البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

المراد اليد حقيقة هنا ، والذي قدّمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان ذلك بكتابة أيديهم.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) : هذه جملة خبرية ، ومعناها : التهديد والوعيد ، وعلم الله متعلق بالظالم وغير الظالم. فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد. وقيل : معناه مجازيهم على ظلمهم ، فكنى بالعلم عن الجزاء ، وعلق العلم بالوصف ليدل على العلية ، والألف واللام في الظالمين للعهد ، فتختص باليهود الذين تقدّم ذكرهم ، أو للجنس ، فتعم كل ظالم. وإنما ذكر الظالمين ، لأن الظلم هو تجاوز ما حدّ الله ، ولا شيء أبلغ في التعدّي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضياتها ، وانفراده بذلك دون الناس.

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) : الخطاب هنا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ووجد هنا متعدّية إلى مفعولين : أحدهما الضمير ، والثاني أحرص الناس. وإذا تعدّت إلى مفعولين كانت بمعنى علم المتعدّية إلى اثنين ، كقوله تعالى : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١). وكونها هنا تعدّت إلى مفعولين ، هو قول من وقفنا على كلامه من المفسرين. ويحتمل أن يكون وجد هنا بمعنى لقي وأصاب ، ويكون انتصاب أحرص على الحال ، لكن لا يتم هذا إلا على مذهب من يرى أن إضافة أفعل التفضيل ليست بمحضة ، وهو قول الفارسي. وقد ذهب إلى ذلك من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن عصفور. أما من قال بأنها محضة ، ولا يجيز في الحال أن تأتي معرفة ، فلا يجوز عنده في أحرص النصب على الحال. وأحرص هنا هي أفعل التفضيل ، وهي مؤولة. بمعنى من ، وقد أضيف إلى معرفة ، فيجوز فيها الوجهان : أحدهما : أن يفرد مذكره ، وإن كانت جارية على مفرد ومثنى ومجموع ، ومذكر ومؤنث. والثاني : أن يطابق ما قبلها. فمن الوجه الأول أحرص الناس ولو جاء على المطابقة ، لكان أحارص الناس ، أو أحرصي الناس. ومن الوجه الثاني قوله : أكابر مجرميها ، كلا الوجهين فصيح. وذكر أبو منصور الجواليقي أن المطابقة أفصح من الإفراد. وذهب ابن السراج إلى تعين الإفراد ، وليس بصحيح. وإذا أضيفت إلى معرفة ، كهذين الموضعين ، فشرط ذلك أن يكون بعض ما يضاف إليه ، ولذلك منع البصريون يوسف أحسن إخوته ، على أن يكون أحسن أفعل التفضيل ، وتأولوا ما ورد مما يشبهه ، وشذ نحو قوله :

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٠٢.

٥٠١

يا رب موسى أظلمي وأظلمه

يريد : أظلمنا حيث لم يضف أظلم إلى ما هو بعضه. والضمير المنصوب في ولتجدنهم عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت ، أو على جميع اليهود ، أو على علماء بني إسرائيل أقوال ثلاثة. وأتي بصيغة أفعل من الحرص مبالغة في شدّة طلبهم للبقاء ودوام الحياة. والناس : الألف واللام للجنس فتعم ، أو للعهد. إما لأن يكون المراد جماعة من الناس معروفين غلب عليهم الحرص على الحياة ، أو لأن يكون المراد بذلك المجوس ، أو مشركي العرب ، لأن أولئك لا يوقنون ببعث ، فليس عندهم إلا نعيم الدنيا ، أو بؤسها ، ولذلك قال بعضهم :

تمتع من الدنيا فإنك فان

من النشوات والنسا الحسان

وقال آخر :

إذا انقضت الدنيا وزال نعيمها

فما لي في شيء سوى ذاك مطمع

(عَلى حَياةٍ) : قدروا فيه أنه على حذف مضاف ، أي على طول حياة ، أو على حذف صفة ، أي على حياة طويلة. ولو لم يقدر حذف لصح المعنى ، وهو أن يكون أحرص الناس على مطلق حياة ، لأن من كان أحرص على مطلق حياة ، وهو تحققها بأدنى زمان ، فلأن يكون أحرص على حياة طويلة أولى ، وكانوا قد ذموا بأنهم أشد الناس حرصا على حياة ، ولو ساعة واحدة. وقرأ أبي : على الحياة ، بالألف واللام. قال الزمخشري ما معناه : قراءة التنكير أبلغ من قراءة أبي ، لأنه أراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة. انتهى. وقد بينا أنه لا يضطر إلى هذه الصفة.

(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يجوز أن يكون متصلا داخلا تحت أفعل التفضيل ، فيكون ذلك من الحمل على المعنى ، لأن معنى أحرص الناس : أحرص من الناس. ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحذف ، أي وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف أحرص لدلالة أحرص الأول عليه. والذين أشركوا : المجوس ، لعبادتهم النور والظلمة. وقيل : النار ، أو مشركو العرب لعبادتهم الأصنام واتخاذهم آلهة مع الله ، أو قوم من المشركين كانوا ينكرون البعث ، كما قال تعالى : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) (١). وعلى هذه الأقوال يكون : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) تخصيصا بعد تعميم ، إذا قلنا : إن قوله

__________________

(١) سورة النازعات : ٧٩ / ١١.

٥٠٢

أحرص الناس عام ، ويكون في ذلك أعظم توبيخ لليهود ، إذ هم أهل كتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا ، وهم مع ذلك أحرص ممن لا يرجو ذلك ولا يؤمن ببعث. وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العقاب ، فكانوا أحب الناس في البعد منه ، لأن من توقع شرا كان أنفر الناس عنه ، فلما كانت الحياة سببا في تباعد العقاب ، كانوا أحرص الناس عليها. وعلى هذا الذي تقرّر من اتصال ، ومن الذين أشركوا بأفعل التفضيل ، فلا بد من ذكر من ، لأن أحرص الناس جرى على اليهود ، فلو عطفت بغير من لكان معطوفا على الناس ، فيكون في المعنى : ولتجدنهم أحرص الذين أشركوا ، فكان أفعل يضاف إلى غير ما اندرج تحته ، لأن اليهود ليسوا من المشركين ، أعني المشركين الذين فسر بهم الذين أشركوا هنا ، لا إذا قلنا : إن الثواني في العطف يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل ، فإنه يصح ذلك. وأما قول من زعم أن قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) معطوفا على الضمير في قوله : ولتجدنهم ، أي ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهو معنى يصح ، لكن اللفظ والتركيب ينبو عنه ويخرجه عن الفصاحة ، ولا ضرورة تدعو إلى أن يكون ذلك من باب التقديم والتأخير ، لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة.

