البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

١
٢

مقدمة الناشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد النبي الأمي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سلكوا وساروا على منهاجهم إلى يوم الدين.

وبعد .. فقد رسمت دار الفكر لها منذ انطلاقتها في عالم الحرف والكتاب معالم منهج علمي في نشر وطبع كتاب التراث الذي تزخر به وبمخطوطاته كبريات المكتبات في العالم وتفخر كل مكتبة بما لديها من هذه المخطوطات التي تكتنز في طياتها تراث أمة وحضارة شعوب ومبادئ نظام متطور أودعت فيه من العقائد والعبادات والأحكام والمعاملات والتشريعات الحقوقية والعلاقات الدولية والنظرة العلمية إلى الكون والحياة والإنسان وبناء المجتمعات البشرية ما أثرى الإنسانية على مر العصور والأيام ، وهو الملاذ الأخير لها في نهاية المطاف.

وكان هدفنا إحياء كتاب التراث وإيصاله إلى كل طالب افتقده وإلى كل دارس وعالم تهفو إليه نفسه لاقتنائه ، وذلك بالشكل والمضمون الذي أراده له مؤلفه.

وكان سبيلنا إلى ذلك المحافظة على نص الكتاب من الأخطاء ، بعيدا عن التحريف وسهو النساخ والمصححين وليكون الكتاب خاليا من الأخطاء المطبعية نجتهد في إعمال يراع التصحيح والتنقيح فيه ، وبذلك يكون بين أيدينا نصا صحيحا معافى من العيوب كشجرة طيبة أصلها ثابت نقدمه للطالب للاستفادة منه وللعالم ليعمل فيه فكره شرحا وتعليقا واستنباطا لفوائد ومعاني ربما تكون قد فاتت مؤلفه الأول.

وهذا هو مفهومنا في التحقيق ، هذه الكلمة التي فقدت معناها وأصبحت في كثير من الأحيان رمزا دعائيا يوظفها تاجر الكتاب لترويج كتابه حتى صارت كلمة تحقيق ، ومحقق ، وطبعة محققة ، وحققه وقرأه فلان ... ألفاظا خاوية بلا حقيقة.

٣

فإذا صحح أحدهم تجربة مطبعة صار منقحا وإذا نقح كتابا صار محققا وإذا عزا بعض الآيات في النص سمي شارحا وإذا كتب شروح وهوامش عن كتب أخرى جمع الصفات كلها فهو محقق وموثق ومعلق وشارح ... إلخ ونسأل الله العفو والعافية.

بعد هذا ، يسرنا أن نقدم للقارىء العزيز كتاب البحر المحيط في التفسير مجردا مصححا ومنقحا مع إدخال الآيات القرآنية من المصحف وعزو الآيات المستدل بها في الشرح كما وضعه مؤلفه ابي حيان رحمه‌الله. وذلك بعد أن ساءت الطبعات السابقة وبليت حروفها ومسحت سطورها وأصبحت مانعة من الفائدة المرجوة من هذا التفسير النفيس.

وصاحب البحر المحيط هو : أبو عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن حيان الأندلسي الجياني الغرناطي ، الإمام الكبير في العربية والبلاغة والتفسير.

ولد سنة ٦٥٤ ستمائة وأربع وخمسون ، ونشأ في غرناطة الأندلس ، ويحدثنا هو عن نفسه فيقول : ... من لدن ميزّت أتلمذ للعلماء وانحاز للفقهاء وأرغب في مجالستهم ، أسلك طريقهم وأتبع فريقهم ... وما زال يتنقل بين العلماء ويقتبس من أنوارهم ويقطف من أزهارهم ، ويلتقط من نثارهم ، يتوسد أبواب العلماء مؤثرا العلم على الأهل والمال والولد ، ويرتحل من بلد إلى بلد حتى القت به بمصر عصا التسيار.

قرأ كتب النحو واللغة ودواوين مشاهير العرب فأخذ معرفة الأحكام للكلم العربية عن أبي جعفر إبراهيم الثقفي من كتاب سيبويه وغيره.

وأخذ علم البيان والبديع عن تصانيف كثيرة أجمعها كتاب أبي عبد الله محمد بن سليمان النقيب ، وعن أبي الحسن حازم بن محمد الأندلسي الأنصاري القرطاجني ، مقيم تونس. وأخذ أيضا هذا الفن عن استاذه أبي جعفر بن الزبير.

وسمع وروى الكتب الأمهات في الحديث والسنن وسمع من علم الكلام مسائل على الشيخ شمس الدين الأصفهاني.

أما القراءات وهو الإمام فيها ، فقد تلاها إفرادا وجمعا على مشايخ الأندلس ، فقرأ القرآن بقراءة السبعة بجزيرة الأندلس ، وقرأ الثمان بثغر الاسكندرية ، وقرأ القرآن ثانية بالقراءات السبعة بمصر ، وألف في القراءات كتابة عقد اللآلئ على وزن الشاطبية وقافيتها.

ومشايخه كثير حتى قال : إن عدة من أخذ عنه أربعمائة وخمسون عالما ، ومنهم الوجيه الدهان والقطب القسطلاني وابن الأنماطي ، ولازم ابن النحاس.

٤

وأما من أجاز له فكثير جدا ، قال الصفدي : لم أره قط إلا يسمع ويشتغل أو يكتب أو ينظر في كتاب ولم أره غير ذلك. وكان كثير النظم ، والإمام المطلق في النحو والتصريف وله اليد الطولى في التفسير والحديث وتراجم الناس ومعرفة طبقاتهم خصوصا المغاربة. وله التصانيف التي سارت في الآفاق واشتهرت في حياته ، وأخذ الناس عنه طبقة بعد طبقة وصار تلاميذه أئمة وأشياخا في حياته ، وهو الذي رغب الناس إلى قراءة كتب مالك وشرح لهم غامضها وألزم نفسه أن لا يقرىء أحدا إلا كتب سيبويه أو في كتاب تسهيل الفوائد لأبي مالك الجياني الطائي مقيم دمشق.

أما مصنفاته فكثيرة في النحو والصرف واللغة والفقه والاعراب والقراءات وتاج مصنفاته البحر المحيط في التفسير.

