البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

لموصوف محذوف ، أي وقولوا للناس كلمة حسنى ، أو مقالة حسنى. وفي الوصف بها وجهان : أحدهما : أن تكون باقية على أنها للتفضيل ، واستعمالها بغير ألف ولام ولا إضافة لمعرفة نادر ، وقد جاء ذلك في الشعر ، قال الشاعر :

وإن دعوت إلى جلى ومكرمة

يوما كرام سراة الناس فادعينا

فيمكن أن تكون هذه القراءة من هذا لأنها قراءة شاذة. والوجه الثاني : أن تكون ليست للتفضيل ، فيكون معنى حسنى : حسنة ، أي وقولوا للناس مقالة حسنة ، كما خرجوا يوسف أحسن إخوته في معنى : حسن إخوته. وأما من قرأ : إحسانا فيكون نعتا لمصدر محذوف ، أي قولا إحسانا ، وإحسانا مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة ، أي قولا ذا حسن ، كما تقول : أعشبت الأرض إعشابا ، أي صارت ذات عشب. واختلف المفسرون في معنى قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ، فقال ابن عباس : قولوا لهم لا إله إلا الله ، ومروهم بها. وقال ابن جريج : قولوا لهم حسنا في الإعلام بما في كتابكم من صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو العالية : قولوا لهم القول الطيب ، وجاوبوهم بأحسن ما تحبون أن تجاوبوا به. وقال سفيان الثوري : مروهم بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر. وقال ابن عباس أيضا صدقا في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واختلفوا في المخاطب بقوله : وقولوا للناس حسنا ، من هو؟.

فالظاهر أنه من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل : أن لا تعبدوا إلا الله ، وأن تقولوا للناس حسنا. وعلى قراءة من قرأ : لا يعبدون بالياء ، يكون التفاتا ، إذ خرج من الغيبة إلى الخطاب. وقيل : المخاطب الأمة ، والأول أقرب لتكون القصة واحدة مشتملة على مكارم الأخلاق ، ولتناسب الخطاب الذي بعد ذلك من قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ، إلى آخر الآيات فإنه ، لا يمكن إلا أن يكون في بني إسرائيل. وظاهر الآية يدل على أن الإحسان للوالدين ، ومن عطف عليه ، والقول الحسن للناس ، كان واجبا على بني إسرائيل في دينهم ، لأن أخذ الميثاق يدل على الوجوب ، وكذا ظاهر الأمر ، وكأنه ذمهم على التولي عن ذلك. وروي عن قتادة أن قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) منسوخ بآية السيف ، وهذا لا يتأتى إلا إذا قلنا إن المخاطب بها هذه الأمة ، ومن الناس من خصص هذا العموم بالمؤمنين ، أو بالدعاء إلى الله تعالى بما في الأمر بالمعروف ، فيكون تخصيصا بحسب المخاطب ، أو بحسب الخطاب. وزعم أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره ، وأنه لا حاجة إلى التخصيص. قيل : وهذا هو الأقوى. والدليل عليه ، أن هارون وموسى ، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام ، أمرا بالرفق مع فرعون ، وكذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قيل

٤٦١

له : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (١) ، وقال تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (٢) ، (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٣) ، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (٤). ومن قال : لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق ، استدل بأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم ، وبقوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) (٥).

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) : إن كان هذا الخطاب للمؤمنين ، فيكون من تلوين الخطاب. وقد تقدم الكلام على تفسير هاتين الجملتين. وإن كان هذا الخطاب لبني إسرائيل ، وهو الظاهر ، لأن ما قبله وما بعده يدل عليه ، فالصلاة هي التي أمروا بها في التوراة ، وهم إلى الآن مستمرون عليها. وروي عن ابن عباس : أن زكاة أموالهم كانت قربانا تهبط إليهم نار فتحملها ، فكان ذلك تقبله ، وما لا تفعل النار ذلك به ، كان غير متقبل. وقيل : الصلاة هي هذه المفروضة علينا ، والخطاب لمن بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أبناء اليهود ، ويحتمل ذلك وجهين : أحدهما : أن يكون أمرهم بالصلاة والزكاة أمرا بالإسلام. والثاني : على قول من يقول : إن الكفار مخاطبون بفروع الإيمان والزكاة هي هذه المفروضة ، وقيل : الصلاة والزكاة هنا الطاعة لله وحده. ومعنى هذا القول أنه كنى عن الطاعة لله تعالى بالصلاة والزكاة اللتين هما أعظم أركان الإسلام.

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) : ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل الذين أخذ الله عليهم الميثاق. وقيل : هو خطاب لمعاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني إسرائيل ، أسند إليهم تولي أسلافهم ، إذ هم كلهم بتلك السبيل ، قال نحوه ابن عباس وغيره. والمعنى : ثم توليتم عما أخذ عليكم من الميثاق ، والمعنيّ بالقليل القليل في عدد الأشخاص. فقيل : هذا القليل هو عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل : من آمن قديما من أسلافهم ، وحديثا كعبد الله بن سلام وغيره. قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان ، أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا إيمان قليل ، إذ لا ينفعهم ، والأول أقوى. انتهى كلامه ، وهو احتمال بعيد من اللفظ ، إذ الذي يتبادر إليه الفهم إنما هو استثناء أشخاص قليلين من الفاعل الذي هو الضمير في توليتم ، ونصب : قليلا ، على الاستثناء ،

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ١٢٥.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٨.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٢.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٩٩.

(٥) سورة النساء : ٤ / ١٤٨.

٤٦٢

وهو الأفصح ، لأن قبله موجب. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ : إلا قليل ، بالرفع. وقرأ بذلك أيضا قوم ، قال ابن عطية : وهذا على بدل قليل من الضمير في توليتم ، وجاز ذلك ، يعني البدل ، مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي ، لأن توليتم معناه النفي ، كأنه قال : لم يفوا بالميثاق إلا قليل ، انتهى كلامه. والذي ذكر النحويون أن البدل من الموجب لا يجوز ، لو قلت : قام القوم إلا زيد ، بالرفع على البدل ، لم يجز ، قالوا : لأن البدل يحلّ محلّ المبدل منه ، فلو قلت : قام إلا زيد ، لم يجز لأن إلا لا تدخل في الموجب. وأما ما اعتلّ به من تسويغ ذلك ، لأن معنى توليتم النفي ، كأنه قيل : لم يفوا إلا قليل ، فليس بشيء ، لأن كل موجب ، إذا أخذت في نفي نقيضه أو ضدّه ، كان كذلك ، فليجز : قام القوم إلا زيد ، لأنه يؤوّل بقولك : لم تجلسوا إلا زيد. ومع ذلك لم تعتبر العرب هذا التأويل ، فتبني عليه كلامها ، وإنما أجاز النحويون : قام القوم إلا زيد بالرفع ، على الصفة. وقد عقد سيبويه في ذلك بابا في كتابه فقال : هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفا بمنزلة غير ومثل. وذكر من أمثلة هذا الباب : لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا ، و (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).