وهذا البحث كله على تقدير أن تكون الواو في : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) لعطف مفرد على مفرد ، وأما إذا كانت لعطف الجمل ، فيكون إذ ذاك منقطعا من الدخول تحت أفعل التفضيل ، ويكون ابتداء ، إخبار عن قوم من المشركين يودون طول الحياة أيضا. وتقدّم أن المعنيّ بالذين أشركوا : أهم المجوس؟ أم مشركو العرب؟ أم قوم من المشركين في الوجه الأول؟ وأما على أن يكون استئناف إخبار ، فقال ابن عطية : هم المجوس ، لأن تشميتهم للعاطس بلغتهم معناه : عش ألف سنة. وفي هذا القول تشبيه لبني إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين. انتهى كلامه. قال الزمخشري : والذين أشركوا على هذا ، أي على أنه كلام مبتدأ ، مشار به إلى اليهود ، لأنهم قالوا عزير ابن الله. انتهى كلامه.

فعلى هذا القول ، يكون قد أخبر أن من هذه الطائفة التي اشتدّ حرصها على الحياة من (يَوَدُّ) لو عمر ألف سنة ، فيكون ذلك نهاية في تمني طول الحياة ، ويكون الذين أشركوا من وقوع الظاهر المشعر بالعلية موقع المضمر ، إذ المعنى : ومنهم قوم يود أحدهم ، ويود أحدهم صفة لمبتدأ محذوف ، أي ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم ، وهذا من المواضع

٥٠٣

التي يجوز حذف الموصوف فيها ، كقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١) ، (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (٢) ، وكقول العرب : منا ظعن ومنا أقام ، وعلى أن تكون الواو في (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) لعطف المفرد على المفرد ، قالوا : ويكون قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) جملة في موضع الحال ، أي وادّا أحدهم ، قالوا : ويكون حالا من الذين ، فيكون العامل أحرص المحذوف ، أو من الضمير في أشركوا ، فيكون العامل أشركوا. ويجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب في ولتجدنهم ، أي ولتجدنهم الأحرصين على الحياة وادّا أحدهم ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار عنهم يبين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة.

(أَحَدُهُمْ) : أي واحد منهم ، وليس أحد هنا هو الذي في قولهم ما قام أحد ، لأن هذا مستعمل في النفي أو ما جرى مجراه. والفرق بينهما أن أحدا هذا أصوله همزة وحاء ودال ، وأصول ذلك واو وحاء ودال. فالهمزة في أحدهم بدل من واو ، ولا يراد بقوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) أي يود واحد منهم دون سائرهم ، وإنما أحدهم هنا عام عموم البدل ، أي هذا الحكم عليهم بودهم أن يعمروا ألف سنة ، هو يتناول كل واحد واحد منهم على طريقة البدل. فكان المعنى أنك إذا نظرت إلى حرص واحد منهم ، وشدّة تعلق قلبه بطول الحياة ، وجدته لو عمر ألف سنة. (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) : مفعول الودادة محذوف تقديره : يود أحدهم طول العمر. وجواب لو محذوف تقديره : لو يعمر ألف سنة لسر بذلك ، فحذف مفعول يود لدلالة لو يعمر عليه ، وحذف جواب لو لدلالة يود عليه. هذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان. وذهب بعض الكوفيين وغيرهم في مثل هذا إلى أن لو هنا مصدرية بمعنى أن ، فلا يكون لها جواب ، وينسبك منها مصدر هو مفعول يود ، كأنه قال : يود أحدهم تعمير ألف سنة. فعلى هذا القول لا يكون في الكلام حذف ، وعلى القول الأول لا يكون لقوله : (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) محل إعراب. وعلى القول الثاني محله نصب على المفعول ، كما ذكرنا ، والترجيح بين القولين هو مذكور في علم النحو. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف اتصل لو يعمر بيود أحدهم؟ قلت : هو حكاية لودادتهم ، ولو في معنى التمني ، وكان القياس لو أعمر ، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله : يود أحدهم ، كقولهم : حلف بالله ليفعلنّ. انتهى كلامه. وفيه بعض إبهام ، وذلك أن يود فعلى قلبي ، وليس فعلا قوليا ، ولا معناه معنى القول. وإذا كان كذلك ، فكيف تقول هو حكاية

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٦٤.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٥٩.

٥٠٤

لودادتهم؟ إلا أن ذلك لا يسوغ إلا على تجوّز ، وذلك أن يجري يود مجرى يقول ، لأن القول ينشأ عن الأمور القلبية ، فكأنه قال : يقول أحدهم عن ودادة من نفسه لو أعمر ألف سنة. ولا تحتاج لو ، إذا كانت للتمني ، إلى جملة جوابية ، لأن معناها معنى : يا ليتني أعمر ، وتكون إذ ذاك الجملة في موضع مفعول على طريق الحكاية. فتلخص بما قررناه في لو ثلاثة أقوال : أن تكون حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأن تكون مصدرية ، وأن تكون للتمني محكية. ومعنى ألف سنة : العمر الطويل في أبناء جنسه ، فيكون ألف سنة كناية عن الزمان الطويل ، ويحتمل أن يزيد ألف سنة حقيقة ، وإن كان يعلم أنه لا يعيش ألف سنة ، لأن التمني يقع على الجائز والمستحيل عادة أو عقلا ، فيكون هذا معناه أنهم لشدة حرصهم في ازدياد الحياة يتعلق تمنيهم في ذلك بما لا يمكن وقوعه عادة.

(وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) : الضمير من قوله : وما هو عائد على أحدهم ، وهو اسم ما ، وبمزحزحه خبر ما ، فهو في موضع نصب ، وذلك على لغة أهل الحجاز. وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك ، وأن يعمر فاعل بمزحزحه ، أي وما أحدهم مزحزحه من العذاب تعميره. وجوّزوا أيضا في هذا الوجه ، أعني : أن يكون الضمير عائدا على أحدهم ، أن يكون هو مبتدأ ، وبمزحزحه خبر. وأن يعمر فاعل بمزحزحه ، فتكون ما تميمية. وهذا الوجه ، أعني أن تكون ما تميمية هو الذي ابتدأ به ابن عطية. وأجازوا أن يكون هو ضميرا عائدا على المصدر المفهوم من قوله : (لَوْ يُعَمَّرُ) ، وأن يعمر بدل منه ، وارتفاع هو على وجهيه من كونه اسم ما أو مبتدأ. وقيل : هو كناية عن التعمير ، وأن يعمر بدل منه ، ولا يعود هو على شيء قبله. والفرق بين هذا القول والذي قبله ، أن مفسر الضمير هنا هو البدل ، ومفسره في القول الأول هو المصدر الدال عليه الفعل في لو يعمر. وكون البدل يفسر الضمير فيه خلاف ، ولا خلاف في تفسير الضمير بالمصدر المفهوم من الفعل السابق. فهذا يفسره ما قبله ، وذاك يفسره ما بعده. وهذا الذي عنى الزمخشري بقوله : ويجوز أن يكون هو مبهما ، وأن يعمر موضحه. يعني : أن يكون هو لا يعود على شيء قبله ، وأن يعمر بدل منه وهو مفسر. وأجاز أبو علي الفارسي في الحلبيات أن يكون هو ضمير الشأن ، وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين ، وهو أن مفسر ضمير الشأن ، وهو المسمى عندهم بالمجهول ، يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسنادا معنويا نحو : ظننته قائما زيد ، وما هو بقائم زيد ، فهو مبتدأ ضمير مجهول عندهم ، وبقائم في موضع الخبر ، وزيد فاعل بقائم. وكان المعنى عندهم : ما هو يقوم زيد ، ولذلك أعربوا

٥٠٥

في : ظننته قائما زيد ، الهاء ضمير المجهول ، وهي مفعول ظننت ، وقائما المفعول الثاني ، وزيد فاعل بقائم. ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسر إلا بجملة مصرّح بجزأيها سالمة من حرف جر. قال ابن عطية ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : هو عماد. انتهى كلامه ، ويحتاج إلى تفسير ، وذلك أن العماد في مذهب بعض الكوفيين يجوز أن يتقدّم مع الخبر على المبتدأ ، فإذا قلت : ما زيد هو القائم ، جوّزوا أن تقول : ما هو القائم زيد. فتقدير الكلام عندهم ، وما تعميره هو بمزحزحه. ثم قدم الخبر مع العماد ، فجاء : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، أي تعميره ، ولا يجوز ذلك عند البصريين ، لأن شرط الفصل عندهم أن يكون متوسطا. وتلخص في هذا الضمير : أهو عائد على أحدهم؟ أو على المصدر المفهوم من يعمر؟ أو على ما بعده من قوله أن يعمر؟ أو هو ضمير الشأن؟ أو عماد؟ أقوال خمسة ، أظهرها الأول.

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) : قرأ الجمهور يعملون بالياء ، على نسق الكلام السابق. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب بالتاء ، على سبيل الالتفات والخروج من العيبة إلى الخطاب. وهذه الجملة تتضمن التهديد والوعيد ، وأتى هنا بصفة بصير ، وإن كان الله تعالى متنزها عن الجارحة ، إعلاما بأن علمه ، بجميع الأعمال ، علم إحاطة وإدراك للخفيات. وما : في بما ، موصولة ، والعائد محذوف ، أي يعملونه. وجوّزوا فيها أن تكون مصدرية أي بعملهم ، وأتى بصيغة المضارع ، وإن كان علمه تعالى محيطا بأعمالهم السالفة والآتية لتواخي الفواصل.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة الامتنان على بني إسرائيل وتذكارهم بنعم الله ، إذ آتى موسى التوراة المشتملة على الهدى والنور ، ووالى بعده بالرسل لتجديد دين الله وشرائعه ، وآتى عيسى الأمور الخارقة ، من إحياء الأموات ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإيجاد المخلوق ، ونفخ الروح فيه ، والإنباء بالمغيبات ، وغير ذلك. وأيده بمن ينزل الوحي على يديه ، وهو جبريل عليه‌السلام. ثم مع هذه المعجزات والنعم كانوا أبعد الناس عن قبول ما يأتيهم من عند الله ، وكانوا بحيث إذا جاءهم رسول بما لا يوافقهم ، بادروا إلى تكذيبه ، أو قتلوه ، وهم غير مكترثين بما يصدر منهم من الجرائم ، حتى حكي أنهم في أثر قتلهم الجماعة من الأنبياء ، تقوم سوق البقل بينهم ، التي هي أرذل الأسواق ، فكيف بالأسواق التي تباع فيها الأشياء النفيسة؟ ثم نعى تعالى عليهم أنهم باقون على تلك العادة من تكذيب ما جاء من عند الله ، وإن كانوا قبل مجيئه يذكرون أنه يأتيهم من عند الله. فحين وافاهم

٥٠٦

ما كانوا ينتظرونه ويعرفونه ، كفروا به ، فختم الله عليهم باللعنة. وأن سبب طردهم عن رحمة الله هو ما سبق من كفرهم ، وأن إيمانهم كان قليلا ، إذ كانوا قبل مجيء الكتاب يؤمنون بأنه سيأتي كتاب. ثم أخذ في ذكر ذمهم ، أن باعوا أنفسهم النفيسة بما يترتب لهم على كفرهم بآيات الله من المآكل والرّياسات المنقضية في الزمن اليسير ، وأن الحامل على ذلك هو البغي والحسد ، لأن اختص الله بفضله من شاء من عباده ، فلم يرضوا بحكمه ولا باختياره ، فباءوا بالغضب من الله ، وأعد لهم في الآخرة العذاب الذي يذلهم ويهينهم. إذ كان امتناعهم من الإيمان ، إنما هو للتكبر والحسد وعدم الرّضا بالقدر ، فناسب ذلك أن يعذبوا العذاب الذي فيه صغار لهم وذلة وإهانة.

