البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

بفضل الله من وقع منه الإيمان وتحقق به وبالأعمال الصالحة. والصالحات : جمع صالحة ، وهي صفة جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل ، قال الحطيئة :

كيف الهجاء وما ينفك صالحة

من آل لام بظهر الغيب تأتيني

فعلى هذا انتصابها على أنها مفعول بها ، والألف واللام في الصالحات للجنس لا للعموم ، لأنه لا يكاد يمكن أن يعمل المؤمن جميع الصالحات ، لكن يعمل جملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف. والفرق بين لام الجنس إذا دخلت على المفرد ، وبينها إذا دخلت على الجمع ، أنها في المفرد يحتمل أن يراد بها واحد من الجنس ، وفي الجمع لا يحتمله. قال عثمان بن عفان : الصالح ما أخلص لله تعالى ، وقال معاذ بن جبل : ما احتوى على أربعة : العلم والنية والصبر والإخلاص ، وقال سهل بن عبد الله : ما وافق الكتاب والسنة ، وقال علي بن أبي طالب : الصلوات في أوقاتها وتعديل أركانها وهيآتها ، وقيل : الأمانة ، وقيل : التوبة والاختيار ، قول الجمهور : وهو كل عمل صالح أريد به الله. قال ابن عطية : وفي قوله تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ردّ على من يقول : إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات ، لأنه لو كان ذلك ما أعادها ، انتهى كلامه ، وفي ذلك أيضا دليل على أن الذين أمر الله بأن يبشروا هم من جمعوا بين الإيمان والأعمال الصالحات ، وأن من اقتصر على الإيمان فقط دون الأعمال الصالحات لا يكون مبشرا.

من هذه الآية : وبشر يتعدى لمفعولين : أحدهما بنفسه ، والآخر بإسقاط حرف الجر. فقوله : (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) هو في موضع هذا المفعول ، وجاز حذف حرف الجر مع أن قياسا مطردا ، واختلفوا بعد حذف الحرف ، هل موضع أن ومعموليها جر أم نصب؟ فمذهب الخليل والكسائي : أن موضعه جر ، ومذهب سيبويه والفراء : أن موضعه نصب ، والاستدلال في كتب النحو. وجنات : جمع جنة ، جمع قلة ، فروي عن ابن عباس أنها سبع جنات. وقال قوم : هي ثمان جنات. وزعم بعض المفسرين أن في تضاعيف الكتاب والسنة ما يدل على أنها أكثر من العدد الذي أشار إليه ابن عباس وغيره ، قال : فإنه قال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) (١) ، (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٢) ، (وَمِنْ دُونِهِما

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ٥٤.

(٢) سورة الرحمن : ٥٥ / ٤٦.

١٨١

جَنَّتانِ) (١) ، (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٢) ، (جَنَّاتِ عَدْنٍ) (٣). وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما ، وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» وهذا الذي أورده هذا المفسر لا يدل على أنها أكثر مما روي عن ابن عباس.

وقال الزمخشري : الجنة اسم لدار الثواب كلها ، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين ، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان ، انتهى كلامه. وقد دس فيه مذهبه الاعتزالي بقوله : على حسب استحقاق العاملين. وقد جاء في القرآن ذكر الجنة مفردة ومجموعة ، فإذا كانت مفردة فالمراد الجنس ، واللام في لهم للاختصاص ، وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود الضمير على الذين آمنوا ، فهو أسر للسامع ، والشائع أنه إذا كان الاسم نكرة تعين تقديمه أ(إِنَّ لَنا لَأَجْراً) (٤) ، ولم يذكر في الآية الموافاة على الإيمان فإن الردة تحبطه ، وذلك مفهوم من غير هذه الآية. وأما الزمخشري فجرى على مذهبه الاعتزالي من أنه يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل ، أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر ، وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية ، وزعم أن اشتراط ذلك كالداخل تحت الذكر.

وقد علم من مذهب أهل السنة أن من وافى على الإيمان فهو من أهل الجنة ، سواء كان مرتكبا كبيرة أم غير مرتكب ، تائبا أو غير تائب ، ومن قال : إن من زائدة والتقدير تجري تحتها ، أو بمعنى في ، أي في تحتها ، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية ، بل هي متعلقة بتجري ، وهي لابتداء الغاية. وإذا فسرنا الجنات بأنها الأشجار الملتفة ذوات الظل ، فلا يحتاج إلى حذف. وإذا فسرناها بالأرض ذات الأشجار ، احتاج ، إذ يصير التقدير من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها. وقيل : عبر بتحتها عن أسافلها وأصولها. وقيل : المعنى في تجري من تحتها : أي بأمر سكانها واختيارهم ، فعبر بتحتها عن قهرهم لها وجريانها على حكمهم ، كما قيل في قوله تعالى ، حكاية عن فرعون : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) (٥) ، أي بأمري وقهري. وهذا المعنى لا يناسب إلا لو كانت التلاوة : أن لهم جنات تجري من تحتهم ، فيكون نظير من تحتي إذا جعل على حذف مضاف ، أي من

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٦٢.

(٢) سورة النجم : ٥٣ / ١٥.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٧٢.

(٤) سورة الشعراء : ٢٦ / ٤١.

(٥) سورة الزخرف : ٤٣ / ٥١.

١٨٢

تحت أهلها ، استقام المعنى الذي ذكر أنه لا يناسب ، إذ ليس المعنى بأمر الجنات واختيارها. وقيل : المعنى في من تحتها : من جهتها. وقد روي عن مسروق : أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد ، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة. وإذا صح هذا النقل ، فهو أبلغ في النزهة ، وأحلى في المنظر ، وأبهج للنفس. فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره ، وأحسن البساتين ما كانت أشجاره ملتفة وظله ضافيا وماؤه صافيا منسابا على وجه أرضه ، لا سيما الجنة ، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ ، فتتكسر تلك المياه على ذلك الحصى ، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر ، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآلئ له خريرا ، قال شيخنا الأديب البارع أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي ، رحمه‌الله تعالى ، من كلمة :

وتحدث الماء الزلال مع الحصى

فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى

خرج الترمذي من حديث حكيم بن معاوية ، عن أبيه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة بحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر اللبن ، وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار بعده». ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (١) الآية. ولما كانت الجنة لا تشوق ، والروض لا يروق إلا بالماء الذي يقوم لها مقام الأرواح للأشباح ، ما كاد مجيء ذكرها إلا مشفوعا بذكر الأنهار ، مقدما هذا الوصف فيها على سائر الأوصاف. قال ابن عطية : نسب الجري إلى النهر ، وإنما يجري الماء وحده توسعا وتجوزا ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) ، وكما قال الشاعر :

نبئت أن النار بعدك أوقدت

واستب بعدك يا كليب المجلس

انتهى كلامه.