وقليل بها الأصوات إلا بغامها

وسوى بين هذا ، وبين قراءة من قرأ : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (١) ، برفع غير ، وجوّز في نحو : ما قام القوم إلا زيد ، بالرفع البدل والصفة ، وخرّج على ذلك قول عمرو بن معدي كرب :

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

قال : كأنه قال : وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه ، كما قال الشماخ :

وكل خليل غيرها ضم نفسه

لوصل خليل صارم أو معارز

ومما أنشده النحويون :

لدم ضائع نأت أقربوه

عنه إلا الصبا وإلا الجنوب

وأنشدوا أيضا :

وبالصريمة منهم منزل خلق

عاف تغير إلا النؤى والوتد

قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : ويخالف الوصف بإلا الوصف بغيره ، من حيث

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٥.

٤٦٣

أنها يوصف بها النكرة والمعرفة والظاهر والمضمر. وقال أيضا : وإنما يعني النحويون بالوصف بإلا : عطف البيان. وقال غيره : لا يوصف بإلا إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة بلام الجنس. وقال المبرد : لا يوصف بإلا إلا إذا كان الوصف في موضع يصلح فيه البدل ، وتحرير ذلك نتكلم عليه في علم النحو ، وإنما نبهنا على أن ما ذهب إليه ابن عطية في تخريج هذه القراءة ، لم يذهب إليه نحوي. ومن تخليط بعض المعربين أنه أجاز رفعه بفعل محذوف ، كأنه قال : امتنع قليل أن يكون توكيدا للمضمر المرفوع المستثنى منه. ولو لا أن هذين القولين مسطران في الكتب ما ذكرتهما. وأجاز بعضهم أن يكون رفعه على الابتداء والخبر محذوف ، كأنه قال : إلا قليل منكم لم يتول ، كما قالوا : ما مررت بأحد إلا رجل من بني تميم خير منه. وهذه أعاريب من لم يمعن في النحو.

وأنتم معرضون : جملة حالية ، قالوا : مؤكدة. وهذا قول من جعل التولي هو الإعراض بعينه ، ومن خالف بينهما تكون الحال مبينة ، وكذلك تكون مبينة إذا اختلف متعلق التولي والإعراض ، كما قال بعضهم ؛ إن معناه : ثم توليتم عن عهد ميثاقكم وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وجاءت الجملة الحالية اسمية مصدرة بأنتم ، لأنها آكد. وكان الخبر اسما ، لأنه أدل على الثبوت ، فكأنه قيل : وأنتم عادتكم الإعراض عن الحق والتولية عنه. وفي المواجهة بأنتم تقبيح لفعلهم وكونهم ارتكبوا ذلك الفعل القبيح الذي من شأنه أن لا يقع ، كقولك : يحسن إليك زيد وأنت مسيء إليه ، فكان المعنى : أن من واثقه الله وأخذ عليه العهد في أشياء بها انتظام دينه ودنياه ، جدير أن يثبت على العهد ، وأن لا ينقضه ، ولا يعرض عنه. وقيل : التولي والإعراض مأخوذ من سلوك الطريق ، ومن ترك سلوك الطريق فله حالتان : إحداهما : أن يرجع عوده على بدئه ، وذلك هو التولي ، والثانية : أن يأخذ في عرض الطريق ، وذلك هو الإعراض. وعلى هذا التفسير في التولي والإعراض لا يكون في الآية دليل على الاختلاف ، إلا إن قصد أن ناسا تولوا وناسا أعرضوا ، وجمع ذلك لهم ، أو يتولون في وقت ، ويعرضون في وقت.

وقال القشيري : التعبد بهذه الخصال حاصل لنا في شرعنا ، وأولها التوحيد ، وهو إفراد الله بالعبادة والطاعة ، ثم ردّك إلى مراعاة حق مثلك ، إظهارا أن من لا يصلح لصحبة شخص مثله ، كيف يقوم بحق معبود ليس كمثله شيء؟ فإذا كانت التربية المتضمنة حقوق الوالدين توجب عظيم هذا الحق ، فما حق تربية سيدك لك؟ كيف تؤدي شكره؟ ثم ذكر

٤٦٤

عموم رحمته لذي القربى ، واليتامى والمساكين ، وأن يقول للناس حسنا. وحقيقة العبودية الصدق مع الحق ، والرفق مع الخلق. انتهى ، وبعضه مختصر.

وقال بعض أهل الإشارات : الأسباب المتقرّب بها إلى الله تعالى : اعتقاد وقول وعمل ونية. فنبه بقوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) ، على مقام التوحيد ، واعتقاد ما يجب له على عباده من الطاعات والخضوع منفردا بذلك ، ومالية محضة وهي : الزكاة ، وبدنية محضة وهي : الصلاة ، وبدنية ومالية وهو : برّ الوالدين والإحسان إلى اليتيم والمسكين.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) : الكلام على : (تَسْفِكُونَ) ، كالكلام على : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) من حيث الإعراب. وقرأ الجمهور : بفتح التاء وسكون السين وكسر الفاء. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي جمزة ؛ كذلك ، إلا أنهما ضما الفاء. وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز : بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء المشددة. وقرأ ابن أبي إسحاق : كذلك ، إلا أنه سكن السين وخفف الفاء ، وظاهر قوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) ، أي لا تفعلون ذلك بأنفسكم لشدّة تصيبكم وحنق يلحقكم. وقد جاء في الحديث أمر الذي وضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل عليه فقتل نفسه. وإخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه من أهل النار. وصح من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده ، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. وتظافرت على تحريم قتل النفس الملل. وقال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (١). وقيل معناه : لا تسفكوا دماء الناس ، فإن من سفك دماءهم سفكوا دمه ، وقال :

سقيناهم كأسا سقونا بمثلها

ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

وقيل : معناه لا تقتلوا أنفسكم بارتكابكم ما يوجب ذلك ، كالارتداد والزنا بعد الإحصان والمحاربة ، وقتل النفس بغير حق ونحو ذلك ، مما يزيل عصمة الدماء. وقيل : معناه لا يسفك بعضكم دماء بعض ، وإليه أشار بقوله : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، وكل أهل دين كنفس واحدة ، قاله قتادة ، واختاره الزمخشري. قال ابن عطية : إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا أن لا يقتل بعضهم بعضا ، ولا ينفيه ، ولا يسترقه ، ولا يدعه يسترق ، إلى غير ذلك من الطاعات. والخطاب في أخذنا ميثاقكم لعلماء اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو مع أسلافهم.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٩.