ثم أخبر تعالى عنهم ، أنهم إذا عرض عليهم الإيمان بما أنزل الله ، أجابوا أنهم يؤمنون بالتوراة ، وأنهم يكفرون بما سواها. هذا والكتب المنزلة من عند الله سواء ، إذ كلها حق يصدق بعضها بعضا. فالكفر ببعضها كفر بجميعها. ثم أخبر تعالى بكذبهم في قولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) ، وذلك بأنهم قتلوا الأنبياء ، والتوراة ناطقة باتباع الأنبياء والاقتداء بهم ، فقد خالف قولهم فعلهم. ثم كرر عليهم ، توبيخا لهم ، أن موسى الذي أنزل عليه التوراة ، وأنهم يزعمون أنهم آمنوا بها ، قد جاءهم بالأشياء الواضحة والمعجزات الخارقة ، من نجاتهم من فرعون ، وفلق البحر وغير ذلك ، ومع ذلك ، اتخذوا من بعد ذهابه إلى مناجاة ربه إلها من أبعد الحيوان ذهنا وأبلدها ، وهو العجل المصنوع من حليهم ، المشاهد إنشاؤه وعمله ، وموسى لم يمت بعد ، وكتاب الله طري نزوله عليهم ، لم يتقادم عهده. وكرر تعالى ذكر رفع الطور عليهم ليقبلوا ما في التوراة ، وأمروا بالسمع والطاعة ، فأجابوا بالعصيان. هذا وهم ملجئون إلى الإيمان ، أو كالملجئين ، لأن مثل هذا المزعج العظيم من رفع جبل عليهم ليشدخوا به جدير بأن يأتي الإنسان ما أمر به ، ويقبل ما كلف به من التكاليف. وتأبيهم لذلك ، وعدم قبولهم ، سببه أن عبادة العجل خامرت قلوبهم ومازجتها ، حتى لم تسمع قبولا لشيء من الحق ، والقلب إذا امتلأ بحب شيء لم يسمع سواه ولم يصغ إلى ملام ، وأنشدوا :

ملأت ببعض حبك كل قلبي

فإن ترد الزيادة هات قلبا

ثم ذمهم تعالى على ما أمرهم به إيمانهم ، ولا إيمان لهم حقيقة ، بل نسب ذلك إليهم ، على سبيل التهكم من عبادة العجل واتخاذه إلها من دون الله. ثم كذبهم في دعواهم أن الجنة هي خالصة لهم ، لا يدخلها أحد سواهم ، فأمرهم بتمني الموت ، لأن من

٥٠٧

اعتقد أنه يصير إلى سرور وحبور ولذة دائمة لا تنقضي ، يؤثر الوصول إلى ذلك ، وانقضاء ما هو فيه من الذلة والنكد. وأخبر تعالى أن تمني الموت لا يقع منهم أبدا ، وأن امتناعهم من ذلك هو بما قدّمت أيديهم من الجرائم ، فظهر كذبهم في دعواهم بأنهم أهل الجنة. ثم أخبر ترشيحا لما قبله من عدم تمنيهم الموت ، أنهم أشدّ الناس حرصا على حياة ، حتى أنهم أحرص من الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة ، ولا يرجون ثوابا ، ولا يخافون عقابا. ثم ذكر أن أحدهم يودّ أن يعمر ألف سنة ، ومع ذلك فتعميره ، وإن طال ، ليس بمنجيه من عذاب الله.

ثم ختم الآيات بأن الله تعالى مطلع على قبائح أفعالهم ، ومجازيهم عليها. وتبين بمجموع هذه الآيات ما جبل عليه اليهود من فرط كذبهم ، وتناقض أفعالهم وأقوالهم ، ونقض عقولهم ، وكثرة بهتهم ، أعاذنا الله من ذلك ، وسلك بنا أنهج المسالك.

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ

٥٠٨

فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)

جبريل : اسم ملك علم له ، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو اسم أعجمي ممنوع الصرف ، للعلمية والعجمة ، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله ، ومن ذهب إلى أنه مركب تركيب الإضافة. ومعنى جبر : عبد وإيل ، اسم من أسماء الله ، لأن الأعجمي لا يدخله الاشتقاق العربي ، ولأنه لو كان مركبا تركيب الإضافة لكان مصروفا. وقال المهدوي : ومن قال : جبر ، مثل : عبد وإيل ، اسم من أسماء الله ، جعله بمنزلة حضرموت. انتهى كلامه. يعني أنه يجعله مركبا تركيب المزج ، فيمنعه الصرف للعلمية والتركيب. وليس ما ذكر بصحيح ، لأنه إما أن يلحظ فيه معنى الإضافة ، فيلزم الصرف في الثاني ، وإجراء الأول بوجوه الإعراب ، أو لا يلحظ ، فيركبه تركيب المزج. فما يركب تركيب المزج يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف ، فكونه لم يسمع فيه الإضافة ، ولا البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج. وقد تصرّفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية ، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة. قالوا : جبريل : كقنديل ، وهي لغة أهل الحجاز ، وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو ونافع وحفص. وقال ورقة بن نوفل :

وجبريل يأتيه وميكال معهما

من الله وحي يشرح الصدر منزل

وقال عمران بن حطان :

والروح جبريل منهم لا كفاء له

وكان جبريل عند الله مأمونا

وقال حسان :

وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس له كفاء

وكذلك إلا أن الجيم مفتوحة ، وبها قراءة الحسن وابن كثير وابن محيصن. قال الفراء : لا أحبها ، لأنه ليس في الكلام فعليل ، وما قاله ليس بشيء ، لأن ما أدخلته العرب في كلامها على قسمين : منه ما تلحقه بأبنية كلامها ، كلجام ، ومنه ما لا تلحقه بها ، كابريسم. فجبريل ، بفتح الجيم ، من هذا القبيل. وقيل : جبريل مثل شمويل ، وهو طائر.

