البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

فهي من الواحد كقولهم : طارقت النعل ، وعاقبت اللص ، وعافاك الله ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأن لقي يتضمن معنى لاقى ، وليست كذلك الأفعال كلها ، بل فعل خلاف في المعنى لفاعل ، انتهى كلامه. ويحتاج إلى شرح ، وذلك أنه ضعفه من حيث أن مادة لقي تتضمن معنى الملاقاة ، بمعنى أن وضع هذا الفعل ، سواء كان مجردا أو على فاعل ، معناه واحد من حيث أن من لقيك فقد لقيته ، فهو لخصوص مادته يقتضي المشاركة ، ويستحيل فيه أن يكون لواحد. وهذا يدل على أن فاعل يكون لموافقة الفعل المجرد ، وهذا أحد معاني فاعل ، وهو أن يوافق الفعل المجرد. وقول ابن عطية : وليست كذلك الأفعال كلها كلام صحيح ، أي ليست الأفعال مجردها بمعنى فاعل ، بل فاعل فيها يدل على الاشتراك. وقوله : بل فعل خلاف فاعل يعني بل المجرد فيها يدل على الانفراد ، وهو خلاف فاعل ، لأنه يدل على الاشتراك ، فضعف بأن يكون فاعل من اللقاء من باب : عاقبت اللص ، حيث أن مادة اللقاء تقتضي الاشتراك ، سواء كان بصيغة المجرد أو بصيغة فاعل. وهذه الإضافة غير محضة ، لأنها إضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال. وقد تقدم لنا الكلام على اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال ، أو الاستقبال بالنسبة إلى أعماله في المفعول ، وإضافته إليه ، وإضافته إلى الرب ، وإضافة الرب إليهم في غاية من الفصاحة ، وذلك أن الرب على أي محامله حملته فيه دلالة على الإحسان لمن يربه ، وتعطف بين لا يدل عليه غير لفظ الرب. وقد اختلف المفسرون في معنى ملاقاة ربهم ، فحمله بعضهم على ظاهره من غير حذف ولا كناية بأن اللقاء هو رؤية الباري تعالى ، ولا لقاء أعظم ولا أشرف منها ، وقد جاءت بها السنة المتواترة ، وإلى اعتقادها ذهب أكثر المسلمين ، وقيل ذلك على حذف مضاف ، أي جزاء ربهم ، لأن الملاقاة بالذوات مستحيلة في غير الرؤية ، وقيل ذلك كناية عن انقضاء أجلهم كما يقال لمن مات قد لقي الله ، ومنه قول الشاعر :

غدا نلقى الأحبه

محمدا وصحبه

وكنى بالملاقاة عن الموت ، لأن ملاقات الله متسبب عن الموت ، فهو من إطلاق المسبب ، والمراد منه السبب ، وذلك أن من كان يظن الموت في كل لحظة لا يفارق قلبه الخشوع ، وقيل ذلك على حذف مضاف أخص من الجزاء ، وهو الثواب ، أي ثواب ربهم. فعلى هذا القول ، والقول الأول ، يكون الظن على بابه من كونه يراد به الترجيح ، وعلى تقدير الجزاء ، أو كون الملاقاة يراد بها انقضاء الأجل ، يكون الظن يراد به التيقن. وقد نازعت المعتزلة في كون لفظ اللقاء لا يراد به الرؤية ولا يفيدها. ألا ترى إلى قوله تعالى :

٣٠١

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) (١) والمنافق لا يرى ربه (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ)؟ (٢) ويتناول الكافر والمؤمن؟ وفي الحديث : «لقي الله وهو عليه غضبان» إلى غير ذلك مما ذكروه. وقد تكلم على ذلك أصحابنا. ومسألة الرؤية يتكلم عليها في أصول الدين.

(وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) : اختلف في الضمير في إليه على من يعود ، فظاهر الكلام والتركيب الفصيح أنه يعود إلى الرب ، وأن المعنى : وأنهم إلى ربهم راجعون ، وهو أقرب ملفوظ به. وقيل : يعود على اللقاء الذي يتضمنه ملاقو ربهم. وقيل : يعود على الموت. وقيل : على الإعادة ، وكلاهما يدل عليه ملاقوا. وقد تقدم شرح الرجوع ، فأغنى عن إعادته هنا. وقيل : بالقول الأول ، وهو أن الضمير يعود على الرب ، فلا يتحقق الرجوع ، فيحتاج في تحققه إلى حذف مضاف ، التقدير : إلى أمر ربهم راجعون. وقيل : المعنى بالرجوع : الموت. وقيل : راجعون بالإعادة في الآخرة ، وهو قول أبي العالية. وقيل : راجعون إلى أن لا يملك أحدهم ضرا ولا نفعا لغيره ، كما كانوا في بدء الخلق. وقيل : راجعون ، فيجزيهم بأعمالهم ، وليس في قوله : وأنهم إليه راجعون دلالة للمجسمة والتناسخية على كون الأرواح قديمة ، وإنما كانت موجودة في عالم الروحانيات. قالوا : لأن الرجوع إلى الشيء المسبوق بالكون عنده.

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)

الفضل : الزيادة ، واستعماله في الخير ، وفعله فعل يفعل ، وأصله أن يتعدى بحرف الجر ، وهو على ثم بحذف على ، على حد قول الشاعر ، وقد جمع بين الوجهين :

وجدنا نهشلا فضلت فقيما

كفضل ابن المخاض على الفصيل

وأما في الفضلة من الشيء ، وهي البقية ، فيقال : فضل يفضل ، كالذي قدمناه ،

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٧٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٣.

٣٠٢

وفضل يفضل ، نحو : سمع يسمع ، وفضل يفضل ، بكسرها من الماضي ، وضمها من المضارع ، وقد أولع قوم من النحويين بإجازة فتح ضاد فضلت في البيت وكسرها ، والصواب الفتح. الجزاء : القضاء عن المفضل والمكافأة ، قال الراجز :

يجزيه رب العرش عني إذ جزى

جنات عدن في العلاليّ العلا

والإجزاء : الإغناء. قبول الشيء : التوجه إليه ، والفعل قبل يقبل ، والقبل : ما واجهك ، قال القطامي :

فقلت للركب لما أن علا بهم

من عن يمين الحبيا نظرة قبل

الشفاعة : ضم غيره إلى وسيلته ، والشفعة : ضم الملك ، الشفع : الزوج ، والشفاعة منه ، لأن الشفاعة والمشفوع له : شفع ، وقال الأحوص :

كان من لامني لأصرمها

كانوا لليلى بلومهم شفعوا

وناقة شفوع : خلفها ولد. وقيل : خلفها ولد ، وفي بطنها ولد. الأخذ : ضد الترك ، والأخذ : القبض والإمساك ، ومنه قيل للأسير : أخيذ ، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام ، وقلّ الإتمام. العدل : الفداء ، والعدل : ما يساويه قيمة وقدرا ، وإن لم يكن من جنسه ، وبكسر العين : المساوي في الجنس والجرم. ومن العرب من يكسر العين من معنى الفدية ، وواحد الأعدال بالكسر لا غير ، والعدل : المقبول القول من الناس ، وحكي فيه أيضا كسر العين. وقال ثعلب : العدل : الكفيل والرشوة ، قال الشاعر :

