البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

الجمع كقولهم : فلان أدركت ثمرة بستانه ، يريدون ثماره. وقولهم : للقصيدة كلمة ، وللقرية مدرة ، لا يريدون بذلك الإفراد. ولكم : إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولا به واللام منوية لتعدّي المصدر إليه نحو : ضربت ابني تأديبا له ، أي تأديبه ، وإن أريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف ، أي كائنا لكم ، ويحتمل أن تكون لكم متعلقا بأخرج ، أي فأخرج لكم به من الثمرات رزقا. وانتهى عند قوله : رزقا لكم ذكر خمسة أنواع من الدلائل : اثنين من الأنفس خلقهم وخلق من قبلهم ، وثلاثة من غير الأنفس كون الأرض فراشا وكون السماء بناء ، والحاصل من مجموعهما تقدم خلق الإنسان لأنه أقرب إلى معرفته ، وثنّى بخلق الآباء ، وثلث بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء ، وقدّم السماء على نزول المطر وإخراج الثمرات ، لأن هذا كالأمر المتولد بين السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر. وقيل : قدم المكلفين لأن خلقهم أحياء قادرين أصل لجميع النعم. وأما خلق السماء والأرض والماء والثمر ، فإنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة والعقل. وقد اختلف أيهما أفضل ، ومن قال السماء أفضل قال : لأنها متعبد الملائكة وما فيها من بقعة عصى الله فيها ، ولأن آدم لما عصاه قال : لا تسكن جواري ، ولتقديم السماء على الأرض في أكثر الآيات ، ولأن فيها العرش والكرسي واللوح المحفوظ والقلم ، وأنها قبلة الدعاء. ومن قال الأرض أفضل قال : لأن الله وصف منها بقاعا بالبركة ، ولأن الأنبياء مخلوقون منها ، ولأنها مسجد وطهور.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) ظاهره أنه نهى عن اتخاذ الأنداد ، وسموا أندادا على جهة المجاز من حيث أشركوهم معه تعالى في التسمية بالإلهية ، والعبادة صورة لا حقيقة لأنهم لم يكونوا يعبدونهم لذواتهم بل للتقرب إلى الله تعالى ، وكانوا يسمون الله إله الآلهة ورب الأرباب ، ومن شابه شيئا في وصف ما قيل : هو مثله وشبهه ونده في ذلك الوصف دون بقية أوصافه ، والنهي عن اتخاذ الأنداد بصورة الجمع هو على حسب الواقع لأنهم لم يتخذوا له تعالى ندا واحدا ، وإنما جعلوا له أندادا كثيرة ، فجاء النهي على ما كانوا اتخذوه ، ولذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل :

أربا واحدا أم ألف رب

أدين إذا تقسمت الأمور

وقرأ زيد بن علي بن محمد بن السميفع : ندا على التوحيد ، وهو مفرد في سياق النهي ، فالمراد به العموم ، إذ ليس المعنى : فلا تجعلوا لله ندا واحدا بل أندادا ، وهذا

١٦١

النهي متعلق بالأمر في قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة ، لأن أصل العبادة هو التوحيد. قال الزمخشري : متعلق بلعل ، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطّلع في قوله : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) (١) ، في رواية حفص عن عاصم ، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه ، انتهى كلامه. فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية ، وتجعلوا منصوب على جواب الترجي ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين ، إنما ذهب إلى جواز ذلك الكوفيون ، أجروا لعل مجرى هل. فكما أن الاستفهام ينصب الفعل في جوابه فكذلك الترجي. فهذا التخريج الذي أخرجه الزمخشري لا يجوز على مذهب البصريين ، وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم ، ألا ترى إلى تقديره أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه؟ فلا تشبهوه بخلقه ، وهو جار على ما مر من مذهبه الاعتزالي ، ويجوز أن يكون متعلقا بالذي إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية ، فلا تجعلوا له أندادا. والظاهر في هذا القول هو ما قدمناه أولا من تعلقه بقوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ).

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : جملة حالية ، وفيها من التحريك إلى ترك الأنداد وإفراد الله بالوحدانية ما لا يخفى ، أي أنتم من ذوي العلم والتمييز بين الحقائق والإدراك للطائف الأشياء والاستخراج لغوامض الدلائل ، في الرتبة التي لا تليق لمن تحلى بها أن يجعل لله ندا وهو خلقه. إذ ذاك فعل من كان أجهل العالم وأبعدهم عن الفطنة وأكثرهم تجويزا للمستحيلات. ومفعول تعلمون متروك لأن المقصود إثبات أنهم من أهل العلم والمعرفة. والتمييز تخصيص العلم بشيء ، قال معناه ابن قتيبة ، لأنه فسر تعلمون بمعنى تعقلون ، وقيل : هو محذوف اختصارا تقديره : وأنتم تعلمون أنه خلق السموات وأنزل الماء ، وفعل ما شرحه في هذه الآيات. ومعنى هذا مروي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل ، أو أنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابيكم التوراة والإنجيل. وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ، أو أنه لا ند له ، قاله مجاهد ، أو أنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه ، ذكره علي بن عبيد الله ، أو وأنتم تعلمون أنها حجارة ، قاله أبو محمد بن الخشاب ، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت ، أو وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) (٢)؟ قالهما الزمخشري والمخاطب بقوله : فلا تجعلوا ظاهره أنه للناس المأمورين باعبدوا ربكم ، وقد تقدمت أقاويل السلف في ذلك.

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٤٠.

١٦٢

قال ابن فورك : ويحتمل أن يكون الخطاب للمؤمنين ، المعنى : فلا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم أن العلم هو نفي الجهل بأن الله واحد. قال أبو محمد بن عطية ، هذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرف من جعل ندا ، انتهى. وقول أبي محمد يعطي أن الله أغنى الإنسان ، خطأ في التركيب ، لأن أعطى لا تنوب إنّ ومعمولاها مناب مفعوليها ، بخلاف ظن ، فإنها تنوب مناب مفعوليها ، ولذلك سر ذكر في علم العربية.