وناقض قوله هذا ما شرح به الأنهار قبله بنحو من خمسة أسطر قال : والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة ، انتهى كلامه. والألف واللام في الأنهار للجنس ، قال الزمخشري : أو يراد أنهارها ، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، كقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (٣) ، وهذا الذي ذكره الزمخشري ، وهو أن الألف واللام تكون عوضا من الإضافة ، ليس مذهب البصريين ، بل شيء ذهب إليه الكوفيون ، وعليه خرج

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ١٥.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٨٢.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٤.

١٨٣

بعض الناس قوله تعالى : (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (١) أي أبوابها. وأما البصريون فيتأولون هذا على غير هذا الوجه ويجعلون الضمير محذوفا ، أي الأبواب منها ، ولو كانت الألف واللام عوضا من الإضافة لما أتى بالضمير مع الألف واللام ، وقال الشاعر :

قطوب رحيب الجيب منها رقيقة

بجس الندامى بضة المتجرد

ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد الثابت في الذهن من الأنهار الأربعة المذكورة في سورة القتال. وجاء هذا الجمع بصيغة جمع القلة إشارة إلى الأنهار الأربعة ، إن قلنا : إن الألف واللام فيها للعهد ، أو إشارة إلى أنهار الماء ، وهي أربعة أو خمسة ، في الصحيح. إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الجنة فقال : «نهران باطنان : الفرات والنيل ، ونهران ظاهران : سيحان وجيحان». وفي رواية سيحون وجيحون ، وعن أنس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ماء الكوثر قال : «ذاك نهر أعطانيه الله تعالى ، يعني في الجنة ، ماؤه أشدّ بياضا من اللبن وأحلى من العسل» الحديث. وإن كانت أنهارا كثيرة فيكون ذلك من إجراء جمع القلة مجرى جمع الكثرة ، كما جاء العكس على جهة التوسع والمجاز لاشتراكهما في الجمعية.

(كُلَّما رُزِقُوا) ، تقدّم الكلام على كلما عند قوله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) ، وبينا كيفية التكرار فيها على خلاف ما يفهم أكثر الناس ، والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وأنه لما ذكر أن من آمن وعمل الصالحات لهم جنات صفتها كذا ، هجس في النفوس حيث ذكرت الجنة الحديث عن ثمار الجنات ، وتشوقت إلى ذكر كيفية أحوالها ، فقيل لهم : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) ، وأجيز أن تكون الجملة لها موضع من الإعراب : نصب على تقدير كونها صفة للجنات ، ورفع : على تقدير خبر مبتدأ محذوف. ويحتمل هذا وجهين : إما أن يكون المبتدأ ضميرا عائدا على الجنات ، أي هي (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها) ، أو عائدا على (الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي هم كلما رزقوا ، والأولى الوجه الأول لاستقلال الجملة فيه لأنها في الوجهين السابقين تتقدّر بالمفرد ، فهي مفتقرة إلى الموصوف ، أو إلى المبتدأ المحذوف. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الذين آمنوا تقديره مرزوقين على الدوام ، ولا يتم له ذلك إلا على تقدير أن يكون الحال مقدرة ، لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين على الدوام. وأجاز أيضا أن تكون حالا من جنات لأنها نكرة قد وصفت بقوله : تجري ، فقربت من المعرفة ، وتؤول أيضا إلى الحال المقدرة. والأصل في الحال أن تكون مصاحبة ، فلذلك اخترنا في إعراب هذه الجملة غير ما ذكره أبو

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٥٠.

١٨٤

البقاء. ومن : في قوله : منها ، هي لابتداء الغاية ، وفي : من ثمرة كذلك ، لأنه بدل من قوله : منها ، أعيد معه حرف كقوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) (١) ، على أحد الاحتمالين ، وكلتاهما تتعلق برزقوا على جهة البدل ، كما ذكرناه ، لأن الفعل لا يقضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف ، أو على طريقة البدل ، وهذا البدل هو بدل الاشتمال. وقد طول الزمخشري في إعراب قوله : من ثمرة ، ولم يفصح بالبدل ، لكن تمثيله يدل على أنه مراده ، وأجاز أن يكون من ثمرة بيانا على منهاج قولك : رأيت منك أسدا ، تريد أنت أسد ، انتهى كلامه. وكون من للبيان ليس مذهب المحققين من أهل العربية ، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك ، ولو فرضنا مجيء من للبيان ، لما صح تقديرها للبيان هنا ، لأن القائلين بأن من للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدرا لموصول صفة ، إن كان قبلها معرفة ، نحو : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (٢) ، أي الرجس الذي هو الأوثان ، وإن كان قبلها نكرة ، فهو يعود على تلك النكرة نحو : من يضرب من رجل ، أي هو رجل ، ومن هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بيانا له ، لا نكرة ولا معرفة ، إلا إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها ، وأن التقدير : كلما رزقوا منها رزقا من ثمرة ، فتكون من مبينة لرزقا ، أي : رزقا هو ثمرة ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهذا ينبغي أن ينزه كتاب الله عن مثله. وأما : رأيت منك أسدا ، فمن لابتداء الغاية أو للغاية ابتداء وانتهاء ، نحو : أخذته منك ، ولا يراد بثمرة الشخص الواحد من التفاح أو الرمان أو غير ذلك ، بل المراد ، والله أعلم ، النوع من أنواع الثمار. قال الزمخشري : وعلى هذا ، أي على تقدير أن تكون من بيانا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار ، والجنات الواحدة ، انتهى كلامه. وقد اخترنا أن من لا تكون بيانا فلا نختار ما ابتنى عليه ، مع أن قوله : والجنات الواحدة مشكل يحتاج فهمه إلى تأمل ، ورزقا هنا هو المرزوق ، والمصد فيه بعيد جدا لقوله : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ، فإن المصدر لا يؤتى به متشابها ، إنما هذا من الإخبار عن المرزوق لا عن المصدر.

(قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ، قالوا : هو العامل في كلما ، وهذا الذي : مبتدأ معمول للقول. فالجملة في موضع مفعول ، والمعنى : هذا ، مثل : الذي رزقنا ، فهو من باب أما الخبر شبه به المبتدأ ، وإنما احتيج إلى هذا الإضمار ، لأن الحاضر بين أيديهم في ذلك الوقت يستحيل أن يكون عين الذي تقدم إن رزقوه ، ثم هذه المثلية المقدرة حذفت

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٢٢.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٣٠.