لا يقبل الصرف فيها نهاب العدلا

النصر : العون ، أرض منصورة : ممدودة بالمطر ، قال الشاعر :

أبوك الذي أجدى علي بنصره

وأمسك عني بعده كل قاتل

وقال الآخر :

إذا ودّع الشهر الحرام فودعي

بلاد تميم وانصري أرض عامر

والصبر : العطاء ، والانتصار : الانتقام. النجاة : التنجية من الهلكة بعد الوقوع فيها ، والأصل : الإلقاء بنجوة ، قال الشاعر :

ألم تر للنعمان كان بنجوة

من الشر لو أن امرأ كان ناجيا

الآل : قيل بمعنى الأهل ، وزعم أن ألفه بدل عن هاء ، وأن تصغيره أهيل ، وبعضهم

٣٠٣

ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة ، وتلك الهمزة بدل من هاء ، وقيل : ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة ، والآل من يؤول من قرابة أو ولي أو مذهب ، فألفه بدل من واو. ولذلك قال يونس : في تصغيره أويل ، ونقله الكسائي نصا عن العرب ، وهذا اختيار أبي الحسن بن الباذش ، ولم يذكر سيبويه في باب البدل أن الهاء تبدل همزة ، كما ذكر أن الهمزة تبدل هاء في : هرقت ، وهيا ، وهرحت ، وهياك. وقد خصوا آلا بالإضافة إلى العلم ذي الخطر ممن يعلم غالبا ، فلا يقال : آل الإسكاف والحجام ، قال الشاعر :

نحن آل الله في بلدتنا

لم نزل آلا على عهد إرم

قال الأخفش : لا يضاف آل إلى الرئيس الأعظم ، نحو : آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة ، قيل : وفيه نظر ، لأنه قد سمع عن أهل اللغة في البلدان فقالوا : آل المدينة ، وآل البصرة. وقال الكسائي : لا يجوز أن يقال : فلان من آل البصرة ، ولا من آل الكوفة ، بل يقال : من أهل البصرة ، ومن أهل الكوفة ، انتهى قوله. وقد سمع إضافته إلى اسم الجنس وإلى الضمير ، قال الشاعر :

وانصر على آل الصليب

وعابديه اليوم آلك

وقال هدبة :

أنا الفارس الحامي حقيقة والدي

وآلي كما تحمي حقيقة آلكا

وقد اختلف في اقتباس جواز إضافته إلى المضمر ، فمنع من ذلك الكسائي ، وأبو جعفر النحاس ، وأبو بكر الزبيدي ، وأجاز ذلك غيرهم. وجمع بالواو والنون رفعا وبالياء والنون جرا ونصبا ، كما جمع أهل فقالوا : آلون. والآل : السراب ، يجمع على أفعال ، قالوا : أأوال ، والآل : عمود الخيمة ، والآل : الشخص ، والآلة : الحالة الشديدة. فرعون : لا ينصرف للعلمية والعجمة ، وسيأتي الكلام عليه. سامه : كلفه العمل الشاق ، قال الشاعر :

إذا ما الملك سام الناس خسفا

أبينا أن نقر الخسف فينا

وقيل معناه : يعلمونكم من السيماء ، وهي العلامة ، ومنه : تسويم الخيل. وقيل : يطالبونكم من مساومة البيع. وقيل : يرسلون عليكم من إرسال الإبل للرّعي ، وقال أبو عبيدة : يولونكم ، يقال سامه خطة خسف : أي أولاه إياها. السوء : مصدر أساء ، يقال : ساء يسوء ، وهو متعد ، وأساء الرجل : أي صار ذا سوء ، قال الشاعر :

٣٠٤

لئن ساءني أن نلتني بمساءة

لقد سرّني أني خطرت ببالك

ومعنى ساءه : أحزنه ، هذا أصله ، ثم يستعمل في كل ما يستقبح ، ويقال : أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل : يراد قبحهما. الذبح : أصله الشق ، قال الشاعر :

كأن بين فكها والفك

فأرة مسك ذبحت في سك

وقال :

كأنما الصاب في عينيك مذبوح

والذبحة : داء في الحلق ، يقال منه : ذبحه يذبحه ذبحا ، والذبح : المذبوح. الاستحياء : هنا الإبقاء حيا ، واستفعل فيه بمعنى أفعل : استحياه وأحياه بمعنى واحد ، نحو قولهم : أبل واستبل ، أو طلب الحياء ، وهو الفرج ، فيكون استفعل هنا للطلب ، نحو : استغفر ، أي تطلب الغفران. وقد تقدم الكلام على استحيا من الحياء في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) (١) النساء : اسم يقع للصغار والكبار ، وهو جمع تكسير لنسوة ، ونسوة على وزن فعلة ، وهو جمع قلة ، خلافا لابن السرّاج ، إذ زعم أن فعلة اسم جمع لا جمع تكسير ، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه. والواحدة : امرأة. البلاء : الاختبار ، بلاه يبلوه بلاء : اختبره ، ثم صار يطلق على المكروه والشدة ، يقال : أصاب فلانا بلاء : أي شدة ، وهو راجع لمعنى البلى ، كأن المبتلي يؤول حاله إلى البلى ، وهو الهلاك والفناء. ويقال : أبلاه بالنعمة ، وبلاه بالشدة. وقد يدخل أحدهما على الآخر فيقال : بلاه بالخير ، وأبلاه بالشر ، قال الشاعر :

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم

فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

فاستعملهما بمعنى واحد ، ويبنى منه افتعل فيقال : ابتلى.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) : تقدم الكلام في شرح هذا ، وأعيد نداؤهم ثانيا على طريق التوكيد ، ولينبهوا لسماع ما يرد عليهم من تعداد النعم التي أنعم الله بها عليهم ، وتفصيلها نعمة نعمة ، فالنداء الأول للتنبيه على طاعة المنعم ، والنداء الثاني للتنبيه على شكر النعم. (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) : ثم عطف التفضيل على النعمة ، وهو من عطف الخاص على العام لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور ، وهو ما انفردت به

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦.