قال بعض المفسرين : اختص تعالى بهذه المخلوقات وهي : الخلقة البشرية ، والبنيتان الأرضية والسماوية ، لأنها محل الاعتبار ومسرح الأبصار ومواطن المنافع الدنيوية والأخروية ، وبها يقوم الدليل على وجود الصانع وقدرته وحكمته وحياته وإرادته ، وغير ذلك من صفاته الذاتية والفعلية ، وانفراده بخلقها وأحكامها ، وقدم الخلقة البشرية ، وإن كانت للعالم الأصغر ، لما فيها من بدائع الصنعة ما لا يعبر عنه وصف لسان ولا يحيط بكنهه فكر جنان ، وظهور حسن الصنعة في الأشياء اللطيفة الجرم أعظم منه في الأجرام العظام ، ولأن اعتبار الإنسان بنفسه في تقلب أحواله أقرب إلى ذهنه. قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١) ، أو لأن العرب عادتها تقديم الأهم عندها والمعتنى به ، قال : وهو تعالى بإصلاح حال البنية البشرية أكثر اهتماما من غيرها من المخلوقات ، لأنها أشرف مخلوقاته وأكرمها عليه. قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (٢) الآية ، ولأنه تعالى خلق هذه الأشياء منافع لبني آدم وأعدها نعما يمتن بها عليهم ، وذكر المنعم عليه يتقدم على ذكر النعمة. ثم إنه تعالى لما عرفهم أنه خالقهم أخبرهم أنه جعل لهم مكانا يستقرون عليه ، إذ كانت حكمته اقتضت ذلك ، فيستقرون فيه جلوسا ونوما وتصرفا في معايشهم ، وجعل منه سهلا للقرار والزرع ، ووعرا للاعتصام ، وجبالا لسكون الأرض من الاضطراب. ثم لما منّ عليهم بالمستقر أخبرهم بجعل ما يقيهم ويظلهم ، وجعله كالخيمة المضروبة عليهم ، وأشهدهم فيها من غرائب الحكمة بأن أمسكها فوقهم بلا عمد ولا طنب لتهتدي عقولهم ، أنها ليست مما يدخل تحت مقدور البشر ، ثم نبههم على النعمة العظمى ، وهي إنزال المطر الذي هو مادة الحياة وسبب اهتزاز الأرض بالنبات ، وأجناس الثمرات. وقدم ذكر الأرض على السماء ، وإن كانت أعظم في القدرة وأمكن في الحكمة ، وأتم في النعمة وأكبر في

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٢١.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٧٠.

١٦٣

المقدار ، لأن السقف والبنيان ، فيما يعهد ، لا بد له من أساس وعمد مستقر على الأرض ، فبدأ بذكرها ، إذ على متنها يوضع الأساس وتستقر القواعد ، إذ لا ينبغي ذكر السقف أولا قبل ذكر الأرض التي تستقر عليها قواعده ، أو لأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء ، فإنه تعالى خلق الأرض ومهد رواسيها قبل خلق السماء. قال تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) (١) إلى آخر الآيات ، أو لأن ذلك من باب الترقي بذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى.

وقد تضمنت هاتان الآيتان من بدائع الصنعة ، ودقائق الحكمة ، وظهور البراهين ، ما اقتضى تعالى أنه المنفرد بالإيجاد ، المتكفل للعباد ، دون غيره من الأنداد ، التي لا تخلق ولا ترزق ولا لها نفع ولا ضر ، ألا لله الخلق والأمر. قال بعض أصحاب الإشارات : لما امتن تعالى عليهم بأنه خلقهم والذين من قبلهم ، ضرب لهم مثلا يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم ، وأنهم وإن كانوا متوالدين بين ذكر وأنثى ، مخلوقين (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) ، هو تعالى خالقهم على الحقيقة ، ومصوّرهم في الأرحام كيف يشاء ، ومخرجهم طفلا ، ومربيهم بما يصلحهم من غذاء وشراب ولباس ، إلى غير ذلك من المنافع التي تدعو حاجتهم إليها فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الزوج ، وهي أيضا تسمى فراشا ، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها ، وضرب الماء النازل من السماء مثلا للنطفة التي تنزل من صلب الأب ، وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات بالولد الذي يخرج من بطن الأم ، يؤنس تعالى بذلك عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ، ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه ، كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ، ومخرج أشجارها من بطن الأرض ، فإذا أوضح ذلك لهم أفردوه بالإلهية ، وخصوه بالعبادة ، وحصلت لهم الهداية. قوله تعالى :

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)

إن : حرف ثنائي الوضع يكون شرطا ، وهو أصل أدواته ، وحرف نفي ، وفي إعماله أعمال ما الحجازية خلاف ، وزائدا مطردا بعد ما النافية ، وقبل مدة الإنكار ، ولا تكون

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٩.

١٦٤

بمعنى إذ خلافا لزاعمه ، ولا يعد من مواضعه المخففة من الثقيلة لأنها ثلاثية الوضع ، ولذلك اختلف حكمها في التصغير. العبد : لغة المملوك الذكر من جنس الإنسان ، وهو راجع لمعنى العبادة ، وتقدم شرحها. الإتيان : المجيء ، والأمر منه : ائت ، كما جاء في لفظ القرآن ، وشذ حذف فائه في الأمر قياسا واستعمالا ، قال الشاعر :

ت لي آل عوف فاندهم لي جماعة

وسل آل عوف أي شيء يضيرها

وقال آخر :

فإن نحن لم ننهض لكم فنبركم

فتونا قفوا دونا إذن بالجرائم

السورة : الدرجة الرفيعة. ألم تر أن الله أعطاك سورة؟ وسميت سورة القرآن بها لأن قارئها يشرف بقراءتها على من لم تكن عنده ، كسور البناء. وقيل : لتمامها وكمالها ، ومنه قيل للناقة التامة : سورة ، أو لأنها قطعة من القرآن ، من أسأرت ، والسؤر فاصلها الهمز وخففت ، قاله أبو عبيدة ، والهمز فيها لغة. من مثله : المماثلة تقع بأدنى مشابهة ، وقد ذكر سيبويه ، رحمه‌الله ، أن : مررت برجل مثلك ، يحتمل وجوها ثلاثة ، ولفظه مثل لازمة الإضافة لفظا ، ولذلك لحن بعض المولدين في قوله :

ومثلك من يملك الناس طرا

على أنه ليس في الناس مثل

ولا يكون محلا خلافا للكوفيين. وله في باب الصفة ، إذا جرى على مفرد ومثنى ومجموع ، حكم ذكر في النحو. الدعاء : الهتف باسم المدعو. الشهداء : جمع شهيد ، للمبالغة ، كعليم وعلماء ، ولا يبعد أن يكون جمع شاهد ، كشاعر وشعراء ، وليس فعلاء باب فاعل ، دون : ظرف مكان ملازم للظرفية الحقيقية أو المجازية ، ولا يتصرف فيه بغير من. قال سيبويه : وأما دونك فلا يرفع أبدا. قال الفراء : وقد ذكر دونك وظروفا نحوها لا تستعمل أسماء مرفوعة على اختيار ، وربما رفعوا. وظاهر قول الأخفش : جواز تصرفه ، خرج قوله تعالى (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) على أنه مبتدأ وبني لإضافته إلى المبنى ، وقد جاء مرفوعا في الشعر أيضا ، قال الشاعر :

ألم ترني أني حميت حقيبتي

وباشرت حد الموت والموت دونها

وتجيء دون صفة بمعنى رديء ، يقال : ثوب دون ، أي رديء ، حكاه سيبويه في أحد قوليه ، فعلى هذا يعرب بوجوه الإعراب ويكون دون مشتركا. الصدق : يقابله الكذب ، وهو مطابقة الخبر للمخبر عنه. لن : حرف نفي ثنائي الوضع بسيط ، لا مركب من لا إن خلافا