١٨٥

لاستحكام الشبه ، حتى كأن هذه الذات هي الذات ، والعائد على الذي محذوف ، أي رزقناه ، ومن متعلقة برزقا ، وهي لابتداء الغاية. وقيل : مقطوع عن الإضافة ، والمضاف إليه معرفة محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره من قبله : أي من قبل المرزوق. واختلف المفسرون في تفسير ذلك ، فقال ابن عباس ، والضحاك ، ومقاتل : معناه رزق الغداة كرزق العشي. وقال يحيى بن أبي كثير ، وأبو عبيد : ثمر الجنة إذا جنى خلفه مثله ، فإذا رأوا ما خلف المجني اشتبه عليهم. فقالوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، وقال مجاهد ، وابن زيد : يعني بقوله : من قبل في الدنيا ، والمعنى أنه مثله في الصورة ، فالقبلية على القولين الأولين تكون في الجنة ، وعلى هذا القول تكون في الدنيا. وقال بعض المفسرين : معناه هذا الذي وعدنا في الدنيا أن نرزقه في الآخرة ، فعلى هذا القول يكون المبتدأ ، هو نفس الخبر ، ولا يكون التقدير مثل : وعبر عن الوعد بمتعلقه وهو الرزق ، وهو مجاز ، فلصدق الوعد به صار كأنهم رزقوه في الدنيا ، وكون الخبر يكون غير المبتدأ أيضا مجاز ، إلا أن هذا المجاز أكثر وأسوغ. وعلى هذا القول تكون القبلية أيضا في الدنيا ، لأن الوعد وقع فيها إلا أن كون القبلية في الدنيا يبعده دخول من على قبل لأنها لابتداء الغاية ، فهذا موضع قبل لا موضع من ، لأن بين الزمانين تراخيا كثيرا ، ومن تشعر بابتداء القبلية فتنافي التراخي والابتداء. وإذا كانت القبلية في الآخرة كان في ذلك إشكال من حيث أن الرزق الأول الذي رزقوه لا يكون له مثل رزقوه قبل لأن الفرض أنه أول ، فإذا كان أول لم يكن قبله شيء رزقوه. قال ابن عطية : هذا إشارة إلى الجنس ، أي هذا من الجنس الذي رزقناه من قبل ، انتهى كلامه. وليس هذا إشارة إلى الجنس ، بل هذا إشارة إلى الرزق. وكيف يكون إشارة إلى الجنس وقد فسر قوله بعد من الجنس الذي رزقناه من قبل؟ فكأنه قال : هذا الجنس من الجنس الذي رزقنا من قبل ، وأنت ترى هذا التركيب كيف هو. ولعل الناقل صحف مثل بمن ، فكان التقدير هذا الجنس مثل الجنس الذي رزقنا من قبل ، وإلا ظهر أنه تصحيف ، لأن لتقدير من الجنس بعيد ، وإنما يصح ذلك على ضرب من التجوز من إطلاق كل ، ويراد به بعض فتقول : هذا من بني تميم ، ثم تتجوز فتقول : هذا بنو تميم ، تجعله كل بني تميم مجازا توسعا. ومعمول القول جملة خبرية يخاطب بها بعضهم بعضا ، وليس ذلك على معنى التعجب ، قاله : جماعة. وقال ابن عباس : يقولون ذلك على طريق التعجب. قال الحسن ومجاهد : يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها ، والطعم مختلف ، فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضا.

١٨٦

قال ابن عباس : ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء ، وأما الذوات فمتباينة. وقراءة الجمهور : وأتوا مبنيا للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، وهو الخدم والولدان. يبين ذلك قراءة هارون الأعور والعتكي. وأتوا به على الجمع ، وهو إضمار لدلالة المعنى عليه. ألا ترى إلى قوله تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) (١) إلى قوله تعالى : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (٢)؟ فدل ذلك على أن الولدان هم الذين يأتون بالفاكهة ، والضمير في قوله تعالى : به ، عائد على الرزق ، أي : وأتوا بالرزق الذي هو من الثمار ، كما أن هذا إشارة إليه. قال الزمخشري : فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : وأتوا به؟ قلت : إلى المرزوق في الدنيا والآخرة ، لأن قوله : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين ، انتهى كلامه. أي لما كان التقدير هذا مثل الذي رزقناه كان قد انطوى على المرزوقين معا. ألا ترى أنك إذا قيل : زيد مثل حاتم ، كان منطويا على ذكر زيد وحاتم؟ وما ذكره الزمخشري غير ظاهر الآية ، لأن ظاهر الكلام يقتضي أن يكون الضمير عائدا على مرزوقهم في الآخرة فقط ، لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل ، مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين أن لا يعود الضمير إلا إلى المرزوق في الجنة ، كأنه قال : وأتوا بالمرزوق في الجنة متشابها ، ولا سيما إذا أعربت الجملة حالا ، إذ يصير التقدير قالوا : هذا مثل الذي رزقنا من قبل. وقد أتوا به متشابها ، أي قالوا ذلك في هذه الحال ، وكان الحامل على القول المذكور كونه أتوا به متشابها. ومجيء الجملة المصدرة بماض حالا ومعها الواو على إضمار قد جائز في فصيح الكلام.

قال تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (٣) أي وقد كنتم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا ، أي وقد قعدوا. وقال الذي نجا منهما : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (٤) أي وقد ادّكر إلى غير ذلك مما خرج على أنه حال ، وكذلك أيضا لا يستقيم عوده إلى المرزوق في الدارين إذا كانت الجملة معطوفة على قوله تعالى : (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضيا معنى لازما في حيز كلما ، والعامل فيها يتعين هنا أن يكون مستقبل المعنى ، وإن كان ماضي اللفظ لأنها لا تخلوا من معنى الشرط. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة تضمنت الإخبار عن الإتيان بهذا الذي رزقوه متشابها. وقول

__________________

(١) سورة الواقعة : ٥٦ / ١٧ ـ ١٨.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٢٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٨.

(٤) سورة يوسف : ١٢ / ٤٥.

١٨٧

الزمخشري في عوده الضمير إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لا يظهر أيضا ، لأن هذه الجمل إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها ، وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ، ليس من حديث الجنة إلا بتكلف. فالظاهر ما ذكرناه أولا من عود الضمير إلى الذي أشير إليه بهذا فقط ، وانتصب متشابها على الحال من الضمير في به ، وهي حال لازمه ، لأن التشابه ثابت له ، أتوا به أو لم يؤتوا ، والتشابه قيل : في الجودة والخيار ، فإن فواكه الجنة ليس فيها رديء ، قاله قتادة ، وذلك كقوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً) (١) ، قال ابن عطية : كأنه يريد متناسبا في أن كل صنف هو أعلى جنسه ، فهذا تشابه ما أو في اللون ، وهو مختلف في الطعم ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد ، أو في الطعم واللذة والشهوة ، وإن اختلفت ألوانه ، أو متشابه بثمر الدنيا في الاسم مختلف في اللون والرائحة والطعم ، أو متشابه بثمر الدنيا في الصورة لا في القدر والطعم ، قاله عكرمة وغيره. وروى ابن المبارك حديثا يرفعه. قال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم.

أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله ، ذكر الله في الجنة شجرة مؤذية ، وما كنت أرى في الجنة شجرة مؤذية تؤذي صاحبها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هي؟» قال : السدرة ، فإن لها شوكا مؤذيا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أليس يقول في سدر مخضود ، خضد الله الشوك ، فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتنبت ثمرا يفتق من الثمرة منها على اثنين وسبعين لونا طعاما ما فيه لون يشبه الآخر؟» واختار الزمخشري أن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا ، وأطلق القول في كونه كان مشابها لثمر الدنيا ، ولم يكن أجناسا أخر.