٣٠٥

الواو دون سائر حروف العطف ، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يذكر لنا هذا النحو من العطف ، وأنه يسمى بالتجريد ، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر على سبيل التفضيل ، وقال الشاعر :

أكر عليهم دعلجا ولبانه

إذا ما اشتكى وقع القناة تحمحما

دعلج : هنا اسم فرس ، ولبانه : صدره ، ولأبي الفتح بن جني كلام في ذلك يكشف من سر الصناعة له. (عَلَى الْعالَمِينَ) : أي عالمي زمانهم ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم ، أو على كل العالمين ، بما جعل فيهم من الأنبياء ، وجعلهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وذلك خاصة لهم دون غيرهم. فيكون عاما والنعمة مخصوصة. قالوا : ويدفع هذا القول : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (١) ، أو على الجم الغفير من الناس ، يقال : رأيت عالما من الناس ، يراد به الكثرة. وعلى كل قول من هذه الأقوال الثلاثة لا يلزم منه التفضيل على هذه الأمة ، لأن من قال بالعموم خص النعمة ، ولا يلزم التفضيل على كل عالم بشيء خاص التفضيل من جميع الوجوه ، ومن قال بالخصوص فوجه عدم التفضيل مطلقا ظاهر. وقال القشيري : أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) (٢) ، فشتان بين من مشهوده فضل ربه ، ومن مشهوده فضل نفسه. فالأول يقتضي الثناء ، والثاني يقتضي الإعجاب ، انتهى. وآخره ملخص من كلامه.

(وَاتَّقُوا يَوْماً) أمر بالاتقاء ، وكأنهم لما أمروا بذكر النعم وتفضيلهم ناسب أن من أنعم عليه وفضل يكون محصلا للتقوى. فأمروا بالإدامة على التقوى ، أو بتحصيل التقوى ، إن عرض لهم خلل وانتصاب يوما ، أما على الظرف والمتقى محذوف تقديره : اتقوا العذاب يوما ، وأما على المفعول به اتساعا أو على حذف مضاف ، أي عذاب يوم ، أو هول يوم. وقيل معناه : جيئوا متقين ، وكأنه على هذا التقدير لم يلحظ متعلق الاتقاء ، فإذ ذاك ينتصب يوما على الظرف. قال القشيري : العوام خوفهم بعذابه ، فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً) ، (وَاتَّقُوا النَّارَ) (٣). والخواص خوفهم بصفاته ، فقال : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) (٤) ، وما تكون في شأن الآية. وخواص الخواص خوفهم بنفسه ، فقال :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١١٠.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٥٨.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٤٨.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ١٠٥.

٣٠٦

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (١) وقرأ ابن السماك العدوي لا تجزي من أجزأ ، أي أغنى ، وقيل جزا ، واجزا ، بمعنى واحد ، وهذه الجملة صفة لليوم ، والرابط محذوف ، فيجوز أن يكون التقدير : لا تجزي فيه ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الضمير بالفعل ، ثم حذف الضمير ، فيكون الحذف بتدريج أو عداه إلى الضمير أولا اتساعا. وهذا اختيار أبي عليّ ، وإياه نختار. قال المهدوي : والوجهان ، يعني تقديره : لا تجزي فيه ولا تجزيه جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. وقال الكسائي : لا يكون المحذوف إلا لهاء ، قال : لا يجوز أن تقول : هذا رجل قصدت ، ولا رأيت رجلا أرغب ، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه ، انتهى. وحذف الضمير من الجملة الواقعة صفة جائز ، ومنه قوله :

فما أدري أغيرهم تناء

وطول العهد أم مال أصابوا

يريد : أصابوه ، وما ذهبوا إليه من تعيين الربط أنه فيه ، أو الضمير هو الظاهر ، وقد يجوز على رأي الكوفيين أن يكون ثم رابط ، ولا تكون الجملة صفة ، بل مضاف إليها يوم محذوف لدلالة ما قبله عليه ، التقدير : واتقوا يوما يوم لا تجزي ، فحذف يوم لدلالة يوما عليه ، فيصير المحذوف في الإضافة نظير الملفوظ به في نحو قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٢) ، ونظير يوم لا تملك ، لا تحتاج الجملة إلى ضمير ، ويكون إعراب ذلك المحذوف بدلا ، وهو بدل كل من كل ، ومنه قول الشاعر :

رحم الله أعظما دفنوها

بسجستان طلحة الطلحات

في رواية من خفض التقدير أعظم طلحة. وقد قالت العرب : يعجبني الإكرام عندك سعد ، بنية : يعجبني الإكرام إكرام سعد. وحكى الكسائي عن العرب : أطعمونا لحما سمينا شاة ذبحوها ، أي لحم شاة. وحكى الفراء عن العرب : أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة سنة ، الدقيق عظمه ، على تقديره : لو تعلمون علم الكبيرة سنه ، فحذف الثاني اعتمادا على الأول ، ولم يجز البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف إليه على خفضه في : يعجبني القيام زيد ، ولا يبعد ترجيح حذف يوم لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي والفراء عن العرب. ويحسن هذا التخريج كون المضاف إليه جملة ، فلا يظهر فيها إعراب ، فيتنافر مع إعراب ما قبله ، فإذا جاز ذلك في نثرهم مع التنافر ، فلأن يجوز مع عدم التنافر أولى. ولم أر أحدا من المعربين والمفسرين

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢٨.

(٢) سورة المرسلات : ٧٧ / ٣٥.

٣٠٧

خرجوا هذه الجملة هذا التخريج ، بل هم مجمعون على أن الجملة صفة ليوم ، ويلزم من ذلك حذف الرابط أيضا من الجمل المعطوفة على (لا تَجْزِي) ، أي ولا يقبل منها شفاعة فيه ، ولا يؤخذ منها عدل فيه ، ولا هم ينصرون فيه ، وعلى ذلك التخريج لا يحتاج إلى إضمار هذه الرّوابط.

(نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) كلاهما نكرة في سياق النفي فتعم. ومعنى التنكير : أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس من الأنفس شيئا من الأشياء ، قال الزمخشري : وفيه إقناط كلي قاطع من المطامع ، وهذا على مذهبه في أن لا شفاعة. وقال بعضهم : التقدير عن نفس كافرة ، فقيدها بالكفر ، وفيه دلالة على أن النفس تجزى عن نفس مؤمنة ، وذلك بمفهوم الصفة. ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على قوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ). وقرأ أبو السرار الغنوي : لا تجزي نسمة عن نسمة ، وانتصاب شيئا على أنه مفعول به ، أي لا يقضي شيئا ، أي حقا من الحقوق ، ويجوز أن يكون انتصابه على المصدر ، أي : ولا تجزي شيئا من الجزاء ، قاله الأخفش ، وفيه إشارة إلى القلة ، كقولك : ضربت شيئا من الضرب.

(وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) : قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ولا تقبل بالتاء ، وهو القياس والأكثر ، ومن قرأ بالياء فهو أيضا جائز فصيح لمجاز التأنيث ، وحسنه أيضا الفصل بين الفعل ومرفوعه. وقرأ سفيان : ولا يقبل بفتح الياء ونصب شفاعة على البناء للفاعل ، وفي ذلك التفات وخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب ، لأن قبله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) و (أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) ، وبناؤه للمفعول أبلغ لأنه في اللفظ أعم ، وإن كان يعلم أن الذي لا يقبل هو الله تعالى. والضمير في منها عائد على نفس المتأخرة لأنها أقرب مذكور ، أي لا يقبل من النفس المستشفعة شفاعة شافع ، ويجوز أن يعود الضمير على نفس الأولى ، أي ولا يقبل من النفس التي لا تجزي عن نفس شيئا شفاعة ، هي بصدد أن لو شفعت لم يقبل منها ، وقد يظهر ترجيح عودها إلى النفس الأولى ، لأنها هي المحدث عنها في قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) ، والنفس الثانية هي مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة. وظاهر قوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) نفي القبول ووجود الشفاعة ، ويجوز أن يكون من باب : على لاحب لا يهتدي بمناره نفي القبول ، والمقصود نفي الشفاعة ، كأنه قيل : لا شفاعة ، فتقبل. وقد اختلف

٣٠٨

المفسرون في فهم هذا على ستة أقوال : الأول : أنه لفظ عام لمعنى خاص ، والمراد : الذين قالوا من بني إسرائيل نحن أبناء الله ، وأبناء أنبيائه ، وأنهم يشفعون لنا عند الله ، فرد عليهم ذلك ، وأويسوا منه لكفرهم ، وعلى هذا تكون النفس الأولى مؤمنة ، والثانية كافرة ، والكافر لا تنفعه شفاعة لقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (١). الثاني : معناه لا يجدون شفيعا تقبل شفاعته ، لعجز المشفوع فيه عنه ، وهو قول الحسن. الثالث : معناه لا يجيب الشافع المشفوع فيه إلى الشفاعة ، وإن كان لو شفع لشفع. الرابع : معناه حيث لم يأذن الله في الشفاعة للكفار ، ولا بد من إذن من الله بتقدم الشافع بالشفاعة لقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (٢) ، (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٣). الخامس : معناه ليس لها شفاعة ، فيكون لها قبول ، وقد تقدم هذا القول. السادس : أنه نفي عام ، أي لا يقبل في غيرها ، لا مؤمنة ولا كافرة ، في مؤمنة ولا كافرة ، قاله الزمخشري.

وأجمع أهل السنة أن شفاعة الأنبياء والصالحين تقبل في العصاة من المؤمنين ، خلافا للمعتزلة ، قالوا : الكبيرة تخلد صاحبها في النار ، وأنكروا الشفاعة ، وهم على ضربين : طائفة أنكرت الشفاعة إنكارا كليا وقالوا : لا تقبل شفاعة أحد في أحد ، واستدلوا بظواهر آيات ، وخص تلك الظواهر أصحابنا بالكفار لثبوت الأحاديث الصحيحة في الشفاعة. وطائفة أنكرت الشفاعة في أهل الكبائر ، قالوا : وإنما تقبل في الصغائر. وقال في المنتخب : أجمعت الأمة على أن لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شفاعة في الآخرة ، واختلفوا لمن تكون. فذهبت المعتزلة إلى أنها للمستحقين الثواب ، وتأثيرها في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه. وقال أصحابنا : تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين ، إما بأن لا يدخلوا النار ، وإما في أن يخرجوا منها بعد دخولها ويدخلون الجنة ، واتفقوا على أنها ليست للكفار ، ثم ذكر نحوا من ست أوراق في الاستدلال للطائفتين ، ورد بعضهم على بعض ، يوقف عليها في ذلك الكتاب.

(وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) العدل : الفدية ، قاله ابن عباس وأبو العالية ، وسميت عدلا لأن المفدى يعدل بها : أي يساويها ، أو البدل : أي رجل مكان رجل. وروي عن ابن عباس : أو حسنة مع الشرك ثلاثة أقوال. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) : أتي بالضمير مجموعا على معنى

__________________

(١) سورة المدثر : ٧٤ / ٤٨.

(٢) سورة سبأ : ٣٤ / ٢٣.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٨.

٣٠٩

نفس ، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم ، كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (١) ، وأتى به مذكرا لأنه أريد بالنفوس الأشخاص كقولهم : ثلاثة أنفس ، وجعل حرف النفي منسحبا على جملة اسمية ليكون الضمير مذكورا مرتين ، فيتأكد ذكر المنفي عنه النصر بذكره مرتين ، وحسن الحمل على المعنى كون ذلك في آخر فاصلة ، فيحصل بذلك التناسب في الفواصل ، بخلاف أن لو جاء ولا تنصر ، إذ كان يفوت التناسب. ويحتمل رفع هذا الضمير وجهين من الإعراب. أحدهما : وهو المتبادر إلى أذهان المعربين أنه مبتدأ ، والجملة بعده في موضع رفع على الخبر. والوجه الثاني : وهو أغمض الوجهين وأغربهما أنه مفعول لم يسم فاعله ، يفسر فعله الفعل الذي بعده ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، وذلك أن لا هي من الأدوات التي هي أولى بالفعل ، كهمزة الاستفهام. فكما يجوز في : أزيد قائم ، وأزيد يضرب ، الرفع على الاشتغال ، فكذلك هذا ، ويقوي هذا الوجه أنه تقدم جملة فعلية.

والحكم في باب الاشتغال أنه إذا تقدمت جملة فعلية وعطف عليها بشرط العطف المذكور في ذلك الباب ، فالأفصح الحمل على الفعل ، ويجوز الابتداء كما ذكرنا أولا ، ويقوي عود الضمير إلى نفس الثانية بناء الفعل للمفعول ، إذ لو كان عائدا على نفس الأولى لكان مبنيا للفاعل ، كقوله : لا تجزي. ومن المفسرين من جعل الضمير في ولا هم عائدا على النفسين معا ، قال : لأن التثنية جمع قالوا ، وفي معنى النصر للمفسرين هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه لا يمنعون من عذاب الله. الثاني : لا يجدون ناصرا ينصرهم ولا شافعا يشفع لهم. الثالث : لا يعاونون على خلاصهم وفكاكهم من موبقات أعمالهم. وثلاثة الأقوال هذه متقاربة المعنى ، وجاء النفي لهذه الجمل هنا بلا المستعملة لنفي المستقبل في الأكثر ، وكذلك هذه الأشياء الأربعة هي مستقبلة ، لأن هذا اليوم لم يقع بعد. وترتيب هذه الجمل في غاية الفصاحة ، وهي على حسب الواقع في الدنيا ، لأن المأخوذ بحق ، إما أن يؤدى عنه الحق فيخلص ، أو لا يقضى عنه فيشفع فيه ، أو لا يشفع فيه فيفدى ، أو لا يفدى فيتعاون بالإخوان على تخليصه.

فهذه مراتب يتلو بعضها بعضا. فلهذا ، والله أعلم ، جاءت مترتبة في الذكر هكذا. ولما كان الأمر مختلفا عند الناس في الشفاعة والفدية ، فمن يغلب عليه حب الرياسة قدم الشفاعة على الفدية ، ومن يغلب عليه حب المال قدم الفدية على الشفاعة ، جاءت هذه

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٤٧.