١٦٥

للخليل في أحد قوليه ، ولا نونها بدل من ألف ، فيكون أصلها لا خلافا للفرّاء ، ولا يقتضي النفي على التأبيد خلافا للزمخشري في أحد قوليه ، ولا هي أقصر نفيا من لا إذ لن تنفي ما قرب ، ولا يمتد معنى النفي فيها كما يمتد في لا خلافا لزاعمه ، ولا يكون دعاء خلافا لزاعمه ، وعملها النصب ، وذكروا أن الجزم بها لغة ، وأنشد ابن الطراوة :

لن يخب الآن من رجائك من

حرك دون بابك الحلقة

ولها أحكام كثيرة ذكرت في النحو. الوقود : اسم لما يوقد به ، وقد سمع مصدرا ، وهو أحد المصادر التي جاءت على فعول ، وهي قليلة ، لم يحفظ منها ، فيما ذكر ، الأستاذ أبو الحسن بن عصفور سوى هذا ، والوضوء والطهور والولوع والقبول ، الحجارة : جمع الحجر ، والتاء فيها لتأكيد تأنيث الجمع كالفحولة. أعدّت : هيئت.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) نزلت في جميع الكفار. وقال ابن عباس ومقاتل : نزلت في اليهود ، وسبب ذلك أنهم قالوا : هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه ، والأظهر القول الأول. ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما احتج تعالى عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك ، وعرفهم أن من جعل لله شريكا فهو بمعزل من العلم والتمييز ، أخذ يحتج على من شك في النبوة بما يزيل شبهته ، وهو كون القرآن معجزة ، وبين لهم كيف يعلمون أنه من عند الله أم من عنده ، بأن يأتوا هم ومن يستعينون به بسورة هذا ، وهم الفصحاء البلغاء المجيدون حوك الكلام ، من النثار والنظام والمتقلبون في أفانين البيان ، والمشهود لهم في ذلك بالإحسان. ولما كانوا في ريب حقيقة ، وكانت إن الشرطية إنما تدخل على الممكن أو المحقق المبهم زمان وقوعه ، ادعى بعض المفسرين أن إن هنا معناها : إذا ، لأن إذا تفيد مضي ما أضيفت إليه ، ومذهب المحققين أن إن لا تكون بمعنى إذا. وزعم المبرد ومن وافقه أن لكان الماضية الناقصة معان حكما ليست لغيرها من الأفعال الماضية ، فلقوه كان زعم أن إن لا يقلب معناها إلى الاستقبال ، بل يكون على معناه من المضي إن دخلت عليه إن ، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن كان كغيرها من الأفعال ، وتأولوا ما ظاهره ما ذهب إليه المبرد ، إما على إضمار يكن بعد إن نحو : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ) (١) أي إن يكن كان قميصه ، أو على أن المراد به التبيين ، أي أن يتبين كون قميصه قدّ.

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢٦.

١٦٦

فعلى قول أبي العباس يكون كونهم في ريب ماضيا ، ويصير نظير ما لو جاء إن كنت أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك ، إذا حمل على ظاهره ولم يتأول. ولهذا قال بعض المفسرين في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) : جرى كلام الله فيه على التحقيق ، مثال قول الرجل لعبده : إن كنت عبدي فأطعني لأن الله تعالى عالم بما تكنه القلوب ، قال : وبين هذا أن سبب نزول هذه الآية قول اليهود : وإنا لفي شك مما جاء به ، وجعلها بمعنى إذا وكان ماضيه اللفظ والمعنى ، أو مثل قول القائل : إن كنت عبدي فأطعني ، فرارا من جعل ما بعد إن مستقبل المعنى وذلك ممكن ، ولا تنافي بين إن كانوا في ريب فيما مضى وإن تعلق على كونهم في ريب في المستقبل ، لأن الماضي من الجائز أن يستدام ، بأن يظهر لمعتقد الريب فيما مضى خلاف ذلك فيزول عنه الريب ، فقيل : وإن كنتم ، أي : وإن تكونوا في ريب ، باستصحاب الحالة الماضية التي سبقت لكم ، فأتوا ، وهذا مثل من يقول لولده العاق له : إن كنت تعصيني فارحل عني ، فمعناه : إن تكن في المستقبل تعصيني فارحل عني ، لا يريد التعليق على الماضي ، ولا أن إن بمعنى إذا ، إذ لا تنافي بين تقدّم العصيان وتعليق الرحيل على وقوعه في المستقبل ، ولا حاجة إلى جعل ما يثبت حرفيته بمعنى إذا الظرفية.

وقد تقدّم لنا أنه لا تنافي بين قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) وبين قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) عند الكلام على قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ). وفي ريب من تنزيل المعاني منزلة الإجرام. ومن تحتمل ابتداء الغاية والسببية ، ولا يجوز أن تكون للتبعيض. وما موصولة ، أي من الذي نزلنا ، والعائد محذوف ، أي نزلناه ، وشرط حذفه موجود. وأجاز بعضهم أن تكون ما نكرة موصوفة ، وقد تقدم لنا الكلام على ما النكرة الموصوفة ، ونزلنا التضعيف فيه هنا للنقل ، وهو المرادف لهمزة النقل. ويدل على مرادفتهما في هذه الآية قراءة يزيد بن قطيب مما أنزلنا بالهمزة ، وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما في أوقات مختلفة ، خلافا للزمخشري ، قال : فإن قلت لم قيل : مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت : لأن المراد النزول على التدريج والتنجيم ، وهو من مجازه لمكان التحدي.

وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هنا ، هو الذي يعبر عنه بالتكثير ، أي يفعل ذلك مرة بعد مرة ، فيدل على هذا المعنى بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة. وذهل الزمخشري عن إن ذلك إنما يكون غالبا في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية ، نحو : جرحت زيدا ، وفتحت الباب ، وقطعت ، وذبحت ، لا يقال : جلس زيد ، ولا قعد عمرو ، ولا صوم جعفر ، ونزلنا لم يكن متعديا قبل التضعيف إنما كان لازما ، وتعديه إنما

١٦٧

يفيده التضعيف أو الهمزة ، فإن جاء في لازم فهو قليل. قالوا : مات المال ، وموّت المال ، إذا كثر ذلك فيه ، وأيضا ، فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل ، أما أن يجعل اللازم متعديا فلا ، ونزلنا قبل التضعيف كان لازما ولم يكن متعديا ، فيكون التعدي المستفاد من التضعيف دليلا على أنه للنقل لا للتكثير ، إذ لو كان للتكثير ، وقد دخل على اللازم ، بقي لازما نحو : مات المال ، وموّت المال. وأيضا فلو كان التضعيف في نزل مفيدا للتنجيم لاحتاج قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (١) إلى تأويل ، لأن التضعيف دال على التنجيم والتكثير ، وقوله : (جُمْلَةً واحِدَةً) ينافي ذلك. وأيضا فالقراءات بالوجهين في كثير مما جاء يدل على أنهما بمعنى واحد. وأيضا مجيء نزل حيث لا يمكن فيه التكثير والتنجيم إلا على تأويل بعيد جدا يدل على ذلك.