وملخص ما ذكر أن الإنسان يأنس بالمألوف ، وإذا رأى غير المألوف نفر عنه طبعه ، وإذا ظفر بشيء مما ألفه وظهر له فيه مزية ، وتفاوت في الجنس ، سر به واغتبط بحصوله. ثم ذكر ما ورد في مقدار الرمانة والنبقة والشجرة وكيفية نخل الجنة والعنقود والأنهار ما يوقف عليه في كتابه. وليس في الآية ما يدل على ما اختاره الزمخشري. والأظهر أن يكون المعنى ثبوت التشابه له ، ولم يقيد التشابه بل أطلق ، فتقييده يحتاج إلى دليل. ولما كانت مجامع اللذات في المسكن البهي والمطعم الشهي والمنكح الوضي ، ذكرها الله تعالى فيما يبشر به المؤمنون. وقد بدأ بالمسكن لأن به الاستقرار في دار المقام ، وثنى بالمطعم لأن به قوام

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٣.

١٨٨

الأجسام ، ثم ذكر ثالثا الأزواج لأن بها تمام الالتئام ، فقال تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) والأولى أن تكون هذه الجملة مستأنفة. كما اخترنا في قوله : (كُلَّما رُزِقُوا) لأن جعلها استئنافا يكون في ذلك اعتناء بالجملة ، إذ سيقت كلاما تاما لا يحتاج إلى ارتباط صناعي ، ومن جعلها صفة فقد سلك بها مسلك غير ما هو أصل للحمل. وارتفاع أزواج على الابتداء ، وكونه لم يشرك في العامل في جنات يدل على ما قلناه من الاستئناف أيضا ، وخبر أزواج في المجرور الذي هو لهم وفيها متعلق بالعامل في لهم الذي هو خبر. والأزواج من جموع القلة ، لأن زوجا جمع على زوجة نحو : عود وعودة ، وهو من جموع الكثرة ، لكنه ليس في الكثير من الكلام مستعملا ، فلذلك استغنى عنه بجمع القلة توسعا وتجوزا. وقد ورد في الحديث الصحيح ما يدل على كثرة الأزواج من الحور وغيرهم. وأريد هنا بالأزواج : القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره. ومطهرة : صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرأ زيد بن علي : مطهرات ، فجمع بالألف والتاء على طهرن. قال الزمخشري : هما لغتان فصيحتان ، يقال : النساء فعلن ، وهن فاعلات ، والنساء فعلت ، وهي فاعلة ، ومنه بيت الحماسة :

وإذا العذارى بالدخان تقنت

واستعجلت نصب القدور فملت

والمعنى : وجماعة أزواج مطهرة ، انتهى كلامه.

وفيه تعقب أن اللغة الواحدة أولى من الأخرى ، وذلك أن جمع ما لا يعقل ، إما أن يكون جمع قلة ، أو جمع كثرة إن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات ، وإن كان جمع قلة فالعكس ، نحو : الأجذاع انكسرن ، ويجوز انكسرت ، وكذلك إذا كان ضميرا عائدا على جمع العاقلات الأولى فيه النون من التاء ، فإذا بلغن أجلهن ، والوالدات يرضعن ، ولم يفرقوا في ذلك بين جمع القلة والكثرة كما فرقوا في جمع ما لا يعقل. فعلى هذا الذي تقرر تكون قراءة زيد الأولى إذ جاءت في الظاهر على ما هو أولى. ومجيء هذه الصفة مبنية للمفعول ، ولم تأت ظاهرة أو ظاهرات ، أفخم لأنه أفهم أن لها مظهرا وليس إلا الله تعالى. وقراءة عبيد بن عمير مطهرة ، وأصله متطهرة ، فأدغم. وفي كلام بعض العرب ما أحوجني إلى بيت الله فاطهر به اطهرة ، أي : فأتطهر به تطهرة ، وهذه القراءة مناسبة لقراءة الجمهور ، لأن الفعل مما يحتمل أن يكون مطاوعا نحو : طهرته فتطهر ، أي أن الله تعالى طهرهن فتطهرن. وهذه الأزواج التي وصفها الله بالتطهيران كن من الحور العين ، كما روي عن عبد الله. فمعنى التطهير :

١٨٩

خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي وإن كن من بني آدم ، كما روي عن الحسن : عن عجائزكم الرمص العمص يصرن شواب ، فقيل : مطهرة من العيوب الذاتية وغير الذاتية ، وقيل : مطهرة من الأخلاق السيئة والطبائع الرديئة ، كالغضب والحدة والحقد والكيد المكر ، وما يجري مجرى ذلك ، وقيل : مطهرة من الفواحش والخنا والتطلع إلى غير أزواجهن ، وقيل : مطهرة من الأدناس الذاتية ، مثل الحيض والنفاس والجنابة والبول والتغوط وغير ذلك من المقاذير الحادثة عن الأعراض المنقلبة إلى فساد : كالبخر والذفر والصنان والقيح والصديد ، أو إلى غير فساد : كالدمع والعرق والبصاق والنخامة.

وقيل : مطهرة من مساوئ الأخلاق ، لا طمحات ولا مرجات ولا يغرن ولا يعزن. وقال النخعي : الولد. وقال يمان : من الإثم والأذى ، وكل هذه الأقوال لا يدل على تعيينها قوله تعالى : (مُطَهَّرَةٌ) لكن ظاهر اللفظ يقتضي أنهن مطهرات من كل ما يشين ، لأن من طهره الله تعالى ووصفه بالتطهير كان في غاية النظافة والوضاءة. ولما ذكر تعاليم سكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم ، وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع توقع خوف الزوال ، ولذلك قيل :

أشد الغم عندي في سرور

تيقن عنه صاحبه ارتحالا

أعقب ذلك تعالى بما يزيل تنغيص التنعم بذكر الخلود في دار النعيم ، فقال تعالى : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ). وقد تقدم ذكر الخلاف في الخلود ، وأن المعتزلة تذهب إلى أنه البقاء الدائم الذي لا ينقطع أبدا ، وأن غيرهم يذهب إلى أنه البقاء الطويل ، انقطع أو لم ينقطع ، وأن كون نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار سرمدي لا ينقطع ، ليس مستفادا من لفظ الخلود بل من آيات من القرآن وأحاديث صحاح من السنة ، قال تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (١) ، وقال تعالى : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٢). وفي الحديث : «يا أهل الجنة خلود بلا موت». وفي حديث أخرجه مسلم في وصف أهل الجنة : «وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا».

إلى غير ذلك من الآي والأحاديث.

إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ

__________________

(١) سورة التغابن : ٦٤ / ٩.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٤٨.