٤٦٥

(وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) معناه : لا يخرج بعضكم بعضا ، أو لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم ، أو لا تفعلوا ما تخرجون به أنفسكم من الجنة التي هي داركم ، أو لا تخرجون أنفسكم ، أي إخوانكم ، لأنكم كنفس واحدة ، أو لا تفسدوا ، فيكون سببا لإخراجكم من دياركم ، كأنه يشير إلى تغريب الجاني ، أو لا تفسدوا وتشاقوا الأنبياء والمؤمنين ، فيكتب عليكم الجلاء. أقوال ستة. (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) : أي بالميثاق ، واعترفتم بلزومه ، أو اعترفتم بقبوله ، أو رضيتم به ، كما قال البعيث :

ولست كليبيا إذا سيم خطة

أقر كإقرار الحليلة للبعل

(وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) : أي تعلمون أن الله أخذه عليكم ، وأراد على قدماء بني إسرائيل ، إن كان الخطاب واردا عليهم ، وإن كان على معاصريه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أبنائهم ، فمعناه : وأنتم تشهدون على أسلافكم بما أخذه الله عليهم من العهد ، إما بالنقل المتواتر ، وإما بما تتلونه من التوراة. وإن كان معنى الشهادة الحضور ، فيتعين أن يكون الخطاب لأسلافهم. وقال بعض المفسرين : ثم أقررتم عائد إلى الخلف ، وأنتم تشهدون عائد إلى السلف ، لأنهم عاينوا سفك دماء بعضهم بعضا. وقال : وأنتم تشهدون لأن الأوائل والأصاغر صاروا كالشيء الواحد ، فلذلك أطلق عليهم خطاب الحضرة. وقيل : إن قوله وأنتم تشهدون للتأكيد ، كقولك ، فلان مقرّ على نفسه بكذا ، شاهد عليها.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) : هذا استبعاد لما أخبر عنهم به من القتل والإجلاء والعدوان ، بعد أخذ الميثاق منهم ، وإقرارهم وشهادتهم. واختلف المعربون في إعراب هذه الجملة ، فالمختار أن أنتم مبتدأ ، وهؤلاء خبر ، وتقتلون حال. وقد قالت العرب : ها أنت ذا قائما ، وها أنا ذا قائما. وقالت أيضا : هذا أنا قائما ، وها هو ذا قائما ، وإنما أخبر عن الضمير باسم الإشارة في اللفظ ، وكأنه قال : أنت الحاضر ، وأنا الحاضر ، وهو الحاضر. والمقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال. ويدل على أن الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوبا على الحال ، فيما قلناه من قولهم : ها أنت ذا قائما ونحوه. قال الزمخشري : والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون ، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين ، تنزيلا لتغير الصفة منزلة تغير الذات ، كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وقوله : (تَقْتُلُونَ) بيان لقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ). انتهى كلامه. والظاهر أن المشار إليه بقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ، هم المخاطبون أوّلا ، فليسوا قوما آخرين. ألا ترى

٤٦٦

أن هذا التقدير الذي قدّره الزمخشري من تنزيل تغير الصفة منزلة تغير الذات لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائما ولا في ها أنتم أولاء؟ بل المخاطب هو المشار إليه من غير تغير.

قال ابن عطية : وقال الأستاذ الأجلّ أبو الحسن بن أحمد : شيخنا ، هؤلاء : رفع بالابتداء ، وأنتم خبر مقدّم ، وتقتلون حال ، بها تم المعنى ، وهي كانت المقصود ، فهي غير مستغنى عنها ، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه ، كما تقول : هذا زيد منطلقا ، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه ، لا الإخبار بأن هذا هو زيد. انتهى ما نقله ابن عطية عن شيخه ، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري ، من أهل بلدنا غرناظة ، يعرف بابن الباذش ، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد ، مؤلف (كتاب الإقناع في القراءات) ، وله اختيارات في النحو ، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي ، وعلق عنه في النحو على (كتاب الجمل والإيضاح) ومسائل من كتاب سيبويه. توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ ، وهؤلاء الخبر ، إلى عكس هذا. والعامل في هذه الحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل. قالوا : وهو حال منه ، فيكون إذ ذاك قد اتحد ذو الحال والعامل فيها. وقد تكلمنا على هذه المسألة في (كتاب منهج السالك) من تأليفنا ، فيطالع هناك ، وذهب بعض المعربين إلى أن هؤلاء منادى محذوف منه حرف النداء ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، لأن اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرف النداء ، ونقل جوازه عن الفراء ، وخرج عليه الآية الزجاج وغيره ، جنوحا إلى مذهب الفراء ، فيكون على هذا القول يقتلون خبرا عن أنتم. وفصل بين المبتدأ والخبر بالنداء. والفصل بينهما بالنداء جائز ، وإنما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية ، لأنه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب واسم الإشارة جملة من مبتدأ وخبر. وقد بينا كيفية انعقاد هذه الجملة ، وقد أنشدوا أبياتا حذف منها حرف النداء مع اسم الإشارة ، من ذلك قول رجل من طيء :

إن الأولى وصفوا قومي لهم فيهم

هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا

وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ ، ويقتلون الخبر ، وهؤلاء تخصيص للمخاطبين ، لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون ، فيكون إذ ذاك منصوبا بأعني. وقد نص النحويون على أن التخصيص لا يكون بالنكرات ، ولا بأسماء الإشارة. والمستقرأ من لسان العرب أنه يكون أيا نحو : اللهم اغفر لنا ، أيتها العصابة ، أو معرّفا بالألف واللام

٤٦٧

نحو : نحن العرب أقرى الناس للضيف ، أو بالإضافة نحو : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وقد يكون علما ، كما أنشدوا :

بنا تميما يكشف الضباب. اهـ.

وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم ، كما مثلناه. وقد جاء بعد ضمير مخاطب ، كقولهم : بك الله نرجو الفضل. وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء موصول بمعنى الذي ، وهو خبر عن أنتم ، ويكون تقتلون صلة لهؤلاء ، وهذا لا يجوز على مذهب البصريين. وأجاز ذلك الكوفيون ، وهي مسألة خلافية مذكورة في علم النحو. وقرأ الجمهور : يقتلون ، من قتل مخففا. وقرأ الحسن : تقتلون من قتل مشدّدا. هكذا في بعض التفاسير ، وفي تفسير المهدوي إنها قراءة أبي نهيك ، قال والزهري والحسن : تقتلون أنبياء الله ، من قتل يعني مشدّدا ، والله أعلم بصواب ذلك.

(وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) : هذا نزل في بني قينقاع ، وبني قريظة ، والنضير من اليهود. كان بنو قينقاع أعداء قريظة والنضير ، والأوس والخزرج إخوان ، والنضير وقريظة أيضا إخوان ، ثم افترقوا. فصارت النضير حلفاء الخزرج ، وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا يقتتلون ، ثم يرتفع الحرب ، فيفدون أسراهم ، فعيرهم الله بذلك ، قاله المهدوي. قال الزمخشري : فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين ، جمعوا له حتى يفدوه ، فعيرتهم العرب وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فيقولون : أمرنا أن نفديهم ، وحرم علينا قتالهم ، ولكنا نستحي أن نذلّ حلفاءنا.

(تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ) : قرأ بتخفيف الظاء ، عاصم وحمزة والكسائي ، وأصله : تتظاهرون ، فحذف التاء ، وهي عندنا الثانية لا الأولى ، خلافا لهشام ، إذ زعم أن المحذوف هي التي للمضارعة ، الدالة في مثل هذا على الخطاب ، وكثيرا جاء في القرآن حذف التاء.

وقال :

تعاطسون جميعا حول داركم

فكلكم يا بني حمدان مزكوم

يريد : تتعاطسون. وقرأ باقي السبعة بتشديد الظاء ، أي بإدغام الظاء في التاء. وقرأ أبو حيوة : تظاهرون ، بضم التاء وكسر الهاء. وقرأ مجاهد وقتادة باختلاف عنهما : تظهرون ، بفتح التاء ، والظاء والهاء مشددين دون ألف ، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ بعضهم :

٤٦٨

تتظاهرون على الأصل. فهذه خمس قراءات ، ومعناها كلها التعاون والتناصر. وروى أبو العالية قال : كان بنو إسرائيل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم. عليهم بالإثم : فيه قولان : أحدهما : أنه الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذمّ واللوم ، والثاني : أنه الذي تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب. وفي حديث النّواس : الإثم ما حاك في صدرك. وقيل : المعنى تظاهرون عليهم بما يوجب الإثم ، وهذا من إطلاق السبب على مسببه ، ولذلك سميت الخمر إثما ، كما قال :

شربت الإثم حتى ضل عقلي

(وَالْعُدْوانِ) : هو تجاوز الحدّ في الظلم. (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) : قراءة الجمهور بوزن فعالى ، وحمزة بوزن فعلى. (تُفادُوهُمْ) : قرأه نافع وعاصم والكسائي من فادى ، وقرأ الباقون : من فدى. قال ابن عطية : وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج ، يعني : أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من ديارهم أن تحسنوا إليهم بالفداء ، ومعنى تفادوهم : تفدوهم ، إذ المفاعلة تكون من اثنين ، ومن واحد. ففاعل بمعنى : فعل المجرد ، وهو أحد معانيها. وقيل : معنى فادى : بادل أسيرا بأسير ، ومعنى فدى : دفع الفداء ، ويشهد للأوّل قول العباس : فاديت نفسي وفاديت عقيلا. ومعلوم أنه ما بادل أسيرا بأسير. وقيل : معنى تفدوهم بالصلح ، وتفادوهم بالعنف. وقيل تفادوهم : تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم ، ومنه قوله :

قفي فادي أسيرك إن قومي

وقومك ما أرى لهم اجتماعا

وتفدوهم : تعطوا فديتهم. وقال أبو علي معنى تفادوهم في اللغة ، تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنه شيئا. وفاديت نفسي : أي أطلقتها بعد أن دفعت شيئا. وفادى وفدى يتعدّيان إلى مفعولين ، الثاني بحرف جر ، وهو هنا به محذوف. (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) : تقدّمت أربعة أشياء : قتل النفس ، والإخراج من الديار ، والتظاهر ، والمفاداة ، وهي محرّمة. واختص هذا القسم بتأكيد التحريم ، وإن كانت كلها محرّمة ، لما في الإخراج من الديار من معرّة الجلاء والنفي الذي لا ينقطع شره إلا بالموت ، وذلك بخلاف القتل ، لأن القتل ، وإن كان من حيث هو هدم البنية ، أعظم ، لكن فيه انقطاع الشر ، وبخلاف المفاداة بها ، فإنها من جريرة الإخراج من الديار والتظاهر ، لأنه لو لا الإخراج من الديار والتظاهر عليهم ، ما وقعوا في قيد الأسر. وقد يكون أيضا مما حذف فيه من كل جملة ذكر التحريم ،

٤٦٩

ويكون التقدير : تقتلون أنفسكم ، وهو محرّم عليكم ، وكذا باقيها. وارتفاع هو على الابتداء ، وهو إما ضمير الشأن ، والجملة بعده خبر عنه ، وإعرابها أن يكون إخراجهم مبتدأ ومحرّم خبرا ، وفيه ضمير عائد على الإخراج ، إذ النية به التأخير. ولا يجيز الكوفيون تقديم الخبر إذا كان متحملا ضميرا مرفوعا. فلا يجيزون : قائم زيد ، على أن يكون قائم خبرا مقدّما ، فلذلك عدلوا إلى أن يكون خبر هو قوله محرّم ، وإخراجهم مرفوع به مفعولا لم يسم فاعله ، وتبعهم على هذا المهدوي. ولا يجيز هذا الوجه البصريون ، لأن عندهم أن ضمير الشأن لا يخبر عنه إلا بجملة مصرّح بجزأيها ، وإذا جعلت قوله محرّم خبرا عن هو ، وإخراجهم مرفوعا به ، لزم أن يكون قد فسر ضمير الشأن بغير جملة. وهو لا يجوز عند البصريين كما ذكرنا. وأجازوا أيضا أن يكون هو مبتدأ ، ليس ضمير الشأن ، بل هو عائد على الإخراج ، ومحرّم خبر عنه ، وإخراجهم بدل. وهذا فيه خلاف. منهم من أجاز أن يفسر المضمر الذي لم يسبق له ما يعود عليه بالبدل ، ومنهم من منع. وأجازه الكسائي ، وفي بعض النقول. وأجاز الكوفيون أن يكون هو عمادا ، وهو الذي يعبر عنه البصريون بالفصل ، وقد تقدّم مع الخبر. والتقدير : وإخراجهم هو محرّم عليكم ، فلما قدم خبر المبتدأ على المبتدأ ، قدم معه الفصل. قال الفراء : لأن الواو هاهنا تطلب الاسم ، وكل موضع تطلب فيه الاسم ، فالعماد فيه جائز. ولا يجوز هذا التخريج عند البصريين ، لأن فيه أمرين لا يجوزان عندهم : أحدهما : وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة ، إذ التقدير : وإخراجهم هو محرّم ، فمحرّم نكرة لا تقارب المعرفة. الثاني : أن فيه تقديم الفصل ، وشرطه عند البصريين أن يكون متوسطا بين المبتدأ والخبر ، أو بين ما هما أصله ، وهذه كلها مسائل تحقق في علم النحو.