يقول رحمه‌الله : ما زال يختلج في ذكري ، ويعتلج في فكري أنه إذ أبلغ العقد الذي يحل عرى الشباب ألوذ بجنان الرحمن واقتصر على النظر في تفسير القرآن ... وقد سهل له ذلك العمل الجليل بانتصابه مدرسا في علم التفسير في قبة السلطان الملك المنصور ...

وكان عمره سبع وخمسين في آخر سنة عشر وسبعمائة وعند ما عكف على تصنيف كتابه : البحر المحيط الذي نقدم له.

منهج التفسير :

لقد اختار عالمنا الجليل اسما لتفسيره هو : البحر المحيط ، فكان لفظا ومعنى ومضمونا ، فالبحر معروف ، وهو أيضا الرجل الكريم الجواد ، والجواد الواسع الجري ، وبحر الأرض أي شقها فكأنما غاص إلى أعمق المعاني في تفسيره ، وأما المحيط فهو البحر المحدق ، فقد أحاط بالعلوم التي تمكنه من الغوص في بحار حكم كلام الله القرآن الكريم ومن ثمّ ليحيط بكتاب العزيز العليم فهو العروة الوثقى والحبل المتين.

قال :

فعكفت على تصنيف هذا الكتاب وانتخاب الصفو واللباب ، أجيل الفكر فيما وضع الناس في تصانيفهم ، وأمعن النظر فيما اقترحوه من تآليفهم ، فألخص مطولها وأحل مشكلها ، وأقيد مطلقها ، وأفتح مغلقها ، واجمع مبدّدها ... وأضيف إلى ذلك ما استخرجته من لطائف علم البيان المطلع على اعجاز القرآن ، العروة الوثقى والحبل المتين والصراط المستقيم.

وقد حدد لنا منهجه في التفسير ، فقال :

٥

١ ـ إني ابتدئ أولا بالكلام عن مفردات الآية التي أفسر لفظة لفظة فيما يحتاج فيه إلى اللغة والأحكام النحوية التي لتلك اللفظة قبل التركيب ... فإذا كان للكلمة معنيان أو معان ذكر ذلك في أول موضع من تلك الكلمة ، لينظر ما يناسب لها من تلك المعاني في كل موضع تقع فيه فتحمل عليه ، ويحيل ما يذكره من القواعد النحوية على كتب النحو.

٢ ـ ثم يشرع في تفسير الآية ذاكرا سبب نزولها إذا كان لها سبب ، ونسخها ومناسباتها وارتباطها بما قبلها.

٣ ـ ولا يبخل عليها بما فيها من قراءات فيحشد منها شاذها ومستعملها ، ويذكر أقاويل السلف والخلف في فهم معانيها.

٤ ـ وهو العالم في العربية وخبير الاعراب ، فيشرح بيان ما فيها من غوامض الاعراب ، ودقائق الآداب من بديع وبيان ، محيلا في أكثر الأحيان على الموضع الذي تكلم فيه عن تلك اللفظة أو الجملة أو الآية مبتعدا في الاعراب عن الوجوه التي تنزه القرآن عنها ، مبينا أنه ينبغي أن تحمل على أحسن اعراب وأحسن تركيب ، فكلام الله تعالى أفصح الكلام.

٥ ـ وينقل أقاويل الفقهاء الأربعة وغيرهم في الأحكام الشرعية بما فيه تعلقه باللفظ القرآني ، محيلا كل ذلك على الدلائل في كتب الفقه.

وهكذا لم يترك شاردة ولا واردة إلا بيّنها جلية واضحة ومن الصعب الإحاطة بخصائص هذا التفسير العظيم في هذه السطور المتواضعة غير أننا سنترك للقارىء العزيز أن يكتشف بنفسه خلال دراسته ومطالعته عجائب هذا التفسير وغرائبه ومصنفه العالم البحر أبي حيان رحمه‌الله.

عمل دار الفكر

كان اعتمادنا في إخراج هذه الطبعة للكتاب على النسخة الوحيدة المطبوعة له منذ ما يقارب المائة عام ، وقد توخينا في إخراجنا لهذا التفسير البحر بثوبه الجديد ، كما قدمنا ، أن نضعه امام العالم والدارس والطالب صحيحا سليما سهل التناول ، وقد رعينا من أجل ذلك ما يلي :

١ ـ إدخال الآيات المفسرة من المصحف دفعا لأي خطأ في التصحيح أو التباس في النسخ ، ومن ناحية ثانية يكون أمام القارئ مصحف كامل مع تفسير شامل.

٢ ـ راعينا قواعد التبويب وذلك بتحديد الفقرات والمقاطع والبدايات المناسبة لموضوع الآية أو لموضوع مجموعة الآيات المفسرة في السورة الواحدة مع التنسيق الكامل بينها وبين الشرح.

٦

٣ ـ ولكي نبلغ الغاية التي ننشدها التزمنا قواعد التنقيح من وضع فواصل ونقاط وإشارات .. إلخ وذلك بعد قراءة النص بكل تمعن وإتقان.

٤ ـ عزونا الآيات القرآنية المستدل بها في الشرح.

٥ ـ أثبتنا القرآن في الشرح بالرسم الإملائي في معظم الأحيان وهو جائز لأنه خارج المصحف.

٦ ـ أشرنا إلى الأحاديث النبوية التي يستشهد بها الشارح خلال تفسيره وجعلناها بحرف مميز بين هلالين صغيرين.

٧ ـ وضعنا فهرس تفصيلي للموضوعات يساعد القارئ على الوصول إلى مبتغاه بيسر وسهولة ، كما وضعنا في رأس كل صفحة (ترويسة) عنوان ينبئ القارئ عن الآية التي يتناولها الشارح في تلك الصفحة.

٨ ـ صنعنا فهارس شاملة للكتاب تضمنت هذه الفهارس :

أـ فهرس للآيات القرآنية المستشهد بها.

ب ـ فهرس للأحاديث النبوية : القولية والفعلية والتقريرية والأوامر والنواهي النبوية التي استشهد بها الشارح في تفسيره.

ج ـ فهرس الأعلام.

د ـ فهرس الأماكن والمعالم الجغرافية.

ه ـ فهرس القبائل والشعوب والمذاهب والأديان والفرق.

وـ فهرس الشعر والرجز والأمثال التي يذكرها الشارح ليستدل بها في معنى لفظ أو إعراب كلمة ...