١٩٠

إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)

الحياء : تغير وإنكار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم ، ومحله الوجه ، ومنبعه من القلب ، واشتقاقه من الحياة ، وضده : القحة ، والحياء ، والاستحياء ، والانخزال ، والانقماع ، والانقلاع ، متقاربة المعنى ، فتنوب كل واحدة منها مناب الأخرى. أن : حرف ثنائي الوضع ينسبك منه مع الفعل الذي يليه مصدر ، وعمله في المضارع النصب ، إن كان معربا ، والجزم بها لغة لبني صباح ، وتوصل أيضا بالماضي المتصرف ، وذكروا أنها توصل بالأمر ، وإذا نصبت المضارع فلا يجوز الفصل بينهما بشيء. وأجاز بعضهم الفصل بالظرف ، وأجاز الكوفيون الفصل بينها وبين معمولها بالشرط. وأجازوا أيضا إلغاءها وتسليط الشرط على ما كان يكون معمولا لها لولاه ، وأجاز الفراء تقديم معمول معمولها عليها ، ومنعه الجمهور. وأحكام أن الموصولة كثيرة ، ويكون أيضا حرف تفسير خلافا للكوفيين ، إذ زعموا أنها لا تأتي تفسيرا ، وسيأتي الكلام على التفسيرية عند قوله تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) (١) ، إن شاء الله تعالى. وتكون أن أيضا زائدة وتطرد زيادتها بعد لما ، ولا تفيد إذ ذاك غير التوكيد ، خلافا لمن زاد على ذلك أنها تفيد اتصال الفعل الواقع جوابا بالفعل الذي زيدت قبله ، وبعد القسم قبل لو والجواب خلافا لمن زعم أنها إذ ذاك رابطة لجملة القسم بالمقسم عليه إذا كان لو والجواب ، ولا تكون أن للمجازاة خلافا للكوفيين ، ولا بمعنى أن المكسورة المخففة من الثقيلة خلافا للفارسي ، ولا للنفي ، ولا بمعنى إذ ، ولا بمعنى لئلا خلافا لزاعمي ذلك. وأما أن المخففة من الثقيلة فحرف ثلاثي الوضع ، وسيأتي الكلام عليه عند أول ما يذكر ، إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٢٥.

١٩١

والضرب : إمساس جسم بجسم بعنف ويكنى به عن السفر في الأرض ويكون بمعنى الصنع والاعتمال. وروى اضطرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتما من ذهب.

والبعوضة : واحد البعوض ، وهي طائر صغير جدا معروف ، وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع فغلبت ، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع. أما : حرف ، وفيه معنى الشرط ، وبعضهم يعبر عنها بحرف تفصيل ، وبعضهم بحرف إخبار ، وأبدل بنو تميم الميم الأولى ياء فقالوا : أيما. وقال سيبويه في تفسير أما : أن المعنى مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، والذي يليها مبتدأ وخبر وتلزم الفاء فيما ولي الجزاء الذي وليها ، إلا إن كانت الجملة دعاء فالفاء فيما يليها ولا يفصل بغيرها من الجمل بينها وبين الفاء ، وإذا فصل بها فلا بد من الفصل بينها وبين الجملة بمعمول يلي أما ، ولا يجوز أن يفصل بين أما وبين الفاء بمعمول خبر أن وفاقا لسيبويه وأبي عثمان ، وخلافا للمبرد وابن درستويه ، ولا بمعمول خبر ليت ولعل خلافا للفراء. ومسألة أما علما ، فعالم يلزم أهل الحجاز فيه النصب وتختاره تميم ، وتوجيه هاتين المسألتين مذكور في النحو. الحق : الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. حق الأمر ثبت ووجب ومنه : (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) (١) ، والباطل مقابله ، وهو المضمحل الزائل ، ماذا : الأصل في ذا أنها اسم إشارة ، فمتى أريد موضوعها الأصلي كانت ماذا جملة مستقلة ، وتكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء وذا خبرة. وقد استعملت العرب ماذا ثلاثة استعمالات غير الذي ذكرناه أولا : أحدها : أن تكون ما استفهاما وذا موصولا بدليل وقوع الاسم جوابا لها مرفوعا في الفصيح ، وبدليل رفع البدل قال الشاعر :

ألا تسألان المرء ماذا يحاول

أنحب فيقضى أم ضلال وباطل

الثاني : أن تكون ماذا كلها استفهاما ، وهذا الوجه هو الذي يقول بعض النحويين فيه : إن ذا لغو ولا يريد بذلك الزيادة بل المعنى أنها ركبت مع ما وصارت كلها استفهاما ، ويدل على هذا الوصف وقوع الاسم جوابا لها منصوبا في الفصيح ، وقول العرب : عماذا تسأل بإثبات ألف ما ، وقول الشاعر :

يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم

لا يستفقن إلى الديرين تحتانا

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٣٣ ، وسورة غافر : ٤٠ / ٦.

١٩٢

ولا يصح موصولية ذا هنا ، الثالث : أن تكون ما مع ذا اسما موصولا ، وهو قليل ، قال الشاعر :

دعي ماذا علمت سأتقيه

ولكن بالمغيب نبئيني

فعلى هذا الوجه والأول يكون الفعل بعدها صلة لا موضع له من الإعراب ولا يتسلط على ماذا : وعلى الوجه الثاني يتسلط على ماذا إن كان مما يمكن أن يتسلط. وأجاز الفارسي أن تكون ماذا نكرة موصوفة وجعل منه : دعي ماذا علمت. الإرادة : طلب نفسك الشيء وميل قلبك إليه ، وهي نقيض الكرهة ، ويأتي الكلام عليها مضافة إلى الله تعالى ، إن شاء الله. الفسوق : الخروج ، فسقت الرطبة : خرجت ، والفاسق شرعا : الخارج عن الحق ، ومضارعه جاء على يفعل ويفعل. النقض : فك تركيب الشيء وردّه إلى ما كان عليه أولا ، فنقض البناء هدمه ، ونقض المبرم حله. والعهد : الموثق ، وعهد إليه في كذا : أوصاه به ووثقه عليه. والعهد في لسان العرب على ستة محامل : الوصية ، والضمان ، والأمر ، والالتقاء ، والرؤية ، والمنزل. والميثاق : العهد المؤكد باليمين. والميثاق والتوثقة : كالميعاد بمعنى الوعد ، والميلاد بمعنى الولادة. الخسار : النقصان أو الهلاك ، كيف : اسم ، ودخول حرف الجر عليها شاذ ، وأكثر ما تستعمل استفهاما ، والشرط بها قليل ، والجزم بها غير مسموع من العرب ، فلا نجيزه قياسا ، خلافا للكوفيين وقطرب ، وقد ذكر خلاف فيها : أهي ظرف أم اسم غير ظرف؟ والأول عزوه إلى سيبويه ، والثاني إلى الأخفش والسيرافي ، والبدل منها والجواب إذا كانت مع فعل مستغن منصوبان ، ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ ، ومنصوب إن كان ناسخا. أمواتا : جمع ميت ، وهو أيضا جمع ميتة ، وجمعهما على أفعال شذوذ ، والقياس في فيعل إذا كسر فعائل. الاستواء : الاعتدال والاستقامة ، استوى العود وغيره : إذا استقام واعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء ، والتسوية : التقويم والتعديل.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) ، الآيات. قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل ، والفراء : نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت ، والذباب ، والتراب ، والحجارة ، وغير ذلك مما يستحقر ويطرح. قالوا : إن الله أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات ، فردّ الله عليهم بهذه الآية. وقال الحسن ، ومجاهد ، والسدّي ، وغيرهم : نزلت في المنافقين ، قالوا : لما ضرب