ووقع في كتاب ابن عطية في هذا المكان أقوال تنتقد ، وهو أنه قال : قيل في هو إنه ضمير الأمر ، تقديره : والأمر محرّم عليكم ، وإخراجهم في هذا القول بدل من هو. انتهى ما نقله في هذا القول ، وهذا خطأ من وجهين. أحدهما : أنه أخبر عن ضمير الأمر بمفرد ، ولا يجيز ذلك بصري ولا كوفي. أما البصري ، فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة ، وأما الكوفي ، فلأنه يجيز الجملة ويجيز المفرد ، إذا كان قد انتظم منه ومما بعده مسند ومسند إليه في المعنى ، نحو قولك : ظننته قائما الزيدان. والثاني : أنه جعل إخراجهم بدلا من ضمير الأمر ، وضمير الأمر لا يعطف عليه ، ولا يبدل منه ، ولا يؤكد. قال ابن عطية : وقيل هو فاصلة ، وهذا مذهب الكوفي ، وليست هنا بالتي هي عماد ، ومحرم على هذا

٤٧٠

ابتداء ، وإخراجهم خبر. انتهى ما نقله في هذا القول. والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب ، وهو أن يكون الفصل قد قدم مع الخبر على المبتدأ ، فإعراب محرم عندهم خبر مقدم ، وإخراجهم مبتدأ ، وهو المناسب للقواعد ، إذ لا يبتدأ بالاسم إذا كان نكرة ، ولا مسوغ لها ، ويكون الخبر معرفة ، بل المستقر في لسانهم عكس هذا ، إلا إن كان يرد في شعر ، فيسمع ولا يقاس عليه. قال ابن عطية : وقيل هو الضمير المقدّر في محرم قدم وأظهر. انتهى ما نقله في هذا القول. وهذا القول ضعيف جدا ، إذ لا موجب لتقدّم الضمير ، ولا لبروزه بعد استتاره ، ولأنه يؤدّي إلى خلو اسم المفعول من ضمير ، إذ على هذا القول يكون محرّم خبرا مقدّما ، وإخراجهم مبتدأ ، ولا يوجد اسم فاعل ولا مفعول عاريا من الضمير ، إلا إذا رفع الظاهر. ولا يمكن هنا أن يرفع الظاهر ، لأن الضمير المنفصل المقدم هو كان الضمير المرفوع بمحرم ، ثم يبقى هذا الضمير لا يدري ما إعرابه ، إذ لا جائز أن يكون مبتدأ ، ولا جائز أن يكون فاعلا مقدّما. قال ابن عطية : وقيل هو ضمير الإخراج ، تقديره : وإخراجهم محرم عليكم. انتهى ما نقله في هذا القول ، ولم يبين وجه ارتفاع إخراجهم ، ولا يتأتى على أن يكون هو ضميره ، ويكون إخراجهم تفسيرا لذلك المضمر ، إلا على أن يكون إخراجهم بدلا من الضمير. وقد تقدم أن في ذلك خلافا ، منهم من أجاز ومنهم من منع.

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) : هذا استفهام معناه التوبيخ والإنكار. ولم يذمّهم على الفداء ، بل على المناقضة ، إذ أتوا ببعض الواجب ، وتركوا بعضا. وتكون المناقضة آكد في الذمّ ، ولا يقال الإخراج معصية. فلم سماها كفرا؟ لأنا نقول : لعلهم صرّحوا بأن ترك الإخراج غير واجب ، مع أن صريح التوراة كان دالا على وجوبه. والبعض الذي آمنوا به ، إن كان المراد بالكتاب التوراة ، فيكون عامّا فيما آمنوا به من أحكامها ، وفداء الأسير من جملته. والبعض الذي كفروا به : هو قتل بعضهم بعضا ، وإخراج بعضهم من ديارهم ، والمظاهرة بالإثم والعدوان ، من جملة ما كفروا به من التوراة. وقيل : معناه يستعملون البعض ويتركون البعض ، تفادون أسرى قبيلتكم ، وتتركون أسرى أهل ملتكم ولا تفادونهم. وقيل : إن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة ، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه الحرب ، ولا يفادي من وقع عليه الحرب. قال : فقال ابن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلهنّ. وقال مجاهد : معناه إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك. وقيل : المراد التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوّة موسى ، على

٤٧١

نبينا وعليه الصلاة والسلام ، مع التكذيب بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع أن الحجة في أمرهما سواء ، فجروا مجرى سلفهم ، أن يؤمنوا ببعض ، ويكفروا ببعض. قالوا : ويجوز أن يراد بالكتاب هنا المكتوب عليهم من هذه الأحكام الأربعة ، أي المفروض ، والذي آمنوا به منها فداء الأسرى ، والذي كفروا به باقي الأربعة.

(فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : الجزاء يطلق في الخير والشر. قال : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) (١) ، وقال : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) (٢). والخزي هنا : الفضيحة ، والعقوبة ، والقصاص فيمن قتل أو ضرب الجزية غابر الدهر ، أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحا ، وأذرعات ، أو غلبة العدوّ ، أقوال خمسة. ولا يتأتى القول بالجزية ولا الجلاء إلا إن حملنا الآية على الذين كانوا معاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأولى أن يكون المراد هو الذمّ العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص. وإلّا خزي : استثناء مفرّغ ، وهو خبر المبتدأ. ونقض النفي هنا نقض لعمل ما على خلاف في المسألة ، وتفصيل وذلك : أن الخبر إذا تأخر وأدخلت عليه إلّا ، فإما أن يكون هو الأوّل ، أو منزلا منزلته ، أو وصفا ، إن كان الأول في المعنى ، أو منزلا منزلته ، لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور. وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلا منزلة الأوّل ، وإن كان وصفا أجاز الفراء فيه النصب ، ومنعه البصريون. ونقل عن يونس : إجازة النصب في الخبر بعد إلا كائنا ما كان ، وهذا مخالف لما نقله أبو جعفر النحاس ، قال : لا خلاف بين النحويين في قولك : ما زيد إلا أخوك ، إنه لا يجوز إلا بالرفع. قال : فإن قلت ما أنت إلا لحيتك ، فالبصريون يرفعون ، والمعنى عندهم : ما فيك إلا لحيتك ، وكذا : ما أنت إلا عيناك. وأجاز في هذا الكوفيون النصب ، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر ، إلا أن يعرف المعنى ، فتضمر ناصبا نحو : ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى ، وما أنت إلا عمامتك تحسينا ورداءك تزيينا.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) : يوم القيامة عبارة عن زمان ممتد إلى أن يفصل بين العباد ، ويدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار. ومعنى يردّون : يصيرون ، فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشدّ العذاب ، أو يراد بالردّ : الرجوع إلى شيء كانوا فيه ، كما قال تعالى : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) (٣) ، وكأنهم كانوا في الدنيا في أشدّ العذاب أيضا ،

__________________

(١) سورة الإنسان : ٧٦ / ١٢.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٩٣.

(٣) سورة القصص : ٢٨ / ١٣.