وهكذا نكون قد وفينا ما وعدنا القارئ به في مطلع هذه المقدمة وهو تسهيل الفائدة من هذا التفسير القيم بإخراجه الجديد راجين من الله الثواب وحسن الجزاء ومن إخواننا المؤازرة بالإغضاء وحسن الدعاء.

بيروت يوم الأحد : ٢٧ شعبان ١٤١٢ ه‍

١ آذار ١٩٩٢ م.

وكتبه الراجي عفو ربه

صدقي محمد جميل

غفر الله له الناشر

٧
٨

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام العالم العلامة ، البحر الفهامة ، المحقق المدقق ، حجة البلغاء ، وقدوة النحاة والأدباء ، الأستاذ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن حيان الأندلسي الجياني ، رحمه‌الله تعالى ، وأمتع بعلومه المسلمين آمين.

الحمد لله ، مبدىء صور المعارف الربانية في مرايا العقول ، ومبرزها من محال الأفكار إلى محال المقول ، وحارسها بالقوتين الذاكرة للمنقول ، والمفكرة للمعقول ، ومفيض الخير عليها من نتيجة مقدمات الوجود ، السائر روح قدسه في بطون التهائم وظهور النجود ، المبرز في الاتصالات الإلهية والمواهب الربانية على كل موجود ، محمد ذي المقام المحمود ، والحوض المورود ، المبتعث بالحق الأبهج للأنام داعيا ، وبالطريق الأنهج إلى دار الإسلام مناديا ، الصادع بالحق ، الهادي للخلق ، المخصوص بالقرآن المبين ، والكتاب المستبين ، الذي هو أعظم المعجزات ، وأكبر الآيات البينات ، السائرة في الآفاق ، الباقي بقاء الأطواق في الأعناق ، الجديد على تقادم الأعصار ، اللذيذ على توالي التكرار ، الباسق في الإعجاز إلى الذروة العليا ، الجامع لمصالح الآخرة والدنيا ، الجالي بأنواره ظلم الإلحاد ، الحالي بجواهر معانيه طلي الأجياد ، صلى الله على من أنزل عليه ، وأهدى أرج تحية وأزكاها إليه ، وعلى آله المختصين بالزلفى لديه ، ورضي الله عن صحبه الذين نقلوا عنه كتاب الله أداء وعرضا ، وتلقوه من فيه جنيا وغضا ، وأدوه إلينا صريحا محضا.

وبعد ، فإن المعارف جمة ، وهي كلها مهمة ، وأهمها ما به الحياة الأبدية ، والسعادة السرمدية ، وذلك علم كتاب الله هو المقصود بالذات ، وغيره من العلوم له كالأدوات ، هو

٩

العروة الوثقى ، والوزر الأقوى الأوقى ، والحبل المتين ، والصراط المبين ، وما زال يختلج في ذكري ، ويعتلج في فكري ، أني إذا بلغت الأمد الذي يتغضد فيه الأديم ، ويتنغص برؤيتي النديم ، وهو العقد الذي يحل عرى الشباب ، المقول فيه إذا بلغ الرجل الستين ، فإياه وايا الشواب ، ألوذ بجناب الرحمن ، وأقتصر على النظر في تفسير القرآن ، فأتاح الله لي ذلك قبل بلوغ ذلك العقد ، وبلغني ما كنت أروم من ذلك القصد ، وذلك بانتصابي مدرسا في علم التفسير في قبة السلطان الملك المنصور ، قدس الله مرقده ، وبلّ بمزن الرحمة معهده ، وذلك في دولة ولده السلطان القاهر ، الملك الناصر ، الذي رد الله به الحق إلى أهله ، وأسبغ على العالم وارف ظله ، واستنقذ به الملك من غصابه ، وأقره في منيف محله وشريف نصابه ، وكان ذلك في أواخر سنة عشر وسبعمائة ، وهي أوائل سنة سبع وخمسين من عمري ، فعكفت على تصنيف هذا الكتاب ، وانتخاب الصفو واللباب ، أجيل الفكر فيما وضع الناس في تصانيفهم ، وأنعم النظر فيما اقترحوه من تآليفهم ، فألخص مطولها ، وأحل مشكلها ، وأقيد مطلقها ، وأفتح مغلقها ، وأجمع مبددها ، وأخلص منقدها ، وأضيف إلى ذلك ما استخرجته القوة المفكرة من لطائف علم البيان ، المطلع على إعجاز القرآن.

ومن دقائق علم الإعراب ، المغرب في الوجود أي إغراب ، المقتنص في الأعمار الطويلة من لسان العرب ، وبيان الأدب ، فكم حوى من لطيفة فكري مستخرجها ، ومن غريبة ذهني منتجها ، تحصلت بالعكوف على علم العربية ، والنظر في التراكيب النحوية ، والتصرف في أساليب النظم والنثر ، والتقلب في أفانين الخطب والشعر ، لم يهتد إلى إثارتها ذهن ، ولا صاب بريقها مزن ، وأنى ذلك وهي أزاهر خمائل غفل ، ومناظر ما لمستغلق أبوابها من قفل. في إدراك مثلها تتفاوت الأفهام ، وتتبارى الأوهام ، وليس العلم على زمان مقصورا ، ولا في أهل زمان محصورا ، بل جعله الله حيث شاء من البلاد ، وبثه في التهائم والنجاد ، وأبرزه أنوارا تتوسم ، وأزهارا تتنسم ، وما زال بأفقنا المغربي الأندلسي ، على بعده من مهبط الوحي النبوي ، علماء بالعلوم الإسلامية وغيرها. وفهماء تلاميذ لهم دراة نقله ، يروون فيروون ويسقون فيرتوون ، وينشدون فينشدون ، ويهدون فيهدون ، هذا وإن اختلفوا في مدارك العلوم ، وتباينوا في المفهوم ، فكل منهم له مزية لا يجهل قدرها ، وفضيلة لا يسر بدرها.