١٩٣

الله تعالى المثل بالمستوقد والصيب قالوا : الله أعلى وأعظم أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها ، فرد الله عليهم بهذه الآية ، وقيل نزلت في المشركين ، والكل محتمل ، إذ اشتملت على نقض العهد ، وهو من صفة اليهود ، لأن الخطاب بوفاء العهد إنما هو لبني إسرائيل ، وعلى الكافرين (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (١) ، وهم المشركون والمنافقون ، وكلهم كانوا في إيذائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوافقين. وقد نص من أول السورة إلى هنا ذكر ثلاث طوائف ، وكلهم من الذين كفروا ، قاله القفال ، قال : ويجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب. وقال الربيع بن أنس : هذا مثل ضربه الله تعالى للدنيا وأهلها ، وأن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا شبعت وامتلأت ماتت. كذلك مثل أهل الدنيا إذا امتلأوا منها كان سببا لهلاكهم ، وقيل : ضرب ذلك تعالى مثلا لأعمال العباد أنه لا يمتنع أن يذكر ما قل منها أو كثير ليجازي عليها ثوابا أو عقابا ، وإلا ظهر في سبب النزول القولان الأولان. ومناسبة هذه الآية ظاهرة ، إذ قد جرى قبل ذكر المثل بالمستوقد والصيب ، ونزل التمثيل بالعنكبوت والذباب ، فأنكر ذلك الجهلة وأهل العناد ، واستغربوا ما ليس بمستغرب ولا منكر ، إذ التمثيل يكشف المعنى ويوضح المطلوب. وقد تقدم الكلام في فائدته عند قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) (٢) ، والعاقل إذا سمع التمثيل استبان له به الحق ، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور والأجناس والحشرات والهوام ، ولسان العرب ملآن من ذلك ، ألا ترى إلى قول الشاعر :

وإني لألقى من ذوي الضغن منهم

وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره

كما لقيت ذات الصفا من حليفها

وما انفكت الأمثال في الناس سائره

فذكر قصة ذات الصفا ، وهي حية كانت قد قتلت قرابة حليفها ، فتواثقا بالله على أنها تدي ذلك القتيل ولا تؤذيها ، إلى آخر القصة المذكورة في ذلك الشعر. والأمثال مضروبة في الإنجيل بالأشياء الحقيرة كالنخالة والدود والزنابير. وكذلك أيضا قرأت أمثالا في الزبور. فإنكار ضرب الأمثال جهالة مفرطة أو مكابرة واضحة ، ومساق هذه الجملة مصدرة بأن يدل على التوكيد.

وقرأ الجمهور : يستحيي بياءين ، والماضي : استحيا ، وهي لغة أهل الحجاز ، واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد : كاستنكف ، واستأثر ، واستبد ، واستعبر ،

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ١٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٧.

١٩٤

وهو من المعاني التي جاء لها استفعل. وقد تقدم ذكرها عند قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (١) ، وهذا هنا من الحياء. وفي كلام الزمخشري ما يدل على أن استحيا ليس مغنيا عن المجرد بل هو موافق للمجرد ، وهو أحد المعاني أيضا الذي جاء لها استفعل. قال الزمخشري : يقال حيي الرجل كما يقال : نسي وخشي وشظي الفرس ، إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعبر به عن الانكسار ، والتغير منكسر القوة منتقض الحياة ، كما قالوا : فلان هلك حياء من كذا ، ومات حياء ، ورأيت الهلال في وجهه من شدة الحياء ، وذاب حياء ، وجمد في مكانه خجلا ، انتهى كلامه. فظاهره أنه يقال : من الحياء حيي الرجل ، فيكون استحيا على ذلك موافقا للمجرد ، وعلى ما نقلناه قبل يكون مغنيا عن المجرد. وقرأ ابن كثير في رواية شبل ، وابن محيصن ، ويعقوب : يستحي بياء واحدة ، وهي لغة بني تميم ، يجرونها مجرى يستبي. قال الشاعر :

ألا تستحي منا ملوك وتتقي

محارمنا لا يبوء الدم بالدم

والماضي : استحى ، قال الشاعر :

إذا ما استحين الماء يعرض نفسه

كرعن بست في إناء من الورد

واختلف النحاة في المحذوفة ، فقيل لام الكلمة ، فالوزن يستفع ، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين فصارت يستفع. وقيل المحذوف العين ، فالوزن يستيفل ثم نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام فصارت يستفل. وأكثر نصوص الأئمة على أن المحذوف هو العين.

وقد تكلمنا على هذه المسألة في (كتاب التكميل لشرح التسهيل) من تأليفنا ، وليس هذا الحذف مختصا بالماضي والمضارع ، بل يكون أيضا في سائر التصرفات ، كاسم الفاعل ، واسم المفعول ، وغير ذلك. وهذا الفعل مما نقلوا أنه يكون متعديا بنفسه ، ويكون متعديا بحرف جر ، يقال : استحييته واستحييت منه. فعلى هذا يحتمل (أَنْ يَضْرِبَ) أن يكون مفعولا به على أن يكون الفعل تعدى إليه بنفسه ، أو تعدى إليه على إسقاط حرف الجر. وفي ذلك الخلاف الذي ذكرناه في قوله تعالى : (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) (٢) ، أذلك في موضع نصب بعد حذف حرف الجر أم في موضع جر؟.

واختلف المفسرون في معنى الاستحياء المنسوب إلى الله تعالى نفيه ، فقيل : المعنى

__________________

(١) سورة الفاتحة ١ / ٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٥.