٤٧٢

لأنهم عذبوا في الدنيا بالقتل والسبي والجلاء وأنواع من العذاب. وقرأ الجمهور : يردّون بالياء ، وهو مناسب لما قبله من قوله : (مَنْ يَفْعَلُ). ويحتمل أن يكون التفاتا ، فيكون راجعا إلى قوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ) ، فيكون قد خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما : تردّون بالتاء ، وهو مناسب لقوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ). ويحتمل أن يكون التفاتا بالنسبة إلى قوله : (مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ) ، فيكون قد خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب. وأشد العذاب : الخلود في النار ، وأشدّيته من حيث أنه لا انقضاء له ، أو أنواع عذاب جهنم ، لأنها دركات مختلفة ، وفيها أودية وحيات ، أو العذاب الذي لا فرح فيه ولا روح مع اليأس من التخلص ، أو الأشدّية هي بالنسبة إلى عذاب الدنيا ، أو الأشدّية بالنسبة إلى عذاب عامتهم ، لأنهم الذين أضلوهم ودلسوا عليهم ، أقوال خمسة. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : تقدّم الكلام على تفسير هذا الكلام ، إذ وقع قبل (أَفَتَطْمَعُونَ). وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر بالياء ، والباقون بالتاء من فوق. فبالياء ناسب يردّون قراءة الجمهور ، وبالتاء تناسب قراءة تردّون بالتاء ، فيكون المخاطب بذلك من كان مخاطبا في الآية. قيل : ويحتمل أن يكون الخطاب لأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقد روي عن عمر بن الخطاب قال : إن بني إسرائيل قد مضوا ، وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمّة محمد ، وبما يجري مجراه ، وهذه الآية من أوعظ الآيات ، إذ المعنى أن الله بالمرصاد لكل كافر وعاص.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) : قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، الذين تقدّم ذكرهم أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض ، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة. وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) (١) ، وأنه إذا عدّدت أوصاف لموصوف ، أشير إلى ذلك الموصوف تنبيها على أنه هو جامع تلك الأوصاف. والذين : خبر عن أولئك ، وتقدّم الكلام في قوله : (اشْتَرَوُا) ، وتقدّم أن الشراء والبيع يقتضيان عوضا ومعوّضا أعيانا. فتوسعت العرب في ذلك إلى المعاني ، وجعل إيثارهم بهجة الدنيا وزينتها على النعيم السرمدي اشتراء ، إيثارا للعاجل الفاني على الآجل الباقي ، إذ المشتري ليس هو المؤثر لتحصيله ، والثمن المبذول فيه مرغوب عنه عنده ، ولا يفعل ذلك إلا مغبون الرأي فاسد العقل.

قال بعض أرباب المعاني : إن الدنيا : ما دنا من شهوات القلب ، والآخرة : ما

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٥.

٤٧٣

اتصلت برضا الرب. فلا يخفف معطوف على الصلة ، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زمانا ، تقول : جاءني الذي قتل زيدا بالأمس ، وسيقتل غدا أخاه ، إذ الصلاة هي جمل ، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل من الأفعال منزلة المفردات ، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضيا أو غيره ، وعلى اختيار التوافق في الصيغة ، وجوّز أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين بصلته خبرا. وفلا : يخفف خبر بعد خبر ، وعلل دخول الفاء لأن الذين ، إذا كانت صلته فعلا ، كان فيها معنى الشروط ، وهذا خطأ ، لأن الموصول هنا أعربه خبرا عن أولئك ، فليس قوله فلا يخفف خبرا عن الموصول ، إنما هو خبر عن أولئك ، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبرا عنه. وجوز أيضا أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين مبتدأ ثان ، وفلا يخفف خبر عن الذين ، والذين وخبره خبر عن أولئك. قيل : ولم يحتج إلى عائد ، لأن الذين هم أولئك ، كما تقول : هذا زيد منطلق ، وهذا خطأ ، لأن كل جملة وقعت خبرا لمبتدأ فلا بد فيها من رابط ، إلا إن كانت نفس المبتدأ في المعنى ، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط. وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره ، فلا بد من الرابط. وليس نظير ما مثل به من قوله : هذا زيد منطلق ، لأن زيد منطلق خبران عن هذا ، وهما مفردان ، أو يكون زيد بدلا من هذا ، ومنطلق خبرا. وأما أن يكون هذا مبتدأ ، وزيد مبتدأ ثانيا ، ومنطلق خبرا عن زيد ، ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا ، فلا يجوز لعدم الرابط. وأيضا فلو كان هنا رابط ، لما جاز هذا الإعراب ، لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه ، فلا يشبه اسم الشرط ، إذ يزول العموم باختصاصه ، ولأن صلة الذين ماضية لفظا ومعنى. ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبرا. والتخفيف هو التسهيل ، وقد حمل نفي التخفيف على الانقطاع ، وحمل أيضا على التشديد. والأولى جملة على نفي التخفيف بالانقطاع ، أو بالتقليل منه ، أو في وقت ، أو في كل الأوقات ، لأنه نفي للماهية ، فيستلزم نفي أشخاصها وصورها. والظاهر من النفي بلا ، والكثير فيها أنه نفي في المستقبل. وقد فسر الزمخشري نفي التخفيف بأن ذلك في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا بنقصان الجزية ، وكذلك نفي النصر في الدنيا والآخرة. ومعنى نفي النصر : أنهم لا يجدون من يدفع عنهم ما حل بهم من عذاب الله.

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) : جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية ، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسألة من باب الاشتغال ، فيكون هم مرفوعا بفعل محذوف يفسره ما بعده ، على حدّ قوله :

٤٧٤

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله : (فَلا يُخَفَّفُ) ، وهو جملة فعلية ، إذ لو لا تقدّم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء ، وذلك أن لا ليست مما تطلب الفعل ، لا اختصاصا ولا أولوية ، فتكون كان والهمزة خلافا لأبي محمد بن السيد ، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا ، أولى من الابتداء ، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل ، لأنه أعم ، إلا إن جعل الفاعل عاما ، فيكون ولا هم ينصرهم أحد ، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد ، ويفوت الإيجاز ، مع أن قوله : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يفيد ذلك ، أعني العموم.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أخبار الله تعالى ، أنه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بإفراد العبادة ، والإحسان إلى الوالدين ، وإلى ذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وبالقول الحسن للناس ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأنهم نقضوا الميثاق بتوليهم وإعراضهم ، وأنه أخذ عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ، ولا يخرجون أنفسهم من ديارهم ، وأنهم أقروا والتزموا ذلك. فكان الميثاق الأول يتضمن الأوامر ، والميثاق الثاني يتضمن النواهي ، لأن التكاليف الإلهية مبنية على الأوامر والنواهي. وكان البدء بالأوامر آكد ، لأنها تتضمن أفعالا ، والنواهي تتضمن تروكا ، والأفعال أشق من التروك. وكان من الأوامر الأمر بإفراد الله بالعبادة ، وهو رأس الإيمان ، إذ متعلقة أشرف المتعلقات ، فكان البدء به أولى. ثم نعى عليهم التباسهم بما نهوا عنه ، وإن كان قد تقدم أخباره أنهم خالفوا في الأمر بقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ، لأن فعل المنهيات أقبح من ترك المأمورات ، لأنها تروك كما ذكرنا. ثم قرّعهم بمخالفة نواهي الله ، وأنهم مستعينون في ذلك بغير الحق ، بل بالإثم والعدوان. ثم ذكر تناقض آرائهم وسخف عقولهم ، بفداء من أتى إليهم منهم ، مع أنهم هم السبب في إخراجهم وأسرهم ، مع علمهم بتحريم إخراجهم ، وبذكر أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. هذا مع أنه كله حق وصدق ، فلا يناسب ذلك الكفر ببعض ، والإيمان ببعض. ثم ذكر أن الجزاء لفاعل ذلك هو الخزي في الدنيا ، وأشد العذاب في الآخرة ، وأن الله تعالى لا يغفل عما عملوه ، فيجازيهم على ذلك. ثم أشار إلى من تحلى بهذه الأوصاف الذميمة ، وخالف أمر الله ونهيه ، هو قد اشترى عاجلا تافها بآجل جليل ، وآثر فانيا مكدرا على باق صاف. وأن نتيجة هذا الشراء أن لا يخفف عنهم ما حل بهم من العذاب ، ولا يجدوا ناصرا يدفع عنهم سوء العقاب. لقد خسروا تجارة ، وبدلوا بالنعيم السرمدي نارا وقودها الناس