١٠

ومما برعوا فيه علم الكتاب ، انفردوا بإقرائه مذ اعصار دون غيرهم من ذوي الآداب ، أثاروا كنوزه ، وفكوا رموزه ، وقربوا قاصيه ، وراضوا عاصيه ، وفتحوا مقفله ، وأوضحوا مشكله ، وأنهجوا شعابه ، وذللوا صعابه ، وأبدوا معانيه في صورة التمثيل ، وأبدعوه بالتركيب والتحليل. فالكتاب هو المرقاة إلى فهم الكتاب ، إذ هو المطلع على علم الإعراب ، والمبدي من معالمه ما درس ، والمنطق من لسانه ما خرس ، والمحيي من رفاته ما رمس ، والراد من نظائره ما طمس. فجدير لمن تاقت نفسه إلى علم التفسير ، وترقت إلى التحقيق فيه والتحرير ، أن يعتكف على كتاب سيبويه ، فهو في هذا الفن المعوّل عليه ، والمستند في حل المشكلات إليه. ولم ألق في هذا الفن من يقارب أهل قطرنا الأندلسي فضلا عن المماثلة ، ولا من يناضلهم فيداني في المناضلة ، وما زلت من لدن ميزت أتلمذ للعلماء ، وأنحاز للفهماء ، وأرغب في مجالسهم ، وأنافس في نفائسهم ، وأسلك طريقهم ، وأتبع فريقهم ، فلا أنتقل إلا من إمام إلى إمام ، ولا أتوقل إلا ذروة علام. فكم صدر أودعت علمه صدري ، وحبر أفنيت في فوائده حبري ، وإمام أكثرت به الإلمام ، وعلام أطلت معه الاستعلام ، أشنف المسامع بما تحسد عليه العيون ، وأذيل في تطلاب ذلك المال المصون ، وأرتع في رياض وارفة الظلال ، وأكرع في حياض صافية السلسال ، وأقتبس بها من أنوارهم ، وأقتطف من أزهارهم ، وأبتلج من صفحاتهم ، وأتأرج من نفحاتهم ، وألقط من نثارهم ، وأضبط من فضالة إيثارهم ، وأقيد من شواردهم ، وأنتقي من فرائدهم. فجعلت العلم بالنهار سحيري ، وبالليل سميري ، زمان غيري يقصر ساريه على الصبا ، ويهب للهو ولا كهبوب الصبا ، ويرفل في مطارف اللهو ، ويتقمص أردية الزهو ، ويؤثر مسرات الأشباح ، على لذات الأرواح ، ويقطع نفائس الأوقات ، في خسائس الشهوات ، من مطعم شهي ، ومشرب روي ، وملبس بهي ، ومركب خطي ، ومفرش وطي ، ومنصب سني ، وأنا أتوسد أبواب العلماء ، وأتقصد أماثل الفهماء ، وأسهر في حنادس الظلام ، وأصبر على شظف الأيام ، وأوثر العلم على الأهل والمال والولد ، وأرتحل من بلد إلى بلد ، حتى ألقيت بمصر عصا التسيار ، وقلت ما بعد عبادان من دار ، هذه مشارق الأرض ومغاربها ، وبها طوالع شموسها وغواربها ، بيضة الإسلام ، ومستقر الأعلام ، فأقمت بها لمعرفة أبديها ، وعارفة علم أسديها ، وثأي أرأبه ، وفاضل أصحبه ، وبها صنفت تصانيفي ، وألفت تآليفي ، ومن بركاتها على تصنيفي لهذا الكتاب ، المقرب من رب الأرباب ، المرجو أن يكون نورا يسعى بين يديّ ، وسترا من النار يضفو عليّ. فما لمخلوق بتأليفه قصدت ، ولا غير وجه الله به

١١

أردت. جعلت كتاب الله والتدبير لمعانيه أنيسي ، إذ هو أفضل مؤانس ، وسميري إذا أخلو لكتب ظلم الحنادس :

نعم السمير كتاب الله أن له

حلاوة هي أحلى من جنى الضرب

به فنون المعاني قد جمعن فما

يفتن من عجب إلا إلى عجب

أمر ونهي وأمثال وموعظة

وحكمة أودعت في أفصح الكتب

لطائف يجتليها كل ذي بصر

وروضة يجتنيها كل ذي أدب

وترتيبي في هذا الكتاب ، أني أبتدىء أولا بالكلام على مفردات الآية التي أفسرها ، لفظة لفظة ، فيما يحتاج إليه من اللغة والأحكام النحوية التي لتلك اللفظة قبل التركيب. وإذا كان للكلمة معنيان أو معان ، ذكرت ذلك في أول موضع فيه تلك الكلمة ، لينظر ما يناسب لها من تلك المعاني في كل موضع تقع فيه ، فيحمل عليه ، ثم أشرع في تفسير الآية ، ذاكرا سبب نزولها ، إذا كان لها سبب ، ونسخها ومناسبتها وارتباطها بما قبلها ، حاشدا فيها القراءات ، شاذها ومستعملها ، ذاكرا توجيه ذلك في علم العربية ، ناقلا أقاويل السلف والخلف في فهم معانيها ، متكلما على جليها وخفيها ، بحيث أني لا أغادر منها كلمة ، وإن اشتهرت ، حتى أتكلم عليها ، مبديا ما فيها من غوامض الإعراب ودقائق الآداب من بديع وبيان ، مجتهدا أني لا أكرر الكلام في لفظ سبق ، ولا في جملة تقدم الكلام عليها ، ولا في آية فسرت ، بل أذكر في كثير منها الحوالة على الموضع الذي تكلم فيه على تلك اللفظة أو الجملة أو الآية ، وإن عرض تكرير فبمزيد فائدة ، ناقلا أقاويل الفقهاء الأربعة ، وغيرهم في الأحكام الشرعية مما فيه تعلق باللفظ القرآني ، محيلا على الدلائل التي في كتب الفقه ، وكذلك ما نذكره من القواعد النحوية أحيل في تقررها والاستدلال عليها على كتب النحو ، وربما أذكر الدليل إذا كان الحكم غريبا ، أو خلاف مشهور ما قال معظم الناس ، بادئا بمقتضى الدليل وما دل عليه ظاهر اللفظ من حجا له لذلك ما لم يصد عن الظاهر ما يجب إخراجه به عنه ، منكبا في الإعراب عن الوجوه التي تنزه القرآن عنها ، مبينا أنها مما يجب أن يعدل عنه ، وأنه ينبغي أن يحمل على أحسن إعراب وأحسن تركيب ، إذ كلام الله تعالى أفصح الكلام ، فلا يجوز فيه جميع ما يجوزه النحاة في شعر الشماخ والطرماح وغيرهما من سلوك التقادير البعيدة والتراكيب القلقة والمجازات المعقدة.