١٩٥

لا يترك ، فعبر بالحياء عن الترك ، قاله الزمخشري وغيره ، لأن الترك من ثمرات الحياء ، لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء تركه ، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب. وقيل : المعنى لا يخشى ، وسميت الخشية حياء لأنها من ثمراته ، ورجحه الطبري. وقد قيل في قوله تعالى : (وَتَخْشَى النَّاسَ) (١) ، أن معناه تستحيي من الناس. وقيل : المعنى لا يمتنع. وكل هذه الأقوال متقاربة من حيث المعنى ، يجوز أن يوصف الله تعالى بها ، وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء التي موضوعها في اللغة لا ينبغي أن يوصف الله تعالى به ، وقيل : ينبغي أن تمر على ما جاءت ، ونؤمن بها ولا نتأولها ونكل علمها إليه تعالى ، لأن صفاته تعالى لا يطلع على ماهيتها الخلق. والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب ، وفيه الحقيقة والمجاز ، فما صح في العقل نسبته إليه نسبناه إليه ، وما استحال أوّلناه بما يليق به تعالى ، كما نؤول فيما ينسب إلى غيره مما لا يصح نسبته إليه ، والحياء بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى ، فلذلك أوله أهل العلم ، وقد جاء منسوبا إلى الله مثبتا فيما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن بردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» ، وأول بأن هذا جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد من عطائه لكرمه بترك من ترك رد المحتاج إليه حياء منه ، وقد يجوز أيضا في الاستحياء ، فنسب إلى ما لا يصح منه بحال ، كالبيت الذي أنشدناه قبل وهو :

إذا ما استحين الماء يعرض نفسه

قال أبو التمام :

هو الليث ليث الغاب بأسا ونجدة

وإن كان أحيا منه وجها وأكرما

ويجوز أن يكون قوله تعالى : (لا يَسْتَحْيِي) على سبيل المقابلة ، لأنه روي أن الكفار قالوا : ما يستحيي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ومجيء الشيء على سبيل المقابلة ، وإن لم يكن من جنس ما قوبل به ، شائع في لسان العرب ، ومنه : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢) ، وجاء ذكر الاستحياء منفيا عن الله تعالى ، وإن كان إثباته بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى ، فكل أمر مستحيل على الله تعالى إثباته ، يصح أن ينفى

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٧.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٠.

١٩٦

عن الله تعالى ، وبذلك نزل القرآن وجاءت السنة. ألا ترى إلى قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (١) ، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) (٢) (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) (٣) ، (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (٤)؟ ونقول : الله تعالى ليس بجسم. فالإخبار بانتفاء هذه الأشياء هو الصدق المحض ، وليس انتفاء الشيء مما يدل على تجويزه على من نفي عنه ، ولا صحة نسبته إليه ، كما ذهب إليه أبو بكر بن الطيب وغيره. زعم أن ما لا يجوز على الله إثباتا يجب أن لا يطلق على طريق النفي ، قال : فيما ورد من ذلك هو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة ، وكثرة ذلك ، أعني نفي الشيء عما لا يصح إثباته ، له كثير في القرآن ولسان العرب ، بحيث لا يحصر ما ورد من ذلك. ويضرب : قيل معناه : يبين ، وقيل : يذكر ، وقيل : يضع ، من ضربت عليهم الذلة ، وضرب البعث على بني فلان ، ويكون يضرب قد تعدى إلى واحد ، وقيل يضرب : في معنى يجعل ويصير ، كما تقول : ضربت الطين لبنا ، وضربت الفضة خاتما. فعلى هذا يتعدى لاثنين ، والأصح أن ضرب لا يكون من باب ظن وأخواتها ، فيتعدى إلى اثنين ، وبطلان هذا المذهب مذكور في كتب النحو. وما : إذا نصبت بعوضة زائدة للتأكيد أو صفة للمثل تزيد الكرة شياعا ، كما تقول : ائتني برجل ما ، أي : أيّ رجل كان. وأجاز الفراء ، وثعلب ، والزجاج : أن تكون ما نكرة ، وينتصب بدلا من قوله : مثلا. وقرأ الجمهور : بنصب بعوضة. واختلف في توجيه النصب على وجوه :

أحدها : أن تكون صفة لما ، إذا جعلنا ما بدلا من مثل ، ومثلا مفعول بيضرب ، وتكون ما إذ ذاك قد وصفت باسم الجنس المتنكر لإبهام ما ، وهو قول الفراء. الثاني : أن تكون بعوضة عطف بيان ، ومثلا مفعول بيضرب. الثالث : أن تكون بدلا من مثل. الرابع : أن يكون مفعولا ليضرب ، وانتصب مثلا حالا من النكرة مقدمة عليها. والخامس : أن تكون مفعولا ليضرب ثانيا ، والأول هو المثل على أن يضرب يتعدى إلى اثنين. والسادس : أن تكون مفعولا أول ليضرب ، ومثلا المفعول الثاني. والسابع : أن تكون منصوبا على تقدير إسقاط الجار ، والمعنى (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) ما بين (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) ، وحكوا له عشرون ما ناقة فجملا ، ونسبه ابن عطية لبعض الكوفيين ، ونسبه المهدوي للكوفيين ، ونسبه غيرهما للكسائي والفراء ، ويكون : مثلا مفعولا بيضرب على هذا الوجه ، وأنكر هذا النصب ، أعني نصب بعوضة على هذا الوجه ، أبو العباس. وتحرير نقل هذا المذهب : أن الكوفيين

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٥.

(٢) سورة الإخلاص : ١١٢ / ٣.

(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٩١.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١٤.

١٩٧

يزعمون أن ما تكون جزاء في الأصل وتحول إلى لفظ الذي ، فينتصب ما بعدها ، سواء كان نكرة أم غير نكرة ، ويعطف عليه بالفاء فقط ، وتلزم ولا يصلح مكانها الواو ، ولا ثم ، ولا أو ، ولا لا ، ويجعلون النصب في ذلك الاسم على حذف مضاف ، وهو بين. فلما حذف بين ، قام هذا مقامه في الإعراب. ويقدرون الفاء بإلى ، وقد جاء التصريح بها في بعض المواضع. حكى الكسائي عن العرب : مطرنا ما زبالة فالثعلبية ، وما منصوبة بمطرنا. وحكى الكسائي والفراء عن العرب : هي أحسن الناس ما قرنا ، وانتصاب ما في هذه المسألة على التفسير ، وتقول : هي حسنة ما قرنها إلى قدمها. قال الفراء : أنشدنا أعرابي من بني سليم :

يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم

ولا حبال محب واصل تصل

وقال الكسائي : سمعت أعرابيا نظر إلى الهلال فقال : الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك ، وحكى الفراء عن العرب : الشنق ما خما فعشرين. والمعنى فيما تقدم ما بين كذا إلى كذا ، وما في هذا المعنى لا تسقط ، فخطأ أن يقول : مطرنا زبالة فالثعلبية. وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون لا يعرفه البصريون ، ورده إلى قواعد البصريين مذكور في غير هذا ، والذي نختاره من هذه الأعاريب أن ضرب يتعدى إلى اثنين هو الصحيح ، وذلك الواحد هو مثلا لقوله تعالى : ضرب مثل ، ولأنه المقدم في التركيب ، وصالح لأن ينتصب بيضرب. وما : صفة تزيد النكرة شياعا ، لأن زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس. وبعوضة : بدل لأن عطف البيان مذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات ، إنما ذهب إلى ذلك الفارسي ، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس. وقرأ الضحاك ، وإبراهيم بن أبي عبلة ، ورؤبة بن العجاج ، وقطرب : بعوضة بالرفع ، واتفق المعربون على أنه خبر ، ولكن اختلفوا فيما يكون عنه خبرا ، فقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو بعوضة ، وفي هذا وجهان : أحدهما : أن هذه الجملة صلة لما ، وما موصولة بمعنى الذي ، وحذف هذا العائد وهذا الإعراب لا يصح إلا على مذهب الكوفيين ، حيث لم يشترطوا في جواز حذف هذا الضمير طول الصلة. وأما البصريون فإنهم اشترطوا ذلك في غير أيّ من الموصولات ، وعلى مذهبهم تكون هذه القراءة على هذا التخريج شاذة ، ويكون إعراب ما على هذا التخريج بدلا ، التقدير : مثلا الذي هو بعوضة. والوجه الثاني : أن تكون ما زائدة أو صفة وهو بعوضة وما بعده جملة ، كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق ، وقيل : خبر مبتدأ ملفوظ به وهو ما ، على أن تكون استفهامية.