قال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) (٢) ، وقال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (٣) ، ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول الآية ، ولا أنه علق تكرير نزول ملك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض ، وإنما المعنى ، والله أعلم ، مطلق الإنزال. وفي نزلنا التفات لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم ، لأن قبله (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) و (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً). فلو جرى الكلام على هذا السياق لكان مما نزل على عبده ، لكن في هذا الالتفات من التفخيم للمنزل والمنزل عليه ما لا يؤديه ضمير غائب ، لا سيما كونه أتى بنا المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر ونظيره ، (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا) (٤) ، وتعدي نزل بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه ، وأنه قد صار كالملابس له ، بخلاف إلى فإنها تدل على الانتهاء والوصول.

ولهذا المعنى الذي أفادته على تكرار ذلك في القرآن في آيات ، قال تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) (٥) (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (٦) ، (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) (٧). وفي إضافة العبد إليه تعالى تنبيه على عظيم قدره ، واختصاصه بخالص

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٢.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٣٧.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٥.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٩٩.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ٣.

(٦) سورة طه : ٢٠ / ٢٠.

(٧) سورة آل عمران : ٣ / ٧.

١٦٨

العبودية ، ورفع محله وإضافته إلى نفسه تعالى ، واسم العبد عام وخاص ، وهذا من الخاص :

لا تدعني إلا بيا عبدها

لأنه أشرف أسمائي

ومن قرأ : على عبادنا بالجمع ، فقيل : يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، قاله الزمخشري ، وصار نظير قوله تعالى : أن يقولوا : (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) (١) ، لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به من امتثال التكاليف ، والموعود على ذلك لا يختص بل يشترك فيه المتبوعون والتباع ، فجعل كأنه نزل عليهم. وذلك نوع من المجاز يجعل فيه من لم يباشر الشيء إذا كان مكلفا به منزلة من باشر ، ويحتمل أن يريد به النبيين الذين أنزل عليهم الوحي ، والكتب والرّسول أول مقصود بذلك ، وأسبق داخل في العموم ، لأنه هو الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه ، ويكون ذلك خطابا لمنكري النبوات ، كما قال تعالى ، حكاية عن بعضهم : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (٢). ويحتمل أن يراد بالمفرد الجمع. وتبينه هذه القراءة كقوله تعالى : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) (٣) ، في قراءة من أفرد ، فيكون إذ ذاك للجنس.

فأتوا بسورة : طلب منهم الإتيان بمطلق سورة ، وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات ، فلم يقترح عليهم الإتيان بسورة طويلة فتعنتوا في ذلك ، بل سهل عليهم وأراح عليهم بطلب الإتيان بسورة ما ، وهذا هو غاية التبكيت والتخجيل لهم. فإذا كنتم لا تقدرون أنتم ولا معاضدوكم بالإتيان بسورة من مثله ، فكيف تزعمون أنه من جنس كلامكم؟ وكيف يلحقكم في ذلك ارتياب أنه من عند الله؟

وقد تعرض الزمخشري هنا لذكر فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سورا ، وليس ذلك من علم التفسير ، وإنما هو من فوائد التفصيل والتسوير. من مثله : الهاء عائدة على ما ، أو على عبدنا ، والراجح الأول وهو قول أكثر المفسرين ورجحانه من وجوه : أحدها : أن الارتياب أولا إنما جيء به منصبا على المنزل لا على المنزل عليه ، وإن كان الريب في المنزل ريبا في المنزل عليه بالالتزام ، فكان عود الضمير عليه أولى. الثاني : أنه قد جاء في نظير هذه

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٦.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٩١.

(٣) سورة ص : ٣٨ / ٤٥.

١٦٩

الآية وهذا السياق قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) (١) (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (٢) الثالث : اقتضاء ذلك كونهم عاجزين عن الإتيان ، سواء اجتمعوا أو انفردوا ، وسواء كانوا أميين أم كانوا غير أميين ، وعوده على المنزل يقتضي كون آحاد الأميين عاجزا عنه ، لأنه لا يكون مثله إلا الشخص الواحد الأمي. فأما لو اجتمعوا أو كانوا قارئين فلا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى ، فإذا جعلنا الضمير عائدا على المنزل ، فمن : للتبعيض وهي في موضع الصفة لسورة أي بسورة كائنة من مثله.

ويظهر من كلام الزمخشري تناقض في من هذه قال : من مثله متعلق بسورة صفة لها ، أي بسورة كائنة من مثله فقوله متعلق بسورة يقتضي أن يكون معمولا لها ، وقوله صفة لها ، أي بسورة كائنة من مثله يقتضي أن لا يكون معمولا لها فتناقض كلامه ودافع آخره أوله ، لكن يحمل على أنه لا يريد التعلق الصناعي كتعلق الباء في نحو : مروري بزيد حسن ، لكنه يريد التعلق المعنوي ، أي تعلق الصفة بالموصوف ، واحترز من القول الآخر أنها تتعلق بقوله : فأتوا ، فلا يكون من مثله عائدا على المنزل ، على ما سيأتي تبيينه إن شاء الله. وأجاز المهدوي وأبو محمد بن عطية أن تكون لبيان الجنس على تقدير أن يكون الضمير عائدا على المنزل ، وتفسر المثلية بنظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي تعرفونها ، ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خص به القرآن ، أو في غيوبه وصدقه ، وأجازا على هذا الوجه أيضا أن تكون زائدة ، وستأتي الأقوال في تفسير المثلية على عود الضمير إلى المنزل ، إن شاء الله.

وقد اختلف النحويون في إثبات هذا المعنى لمن ، والذي عليه أصحابنا أن من لا تكون لبيان الجنس ، والفرق بين كونها للتبعيض ولبيان الجنس مذكور في كتب النحو. وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز ، على مذهب الكوفيين وجمهور البصريين. وفي المثلية على كون الضمير عائدا على المنزل أقوال : الأول : من مثله في حسن النظم ، وبديع الرصف ، وعجيب السرد ، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه. الثاني : من مثله في غيوبه من إخباره بما كان وبما يكون. الثالث : في احتوائه على الأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والقصص ، والحكم ، والمواعظ ، والأمثال. الرابع : من مثله في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف. الخامس : من مثله ، أي كلام العرب الذي هو من جنسه.

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٣.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٨.

١٧٠

السادس : في أنه لا يخلق على كثرة الرد ، ولا تمله الأسماع ، ولا يمحوه الماء ، ولا تغنى عجائبه ، ولا تنتهي غرائبه ، ولا تزول طلاوته على تواليه ، ولا تذهب حلاوته من لهوات تاليه. السابع : من مثله في دوام آياته وكثرة معجزاته. الثامن : من مثله ، أي مثله في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله ، تشهد لكم بأن ما جاءكم به ليس هو من عند الله ، كما قال تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) وإن جعلنا الضمير عائدا على المنزل عليه ، فمن متعلقة بقوله : فأتوا من مثل الرسول بسورة. ومعنى من على هذا أوجه ابتداء الغاية ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف. وهي أيضا لابتداء الغاية ، أي بسورة كائنة من رجل مثل الرسول ، أي ابتداء كينونتها من مثله.