ثم أختتم الكلام في جملة من الآيات التي فسرتها إفرادا وتركيبا بما ذكروا فيها من

١٢

علم البيان والبديع ، ملخصا ، ثم أتبع آخر الآيات بكلام منثور أشرح به مضمون تلك الآيات على ما أختاره من تلك المعاني ، ملخصا جملها في أحسن تلخيص ، وقد ينجر معها ذكر معان لم تتقدم في التفسير ، وصار ذلك أنموذجا لمن يريد أن يسلك ذلك فيما بقي من سائر القرآن. وستقف على هذا المنهج الذي سلكته ، إن شاء الله تعالى ، وربما ألممت بشيء من كلام الصوفية مما فيه بعض مناسبة لمدلول اللفظ ، وتجنبت كثيرا من أقاويلهم ومعانيهم التي يحملونها الألفاظ ، وتركت أقوال الملحدين الباطنية المخرجين الألفاظ القريبة عن مدلولاتها في اللغة إلى هذيان افتروه على الله تعالى وعلى علي كرم الله وجهه وعلى ذريته ، ويسمونه علم التأويل. وقد وقفت على تفسير لبعض رؤوسهم ، وهو تفسير عجيب يذكر فيه أقاويل السلف مزدريا عليهم وذاكرا أنه ما جهل مقالاتهم ، ثم يفسر هو الآية على شيء لا يكاد يخطر في ذهن عاقل ، ويزعم أن ذلك هو المراد من هذه الآية وهذه الطائفة لا يلتفت إليها ، وقد رد أئمة المسلمين عليهم أقاويلهم وذلك مقرر في علم أصول الدين.

نسأل الله السلامة في عقولنا وأدياننا وأبداننا ، وكثيرا ما يشحن المفسرون تفاسيرهم من ذلك الإعراب ، بعلل النحو ودلائل أصول الفقه ودلائل أصول الدين ، وكل هذا مقرر في تآليف هذه العلوم ، وإنما يؤخذ ذلك مسلما في علم التفسير دون استدلال عليه. وكذلك أيضا ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول وأحاديث في الفضائل وحكايات لا تناسب وتواريخ إسرائيلية ، ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير. ومن أحاط بمعرفة مدلول الكلمة وأحكامها قبل التركيب ، وعلم كيفية تركيبها في تلك اللغة ، وارتقى إلى تمييز حسن تركيبها وقبحه ، فلن يحتاج في فهم ما تركب من تلك الألفاظ إلى مفهم ولا معلم ، وإنما تفاوت الناس في إدراك هذا الذي ذكرناه ، فلذلك اختلفت أفهامهم وتباينت أقوالهم.

وقد جرينا الكلام يوما مع بعض من عاصرنا ، فكان يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تراكيبه بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم ، وأن فهم الآيات متوقف على ذلك. والعجب له أنه يرى أقوال هؤلاء كثيرة الاختلاف ، متباينة الأوصاف ، متعارضة ، ينقض بعضها بعضا ، ونظير ما ذكره هذا المعاصر أنه لو تعلم أحدنا مثلا لغة الترك إفرادا وتركيبا حتى صار يتكلم بتلك اللغة ويتصرف فيها نثرا ونظما ، ويعرض ما تعلمه على كلامهم فيجده مطابقا للغتهم قد شارك فيها فصحاءهم ، ثم جاءه كتاب بلسان الترك فيحجم عن تدبره وعن فهم ما تضمنه من المعاني حتى يسأل عن ذلك سنقرا التركي

١٣

أو سنجرا ، ترى مثل هذا يعد من العقلاء ، وكان هذا المعاصر يزعم أن كل آية نقل فيها التفسير خلف عن سلف بالسند إلى أن وصل ذلك إلى الصحابة ، ومن كلامه أن الصحابة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفسيرها هذا ، وهم العرب الفصحاء الذين نزل القرآن بلسانهم. وقد روي عن علي كرم الله وجهه ، وقد سئل : هل خصكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء؟ فقال : ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهما يؤتاه الرجل في كتابه. وقول هذا المعاصر يخالف قول علي ، رضي‌الله‌عنه. وعلى قول هذا المعاصر يكون ما استخرجه الناس بعد التابعين من علوم التفسير ومعانيه ودقائقه ، وإظهار ما احتوى عليه من علم الفصاحة والبيان والإعجاز لا يكون تفسيرا حتى ينقل بالسند إلى مجاهد ونحوه ، وهذا كلام ساقط.

وإذ قد جر الكلام إلى هذا ، فلنذكر ما يحتاج إليه علم التفسير من العلوم على الاختصار ، وننبه على أحسن الموضوعات التي في تلك العلوم المحتاج إليها فيه فنقول : النظر في تفسير كتاب الله تعالى يكون من وجوه :

الوجه الأول ـ علم اللغة اسما وفعلا وحرفا : الحروف لقلتها تكلم على معانيها النحاة ، فيؤخذ ذلك من كتبهم ، وأما الأسماء والأفعال فيؤخذ ذلك من كتب اللغة ، وأكثر الموضوعات في علم اللغة كتاب ابن سيده ، فإن الحافظ أبا محمد علي بن أحمد الفارسي ذكر أنه في مائة سفر بدأ فيه بالفلك وختم بالذرة. ومن الكتب المطوّلة فيه : كتاب الأزهري ، والموعب لابن التياني ، والمحكم لابن سيده ، وكتاب الجامع لأبي عبد الله محمد بن جعفر التميمي القيرواني ، عرف بالقزاز ، والصحاح للجوهري ، والبارع لأبي علي التالي ، ومجمع البحرين للصاغاني. وقد حفظت في صغري في علم اللغة كتاب الفصيح لأبي العباس أحمد بن يحيى الشيباني ، واللغات المحتوي عليها دواوين مشاهير العرب الستة : امرئ القيس ، والنابغة ، وعلقمة ، وزهير ، وطرفة ، وعنترة ، وديوان الأفوه الأودي لحفظي عن ظهر قلب لهذه الدواوين. وحفظت كثيرا من اللغات المحتوي عليها نحو الثلث من كتاب الحماسة واللغات التي تضمنها قصائد مختارة من شعر حبيب بن أوس لحفظي ذلك. ومن الموضوعات في الأفعال : كتاب ابن القوطية ، وكتاب ابن طريف ، وكتاب السرقنطي المنبوز (١) بالحمار. ومن أجمعها : كتاب ابن القطاع.