١٩٨

قال الزمخشري ، لما استنكفوا من تمثيل الله لأصنامهم بالمحقرات قال : إن الله لا يستحيي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقرة بله فما فوقها ، كما يقال ، فلأن لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران ، والمختار الوجه الثاني لسهولة تخريجه ، لأن الوجه الأول لا يجوز فصيحا على مذهب البصريين ، والثاني فيه غرابة واستبعاد عن معنى الاستفهام ، وما من قوله : فما معطوفة على قوله بعوضة إن نصبنا لما موصولة وصلتها الظرف ، أو موصوفة وصفتها الظرف ، والموصوفة أرجح. وإن رفعنا بعوضة ، وكانت ما موصولة فعطف ما الثانية عليها أو استفهاما ، فذلك من عطف الجمل ، أو كانت البعوضة خبرا لهو محذوفة ، وما زائدة ، أو صفة فعطف على البعوضة ، إما موصولة أو موصوفة ، وما فوقها الظاهر أنه يعني في الحجم كالذباب والعنكبوت ، قاله ابن عباس : ويكون ذكر البعوضة تنبيها على الصغر ، وما فوقها تنبيها على الكبر ، وبه قال أيضا قتادة ، وابن جريج ، وقيل : المعنى فما فوقها في الصغر ، أي وما يزيد عليها في الصغر ، كما تقول : فلان أنذل الناس ، فيقال لك : هو فوق ذلك ، أي أبلغ وأعرق في النذالة ، قاله أبو عبيدة ، والكسائي.

وقال ابن قتيبة : فوق من الأضداد ينطلق على الأكثر والأقل ، فعلى قول من قال بأن اللفظ المشترك يحمل على معانيه ، يكون دلالة على ما هو أصغر من البعوضة وما هو أكبر. وقيل : أراد ما فوقها وما دونها ، فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر لدلالة المعنى عليها ، كما اكتفى في قوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (١) عن قوله : والبرد ، ورجح القول بالفوقية في الصغر بأن المقصود من التمثيل تحقير الأوثان ، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود من هذا الباب أكمل ، وبأن الغرض هنا أن الله لا يمتنع عن التمثيل بالشيء الحقير ، وبأن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب. فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله سبحانه ، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالكبير ، والذي نختاره القول الأول لجريان فوق على مشهور ما استقر فيها في اللغة ، وفي المعنى الذي أسند الله إليه عدم الاستحياء من أجله في ضرب المثل بهذه المصغرات والمستضعفات وجوه : أحدها : أن البعوضة قد أوجدها على الغاية القصوى من الإحكام وحسن التأليف والنظام ، وأظهر فيها ، مع صغر حجمها ، من بدائع الحكمة كمثل ما أظهره في النيل الذي هو في غاية الكبر وعظم الخلقة. وإذا كل واحد منهما قد استوفى نصاب حسن الصنعة وبدائع التأليف والصنعة ، فضرب المثل بالصغير

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٨١.

١٩٩

والكبير سيان عنده إذا كانا في توفية الحكمة سواء. الثاني : أن البعوضة لما كانت من أصغر ما خلق الله تعالى خصها بالذكر في القلة ، فلا يستحيي أن يضرب المثل في الشيء الكبير بالكبير والحقير بالحقير ، وله المثل الأعلى في ضرب الأمثال. الثالث : أن في البعوضة ، مع صغر حجمها وضعف بنيانها ، من حسن التأليف ودقيق الصنع ، من اختصار الخصر ودقة الخرطوم ولطيف تكوين الأعضاء ولين البشرة ، ما يعجز أن يحاط بوصفه ، وهي مع ذلك تبضع بشوكة خرطومها ، مع لينها ، جلد الجاموس والفيل ، وتهتدي إلى مراق البشرة بغير دليل ، فلا يستحيي الله تعالى أن يضرب بها المثل ، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يخلق مثلها ولا أقل منها ، كما قال تعالى : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) (١). الرابع : أن المثل بالذباب والبعوض والعنكبوت ، وما يجري مجراه ، أتى به تعالى في غاية ما يكون من التمثيل ، وأحسن ما يكون من التشبيه ، لأن الذي جعلها مثلا لهم في غاية ما يكون من الحقارة ، وضعف القوة ، وخسة الذات والفعل ، فلو شبههم بغير ذلك ما حسن موقع التشبيه ، ولا عذب مذاق التمثيل ، إذ الشيء لا يشبه إلا بما يماثله ويشاكله ، ومن أتى بالشيء على وجهه فلا يستحيا منه. وتصدير الجملتين بأما التي معناها الشرط مشعر بالتوكيد ، إذ هي أبلغ من : فالذين آمنوا يعلمون ، والذين كفروا يقولون ، إذ قد تقرر أن ما برز في حيز أما من الخبر كان واقعا لا محالة ، وما مفيد ذلك ومثيره إلا ترتب الحكم على معنى الشرط ، والضمير في أنه عائد على المثل ، وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من يضرب كأنه قال : فيعلمون أن ضرب المثل. وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من لا يستحيي ، أي فيعلمون أن انتفاء الاستحياء من ذكر الحق ، وإلا ظهر الأول لدلالة قوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) فميز الله تعالى المشار إليه هنا بالمثل. والتقسيم ورد على شيء واحد ، فظهر أنه عائد على المثل ، وأخبر عن المؤمنين بالعلم لأنه الجزم المطابق لدليل ، وأخبر عن الكافرين بالقول ، وهو اللفظ الجاري على اللسان ، وجعل متعلقه الجملة الاستفهامية الشاملة للاستغراق والاستبعاد والاستهزاء ، وهي قوله : (ما ذا أَرادَ اللهُ).

وقد تقدم الكلام على أقسام ماذا ، وهي هاهنا تحتمل وجهين من تلك الأقسام. أحدهما : أن تكون ما استفهاما في موضع رفع بالابتداء ، وذا بمعنى الذي خبر عن ما. وأراد صلة لذا الموصولة والعائد محذوف ، إذ فيه شروط جواز الحذف ، والتقدير ما الذي

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٧٣.

٢٠٠