٥٠٩

وجبرئيل كعنتريس ، وهي لغة : تميم ، وقيس ، وكثير من أهل نجد. حكاها الفراء ، واختارها الزجاج وقال : هي أجود اللغات. وقال حسان :

شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة

مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها

وقال جرير :

عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد

وبجبرئيل وكذبوا ميكال

وهي قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وحماد بن أبي زياد ، عن أبي بكر ، عن عاصم. ورواها الكسائي ، عن عاصم ، وكذلك. إلا أنه بغير ياء بعد الهمزة ، وهي رواية يحيى بن آدم ، عن أبي بكر ، عن عاصم. وتروى عن يحيى بن يعمر ، وكذلك. إلا أن اللام مشدّدة ، وهي قراءة أبان ، عن عاصم ويحيى بن يعمر. وجبرائيل وجبراييل ، وقرأ بهما ابن عباس وعكرمة. وجبرال وجبرائل بالياء والقصر ، وبها قرأ طلحة. وجبراييل بألف بعد الراء ، بعدها ياءان ، أولاهما مكسورة ، وقرأ بها الأعمش وابن يعمر أيضا. وجبرين وجبرين ، وهذه لغة أسد. وجبرائين. قال أبو جعفر النحاس : جمع جبريل جمع التكسير على جباريل على اللغة العالية. إذن : به علم به ، وآذنه : أعلمه. آذنتكم على سواء : أعلمتكم. ثم يطلق على التمكين. إذن لي في كذا : أي مكنني منه. وعلى الاختيار فعلته بإذنك : أي باختيارك. ميكائيل : الكلام فيه كالكلام في جبريل ، أعني من منع الصرف. وبعد قول من ذهب إلى أنه مشتق من ملكوت الله ، أو ذهب إلى أن معنى ميكا : عبد ، وايل : اسم من أسماء الله تعالى ، وقد تصرفت فيه العرب. قالوا : ميكال ، كمفعال ، وبها قرأ أبو عمرو وحفص ، وهي لغة الحجاز. وقال الشاعر :

ويوم بدر لقيناكم لنا مدد

فيه مع النصر ميكال وجبريل

وكذلك. إلا أن بعد الألف همزة ، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ لقنبل ، وكذلك. إلا أنه بياء بعد الهمزة ، وبها قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر ، وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي. وميكييل كميكعيل ، وبها قرأ ابن محيصن ، وكذلك. إلا أنه لا ياء بعد الهمزة. وقرىء بها : وميكاييل بياءين بعد الألف ، أولاهما مكسورة ، وبها قرأ الأعمش. نبذ الشيء ، ينبذه نبذا : طرحه وألقاه. الظهر : معروف ، وجمع فعل الاسم غير المعتل العين على فعول قياس : كظهور ، وعلى فعلان : كظهران ، وهو مشتق من الظهور. تقول : ظهر الشيء ظهورا ، إذا بدا. تلا يتلو : تبع. وتلا القرآن : قرأه وتلا عليه كذب ، قاله أبو مسلم. وقال

٥١٠

أيضا : تلا عنه صدف ، فإذا لم يذكر الصلتين احتمل الأمرين. سليمان : اسم أعجمي ، وامتنع من الصرف للعلمية. والعجمة ، ونظيره من الأعجمية ، في أن في آخره ألفا ونونا : هامان ، وماهان ، وسامان ، وليس امتناعه من الصرف للعلمية ، وزيادة الألف والنون : كعثمان ، لأن زيادة الألف والنون موقوفة على الاشتقاق والتصريف. والاشتقاق والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية. السحر : مصدر سحر يسحر سحرا ، ولا يوجد مصدر لفعل يفعل على وزن فعل إلا سحر وفعل ، قاله بعض أهل العلم. قال الجوهري : كل ما لطف ودق فهو سحر. يقال سحره : أبدى له أمرا يدق عليه ويخفى. انتهى. وقال :

أداء عراني من حبائك أم سحر

ويقال سحره : خدعه ، ومنه قول امرئ القيس :

أرانا موضعين لأمر عيب

ونسحر بالطعام وبالشراب

أي نعلل ونخدع. وسيأتي الكلام على مدلول السحر في الآية. بابل : اسم أعجمي ، اسم أرض ، وسيأتي تعيينها. هاروت وماروت : اسمان أعجميان ، وسيأتي الكلام على مدلولهما ، ويجمعان على : هواريت ومواريت ، ويقال : هوارته وموارته ، ومثل ذلك : طالوت وجالوت. الفتنة : الابتلاء والاختبار. فتن يفتن فتونا وفتنة. المرء : الرجل ، والأفصح فتح الميم مطلقا ، وحكي الضم مطلقا ، وحكي اتباع حركة الميم لحركة الإعراب فتقول : قام المرء : بضم الميم ، ورأيت المرء : بفتح الميم ، ومررت بالمرء : بكسر الميم ، ومؤنثه المرأة. وقد جاء جمعه بالواو والنون ، قالوا : المرءون. الضرر والنفع معروفان ، ويقال : ضرّ يضر ، بضم الضاد ، وهو قياس المضعف المتعدي ومصدره : الضرّ والضرّ والضرر ، ويقال : ضار يضير ، قال :

يقول أناس لا يضيرك نابها

بلى كل ما شف النفوس يضيرها

ويقال : نفع ينفع نفعا. ورأيت في شرح الموجز ، الذي للرماني في النحو ، وهو تأليف رجل يقال له الأهوازي ، وليس بأبي علي الأهوازي المقري ، أنه لا يقال منه اسم مفعول نحو منفوع ، والقياس النحوي يقتضيه. الخلاق ، في اللغة : النصيب ، قاله الزجاج. قال : لكنه أكثر ما يستعمل في الخير ، قال :

يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم

إلا السرابيل من قطر وأغلال

والخلاق : القدر ، قال الشاعر :

٥١١

فما لك بيت لدى الشامخات

وما لك في غالب من خلاق

مثوبة : مفعلة من الثواب ، نقلت حركة الواو إلى الثاء ، ويقال مثوبة. وكان قياسه الإعلال فتقول : مثابة ، ولكنهم صححوه كما صححوا في الأعلام مكورة ، ونظيرهما في الوزن من الصحيح : مقبره ومقبره.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) : أجمع أهل التفسير أن اليهود قالوا : جبريل عدوّنا ، واختلف في كيفية ذلك ، وهل كان سبب النزول محاورتهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو محاورتهم مع عمر؟ وملخص العداوة : أن ذلك لكونه يأتي بالهلاك والخسف والجدب ، ولو كان ميكال صاحب محمد لاتبعناه ، لأنه يأتي بالخصب والسلم ، ولكونه دافع عن بخت نصّر حين أردنا قتله ، فخرب بيت المقدس وأهلكنا ، ولكونه يطلع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سرنا. والخطاب بقوله : قل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعمول القول : الجملة بعد ومن هنا شرطية. وقال الراغب : العداوة ، التجاوز ومنافاة الالتئام. فبالقلب يقال العداوة ، وبالمشي يقال العدو ، وبالإخلال في العدل يقال العدوان ، وبالمكان أو النسب يقال قوم عدى ، أي غرباء.

(فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) : ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه ، فلو قلت : من يكرمني؟ فزيد قائم ، لم يجز. وقوله : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) ، ليس فيه ضمير يعود على من. وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري ، وهو خطأ ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير ، ولمضي فعل التنزيل ، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء ، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه ، التقدير : فعداوته لا وجه لها ، أو ما أشبه هذا التقدير. والضمير في فإنه عائد على جبريل ، والضمير في نزله عائد على القرآن لدلالة المعنى عليه. ألا ترى إلى قوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)؟ وهذه كلها من صفات القرآن. ولقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) ، أي فإن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله. وقيل : الضمير في فإنه عائد على الله ، وفي نزله عائد على جبريل ، التقدير : فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك. وفي كل من هذين التقديرين إضمار يعود على ما يدل عليه سياق المعنى. لكن التقدير الأول أولى ، لما ذكرناه ، وليكون موافقا لقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (١) ، وينظر للتقدير الثاني قراءة من قرأ : نزل بالتشديد ، والروح بالنصب. ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كان عدوا لجبريل ،

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٩٣ و ١٩٤.

٥١٢

فعداوته لا وجه لها ، لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب ، والهادي والمبشر ، كمن آمن. ومن كان بهذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر ، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله ، أو من كان عدوّا لجبريل ، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدّق لكتابهم ، والملزم لهم اتباعك ، وهم لا يريدون ذلك ، ولذلك حرّفوا ما في كتبهم من صفاتك ، ومن أخذ العهود عليهم فيها ، بأن يتبعوك. والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين : أن التقدير الأول موجب لعدم العداوة ، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك : إن عاداك زيد ، فقد آذيته وأسأت إليه.

(عَلى قَلْبِكَ) : أتى بلفظ على ، لأن القرآن مستعل على القلب ، إذ القلب سامع له ومطيع ، يمتثل ما أمر به ، ويجتنب ما نهى عنه. وكانت أبلغ من إلى ، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط ، وعلى تدل على الاستعلاء. وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه. وخص القلب ، ولم يأت عليك ، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات ، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها ، وخزانته التي يحفظ فيها ، أو لأنه سلطان الجسد. وفي الحديث : «إن في الجسد مضغة».

ثم قال أخيرا : «ألا وهي القلب».

أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه ، أو لأنه بيت الله ، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقا للمحل على الحال به ، أو عن الجملة الإنسانية ، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (١) (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (٢) ، أو يكون إطلاقا لبعض الشيء على كله ، أقوال سبعة. وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب ، ولم يضفه إلى ياء المتكلم ، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهرا ، لأن قوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) ، هو معمول لقول مضمر ، التقدير : قل يا محمد قال الله من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك. وإلى هذا نحا الزمخشري بقوله : جاءت على حكاية كلام الله تعالى ، كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) ، وكلامه فيه تثبيج. وقال ابن عطية : يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله ، فيسرده مخاطبة له ، كما تقول : قل لقومك لا يهينوك ، فكذلك هذه الآية ، ونحو من هذا قول الفرزدق :

ألم تر أني يوم جوّ سويقة

دعوت فنادتني هنيدة ماليا

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٢.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١١٣.

٥١٣

فأحرز المعنى ، ونكب عن نداء هنيدة مالك. انتهى كلامه ، وهو تخريج حسن ، ويكون إذ ذاك الجملة الشرطية معمولة للفظ : قل ، لا لقول : مضمر ، وهو ظاهر الكلام (بِإِذْنِ اللهِ) : أي بأمر الله ، اختاره في المنتخب ومنه : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١) ، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢). وقد صرح بذلك في : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) (٣) ، أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة ، قاله ابن عطية ؛ أو باختياره ، قاله الماوردي ، أو بتيسيره وتسهيله ، قاله الزمخشري. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) : انتصاب مصدقا على الحال من الضمير المنصوب في نزله ، إن كان يعود على القرآن ، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون حالا من المجرور المحذوف لفهم المعنى ، لأن المعنى : فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقا. والثاني : أن يكون حالا من جبريل. وما : في لما موصولة ، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله ، أو التوراة والإنجيل. والهاء : في بين يديه يحتمل أن تكون عائدة على القرآن ، ويحتمل أن تعود على جبريل. فالمعنى مصدقا لما بين يديه من الرسل والكتب.