الوجه الثاني ـ معرفة الأحكام التي للكلم العربية من جهة إفرادها ومن جهة تركيبها : ويؤخذ ذلك من علم النحو ، وأحسن موضوع فيه وأجله كتاب أبي بشر عمرو بن عثمان بن

__________________

(١) المنبوز : المسمّى على وجه السخرية. وفي التنزيل العزيز : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ).

١٤

قنبر سيبويه ، رحمه‌الله تعالى. وأحسن ما وضعه المتأخرون من المختصرات وأجمعه للأحكام كتاب تسهيل الفوائد لأبي عبد الله محمد بن مالك الجياني الطائي ، مقيم دمشق. وأحسن ما وضع في التصريف كتاب الممنع لأبي الحسن علي بن مؤمن بن عصفور الحضرمي الشبيلي ، رحمه‌الله تعالى. وقد أخذت هذا الفن عن أستاذنا الأوحد العلامة أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي في كتاب سيبويه وغيره.

الوجه الثالث ـ كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح : ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع. وقد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة ، وأجمعها ما جمعه شيخنا الأديب الصالح أبو عبد الله محمد بن سليمان النقيب ، وذلك في مجلدين قدمهما أمام كتابه في التفسير ، وما وضعه شيخنا الأديب الحافظ المتبحر أبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأندلسي الأنصاري القرطاجني ، مقيم تونس ، المسمى منهاج البلغاء وسراج الأدباء. وقد أخذت جملة من هذا الفن عن أستاذنا أبي جعفر بن الزبير ، رحمه‌الله تعالى.

الوجه الرابع ـ تعيين مبهم ، وتبيين مجمل ، وسبب نزول ونسخ : ويؤخذ ذلك من النقل الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك من علم الحديث. وقد تضمنت الكتب والأمهات التي سمعناها ورويناها ذلك ، كالصحيحين ، والجامع للترمذي ، وسنن أبي داود ، وسنن النسائي ، وسنن ابن ماجة ، وسنن الشافعي ، ومسند الدارمي ، ومسند الطيالسي ، ومسند الشافعي ، وسنن الدارقطني ، ومعجم الطبراني الكبير ، والمعجم الصغير له ، ومستخرج أبي نعيم على مسلم ، وغير ذلك.

الوجه الخامس ـ معرفة الإجمال ، والتبيين ، والعموم ، والخصوص ، والإطلاق ، والتقييد ، ودلالة الأمر والنهي ، وما أشبه هذا : ويختص أكثر هذا الوجه بجزء الأحكام من القرآن ، ويؤخذ هنا من أصول الفقه ، ومعظمه هو في الحقيقة راجع لعلم اللغة ، إذ هو شيء يتكلم فيه على أوضاع العرب ، ولكن تكلم فيه غير اللغويين أو النحويين ومزجوه بأشياء من حجج العقول. ومن أجمع ما في هذا الفن في كتاب المحصول لأبي عبد الله محمد بن عمر الرازي. وقد بحثت في هذا الفن في كتاب الإشارة لأبي الوليد الباجي على الشيخ الأصولي الأديب أبي الحسن فضل بن إبراهيم العافري ، الإمام بجامع غرناطة ، والخطيب به ، وعلى الأستاذ العلامة أبي جعفر بن الزبير في كتاب الإشارة ، وفي شرحها له ، وذلك بالأندلس. وبحثت أيضا في هذا الفن على الشيخ علم الدين عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري ، المعروف بابن بنت العراقي ، في مختصره الذي اختصره من كتاب المحصول ،

١٥

وعلى الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خطاب الباجي ، في مختصره الذي اختصره من كتاب المحصول ، وعلى الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني ، صاحب شرح المحصول ، بحثت عليه في كتاب القواعد ، من تأليفه ، رحمه‌الله تعالى.

الوجه السادس ـ الكلام فيما يجوز على الله تعالى ، وما يجب له ، وما يستحيل عليه ، والنظر في النبوة : ويختص هذا الوجه بالآيات التي تضمنت النظر في الباري تعالى ، وفي الأنبياء ، وإعجاز القرآن ، ويؤخذ هذا من علم الكلام. وقد صنف علماء الإسلام من سائر الطوائف في هذا كتبا كثيرة ، وهو علم صعب ، إذ المزلة فيه ، والعياذ بالله ، مفض إلى الخسران في الدنيا والآخرة ، وقد سمعت منه مسائل تبحث على الشيخ شمس الدين الأصفهاني وغيره.

الوجه السابع ـ اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص ، أو تغيير حركة ، أو إتيان بلفظ بدل لفظ ، وذلك بتواتر وآحاد : ويؤخذ هذا الوجه من علم القراءات. وقد صنف علماؤنا في ذلك كتبا لا تكاد تحصى ، وأحسن الموضوعات في القراءات السبع كتاب الإقناع لأبي جعفر بن الباذش ، وفي القراءات العشرة كتاب المصباح لأبي الكرم الشهرزوري. وقد قرأت القرآن بقراءة السبعة ، بجزيرة الأندلس ، على الخطيب أبي جعفر أحمد بن علي بن محمد الرعيني ، عرف بابن الطباع ، بغرناطة ، وعلى الخطيب أبي محمد عبد الحق بن علي بن عبد الله الأنصاري الوادي تشبتي ، بمطحشارش ، من حضرة غرناطة ، وعلى غيرهما بالأندلس. وقرأت القرآن بالقراءات الثمان ، بثغر الاسكندرية ، على الشيخ الصالح رشيد الدين أبي محمد عبد النصير بن علي بن يحيى الهمداني ، عرف بابن المربوطي.