وفي المثلية على كون الضمير عائدا على المنزل على أقوال : الأول : من مثله من أمي لا يحسن الكتابة على الفطرة الأصلية. الثاني : من مثله لم يدارس العلماء ، ولم يجالس الحكماء ، ولم يؤثر عنه قبل ذلك تعاطي الأخبار ، ولم يرحل من بلده إلى غيره من الأمصار. الثالث : من مثله على زعمكم أنه ساحر شاعر مجنون. الرابع : من مثله من أبناء جنسه وأهل مدرته ، وذكر المثل في قوله : من مثله هو على سبيل الفرض على أكثر الأقوال التي فسرت بها المماثلة ، إذا كان الضمير عائدا على المنزل ، وعلى بعضها لا يكون على سبيل الفرض ، وهو على قول من فسر أنه أراد بالمثل : كلام العرب الذي هو من جنسه ، وأما إذا كان عائدا على المنزل عليه فليس على سبيل الفرض ، لوجود أمي لا يحسن الكتابة ، ولوجود من لم يدارس العلماء ، ولوجود من هو ساحر على زعمهم ذلك في المنزل عليه.

واختار الزمخشري أن لا مثل ولا نظير. قال بعد أن فسر المثل على تقدير عود الضمير على المنزل : فائتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم ، وعلى تقدير عوده على المنزل عليه ، أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشرا عربيا أو أميا لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء ، قال الزمخشري ، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك ، ولكنه نحو قول القبعثري للحجاج ، وقال له : لأحملنك على الأدهم مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب. أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقوة وبسطة اليد ، ولم يقصد أحدا يجعله مثلا للحجاج. انتهى كلام الزمخشري. وعلى ما

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١١١.

١٧١

فسرت به المماثلة إذ جعل الضمير عائدا على المنزل عليه ، وقد تقدم بيان وجود المثل ، وعلى أنه عائد على المنزل يمكن وجوده في بعض تفاسير المماثلة. فقول الزمخشري : لا مثل ولا نظير مع تفسيره المماثلة في كونه بشرا عربيا أو أميا لم يقرأ الكتب ليس بصحيح ، لأن المماثل في هذا الشيء الخاص موجود.

ولما طلب منهم المعارضة بسورة على تقدير حصولهم في ريب من كونه من عند الله ، لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم ، حتى طلب منهم أن يدعوا شهداءهم على الاجتماع على ذلك والتظافر والتعاون والتناصر ، فقال : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) ، وفسر هنا ادعوا : باستغيثوا. قال أبو الهيثم : الدعاء طلب الغوث ، دعا : استغاث وباستحضروا دعا فلان فلانا إلى الحاكم ، استحضره ، وشهداؤهم : آلهتهم ، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم يشهدون لهم عند الله ، قاله ابن عباس ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، أو من يشهدهم ويحضرهم من الأعوان والأنصار ، قاله ابن قتيبة. وروي عن ابن عباس ، أو من يشهد لكم ، أن ما تأتون به مثل القرآن ، روي عن مجاهد وكونه جمع شهيد أحسن من جمع شاهد لجريانه على قياس جمع فعيل نحو : هذا ولما في فعيل من المبالغة وكأنه أشار إلى أن يأتوا بشهداء بالغين في الشهادة يصلحون أن تقام بهم الحجة. (مِنْ دُونِ اللهِ) : تتعلق بادعوا ، أي وادعوا من دون الله شهداءكم ، أي لا تستشهدوا بالله فتقولوا : الله يشهد أن ما ندعيه حق ، كما يقول العاجز عن إقامة البينة : بل ادعوا من الناس الشهداء الذين شهادتهم تصحح بها الدعاوي ، فكأنه قال : وادعوا من غير الله من يشهد لكم ، ويحتمل أن يتعلق من دون الله بشهدائكم. والمعنى : ادعوا من اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق ، أو أعوانكم من دون الله ، أي من دون أولياء الله الذين يستعينون بهم دون الله ، أو يكون معنى من دون الله : بين يدي الله ، كما قال الأعشى :

تريك القذى من دونها وهي دونه

أي تريك القذى قدامها ، وهي قدام القذى لرقتها وصفائها. وأمره تعالى إياهم بالمعارضة وبدعاء الأنصار والأعوان ، مع علمه أنهم لا يقدرون على ذلك ، أمر تهكم وتعجيز. وقد بين تعالى بعد ذلك أن ذلك لا يقع منهم سيما تفسير الشهداء بآلهتهم لأنها جماد لا تنطق ، فالأمر بأن يستعينوا بما لا ينطق في معارضة المعجز غاية التهكم بهم ، فظاهر قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) معناه : في كونكم في ريب من المنزل على عبدنا أنه من عندنا ، وقيل : فيما تقتدرون عليه من المعارضة. وقد حكى عنهم في آية أخرى : (لَوْ نَشاءُ

١٧٢

لَقُلْنا مِثْلَ هذا) (١) ، لكن لم يجر ذكر المعارضة في هذه الآية ، إلا أن كونهم في ريب يقتضي عندهم أنه ليس من عند الله ، وما لم يكن من عند الله فهو عندهم تمكن معارضته ، فيحتمل أن يكون المعنى : إن كنتم صادقين في القدرة على المعارضة.

ولما كان أمره تعالى إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تهكم وتعجيز لأنهم غير قادرين على ذلك ، انتقل إلى إرشادهم ، إذ ليسوا بقادرين على المعارضة ، وأمرهم باتقاء النار التي أعدت لمن كذب ، وأتى بإن ، وإن كان من مواضع إذا تهكما بهم ، كما يقول القائل : إن غلبتك لم أبق عليك ، وهو يعلم أنه غالب ، أو أتى بإن على حسب ظنهم ، وأن المعجز منهم كان قبل التأمل ، كالمشكوك فيه عندهم لاتكالهم على فصاحتهم. ومعنى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) فإن لم تأتوا ، وعبر عن الإتيان بالفعل ، والفعل يجري مجرى الكناية ، فيعبر به عن كل فعل ، ويغنيك عن طول ما تكنى عنه. قال الزمخشري : لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال : فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، ولن تأتوا بسورة من مثله ، ولا يلزم ما قال الزمخشري ، لأنه لو قيل : فإن لم تأتوا ولن تأتوا ، كان المعنى على ما ذكر ويكون قد حذف ذلك اختصارا ، كما حذف اختصارا مفعول لم تفعلوا ولن تفعلوا. ألا ترى أن التقدير : فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله ولن تفعلوا الإتيان بسورة من مثله فهما سيان في الحذف؟ وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم ، قال : وجزمت لم لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان ، فكما تحذف لا تنوين الاسم ، كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.