٤٧٥

والحجارة. وإذا كان التخفيف قد نفى ، فالرفع أولى. وهل هذا إلا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؟.

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)

٤٧٦

قفوت الأثر : اتبعته ، والأصل أن يجيء الإنسان تابعا لقفا الذي اتبعه ، ثم توسع فيه حتى صار لمطلق الاتباع ، وإن بعد زمان المتبوع من زمان التابع. وقال أمية :

قالت لأخت له قصيه عن جنب

وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد

الرسل : جمع رسول ، ولا ينقاس فعل في فعول بمعنى مفعول. وتسكين عينه لغة أهل الحجاز ، والتحريك لغة بني تميم. عيسى : اسم أعجمي علم لا يصرف للعجمة والعلمية ، ووزنه عند سيبويه : فعلى ، والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة ، بمنزلة ياء معزى ، يعني بالياء الألف ، سماها ياء لكتابتهم إياها ياء. قال أبو علي : وليست للتأنيث ، كالتي في ذكرى ، بدلالة صرفهم له في النكرة. وذهب الحافظ أبو عمر ، وعثمان بن سعيد الداني ، صاحب التصانيف في القراءات ، وعثمان بن سعيد الصيرفي وغيره ، إلى أن وزنه فعلل ، وردّ ذلك الأستاذ أبو الحسن بن الباذش بأن الياء والواو لا يكونان أصلا في بنات الأربعة. قال بعض أصحابنا : وهذه الأسماء أعجمية ، وكل أعجمي استعملته العرب ، فالنحويون يتكلمون على أحكامه في التصريف على الحدّ الذي يتكلمون في العربي ، فعيسى من هذا الباب. انتهى كلامه. ومن زعم أنه مشتق من العيس : وهو بياض يخالطه شقرة ، فغير مصيب ، لأن الاشتقاق العربي لا يدخل الأسماء الأعجمية. مريم ، باللسان السرياني ، معناه : الخادم ، وسميت به أم عيسى ، فصار علما ، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية. ومريم ، باللسان العربي : من النساء ، كالزير : من الرجال ، وبه فسر قول رؤبة :

قلت لزير لم تصله مريمه

والزير : الذي يكثر خلطة النساء وزيارتهنّ ، والياء فيه مبدلة من واو ، كالريح ، إذ هما من الزور والروح ، فصار هذا اللفظ مشتركا بالنسبة إلى اللسانين. ووزن مريم عند النحويين مفعل ، لأن فعيلا ، بفتح الفاء ، لم يثبت في الأبنية ، كما ثبت نحو : عثير وعلبب ، قاله الزمخشري وغيره. وقد أثبت بعض الناس فعيلا ، وجعل منه : ضهيدا ، اسم موضع ، ومدين ، إذا جعلنا ميمه أصلية ، وضهياء مقصورة مصروفة ، وهي المرأة التي لا تحيض ، وقيل : التي لا ثدي لها. قال أبو عمرو الشيباني : ضهياة وضهياءة ، بالقصر والمد. قال الزجاج : اشتقاقها من ضأهأت : أي شابهت ، لأنها أشبهت الرجل. وقال ابن جني : أما ضهيد وعثير فمصنوعان ، فلا يجعلان دليلا على إثبات فعيل. انتهى. وصحة حرف العلة في مريم على خلاف القياس نحو : مزيد. البين : الواضح ، بان : وضح وظهر. أيد : فعل

٤٧٧

تأييد ، أو أيد : أفعل ائيادا ، وكلاهما من الأيد ، وهو القوة. وقد أبدلوا في أفعل من يائه جيما ، قالوا : أجد ، أي قوي ، كما أبدلوا ياء يد ، قالوا : لا أفعل ذلك جدى الدهر ، يريدون يد الدهر ، وهو إبدال لا يطرد. والأصل في آية أءية ، وصححت العين كما صححت في أغيلت ، وهو تصحيح شاذ إلا في فعل التعجب ، فتقول : ما أبين! وما أطول! ورآه أبو زيد مقيسا ، ولو أعل على حدّ أقتت وأحدت ، فألقيت حركة العين على الفاء ، وحذفت العين ، لوجب أن تنقلب الفاء واوا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، كما انقلبت في أوادم جمع أدم على أفاعل ، ثم تنقلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. فلما أدّى القياس إلى إعلال الفاء والعين ، رفض وصححت العين. الروح ، من الحيوان : اسم للجزء الذي تحصل به الحياة ، قاله الراغب ، واختلف الناس فيه وفي النفس ، أهما من المشترك أم من المتباين؟ وفي ماهية النفس والروح ، وقد صنف في ذلك. القدس : الطهارة ، وقيل : البركة ، وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله تعالى : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) (١) ، الرسول ، فعول بمعنى : المفعول ، أي المرسل ، وهو قليل ، ومنه : الحلوب ، والركوب ، بمعنى : المحلوب والمركوب. تهوى : تحب وتختار ، ماضيه على فعل ، ومصدره الهوى. غلف : جمع أغلف ، كأحمر وحمر ، وهو الذي لا يفقه ، أو جمع غلاف ، وهو الغشاء ، فيكون أصله التثقيل ، فخفف. اللعن : الطرد والإبعاد ، يقال : شأو لعين ، أي بعيد ، وقال الشماخ :

ذعرت به القطا ونفيت عنه

مقام الذئب كالرجل اللعين

المعرفة : العلم المتعلق بالمفردات ، ويسبقه الجهل ، بخلاف أصل العلم فإنه يتعلق بالنسب ، وقد لا يسبقه الجهل ، ولذلك لم يوصف الله تعالى بالمعرفة ، ووصف بالعلم. بئس : فعل جعل للذمّ ، وأصله فعل ، وله ولنعم باب معقود في النحو. البغي : الظلم ، وأصله الفساد ، من قولهم : بغى الجرح : فسد ، قاله الأصمعي ، وقيل : أصله شدّة الطلب ، ومنه ما نبغي ، وقول الراجز :