وقرأت القرآن بالقراءات السبعة ، بمصر ، حرسها الله تعالى ، على الشيخ المسند العدل فخر الدين أبي الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي المليجي ، وأنشأت في هذا العلم كتاب عقد اللآلي ، قصيدا في عروض قصيد الشاطبي ، ورويه يشتمل على ألف بيت وأربعة وأربعين بيتا ، صرحت فيها بأسامي القراء من غير رمز ولا لغز ولا حوشى لغة ، وأنشأته من كتب تسعة ، كما قلت :

تنظم هذا العقد من در تسعة

من الكتب فالتيسير عنوانه انجلا

بكاف لتجريد وهاد لتبصره

وإقناع تلخيصين أضحى مكملا

جنيت له أنسى لفظ لطيفة

وجانبت وحشيا كثيفا معقلا

١٦

فهذه سبعة وجوه ، لا ينبغي أن يقدم على تفسير كتاب الله إلا من أحاط بجملة غالبها من كل وجه منها ، ومع ذلك فاعلم أنه لا يرتقي من علم التفسير ذروته ، ولا يمتطي منه صهوته ، إلا من كان متبحرا في علم اللسان ، مترقيا منه إلى رتبة الإحسان ، قد جبل طبعه على إنشاء النثر والنظم دون اكتساب ، وإبداء ما اخترعته فكرته السليمة في أبدع صورة وأجمل جلباب ، واستفرغ في ذلك زمانه النفيس ، وهجر الأهل والولد والأنيس ، ذلك الذي له في رياضه أصفى مرتع ، وفي حياضه أصفى مكرع ، يتنسم عرف أزاهر طال ما حجبتها الكمام ، ويترشف كؤوس رحيق له المسك ختام ، ويستوضح أنوار بدور سترتها كثائف الغمام ، ويستفتح أبواب مواهب الملك العلام ، يدرك إعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد ، وينفتح له ما استغلق إذ بيده الإقليد.

وأما من اقتصر على غير هذا من العلوم ، أو قصر في إنشاء المنثور والمنظوم ، فإنه بمعزل عن فهم غوامض الكتاب ، وعن إدراك لطائف ما تضمنه من العجب العجاب ، وحظه من علم التفسير إنما هو نقل أسطار ، وتكرار محفوظ على مر الأعصار ، ولتباين أهل الإسلام في إدراك فصاحة الكلام ، وما به تكون الرّجاجة في النظام ، اختلفوا فيما به إعجاز القرآن ، فمن توغل في أساليب الفصاحة وأفانينها ، وتوقل في معارف الآداب وقوانينها ، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها ، ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها ، فمعارضته عنده غير ممكنة للبشر ، ولا داخلة تحت القدر. ومن لم يدرك هذا المدرك ، ولا سلك هذا المسلك ، رأى أنه من نمط كلام العرب ، وأن مثله مقدور لمنشئ الخطب. فإعجازه عنده إنما هو بصرف الله تعالى إياهم عن معارضته ومناضلته ، وإن كانوا قادرين على مماثلته. والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف ، هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء حين رأت زوجها يطؤ جارية فعاتبته ، فأخبر أنه ما وطئها ، فقالت له : إن كنت صادقا فاقرأ شيئا من القرآن ، فأنشدها بيت شعر قاله ، ذكر الله فيه ورسوله وكتابه ، فصدقته ، فلم ترزق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق.

وحكى لنا أستاذنا العلامة أبو جعفر ، رحمه‌الله تعالى عن بعض من كان له معرفة بالعلوم القديمة ، ومعرفة بكثير من العلوم الإسلامية ، أنه كان يقول له : يا أبا جعفر ، لا أدرك فرقا بين القرآن وبين غيره من الكلام. فهذا الرجل وأمثاله من علماء المسلمين يكون من الطائفة الذين يقولون بأن الإعجاز وقع بالصرفة. وكان بعض شيوخنا ممن له تحقق

١٧

بالمعقول ، وتصرف في كثير من المنقول ، إذا أراد أن يكتب فقرا فصيحة ، أتى لبعض تلامذته وكلفه أن ينشئها له. وكان بعض شيوخنا ، ممن له التبحر في علم لغة العرب ، إذا أسقط من بيت الشعر كلمة أو ربع البيت ، وكان المعين بدون ما أسقط لا يدرك ما أسقط من ذلك ، وأين هذا في الإدراك من آخر إذا حركت له مسكنا أو سكنت له محركا في بيت أدرك ذلك بالطبع وقال إن هذا البيت مكسور ، ويدرك ذلك في أشعار العرب الفصحاء ، إذا كان فيه زحاف ما ، وإن كان جائزا في كلام العرب ، لكن يجد مثل هذا طبعه ينبو عنه ويقلق لسماعه. هذا ، وإن كان لا يفهم معنى البيت ، لكونه حوشى اللغات أو منطويا على حوشى. فهذه كلها من مواهب الله تعالى ، لا تؤخذ باكتساب ، لكن الاكتساب يقويها ، وليس العرب متساوين في الفصاحة ، ولا في إدراك المعاني ، ولا في نظم الشعر ، بل فيه من يكسر الوزن ، ومن لا ينظم ولا بيتا واحدا ، ومن هو مقل من النظم ، وطباعهم كطباع سائر الأمم في ذلك ، حتى فحول شعرائهم يتفاوتون في الفصاحة ، وينقح الشاعر منهم القصيدة حولا حتى يسمى قصايد الحوليات ، فهم مختلفون في ذلك.

وكذلك كان بعض الكفار حين سمع القرآن أدرك إعجازه للوقت ، فوفق وأسلم ، وآخر أدرك إعجازه فكفر ، ولج في عناده بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، فنسبه تارة إلى الشعر وتارة إلى الكهانة والسحر ، وآخر لم يدرك إعجاز القرآن ، كتلك المرأة العربية التي قدمنا ذكرها ، وكحال أكثر الناس ، فإنهم لا يدركون إعجاز القرآن من جهة الفصاحة. فمن أدرك إعجازه ، فوفق وأسلم بأول سماع سمعه ، أبو ذر ، رضي‌الله‌عنه ، قرأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أوائل فصلت آيات فأسلم للوقت ، وخبره في إسلامه مشهور.

وممن أدرك إعجازه وكفر عنادا عتبة بن ربيعة ، وكان من عقلاء الكفار ، حتى كان يتوهم أمية بن الصلت أنه هو ، يعني عتبة يكون النبي المنبعث في قريش. فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حسده عتبة وأضرابه ، مع علمهم بصدقه ، وأن ما جاء به معجز. وكذلك الوليد بن المغيرة ، روي عنه أنه قال لبني مخزوم : والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنّه يعلو وما يعلى ، ومع هذا الاعتراف غلب عليه الحسد والأشر ، حتى قال ، ما حكى الله عنه : إن هذا إلّا سحر يؤثر ، إن هذا إلّا قول البشر.

