فرفعها بأن يبني عليها ، فتنتقل من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، وتتطاول بعد التقاصر. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المراد بها ساقات البناء ، ويجوز أن يكون المعنى ما قعد من البيت ، أي استوطىء ، يعني جعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء.

(مِنَ الْبَيْتِ) : يحتمل أن يكون متعلقا بيرفع ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من القواعد ، فيتعلق بمحذوف تقديره : كائنة من البيت. ولم تضف القواعد إلى البيت ، فكان يكون الكلام قواعد البيت ، لما في عدم الإضافة من الإيضاح بعد الإبهام وتفخيم شأن المبين. (وَإِسْماعِيلُ) : معطوف على إبراهيم ، فهما مشتركان في الرفع. قيل : كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. وقال عبيد بن عمير : رفع إبراهيم وإسماعيل معا ، وهذا ظاهر القرآن. وروي عن ابن عباس أن إسماعيل طفل صغير إذ ذاك ، كان يناوله الحجارة. وروي عن علي : أن إسماعيل كان إذ ذاك طفلا صغيرا ، ولا يصح ذلك عن عليّ. ومن جعل الواو في وإسماعيل واو الحال ، أعرب إسماعيل مبتدأ وأضمر الخبر ، التقدير : وإسماعيل يقول : ربنا تقبل منا ، فيكون إبراهيم مختصا بالبناء ، وإسماعيل مختصا بالدعاء. ومن ذهب إلى العطف ، جعل ربنا تقبل منا معمولا لقول محذوف عائد على إبراهيم وإسماعيل معا ، في موضع نصب على الحال تقديره : وإذ يرفعان القواعد قائلين ربنا تقبل منا. ويؤيد هذا التأويل أن العطف في وإسماعيل أظهر من أن تكون الواو واو الحال. وقراءة أبي وعبد الله يقولان بإظهار هذه الجملة ، ويجوز أن يكون القول المحذوف هو العامل في إذ ، فلا يكون في موضع الحال ، والمعنى : أنهما دعوا بذلك الدعاء وقت أن شرعا في رفع القواعد ، وفي ندائهما بلفظ ربنا تلطف واستعطاف بذكر هذه الصفة الدالة على التربية والإصلاح بحال الداعي.

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) : أي أعمالنا التي قصدنا بها طاعتك ، وتقبل بمعنى : اقبل ، فتفعل هنا بمعنى المجرد كقولهم : تعدّى الشيء وعداه ، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل.

٦١٩

والمراد بالتقبل : الإثابة ، عبر بإحدى المتلازمين عن الآخر ، لأن التقبل هو أن يقبل الرجل من الرجل ما يهدي إليه. فشبه الفعل من العبد بالعطية ، والرضا من الله تعالى بالتقبل توسعا. وحكى بعض المفسرين عن بعض الناس فرقا بين القبول والتقبل ، قال : التقبل تكلف القبول ، وذلك حيث يكون العمل ناقصا لا يستحق أن يقبل ، قال : فهذا اعتراف من إبراهيم وإسماعيل بالتقصير في العمل. ولم يكن المقصود إعطاء الثواب ، لأن كون الفعل واقعا موقع القبول من المخدوم ، ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه ، وسؤالهما التقبل بذلك ، على أن ترتيب الثواب على العمل ليس واجبا على الله تعالى ، انتهى ملخصا. ونقول : إن التقبل والقبول سواء بالنسبة إلى الله تعالى ، إذ لا يمكن تعقل التكليف بالنسبة إليه تعالى. وقد قدمنا أن تفعل هنا موافق للفعل المجرد الذي هو قبل.

(إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : يجوز في أنت الابتداء والفصل والتأكيد. وقد تقدّم الكلام في الفصل وفائدته ، وهو من المسائل التي جمعت فيها الكلام في نحو من سبعة أوراق أحكاما دون استدلال. وهاتان الصفتان مناسبتان هنا غاية التناسب ، إذ صدر منهما عمل وتضرع سؤال ، فهو السميع لضراعتهما وتسالهما التقبل ، وهو العليم بنياتهما في إخلاص عملهما. وتقدّمت صفة السمع ، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة نحو قوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (١). فأما الذين اسودت وتأخرت صفة العليم لكونها فاصلة ولعمومها ، إذ يشمل علم المسموعات وغير المسموعات. (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) : أي منقادين ، أو مخلصين أوجهنا لك من قوله : من أسلم وجهه ، أي أخلص عمله ، والمعنى : أدم لنا ذلك ، لأنهما كانا مسلمين ، ولك تفيد جهة الإسلام ، أي لك لا لغيرك. وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي : مسلمين على الجمع ، دعاء لهما وللموجود من أهلهما ، كهاجر ، وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية ، وقد قيل به هنا.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) : لما تقدّم الجواب له بقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، علم أن من ذريتهما الظالم وغير الظالم ، فدعا هنا بالتبعيض لا بالتعميم فقال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) ، وخص ذريته بالدعاء للشفقة والحنوّ عليهم ، ولأن في صلاح نسل الصالحين نفعا كثيرا لمتبعهم ، إذ يكونون سببا لصلاح من وراءهم. والذرية هنا ، قيل : أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدليل قوله : (وَابْعَثْ فِيهِمْ) (٢). وقيل : هم العرب ، لأنهم من ذريتهما. قال :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٦ / ١٠٦.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٢٩.

٦٢٠