أنشد والباغي يحب الوجدان

قلائصا مختلفات الألوان

ومنه سميت الزانية بغيا ، لشدّة طلبها للزنا ، الإهانة : الإذلال ، وهان هوانا : لم يحفل به ، وهو معنى الذل ، وهو كون الإنسان لا يؤبه به ، ولا يلتفت إليه. وراء ، من الظروف المتوسطة التصرف ، وتكون بمعنى : قدام ، وبمعنى : خلف ، وهو الأشهر فيه. الخالص :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

٤٧٨

الذي لا يشوبه شيء ، يقال : خلص يخلص خلوصا. تمنى : تفعل من المنية ، وهو الشيء المشتهى ، وقد يكون المتمنى باللسان بمعنى : التلاوة ، ومنه : تمنى على زيد منه حاجة ، وجد : مشترك بين الإصابة والعلم والغنى والحرج ، ويختلف بالمصادر : كالوجدان والوجد والموجدة. الحرص : شدّة الطلب. الودّ : المحبة للشيء والإيثار له ، وفعله : ودّ وهو على فعل يفعل ، وحكى الكسائي : وددت ، فعلى هذا يجوز كسر الواو ، إذ يكون فعل يفعل ، وفك الإدغام في قوله :

ما في قلوبهم لنا من مودة

ضرورة. عمر : التضعيف فيه للنقل ، إذ هو من عمر الرجل : أي طال عمره ، وعمره الله : أطال عمره ، والعمر : مدة البقاء. الألف : عشر من المئين ، وقد يتجاوز فيه فيدل على الشيء الكثير ، وهو من الألفة ، إذ هو ما لف أنواع الأعداد ، إذ العشرات ما لف الآحاد ، والمئون ما لف العشرات ، والألف ما لف المئين. الزحزحة : الإزالة والتنحية عن المقر. بصير : فعيل من بصر به إذا رآه ، (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) ، ثم يتجوّز به فيطلق على بصر القلب ، وهو العلم. بصير بكذا : أي عالم به.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : تقدّم الكلام في هذه اللام ، ويحتمل أن تكون للتأكيد ، وأن تكون جواب قسم. ومناسبة هذا لما قبله أن إيتاء موسى الكتاب هو نعمة لهم ، إذ فيه أحكامهم وشرائعهم. ثم قابلوا تلك النعمة بالكفران ، وذلك جرى على ما سبق من عادتهم ، إذ قد أمروا بأشياء ونهوا عن أشياء ، فخالفوا أمر الله ونهيه ، فناسب ذكر هذه الآية ما قبلها. والإيتاء : الإعطاء ، فيحتمل أن يراد به : الإنزال ، لأنه أنزله عليه جملة واحدة ، ويحتمل أن يراد آتيناه : أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه ، فيكون على حذف مضاف آتينا موسى علم الكتاب ، أو فهم الكتاب. وموسى : هو نبي الله موسى بن عمران ، صلى الله على نبينا وعليه وسلم. والكتاب هنا : التوراة ، في قول الجمهور ، والألف واللام فيه للعهد ، إذ قرن بموسى وانتصابه على أنه مفعول ثان لآتينا. وقد تقدم أنه مفعول أول عند السهيلي ، وموسى هو الثاني عنده.

(وَقَفَّيْنا) : هذه الياء أصلها الواو ، إلا أنها متى وقعت رابعة أبدلت ياء ، كما تقول : غزيت من الغزو. والتضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية ، إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين ، لأن قفوت يتعدّى إلى واحد. تقول : قفوت زيدا ، أي تبعته ، فلو جاء على

٤٧٩

التعدية لكان : وقفيناه من بعده الرسل ، وكونه لم يجىء كذلك في القرآن ، يبعد أن تكون الباء زائدة في المفعول الأول ، ويكون المفعول الثاني جاء محذوفا. ألا ترى إلى قوله : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (١) ، ولكنه ضمن معنى جئنا ، كأنه قال : وجئنا من بعده بالرسل ، يقفو بعضهم بعضا ، ومن في : (مِنْ بَعْدِهِ) : لابتداء الغاية ، وهو ظاهر ، لأنه يحكى أن موسى لم يمت حتى نبىء يوشع. (بِالرُّسُلِ) : أرسل الله على أثر موسى رسلا وهم : يوشع ، وشمويل ، وشمعون ، وداود ، وسليمان ، وشعيا ، وأرميا ، وعزير ، وحزقيل ، وإلياس ، وأليسع ويونس ، وزكريا ، ويحيى ، وغيرهم. والباء في بالرسل متعلقة بقفينا ، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص ، ويحتمل أن تكون للعهد ، لما استفيد من القرآن وغيره أن هؤلاء بعثوا من بعده ، ويحتمل أن تكون التقفية معنوية ، وهي كونهم يتبعونه في العمل بالتوراة وأحكامها ، ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها. وقرأ الجمهور : بالرسل بضم السين. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر : بتسكينها ، وقد تقدم أنهما لغتان ، ووافقهما أبو عمرو أن أضيف إلى ضمير جمع نحو : رسلهم ورسلكم ورسلنا ، استثقل توالي أربع متحركات ، فسكن تخفيفا.

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) : أضاف عيسى إلى أمه ردا على اليهود فيما أضافوه إليه. (الْبَيِّناتِ) : وهي الحجج الواضحة الدالة على نبوّته ، فيشمل كل معجزة أوتيها عيسى عليه‌السلام ، وهذا هو الظاهر. وقيل : الإنجيل. وقيل : الحجج التي أقامها الله على اليهود. وقيل : إبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار بالمغيبات ، وإحياء الموتى ، وهم أربعة : سام بن نوح ، والعازر ، وابن العجوز ، وبنت العشار ، ومن الطير : الخفاش ، فقيل : لم يكن من قبل عيسى ، بل هو صورة ، والله نفخ فيه الروح. وقيل : كان قبله ، فوضع عيسى على مثاله. قالوا : وإنما اختص هذا النوع من الطير لأنه ليس شيء من الطير أشد خلقا منه ، لأنه لحم كله. وأجمل الله ذكر الرسل ، وفصل ذكر عيسى ، لأن من قبله كانوا متبعين شريعة موسى ، وأما عيسى فنسخ شرعه كثيرا من شرع موسى.

(وَأَيَّدْناهُ) : قرأ الجمهور على وزن فعلناه. وقرأ مجاهد ، والأعرج ، وحميد ، وابن محيصن ، وحسين ، عن أبي عمرو : أأيدناه ، على وزن : أفعلناه. وتقدم الكلام على ذلك في المفردات ، وفرق بعضهم بينهما فقال : أما المد فمعناه القوة ، وأما القصر فالتأييد والنصر ، والأصح أنهما بمعنى قويناه ، وكلاهما من الأيد ، وهو القوة. (بِرُوحِ الْقُدُسِ) :

__________________

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٧.

٤٨٠