٣١٠

الجمل هنا مقدما فيها الشفاعة ، وجاءت الفدية مقدمة على الشفاعة في جملة أخرى ، ليدل ذلك على اختلاف الأمرين. وبدىء هنا بالشفاعة ، لأن ذلك أليق بعلوّ النفس ، وجاء هنا بلفظ القبول ، وهناك بلفظ النفع ، إشارة إلى انتفاء أصل الشيء ، وانتفاء ما يترتب عليه. وبدىء هنا بالقبول ، لأنه أصل للشيء المترتب عليه ، فأعطى المتقدم ذكر المتقدم وجودا ، وأخر هناك النفع إعطاء للمتأخر ذكر المتأخر وجودا.

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) : تقدم الكلام على إذ في قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ) (١). ومن أجاز نصب إذ هناك مفعولا به بإضمار اذكر أو ادّعى زيادتها ، فقياس قوله هناك إجازته هنا ، إذ لم يتقدم شيء تعطفه عليه إلا أن ادّعى مدّع أن إذ معطوفة على معمول اذكروا ، كأنه قال : اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم ، ووقت تنجيتكم ويكون قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة الاعتراض التي هي : (وَاتَّقُوا يَوْماً). وقد قدمنا أنا لا نختار أن يكون مفعولا به بأذكر ، لا ظاهرة ولا مقدرة ، لأن ذلك تصرف فيها ، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرف فيها إلا بإضافة اسم زمان إليها على ما قرر في النحو. وإذا كان كذلك ، فالذي نختاره أن ينتصب على الظرف ، ويكون العامل فيه فعلا محذوفا يدل عليه ما قبله ، تقديره : وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون ، وتقدير هذا الفعل أولى من كل ما قدمناه. وخرج بقوله : أنجيناكم إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه من ضمير المتكلم الذي لا يدل على تعظيم في قوله : (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ) ، لأن هذا الفعل الذي هو الإنجاء من عدوّهم ، هو من أعظم ، أو أعظم النعم ، فناسب الأعظم نسبته للمعظم نفسه. وقرىء : بأنجيناكم ، والهمزة للتعدية إلى المفعول ، كالتضعيف في نجيناكم. ونسبة هذه القراءة للنخعي. وذكر بعضهم أنه قرأ : أنجيتكم ، فيكون الضمير موافقا للضمير في نعمتي ، والمعنى : خلصتكم من آل فرعون ، وجعل التخليص منهم لأنهم هم الذين كانوا يباشرونهم بهذه الأفعال السيئة ، وإن كان أمرهم بذلك فرعون ، وآل فرعون هنا أهل مصر ، قاله مقاتل ، أو أهل بيته خاصة ، قاله أبو عبيد ، أو أتباعه على ذنبه ، قاله الزجاج ، ومنه : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) (٢) ، وهم أتباعه على ذنبه ، إذ لم يكن له أب ، ولا بنت ، ولا ابن ، ولا عم ، ولا أخ ، ولا عصبة ، وأدخلوا آل فرعون أشد العذاب. وروي أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من آلك؟ فقال : «كل تقي». ويؤيد القول الثاني : لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد. والمراد بالآل هنا : آل عقيل ، وآل عباس ، وآل

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٥٠ ، وسورة الأنفال : ٨ / ٥٤.

٣١١

الحارث بن عبد المطلب ومواليهم. وورد أيضا أن آله : أزواجه وذريته ، فدل على أنه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آل عام وآل خاص.

وفرعون : علم لمن ملك العمالقة ، كما قيل : قيصر لمن ملك الروم ، وكسرى لمن ملك الفرس ، والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وتبع لمن ملك اليمن. وقال السهيلي : هو اسم لكل من ملك القبط ومصر ، وقد اشتق منه : تفرعن الرجل ، إذا تجبر وعتا ، واسمه الوليد بن مصعب ، قاله ابن إسحاق ، وأكثر المفسرين ، أو فنطوس ، قاله مقاتل ، أو مصعب بن الريان ، حكاه ابن جرير ، أو مغيث ، ذكره بعض المفسرين ، أو قابوس ، وكنيته أبو مرة ، وهو من بني عمليق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح. وروي أنه من أهل إصطخر ، ورد إلى مصر فصار بها ملكا ، لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية ، قاله المسعودي. وقال ابن وهب : فرعون موسى هو فرعون يوسف ، قالوا : وهذا غير صحيح ، لأن بين دخول يوسف مصر ودخول موسى أكثر من أربعمائة سنة. والصحيح أنه غيره. وقيل : كان اسم فرعون يوسف الريان بن الوليد.

(يَسُومُونَكُمْ) : يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وهي حكاية حال ماضية ، ويحتمل أن تكون في موضع الحال : أي سائميكم ، وهي حال من آل فرعون. و (سُوءَ الْعَذابِ) : أشقه وأصعبه وانتصابه ، مبني على المراد بيسومونكم ، وفيه للمفسرين أقوال : السوم : بمعنى التكليف أو الإبلاء ، فيكون سوء العذاب على هذا القول مفعولا ثانيا لسام ، أي يكلفونكم ، أو يولونكم سوء العذاب ، أو بمعنى : الإرسال ، أو الإدامة ، أو التصريف ، أي : يرسلونكم ، أو يديمونكم ، أو يصرفونكم في الأعمال الشاقة ، أو بمعنى الرفع ، أي يرفعونكم إلى سوء العذاب ، أو الوسم ، أي : يعلمونكم من العلامة ، ومعناه : أن الأعمال الشاقة لكثرة مزاولتها تصير عليهم علامة بتأثيرها في جلودهم وملابسهم ، كالحدادة والنجارة ، وغير ذلك يكون وسما لهم ، والتقدير : يعلمونكم بسوء العذاب. وضعف هذا القول من جهة الاشتقاق ، لأنه لو كان كذلك لكان يسمونكم ، وهذا التضعيف ضعيف لأنّه لم يقل إنه مأخوذ من الوسم ، وإنما معناه معنى الوسم ، وهو من السيمياء ، والسيماء مسوّمين في أحد تفاسيره بمعنى العلامة ، وأصول هذا سين وواو وميم ، وهي أصول يسومونكم ، ويكون فعل المجرد بمعنى فعل ، وهو مع الوسم مما اتفق معناه واختلفت أصوله : كدمث ، ودمثر ، وسبط ، وسبطر ، أو بمعنى الطلب بالزيادة من السوم في البيع ، أي : يطلبونكم بازدياد الأعمال الشاقة.

٣١٢

وعلى هذه الأقوال غير القولين الأولين يكون (سُوءَ الْعَذابِ) مفعولا على إسقاط حرف الجر. وقال بعض الناس : ينتصب سوء العذاب نصب المصدر ، ثم قدره سوما شديدا. وسوء العذاب : الأعمال القذرة ، قاله السدي ، أو الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك ، قاله بعضهم. قال : وكان قومه جندا ملوكا ، أو الذبح ، أو الاستحياء المشار إليهما ، قاله الزجاج. ورد ذلك بثبوت الواو في إبراهيم فقال : ويذبحون ، فدل على أنه عذبهم بالذبح وبغير الذبح. وحكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما في الأعمال من البناء والتخريب والزراعة والخدمة ، ومن لا يعمل فالجزية ، فذوو القوّة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها ، وطائفة ينقلون له الحجارة والطين ويبنون له القصور ، وطائفة يضربون اللبن ويطبخون الآجر ، وطائفة نجارون وحدادون ، والضعفة جعل عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم. فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرا. والنساء يغزلن الكتان وينسجن. وأصل نشأة بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمان ابنه يوسف بها على نبينا وعليهما‌السلام.

(يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) : قراءة الجمهور بالتشديد ، وهو أولى لظهور تكرار الفعل باعتبار متعلقاته. وقرأ الزهري وابن محيصن : يذبحون خفيفا من ذبح المجرد اكتفاء بمطلق الفعل ، وللعلم بتكريره من متعلقاته. وقرأ عبد الله : يقتلون بالتشديد مكان يذبحون ، والذبح قتل ، ويذبحون بدل من يسومونكم ، بدل الفعل من الفعل ، نحو : قوله تعالى : (يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) (١) ، وقول الشاعر :

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

ويحتمل أن تكون مما حذف منه حرف العطف لثبوته في إبراهيم. وقول من ذهب إلى أن الواو زائدة لحذفها هنا ضعيف. وقال الفراء : الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسير لصفات العذاب ، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم العذاب ، غير الذبح ، ويجوز أن يكون يذبحون : في موضع الحال ، من ضمير الرفع في : يسومونكم ، ويجوز أن يكون مستأنفا. وفي سبب الذبح والاستحياء أقوال وحكايات مختلفة ، الله أعلم بصحتها ، ومعظمها يدل على خوف فرعون من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. والأبناء : الأطفال الذكور ، يقال : إنه قتل أربعين ألف صبي. وقيل : أراد بالأبناء : الرّجال ، وسموا

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٨ و ٦٩.

٣١٣

أبناء باعتبار ما كانوا قبل ، والأول أشهر. والنساء هنا : البنات ، وسموا نساء باعتبار ما يؤلن إليه ، أو بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهن ، وقيل : أراد : النساء الكبار ، والأول أشهر.

(وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) : وفسر الاستحياء بالوجهين اللذين ذكرناهما عند كلامنا على المفردات ، وهو أن يكون المعنى : يتركون بناتكم أحياء للخدمة ، أو يفتشون أرحام نسائكم. فعلى هذا القول ظاهره أن آل فرعون هم المباشرون لذلك ، ذكر أنه وكل بكل عشر نساء رجلا يحفظ من تحمل منهن. وقيل : وكل بذلك القوابل. وقد قيل : إن الاستحياء هنا من الحياء الذي هو ضد القحة ، ومعناه أنهم يأتون النساء من الأعمال بما يلحقهم منه الحياء ، وقدم الذبح على الاستحياء لأنه أصعب الأمور وأشقها ، وهو أن يذبح ولد الرجل والمرأة اللذين كانا يرجوان النسل منه ، والذبح أشق الآلام. واستحياء النساء على القول الأول ليس بعذاب ، لكنه يقع العذاب بسببه من جهة إبقائهن خدما وإذاقتهن حسرة ذبح الأبناء ، إن أريد بالنساء الكبار ، أو ذبح الإخوة ، إن أريد الأطفال ، وتعلق العار بهن ، إذ يبقين نساء بلا رجال فيصرن مفترشات لأعدائهن. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الآمر بالقتل بغير حق والمباشر له شريكان في القصاص ، فإن الله تعالى أغرق فرعون ، وهو الآمر ، وآله وهم المباشرون. وهذه مسألة يبحث فيها في علم الفقه ، وفيها خلاف بين أهل العلم.

(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ) : هو إشارة إلى ذبح الأبناء واستحياء النساء ، وهو المصدر الدال عليه الفعل نحو قوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ) (١) ، وهو أقرب مذكور ، فيكون المراد بالبلاء : الشدة والمكروه. وقيل : يعود إلى معنى الجملة من قوله يسومونكم مع ما بعده ، فيكون معنى البلاء كما تقدم. وقيل : يعود على التنجية ، وهو المصدر المفهوم من قوله : نجيناكم ، فيكون البلاء هنا : النعمة ويكون ذلكم قد أشير به إلى أبعد مذكور ، وهو أضعف من القول الذي قبله ، والمتبادر إلى الذهن والأقرب في الذكر هو القول الأول.

وفي قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) دليل على أن الخير والشرّ من الله تعالى ، بمعنى أنه خالقهما. وفيه رد على النصارى ومن قال بقولهم : إن الخير من الله والشرّ من الشيطان ووصفه بعظيم ظاهر ، لأنه إن كان ذلكم إشارة إلى التنجية من آل فرعون ، فلا يخفى ما في ذلك

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٣.

٣١٤

من عظم النعمة وكثرة المنة ، وإن كان إشارة إلى ما بعد التنجية من السوم ، أو الذبح ، والاستحياء ، فذلك ابتلاء عظيم شاق على النفوس ، يقال إنه سخرهم فبنوا سبعة حوائط جائعة أكبادهم عارية أجسادهم ، وذبح منهم أربعين ألف صبي. فأي ابتلاء أعظم من هذا وكونه عظيما هو بالنسبة للمخاطب والسامع ، لا بالنسبة إلى الله تعالى ، لأنه يستحيل عليه اتصافه بالاستعظام. قال القشيري : من صبر في الله على بلاء الله عوضه الله صحبة أوليائه. هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضرّ من فرعون وقومه ، فجعل منهم أنبياء ، وجعل منهم ملوكا ، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، انتهى. ولم تزل النعم تمحو آثار النقم ، قال الشاعر :

نأسوا بأموالنا آثار رائدينا

ولما تقدم الأمر بذكر النعم مجملة فيما سبق ، أمرهم بذكرها ثانية مفصلة ، فبدأ منها بالتفضيل ، ثم أمرهم باتقاء يوم لا خلاص فيه ، لا بقاض حق ، ولا شفيع ، ولا فدية ، ولا نصر ، لمن لم يذكر نعمه ، ولم يمتثل أمره ، ولم يجتنب نهيه ، وكان الأمر بالاتقاء مهما هنا ، لأن من أخبر بأنه فضل على العالمين ربما استنام إلى هذا التفضيل ، فأعلم أنه لا بد مع ذلك من تحصيل التقوى وعدم الاتكال على مجرد التفضيل ، لأن من ابتدأك بسوابق نعمه ، يجب عليك أن تتقي لواحق نقمه. ثم ثني بذكر الإنجاء الذي به كان سبب البقاء بعد شدة اللأواء. ثم بعد ذلك ذكر تفاصيل النعماء مما نص عليه إلى قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) (١) ، فكان تعداد الآلاء مما يوجب جميل الذكر وجليل الثناء. وسيأتي الكلام في ترتيب هذه النعم ، نعمة نعمة ، إن شاء الله تعالى.

وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)

الفرق : الفصل ، فرق بين كذا وكذا : فصل ، وفرق كذا : فصل بعضه من بعض ، ومنه : الفرق في شعر الرأس ، والفريق ، والفرقان ، والتفرق ، والفرق ، المفروق ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦١.