(وَهُدىً وَبُشْرى) : معطوفان على مصدّقا ، فهما حالان ، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل كأنه قال : وهاديا ومبشرا ، أو من باب المبالغة ، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى ، جعل نفس الهدى والبشرى. والألف في بشرى للتأنيث ، كهي في رجعى ، وهو مصدر. وقد تقدّم الكلام على المعنى في قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) (٤) في أوائل هذه السورة ، والمعنى : أنه وصف القرآن بتصديقه لما تقدّمه من الكتب الإلهية ، وأنه هدى ، إذ فيه بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب والجوارح ، وأنه بشرى لمن حصل له الهدى. فصار هذا الترتيب اللفظي في هذه الأحوال ، لكون مدلولاتها ترتبت ترتيبا وجوديا. فالأول : كونه مصدّقا للكتب ، وذلك لأن الكتب كلها من ينبوع واحد. والثاني : أن الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق. والثالث : أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية. وقال الراغب : وهدى من الضلالة وبشرى بالجنة. (لِلْمُؤْمِنِينَ) : خص الهدى والبشرى بالمؤمنين ، لأن غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به ولا بشرى ، كما قال : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (٥) ، ولأن المؤمنين هم المبشرون ، (فَبَشِّرْ عِبادِ) (٦) ،

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٠٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٥.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٦٤.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٥.

(٥) سورة فصلت : ٤١ / ٤٤.

(٦) سورة الزمر : ٣٩ / ١٧.

٥١٤

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) (١). ودلت هذه الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره ، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه ، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة. ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى ، قالوا : وهذه الآية تعلقت بها الباطنية ، وقالوا : إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول. وردّ عليهم : بأنه معجزة ظاهرة بنظمه ، وأن الله سماه وحيا وكتابا وعربيا ، وأن جبريل نزل به ، والملهم لا يحتاج إلى جبريل.

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) : العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة ، وعداوة العبد لله تعالى مجاز ، ومعناها : مخالفة الأمر ، وعداوة الله للعبد ، مجازاته على مخالفته. (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ). أكد بقوله : وملائكته ، أمر جبريل ، إذ اليهود قد أخبرت أنه عدوهم من الملائكة ، لكونه يأتي بالهلاك والعذاب ، فرد عليهم في الآية السابقة ، بأنه أتى بأصل الخيور كلها ، وهو القرآن الجامع لتلك الصفات الشريفة ، من موافقته لكتبهم ، وكونه هدى وبشرى ، فكانت تجب محبته. وردّ عليهم في هذه الآية ، بأن قرنه باسمه تعالى مندرجا تحت عموم ملائكته ، ثم ثانيا تحت عموم رسله ، لأن الرسل تشمل الملائكة وغيرهم ممن أرسل من بني آدم ، ثم ثالثا بالتنصيص على ذكره مجردا مع من يدّعون أنهم يحبونه ، وهو ميكال ، فصار مذكورا في هذه الآية ثلاث مرار ، كل ذلك رد على اليهود وذم لهم ، وتنويه بجبريل. ودلت الآية على أن الله تعالى عدوّ لمن عادى الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال. ولا يدل ذلك على أن المراد من جمع عداوة الجميع ، فالله تعالى عدوّه ، وإنما المعنى أن من عادى واحدا ممن ذكر ، فالله عدوه ، إذ معاداة واحد ممن ذكر معاداة للجميع. وقد أجمع المسلمون على أن من أبغض رسولا أو ملكا فقد كفر. فقال بعض الناس : الواو هنا بمعنى أو ، وليست للجمع. وقال بعضهم : الواو للتفصيل ، ولا يراد أيضا أن يكون عدوا لجميع الملائكة ، ولا لجميع الرسل ، بل هذا من باب التعليق على الجنس بصورة الجمع ، كقولك : إن كلمت الرجال فأنت طالق ، لا يريد بذلك إن كلمت كل الرجال ، ولا أقل ما ينطلق عليه الجمع ، وإنما علق بالجنس ، وإن كان بصورة الجمع ، فلو كلمت رجلا واحدا طلقت ، فكذلك هذا الجمع في الملائكة والرسل. فالمعنى أن من عادى الله ، أو ملكا من ملائكته ، أو رسولا من رسله ، فالله عدوّ له.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٢١.

٥١٥

وقال الماتريدي : يحتمل أن يكون الافتتاح باسم الله ، على سبيل التعظيم لمن ذكر بعده ، كقوله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) (١) ، وخص جبريل وميكال بالذكر تشريفا لهما وتفضيلا. وقد ذكرنا عن أستاذنا أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير ، قدس الله روحه ، أنه كان يسمي لنا هذا النوع بالتجريد ، وهو أن يكون الشيء مندرجا تحت عموم ، ثم تفرده بالذكر ، وذلك لمعنى مختص به دون أفراد ذلك العام. فجبريل وميكال جعلا كأنهما من جنس آخر ، ونزل التغاير في الوصف كالتغاير في الجنس ، فعطف. وهذا النوع من العطف ، أعني عطف الخاص على العام ، على سبيل التفضيل ، هو من الأحكام التي انفردت بها الواو ، فلا يجوز ذلك في غيرها من حروف العطف. وقيل : خصا بالذكر ، لأن اليهود ذكرهما ، ونزلت الآية بسببهما. فلو لم يذكرا ، لكان لليهود تعلق بأن يقولوا : لم نعاد الله؟ ولا جميع ملائكته؟ وقيل : خصا بالذكر دفعا لإشكال : أن الموجب للكفر عداوة جميع الملائكة ، لا واحد منهم. فكأنه قيل : أو واحد منهم. وجاء هذا الترتيب في غاية الحسن ، فابتدئ بذكر الله ، ثم بذكر الوسائط التي بينه وبين الرسل ، ثم بذكر الوسائط التي بين الملائكة وبين المرسل إليهم. فهذا ترتيب بحسب الوحي. ولا يدل تقديم الملائكة في الذكر على تفضيلهم على رسل بني آدم ، لأن الترتيب الذي ذكرناه هو ترتيب بالنسبة إلى الوسائط ، لا بالنسبة إلى التفضيل. ويأتي قول الزمخشري : بأن الملائكة أشرف من الأنبياء ، إن شاء الله ، قالوا : واختصاص جبريل وميكال بالذكر يدل على كونهما أشرف من جميع الملائكة. وقالوا : جبريل أفضل من ميكال ، لأنه قدم في الذكر ، ولأنه ينزل بالوحي والعلم ، وهو مادة الأرواح. وميكال ينزل بالخصب والأمطار ، وهي مادة الأبدان ، وغذاء الأرواح أشرف من غذاء الأشباح ، انتهى. ويحتاج تفضيل جبريل على ميكائيل إلى نص جلي واضح ، والتقدم في الذكر لا يدل على التفضيل ، إذ يحتمل أن يكون ذلك من باب الترقي. ومن : في قوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا) شرطية. واختلف في الجواب فقيل : هو محذوف ، تقديره : فهو كافر ، وحذف لدلالة المعنى عليه. وقيل الجواب : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) ، وأتي باسم الله ظاهرا ، ولم يأت بأنه عدوّ لاحتمال أن يفهم أن الضمير عائد على اسم الشرط فينقلب المعنى ، أو عائد على أقرب مذكور ، وهو ميكال ، فأظهر الاسم لزوال اللبس ، أو للتعظيم والتفخيم ، لأن العرب إذا فخمت شيئا كررته بالاسم الذي تقدم له ومنه : (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) (٢) ، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٣) ، وقول الشاعر :