وفي قوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع ، وفي ذلك دليلان على إثبات النبوة. أحدهما : صحة كون المتحدي به معجزا ، الثاني : الإخبار بالغيب من أنهم لا لن يفعلوا ، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى ، ويدل على ذلك أنهم لو عارضوه لتوفرت الدواعي على نقله خصوصا من الطاعنين عليه ، فإذا لم ينقل دل على أنه إخبار بالغيب وكان ذلك معجزة. وأما ما أتى به مسيلمة الكذاب في هذره ، وأبو الطيب المتنبي في عبره ونحوهما ، فلم يقصدوا به المعارضة ، إنما ادعوا أنه نزل عليهم وحي بذلك ، فأتوا من ذلك باللفظ الغث ، والمعنى السخيف ، واللغة المهجنة ، والأسلوب الرذل ، والفقرة غير المتمكنة ، والمطلع المستقبح ، والمقطع المستوهن ، بحيث لو قرن ذلك بكلامهم في غير

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٣١.

١٧٣

ما ادّعوا أنه وحي ، كان بينهما من التفاوت في الفصاحة والتباين في البلاغة ما لا يخفى عمن له يسير تمييز في ذلك. فكيف الجهابذة النقاد والبلغاء الفصحاء ، فسلبهم الله فصاحتهم بادعائهم وافترائهم على الله الكذب. وقوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) جملة اعتراض ، فلا موضع لها من الإعراب ، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى ، لأنه لما قال : فإن لم تفعلوا ، وكان معناه نفي في المستقبل مخرجا ذلك مخرج الممكن ، أخبر أن ذلك لا يقع ، وهو إخبار صدق ، فكان في ذلك تأكيد أنهم لا يعارضونه. واقتران الفعل بلن مميز لجملة الاعتراض من جملة الحال ، لأن جملة الحال لا تدخل عليها لن ، وكان النفي بلن في هذه الجملة دون لا ، وإن كانتا أختين في نفي المستقبل ، لأن في لن توكيدا وتشديدا ، تقول لصاحبك : لا أقيم غدا ، فإن أنكر عليك قلت : لن أقيم غدا ، كما تفعل في : أنا مقيم ، وإنني مقيم ، قاله الزمخشري ، وما ذكره هنا مخالف لما حكى عنه أن لن تقتضي النفي على التأبيد. وأما ما ذهب إليه ابن خطيب زملكي من أن لن تنفي ما قرب وأن لا يمتد النفي فيها ، فكاد يكون عكس قول الزمخشري.

وهذه الأقوال ، أعني التوكيد والتأبيد ونفي ما قرب : أقاويل المتأخرين ، وإنما المرجوع في معاني هذه الحروف وتصرفاتها لأئمّة العربية المقانع الذين يرجع إلى أقاويلهم. قال سيبويه ، رحمه‌الله : ولن نفي لقوله : سيفعل ، وقال : وتكون لا نفيا لقوله : تفعل ، ولم تفعل ، انتهى كلامه. ويعني بقوله : تفعل ، ولم تفعل المستقبل ، فهذا نص منه أنهما ينفيان المستقبل إلا أن لن نفي لما دخلت عليه أداة الاستقبال ، ولا نفي للمضارع الذي يراد به الاستقبال. فلن أخص ، إذ هي داخلة على ما ظهر فيه دليل الاستقبال لفظا. ولذلك وقع الخلاف في لا : هل تختص بنفي المستقبل ، أم يجوز أن تنفي بها الحال؟ وظاهر كلام سيبويه ، رحمه‌الله ، هنا أنها لا تنفي الحال ، إلا أنه قد ذكر في الاستثناء من أدواته لا يكون ولا يمكن حمل النفي فيه على الاستقبال لأنه بمعنى إلا ، فهو للإنشاء ، وإذا كان للإنشاء فهو حال ، فيفيد كلام سيبويه في قوله : وتكون لا نفيا لقوله يفعل ، ولم يفعل هذا الذي ذكر في الاستثناء ، فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه ، كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري : أولا : من أن فيها توكيدا وتشديدا لأنها تنفي ما هو مستقبل بالأداة ، بخلاف لا ، فإنها تنفي المراد به الاستقبال مما لا أداة فيه تخلصه له ، ولأن لا قد ينفي بها الحال قليلا ، فلن أخص بالاستقبال وأخص بالمضارع ، ولأن ولن تفعلوا أخصر من ولا تفعلون ، فلهذا كله ترجح النفي بلن على النفي بلا.

١٧٤

فاتقوا النار : جواب للشرط ، وكنى به عن ترك العناد ، لأن من عائد بعد وضوح الحق له استوجب العقاب بالنار. واتقاء النار من نتائج ترك العناد ومن لوازمه. وعرف النار هنا لأنه قد تقدم ذكرها نكرة في سورة التحريم ، والتي في سورة التحريم نزلت بمكة ، وهذه بالمدينة. وإذا كررت النكرة سابقة ذكرت ثانية بالألف واللام ، وصارت معرفة لتقدمها في الذكر ووصفت بالتي وصلتها. والصلة معلومة للسامع لتقدم ذكر قوله : (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) (١) ، أو لسماع ذلك من أهل الكتاب قبل نزول الآية ، والجمهور على فتح الواو. وقرأ الحسن باختلاف ، ومجاهد وطلحة وأبو حياة وعيسى بن عمر الهمداني بضم الواو. وقرأ عبيد بن عمير وقيدها على وزن فعيل. فعلى قراءة الجمهور وقراءة ابن عمير هو الحطب ، وعلى قراءة الضم هو المصدر على حذف مضاف ، أي ذو وقودها لأن الناس والحجارة ليسا هما الوقود ، أو على أن جعلوا نفس الوقود مبالغة ، كما يقول : فلان فخر بلده ، وهذه النار ممتازة عن غيرها بأنها تتقد بالناس والحجارة ، وهما نفس ما يحرق ، وظاهر هذا الوصف أنها نار واحدة ولا يدل على أنها نيران شتى. قوله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) (٢) ، ولا قوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) (٣) ، لأن الوصف قد يكون بالواقع لا للامتياز عن مشترك فيه ، والناس يراد به الخصوص ممن شاء الله دخولها ، وإن كان لفظه عاما ، والحجارة الأصنام ، وكانا وقودا للنار مقرونين معا ، كما كانا في الدنيا حيث نحتوها وعبدوها آلهة من دون الله. ويوضحه قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (٤) ، أو حجارة الكبريت ، روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جريج. واختصت بذلك لما فيه من سرعة الالتهاب ، ونتن الرائحة ، وعظم الدخان ، وشدة الالتصاق بالبدن ، وقوة حرها إذا حميت. وقيل : هو الكبريت الأسود ، أو حجارة مخصوصة أعدت لجهنم ، إذا اتقدت لا ينقطع وقودها. وقيل : إن أهل النار إذا عيل صبرهم بكوا وشكوا ، فينشىء الله سحابة سوداء مظلمة ، فيرجون الفرج ، ويرفعون رؤوسهم إليها ، فتمطر عليهم حجارة عظاما كحجارة الرحى ، فتزداد النار إيقادا والتهابا أو الحجارة ما اكتنزوه من الذهب والفضة تقذف معهم في النار ويكوون بها. وعلى هذه الأقوال لا تكون الألف واللام في الحجارة للعموم بل لتعريف الجنس. وذهب بعض أهل العلم إلى أنها تجوز أن تكون لاستغراق الجنس ، ويكون المعنى أن النار التي

__________________

(١) سورة التحريم : ٦٦ / ٦.