٣١٥

كالطحن. والفرق ضده : الجمع ، ونظائره : الفصل ، وضده : الوصل ، والشق والصدع : وضدهما اللأم ، والتمييز : وضده الاختلاط. وقيل : يقال فرق في المعاني ، وفرق في الأجسام ، وليس بصحيح. البحر : مكان مطمئن من الأرض يجمع المياه ، ويجمع في القلة على أبحر ، وفي الكثرة على بحور وبحار ، وأصله قيل : الشق ، وقيل : السعة. فمن الأول : البحيرة ، وهي التي شقت أذنها ، ومن الثاني : البحيرة ، المدينة المتسعة ، وفرس بحر : واسع العدو ، وتبحر في العلم : أي اتسع ، وقال :

انعق بضأنك في بقل تبحره

من الأباطح وأحبسها بخلدان

وجاء استعماله في الماء الحلو والماء الملح ، قال تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) (١) ، وجاء استعماله للملح ، ويقال : هو الأصل ، فيه أنشد أحمد بن يحيى :

وقد عاد عذب الماء بحرا فزادني

على مرض أن أبحر المشرب العذب

أي صار ملحا. الغرق : معروف ، والفعل منه فعل بكسر العين يفعل بالفتح ، قال :

وتارات يجمّ فيغرق

والتغريق ، والتعويص ، والترسيب ، والتغييب ، بمعنى واحد. النظر : تصويب المقلة إلى المرثيّ ، ويطلق على الرؤية ، وتعديته بإلى ، ويعلق ، وإن لم يكن من أفعال القلوب ، فلينظر أيها أزكى طعاما ، ونظره وانتظره وانظره : أخره ، والنظرة : التأخير. وعد في الخير والشر ، والوعد في الخير ، وأوعد في الشر ، والإيعاد والوعيد في الشر. موسى : اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية. يقال : هو مركب من مو : وهو الماء ، وشاو : هو الشجر. فلما عرّب أبدلوا شينه سينا ، وإذا كان أعجميا فلا يدخله اشتقاق عربي. وقد اختلفوا في اشتقاقه ، فقال مكي : موسى مفعل من أوسيت ، وقال غيره : هو مشتق من ماس يميس ، ووزنه : فعلى ، فأبدلت الياء واو الضمة ما قبلها ، كما قالوا : طوبى ، وهي من ذوات الياء ، لأنها من طاب يطيب. وكون وزنه فعلى هو مذهب المعربين. وقد نص سيبويه على أن وزن موسى مفعل ، وذلك فيما لا ينصرف. واحتج سيبويه في الأبنية على ذلك بأن زيادة الميم أولا أكثر من زيادة الألف آخرا ، واحتج الفارسي على كونه مفعلا لا فعلى ، بالإجماع على صرفه نكرة ، ولو كان فعلى لم ينصرف نكرة لأن الألف كانت تكون للتأنيث ، وألف

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١٢.

٣١٦

التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة. الأربعون : ليس بجمع سلامة ، بل هو من قبيل المفرد الذي هو اسم جمع ، ومدلوله معروف ، وقد أعرب إعراب الجمع المذكر السالم.

الليلة : مدلولها معروف ، وتكسر شاذا على فعالى ، فيقال : الليالي ، ونظيره : الكيكة والكياكي ، كأنه جمع ليلاه وكيكاه ، وأهل والأهالي. وقد شذوا في التصغير كما شذوا في التكسير ، قالوا : لييله. الاتخاذ : افتعال من الأخذ ، وكان القياس أن لا تبدل الهمزة إلا ياء ، فتقول : ايتخذ كهمزة إيمان إذ أصله : إئمان ، وكقولهم : ائتزر : افتعل من الإزار ، فمتى كانت فاء الكلمة واوا أو ياء ، وبنيت افتعل منها ، فاللغة الفصحى إبدالها تاء وإدغامها في تاء الافتعال ، فتقول : اتصل واتسر من الوصل واليسر ، فإن كانت فاء الكلمة همزة ، وبنيت افتعل ، أبدلت تلك الهمزة ياء وأقررتها. هذا هو القياس ، وقد تبدل هذه الياء تاء فتدغم ، قالوا : اتمن ، وأصله : ائتمن. وعلى هذا جاء : اتخذ. ومما علق بذهني من فوائد الشيخ الإمام بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر الحلبي ، عرف بابن النحاس ، رحمه‌الله ، وهو كان المشتهر بعلم النحو في ديار مصر : أن اتخذ مما أبدل فيه الواو تاء على اللغة الفصحى ، لأن فيه لغة أنه يقال : وخذ بالواو ، فجاء هذا على الأصل في البدل ، وإن كان مبنيا على اللغة القليلة ، وهذا أحسن ، لأنهم نصوا على أن اتمن لغة رديئة ، وكان رحمه‌الله يغرب بنقل هذه اللغة. وقد خرج الفارسي مسألة اتخذ على أن التاء الأولى أصلية ، إذ قلت : قالت العرب تخذ بكسر الخاء ، بمعنى : أخذ ، قال : تعالى : (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (١) ، في قراءة من قرأ كذلك ، وأنشد الفارسي ، رحمه‌الله :

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيفا كأفحوص القطاة المطوّق

فعلى قوله : التاء أصل ، وبنيت منه افتعل ، فقلت : اتخذ ، كما تقول : اتبع ، مبنيا من تبع ، وقد نازع أبو القاسم الزجاجي في تخذ ، فزعم أن أصله : اتخذ ، وحذف كما حذف اتقى ، فقالوا : تقى ، واستدل على ذلك بقولهم : تخذ بفتح التاء مخففة ، كما قالوا : يتقى ويتسع بحذف التاء التي هي بدل من فاء الكلمة. ورد السيرافي هذا القول وقال : لو كان محذوفا منه ما كسرت الخاء ، بل كانت تكون مفتوحة ، كقاف تقى ، وأما يتخذ فمحذوف مثل : يتسع ، حذف من المضارع دون الماضي ، وتخذ بناء أصلي ، انتهى. وما ذهب إليه

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٧٧.