وممن لم يدرك إعجازه ، أو أدرك وعاند وعارض ، مسيلمة الكذاب ، أتى بكلمات زعم أنها أوحيت إليه ، انتهت في الفهاهة والعي والغثاثة ، بحيث صارت هزأة للسامع ،

١٨

وكذلك أبو الطيب المتنبئ. وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن أبي الطيب الباقلاني ، في كتاب الانتصار في إعجاز القرآن ، شيئا من كلام أبي الطيب مما هو كفر. وذكر لنا قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري أن أبا الطيب ادعى النبوة ، واتبعه ناس من عبس وكلب ، وأنه اختلق شيئا أدعى أنه أوحى إليه به سورا سماها العبر ، وأن شعره لا يناسبها لجودة أكثره ورداءتها كلها ، أو كلاما هذا معناه ، وإنما أتينا بهذه الجملة من الكلام ، ليعلم أن أذهان الناس مختلفة في الإدراك على ما شاء الله تعالى وأعطى كل أحد.

ولنبين أن علم التفسير ليس متوقفا على علم النحو فقط ، كما يظنه بعض الناس ، بل أكثر أئمة العربية هم بمعزل عن التصرف في الفصاحة والتفنن في البلاغة ، ولذلك قلت تصانيفهم في علم التفسير ، وقل أن ترى نحويا بارعا في النظم والنثر ، كما قل أن ترى بارعا في الفصاحة يتوغل في علم النحو. وقد رأينا من ينسب للإمامة في علم النحو ، وهو لا يحسن أن ينطق بأبيات من أشعار العرب ، فضلا عن أن يعرف مدلولها ، أو يتكلم على ما انطوت عليه من علم البلاغة والبيان. فأنى لمثل هذا أن يتعاطى علم التفسير؟.

ولله در أبي القاسم الزمخشري حيث قال في خطبة كتابه في التفسير ما نصه : إن إملاء العلوم بما يغمر القرائح ، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح ، من غرائب نكت يلطف مسلكها ، ومستودعات أسرار يدق سلكها. علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه ، وإجالة النظر فيه ، كل ذي علم ، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن ، فالفقيه ، وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام ، والمتكلم ، وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام ، وحافظ القصص والأخبار ، وإن كان من ابن القرية أحفظ ، والواعظ ، وإن كان من الحسن البصري أوعظ ، والنحوي ، وإن كان أنحى من سيبويه ، واللغوي ، وإن علك اللغات بقوة لحييه ، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق ، إلّا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن ، وهما المعاني وعلم البيان ، وتمهل في ارتيادهما آونة ، وتعب في التنقير عنهما أزمنة ، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله ، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله ، بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ ، جامعا بين أمرين تحقيق وحفظ ، كثير المطالعات ، طويل المراجعات ، قد رجع زمانا ورجع إليه ، ورد ورد عليه ، فارسا في علم الإعراب ، مقدما في جملة الكتاب ، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها ، مشتعل القريحة وقادها ، يقظان النفس درا كاللمحجة وإن لطف شأنها ، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها ، لا كزا جاسيا ، ولا غليظا جافيا ، متصرفا ذا

١٩

دربة بأساليب النظم والنثر ، مرتاضا غير ريض بتلقيح نبات الفكر ، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف ، وكيف ينظم ويرصف ، طالما دفع إلى مضايقه ، ووقع في مداحضه ومزالقه. انتهى كلام الزمخشري في وصف متعاطي تفسير القرآن ، وأنت ترى هذا الكلام وما احتوى عليه من الترصيف الذي يبهر بجنسه الأدباء ، ويقهر بفصاحته البلغاء ، وهو شاهد له بأهليته للنظر في تفسير القرآن ، واستخراج لطائف الفرقان.

وهذا أبو القاسم محمود بن عمر المشرقي الخوارزمي الزمخشري وأبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المغربي الغرناطي ، أجل من صنف في علم التفسير ، وأفضل من تعرض للتنقيح فيه والتحرير. وقد اشتهرا ولا كاشتهار الشمس ، وخلدا في الأحياء وإن هداني في الرمس ، وكلامهما فيه يدل على تقدمهما في علوم ، من منثور ومنظوم ، ومنقول ومفهوم ، وتقلب في فنون الآداب ، وتمكن من علمي المعاني والإعراب ، وفي خطبتي كتابيهما وفي غضون كتاب الزمخشري ما يدل على أنهما فارسا ميدان ، وممارسا فصاحة وبيان.

وللزمخشري تصانيف غير تفسيره ، منها : الفائق في لغات الحديث ، ومختلف الأسماء ومؤتلفها ، وربيع الأبرار ، والرائض في الفرائض ، والمفصل ، وغير ذلك.

وقد ذكر الوزير أبو نصر الفتح بن خاقان الأشبيلي في كتابه المسمى قلائد العقيان ومحاسن الأعيان أبا محمد بن عطية ، فقال : فيه نبعة روح العلا ، ومحرز ملابس الثنا ، فذ الجلالة ، وواحد العصر والأصالة ، وقار كما رسا الهضب ، وأدب كما اطرد السلسل العذب ، أثره في كل معرفة علم في رأسه نار ، وطوالعه في آفاقها صبح ونهار. وقد أثبت من نظمه ما ينفح عبيرا ، ويتضح منيرا ، وأورد له نثرا كما نظم قلائد ، ونظما تزدان بمثله أجياد الولائد ، من ألفاظ عذبة تستنزل برقتها العصم ، ومعان مبتكرة تفحم الألد الخصم ، أبقت له ذكرا مخلدا على جبين الدهر ، وعرفا أرجا كتضوع الزهر.

ولما كان كتاباهما في التفسير قد أنجدا وأغارا ، وأشرقا في سماء هذا العلم بدرين وأنارا ، وتنزلا من الكتب التفسيرية منزلة الإنسان من العين ، والذهب الإبريز من العين ، ويتيمة الدر من اللآلي ، وليلة القدر من الليالي ، فعكف الناس شرقا وغربا عليهما ، وثنوا أعنة الاعتناء إليهما. وكان فيهما على جلالتهما مجال لانتقاد ذوي التبريز ، ومسرح للتخييل فيهما والتمييز ، ثنيت إليهما عنان الانتقاد ، وحللت ما تخيل الناس فيهما من الاعتقاد. إنهما

٢٠