(٢) سورة التحريم : ٦٦ / ٦.

(٣) سورة الليل : ٩٢ / ١٤.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٨.

١٧٥

وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين ، فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق ، قال : وإنما ذكر الناس والحجارة تعظيما لشأن جهنم وتنبيها على شدّة وقودها ، ليقع ذلك من النفوس أعظم موقع ، ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره ، وليس المراد الحقيقة.

وما ذهب إليه هذا الذاهب من أن هذا الوصف هو بالصلاحية لا بالفعل غير ظاهر ، بل الظاهر أن هذا الوصف واقع لا محالة بالفعل ، ولذلك تكرر الوصف بذلك ، وليس في ذلك أيضا ما يدل على أنها ليس فيها غير الناس والحجارة ، بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها ، وقدم الناس على الحجارة لأنهم العقلاء الذين يدركون الآلام والمعذبون ، أو لكونهم أكثر إيقادا للنار من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم والعظام والشعور ، أو لأن ذلك أعظم في التخويف. فإنك إذا رأيت إنسانا يحرق ، أقشعرّ بدنك وطاش لبك ، بخلاف الحجر. قال ابن عطية : وفي قوله تعالى : (أُعِدَّتْ) ردّ على من قال : إن النار لم تخلق حتى الآن ، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد ، انتهى كلامه. ومعناه أنه زعم أن الإعداد لا يكون إلا للموجود ، لأن الإعداد هو التهيئة والإرصاد للشيء ، قال الشاعر :

أعددت للحدثان سابغة وعداء علبدا

أي هيأت. قالوا : ولا يكون ذلك إلا للموجود. قال بعضهم : أو ما كان في معنى الموجود نحو قوله تعالى : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (١) ومنذر الذي ذكره ابن عطية كان يعرف بالبلوطي ، وكان قاضي القضاة بالأندلس ، وكان معتزليا في أكثر الأصول ظاهريا في الفروع ، وله ذكر ومناقب في التواريخ ، وهو أحد رجالات الكمال بالأندلس. وسرى إليه ذلك القول من قول كثير من المعتزلة ، وهي مسألة تذكر في أصول الدين وهو : أن مذهب أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان على الحقيقة. وذهب كثير من المعتزلة والجهمية والنجاومية إلى أنهما لم يخلقا بعد ، وأنهما سيخلقان. وقرأ عبد الله اعتدت : من العتاد بمعنى العدة. وقرأ ابن أبي عبلة : أعدها الله للكافرين ، ولا يدل إعدادها للكافرين على أنهم مخصوصون بها ، كما ذهب إليه بعض المتأولين من أن نار العصاة غير نار الكفار ، بل إنما نص على الكافرين لانتظام المخاطبين فيهم ، إذ فعلهم كفر. وقد ثبت في

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٥.

١٧٦

الحديث الصحيح إدخال طائفة من أهل الكبائر النار ، لكنه اكتفى بذكر الكفار تغليبا للأكثر على الأقل ، أو لأن الكافر لن يشتمل من كفر بالله وكفر بأنعمه ، أو لأن من أخرج منها من المؤمنين لم تكن معدة له دائما بخلاف الكفار. والجملة من قوله : أعدت للكافرين في موضع الحال من النار ، والعامل فيها : فاتقوا ، قاله أبو البقاء ، وفي ذلك نظر ، لأن جعله الجملة حالا يصير المعنى : فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين ، وهي معدّة للكافرين ، اتقوا النار أو لم يتقوها ، فتكون إذ ذاك حالا لازمة. والأصل في الحال التي ليست للتأكيد أن تكون منتقلة ، والأولى عندي أن تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب ، وكأنها سؤال جواب مقدّر كأنه لما وصفت بأن وقودها الناس والحجارة قيل : لمن أعدت؟ فقيل : أعدت للكافرين.

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)

البشارة : أول خبر يرد على الإنسان من خير كان أو شر ، وأكثر استعماله في الخير ، وظاهر كلام الزمخشري. أنه لا يكون إلا في الخير ، ولذلك قال : تأول (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) ، وهو محجوج بالنقل. قيل عن سيبويه : هو خبر يؤثر في البشرة من حزن أو سرور. قال بعضهم : ولذا يقيد في الحزن ، والبشارة : الجمال ، والبشير : الجميل ، قاله ابن دريد ، وتباشير الفجر : أوائله. وفي الفعل لغتان : التشديد ، وهي اللغة العليا ، والتخفيف : وهي لغة أهل تهامة. وقد قرىء باللغتين في المضارع في مواضع من القرآن ، ستأتي إن شاء الله. الصلاح : يقابله الفساد. الجنة : البستان الذي سترت أشجاره أرضه ، وكل شيء ستر شيئا فقد أجنه ، ومن ذلك الجنة والجنة والجن والمجن والجنين. المفضل الجنة : كل بستان فيه ظل ، وقيل : كل أرض كان فيها شجر ونخل فهي جنة ، فإن كان فيها كرم فهي : فردوس. تحت : ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير من ، نص على ذلك أبو الحسن. قال العرب : تقول تحتك رجلاك ، لا يختلفون في نصب التحت. النهر : دون البحر وفوق الجدول ، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع قولان ، وفيه

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢١ ، وسورة التوبة : ٩ / ٢٤ ، وسورة الانشقاق : ٨٤ / ٢٤.

١٧٧

لغتان : فتح الهاء ، وهي اللغة العالية ، والسكون ، وعلى الفتح جاء الجمع أنهارا قياسا مطردا إذ أفعال في فعل الاسم الصحيح العين لا يطرد ، وإن كان قد جاءت منه ألفاظ كثيرة ، وسمي نهرا لاتساعه ، وأنهر : وسع ، والنهار لاتساع ضوئه.