٣١٧

الفارسي والسيرافي من أنه بناء أصلي على حده هو الصحيح ، بدليل ما حكاه أبو زيد وهو : تخذ يتخذ تخذا ، قال الشاعر :

ولا تكثرن اتخذ العشار فإنها

تريد مباآت فسيحا بناؤها

وذكر المهدوي في شرح الهداية : أن الأصل واو مبدلة من همزة ، ثم قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء ، فصار في اتخذ أقوال : أحدها : التاء الأولى أصل. الثاني : أنها بدل من واو أصلية. الثالث : أنها بدل من تاء أبدلت من همزة. الرابع : أنها بدل من واو أبدلت من همزة ، واتخذ تارة يتعدى لواحد ، وذلك نحو قوله تعالى : (اتَّخَذَتْ بَيْتاً) (١) ، وتارة لاثنين نحو قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (٢) : بمعنى صير. العجل : معروف ، وهو ولد البقرة الصغير الذكر. بعد : ظرف زمان ، وأصله الوصف ، كقبل ، وحكمه حكمه في كونه يبنى على الضم إذا قطع عن الإضافة إلى معرفة ، ويعرب بحركتين ، فإذا قلت : جئت بعد زيد ، فالتقدير : جئت زمانا بعد زمان مجيء زيد ، ولا يحفظ جرّه إلا بمن وحدها. عفا : بمعنى كثر ، فلا يتعدى حتى عفوا ، وقالوا : وبمعنى درس ، فيكون لازما متعديا نحو : عفت الديار ، ونحو : عفاها الريح ، وعفى عن زيد : لم يؤاخذه بجريمته ، واعفوا عن اللحى ، أي اتركوها ولا تأخذوا منها شيئا ، ورجل عفوّ ، والجمع عفو على فعل بإسكان العين ، وهو جمع شاذ ، والعفاء : الشعر الكثير ، قال الشاعر :

عليه من عقيقته عفاء

ويقال في الدعاء على الشخص : عليه العفاء ، قال :

على آثار من ذهب العفاء

يريد الدروس ، وتأتي عفا : بمعنى سهل من قولهم : خذ ما عفا وصفا ، وأخذت عفوه : أي ما سهل عليه ، (ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٣) : أي الفضل الذي يسهل إعطاؤه ، ومنه : خذ العفو ، وأي السهل على أحد الأقوال ، والعافية : الحالة السهلة السمحة. الشكر : الثناء على إسداء النعم ، وفعله : شكر يشكر شكرا وشكورا ، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف جر ، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاس عليها ، وهو قسم برأسه ، تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء ، خلافا لمن زعم استحالة ذلك. وكان

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤١.

(٢) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢١٩.

٣١٨

شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن شكر أصله أن يتعدى بحرف جر ، ثم أسقط اتساعا. وقيل : الشكر : إظهار النعمة من قولهم : شكرت الرمكة مهرها إذا أظهرته ، والشكير : صغار الورق يظهر من أثر الماء ، قال الشاعر :

وبينا الفتى يهتز للعيش ناضرا

كعسلوجة يهتز منها شكيرها

وأوّل الشيب ، قال الراجز :

ألان ادلاج بك العتير

والرأس إذ صار له شكير

وناقة شكور تذر أكثر مما رعت

الفرقان : مصدر فرق ، وتقدّم الكلام في فرق.

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) : معطوف على : وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل في إذ تلك بواسطة الحرف. وقرأ الزهري : فرّقنا بالتشديد ، ويفيد التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر مسلكا على عدد أسباط بني إسرائيل. ومن قرأ : فرقنا مجردا ، اكتفى بالمطلق ، وفهم التكثير من تعداد الأسباط. بكم : متعلق بفرّقنا ، والباء معناها : السبب ، أي بسبب دخولكم ، أو المصاحبة : أي ملتبسا ، كما قال :

تدوس بنا الجماجم والتريبا

أي ملتبسة بنا ، أو : أي جعلناه فرقا بكم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما ، وهو قريب من معنى الاستعانة ، أو معناها اللام ، أي فرّقنا لكم البحر ، أي لأجلكم ، ومعناها راجع للسبب. ويحتمل الفرق أن يكون عرضا من ضفة إلى ضفة ، ويحتمل أن يكون طولا ، ونقل كل : وعلى هذا الثاني قالوا : كان ذلك بقرب من موضع النجاة ، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة. وذكر العامري : أن موضع خروجهم من البحر كان قريبا من برية فلسطين ، وهي كانت طريقهم. البحر : قيل هو بحر القلزم من بحار فارس ، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ ، وقيل : بحر من بحار مصر يقال له أساف ، ويعرف الآن ببحر القلزم ، قيل : وهو الصحيح ، ولم يختلفوا في أن فرق البحر كان بعدد الأسباط ، اثنى عشر مسلكا. واختلفوا في عدد المفروق بهم ، وعدد آل فرعون ، على أقوال يضاد بعضها بعضا ، وحكوا في كيفية خروج بني إسرائيل ، وتعنتهم وهم في البحر مقتحمون ، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده ، حكايات مطوّلة جدا لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها ، فالله أعلم بالصحيح منها.

٣١٩

(فَأَنْجَيْناكُمْ) : يعني من الغرق ، ومن إدراك فرعون لكم واليوم الذي وقع فيه الفرق والنجاة والغرق كان يوم عاشوراء؟ واستطردوا إلى الكلام في يوم عاشوراء ، وفي صومه ، وهي مسألة تذكر في الفقه. وبين قوله : (فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) ، وبين قوله : (فَأَنْجَيْناكُمْ) محذوف يدلّ عليه المعنى تقديره : وإذ فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم. (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) والهمزة في أغرقنا للتعدية ، ويعدى أيضا بالتضعيف. ولم يذكر فرعون فيمن غرق ، لأن وجوده معهم مستقرّ ، فاكتفى بذكر الآل هنا ، لأنهم هم الذين ذكروا في الآية قبل هذه ، ونسب تلك الصفة القبيحة إليهم من سومهم بني إسرائيل العذاب ، وذبحهم أبناءهم ، واستحيائهم نساءهم ، فناسب هذا إفرادهم بالغرق. وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر ، منها : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) (١) ، (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) (٢) ، (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٣). وناسب نجاتهم من فرعون بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين ، نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه‌السلام من الذبح ، بإلقائه وهو طفل في البحر ، وخروجه منه سالما. ولكل أمّة نصيب من نبيها. وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق ، هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح ، لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم ، والغرق فيه إبطاء الموت ، ولا دم خارج ، وكان ما به الحياة (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٤) سببا لإعدامهم من الوجود. ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدّة ، جعله الله تعالى نكالا لمن ادّعى الربوبية ، فقال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٥) ، إذ على قدر الذنب يكون العقاب ، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدّعي وتغييبه في قعر الماء.

(وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) : جملة حالية ، وهو من النظر : بمعنى الإبصار. والمعنى ، والله أعلم : أن هذه الخوارق العظيمة من فرق البحر بكم ، وإنجائكم من الغرق ، ومن أعدائكم ، وإهلاك أعدائكم بالغرق ، وقع وأنتم تعاينون ذلك وتشاهدونه ، لم يصل ذلك إليكم بنقل ، بل بالمشاهدة التي توجب العلم الضروري بأن ذلك خارق من عند الله تعالى على يد النبي الذي جاءكم. وقيل : وأنتم تنظرون إليهم لقرب بعض من بعض ، وقيل : إلى طفوهم على وجه الماء غرقى. وقيل : إليهم وقد لفظهم البحر وهم العدد الذي لا يكاد

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٤٠ ، وسورة الذاريات : ٥١ / ٤٠.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٩٠.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ٧٨.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٠.

(٥) سورة النازعات : ٧٩ / ٢٤.

٣٢٠