التشابه : تفاعل من الشبه والشبه المثل. وتفاعل تأتي لستة معان : الاشتراك في الفاعلية من حيث اللفظ ، وفيها وفي المفعولية من حيث المعنى ، والإبهام ، والرّوم ، ومطاوعة فاعل الموافق أفعل ، ولموافقة المجرد وللإغناء عنه. الزوج : الواحد الذي يكون معه آخر ، واثنان : زوجان. ويقال للرجل : زوج ، ولامرأته أيضا زوج وزوجة أقل. وذكر الفراء أن زوجا المراد به المؤنث فيه لغتان : زوج لغة أهل الحجاز ، وزوجة لغة تميم وكثير من قيس وأهل نجد ، وكل شيء قرن بصاحبه فهو زوج له ، والزوج : الصنف ومنه : زوج بهيج ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا. الطهارة : النظافة ، والفعل طهر بفتح الهاء وهو الأفصح ، وطهر بالضم ، واسم الفاعل منهما طاهر. فعلى الفتح قياس وعلى الضم شاذ نحو : حمض فهو حامض ، وخثر فهو خاثر. الخلود : المكث في الحياة أو الملك أو المكان مدّة طويلة لا انتهاء لها وهل يطلق على المدّة الطويلة التي لها انتهاء بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز قولان ، وقال زهير :

فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت

ولكن حمد الناس ليس بمخلد

ويقال : خلد بالمكان أقام به ، وأخلد إلى كذا ، سكن إليه ، والمخلد : الذي لم يشب ، ولهذا المعنى ، أعني من السكون والاطمئنان ، سمي هذا الحيوان اللطيف الذي يكون في الأرض خلدا. وظاهره هذه الاستعمالات وغيرها يدل على أن الخلد هو المكث الطويل ، ولا يدل على المكث الذي لا نهاية له إلا بقرينة. واختار الزمخشري فيه : أنه البقاء اللازم الذي لا ينقطع ، تقوية لمذهبه الاعتزالي في أن من دخل النار لم يخرج منها بل يبقى فيها أبدا.

والأحاديث الصحيحة المستفيضة دلت على خروج ناس من المؤمنين الذين دخلوا النار بالشفاعة من النار ، ومناسبة قوله تعالى : وبشر لما قبله ظاهره ، وذلك أنه لما ذكر ما تضمن ذكر الكفار وما تؤول إليه حالهم في الآخرة ، وكان ذلك من أبلغ التخويف والإنذار ، أعقب ما تضمن ذكر مقابليهم وأحوالهم وما أعد الله لهم في الآخرة من النعيم السرمدي. وهكذا جرت العادة في القرآن غالبا متى جرى ذكر الكفار وما لهم أعقب بالمؤمنين وما لهم

١٧٨

وبالعكس ، لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد واللطف والعنف ، لأن من الناس من لا يجذبه التخويف ويجذبه اللطف ، ومنهم من هو بالعكس. والمأمور بالتبشير قيل : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : كل من يصلح للبشارة من غير تعيين. قال الزمخشري : وهذا أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به ، انتهى كلامه. والوجه الأول عندي أولى ، لأن أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخصوصيته بالبشارة أفخم وأجزل ، وكأنه ما اتكل على أن يبشر المؤمنين كل سامع ، بل نص على أعظمهم وأصدقهم ليكون ذلك أوثق عندهم وأقطع في الإخبار بهذه البشارة العظيمة ، إذ تبشيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبشير من الله تعالى. والجملة من قوله : وبشر معطوفة على ما قبلها ، وليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه ، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين ، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإزهاق ، وبشر عمرا بالعفو والإطلاق ، قال هذا الزمخشري وتبعه أبو البقاء فقال : الواو في وبشر عطف بها جملة ثواب المؤمنين على جملة عقاب الكافرين ، انتهى كلامه.

وتلخص من هذا أن عطف الجمل بعضها على بعض ليس من شرطه أن نتفق معاني الجمل ، فعلى هذا يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة غير الخبرية ، وهذه المسألة فيها اختلاف. ذهب جماعة من النحويين إلى اشتراط اتفاق المعاني ، والصحيح أن ذلك ليس بشرط ، وهو مذهب سيبويه. فعلى مذهب سيبويه يتمشى إعراب الزمخشري وأبي البقاء. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون قوله : وبشر معطوفا على قوله : فاتقوا النار ، ليكون عطف أمر على أمر. قال الزمخشري : كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشر يا فلان بني أسد بإحسان إليهم ، وهذا الذي ذهبا إليه خطأ لأن قوله : فاتقوا جواب للشرط وموضعه جزم ، والمعطوف على الجواب جواب ، ولا يمكن في قوله : وبشر أن يكون جوابا لأنه أمر بالبشارة ومطلقا ، لا على تقدير إن لم تفعلوا ، بل أمر أن يبشر الذين آمنوا أمرا ليس مترتبا على شيء قبله ، وليس قوله : وبشر على إعرابه مثل ما مثل به من قوله : يا بني تميم إلخ ، لأن قوله : احذروا لا موضع له من الإعراب ، بخلاف قوله : فاتقوا. فلذلك أمكن فيما مثل به العطف ولم يمكن في وبشر. وقرأ زيد بن علي : وبشر فعلا ماضيا مبنيا للمفعول. قال الزمخشري : عطفا على أعدت انتهى. وهذا الإعراب لا يتأتى على قول من جعل أعدت جملة في موضع الحال ، لأن المعطوف على الحال حال ، ولا يتأتى

١٧٩

أن يكون وبشر في موضع الحال ، فالأصح أن تكون جملة معطوفة على ما قبلها ، وإن لم تتفق معاني الجمل ، كما ذهب إليه سيبويه وهو الصحيح ، وقد استدل لذلك بقول الشاعر :

تناغى غزالا عند باب ابن عامر

وكحل مآقيك الحسان بإثمد

وبقول امرئ القيس :

وإن شفائي عبرة إن سفحتها

وهل عند رسم دارس من معوّل

وأجاز سيبويه : جاءني زيد ، ومن أخوك العاقلان ، على أن يكون العاقلان خبر ابتداء مضر. وقد تقدم لنا أن الزمخشري يخص البشارة بالخبر الذي يظهر سرور المخبر به. وقال ابن عطية : الأغلب استعماله في الخير ، وقد يستعمل في الشر مقيدا به منصوصا على الشر للمبشر به ، كما قال تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١). ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير ، انتهى كلامه. وتقدم لنا ما يخالف قوليهما من قول سيبويه وغيره ، وأن البشارة أول خبر يرد على الإنسان من خير كان أو شر ، قالوا : وسمي بذلك لتأثيره في البشرة ، فإن كان خيرا أثر المسرة والانبساط ، وإن كان شرا أثر القبض والانكماش. قال تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) (٢) ، وقال تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، وجعل الزمخشري هذا العكس في الكلام الذي يقصد به استهزاء الزائد في غيظه المستهزأ به وتألمه. وقيل : معناه ضع هذا موضع البشارة منهم ، قالوا : والصحيح أن كل خبر غير البشرة خيرا كان أو شرا بشارة ، قال الشاعر :

يبشرني الغراب ببين أهل

فقلت له ثكلتك من بشير

وقال آخر :

وبشرتني يا سعد أن أحبتي

جفوني وأن الود موعده الحشر

والتضعيف في بشر من التضعيف الدال على التكثير فيما قال بعضهم ، ولا يتأتى التكثير في بشر إلا بالنسبة إلى المفاعيل ، لأن البشارة أول خبر يسر أو يحزن على المختار ، ولا يتأتى التكثير فيه بالنسبة إلى المفعول الواحد ، فبالنسبة إليه يكون فعل فيه مغنيا عن فعل ، لأن الذي ينطق به مشددا غير العرب الذين ينطقون به مخففا ، كما بينا قبل. وكون مفعول بشر موصولا بجملة فعلية ماضية ولم يكن اسم فاعل ، دلالة على أن مستحق التبشير

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢١.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٢١.

١٨٠