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٤١.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٦٠.

(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٤٠.

٥١٦

لا أرى الموت يسبق الموت شيا

وهذه الجملة الواقعة خبرا للشرط ، تحتاج إلى رابط لجملة الجزاء باسم الشرط. والرابط هنا الاسم الظاهر وهو : الكافرين ، أوقع الظاهر موقع الضمير لتواخي أواخر الآي ، ولينص على علة العداوة ، وهي الكفر ، إذ من عادى من تقدّم ذكره ، أو واحدا منهم ، فهو كافر. أو يراد بالكافرين العموم ، فيكون الرابط العموم ، إذ الكفر يكون بأنواع ، وهؤلاء الكفار بهذا الشيء الخاص فرد من أفراد العموم ، فيحصل الربط بذلك. وقال الزمخشري : عدوّ للكافرين ، أراد عدوّ لهم ، فجاء بالظاهر ليدل على أن الله عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر. وإذا كانت عداوة الأنبياء كفرا ، فما بال الملائكة؟ وهم أشرف. والمعنى : من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشدّ العقاب. انتهى كلامه. وهذا مذهب المعتزلة يذهبون إلى أن الملائكة أفضل من خواص بني آدم. ودل كلام الزمخشري على أن الظاهر وقع موقع الضمير ، وأنه لم يلحظ فيه العموم ، وقال ابن عطية : وجاءت العبارة بعموم الكافرين ، لأن عود الضمير على من يشكل ، سواء أفردته أو جمعته ، ولو لم يبال بالإشكال. وقلنا : المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم. ويحتمل أن الله قد علم أن بعضهم يؤمن ، فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله للمآل. وروي أن عمر نطق بهذه الآية مجاوبا لبعض اليهود في قوله : ذلك عدوّنا ، يعني جبريل ، فنزلت على لسان عمر. قال ابن عطية : وهذا الخبر ضعيف.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) : سبب نزولها ، فيما ذكر الطبراني ، أن ابن صوريا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما جئت بآية بينة ، فنزلت. وقال الزمخشري : قال ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها ، فنزلت انتهى. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنه لما ذكر تعالى جملا من قبائح اليهود وذمهم على ذلك ، وكان فيما ذكر من ذلك معاداتهم لجبريل ، فناسب ذلك إنكارهم لما نزل به جبريل ، فأخبر الله تعالى بأن الرسول عليه‌السلام أنزل عليه آيات بينات ، وأنه لا يجحد نزولها إلا كل فاسق ، وذلك لوضوحها. والآيات البينات ، أي القرآن ، أو المعجزات المقرونة بالتحدّي ، أو الإخبار عما خفي وأخفي في الكتب السالفة ، أو الشرائع ، أو الفرائض ، أو مجموع كل ما تقدّم ، أقوال خمسة. والظاهر مطلق ما يدل عليه آيات بينات غير معين شيء منها ، وعبر عن وصولها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإنزال ، لأن ذلك كان من علوّ إلى ما دونه.

(وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) : المراد بالفاسقين هنا : الكافرون ، لأن كفر آيات الله

٥١٧

تعالى هو من باب فسق العقائد ، فليس من باب فسق الأفعال. وقال الحسن : إذا استعمل الفسق في شيء من المعاصي ، وقع على أعظمه من كفر أو غيره. انتهى. وناسب قوله : بينات لفظ الكفر ، وهو التغطية ، لأن البين لا يقع فيه إلباس ، فعدم الإيمان به ليس لشبهة لأنه بين ، وإنما هو تغطية وستر لما هو واضح بين. وستر الواضح لا يقع إلا من متمرد في فسقه ، والألف واللام في الفاسقون ، إما للجنس ، وإما للعهد ، لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود. وكنى بالفسق هنا عن الكفر ، لأن الفسق : خروج الإنسان عما حدّ له. وقد تقدّم قول الحسن أنه يدل على أعظم ما يطلق عليه ، فكأنه قيل : وما يكفر بها إلا المبالغ في كفره ، المنتهي فيه إلى أقصى غاية. وإلا الفاسقون : استثناء مفرغ ، إذ تقديره : وما يكفر بها أحد ، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد. ثم استثنى الفساق من أحد ، وأنهم يكفرون بها. ويجوز في مذهب الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء ، فأجاز : ما قام إلا زيدا ، على مراعاة ذلك المحذوف ، إذ لو كان لم يحذف ، لجاز النصب ، ولا يجيز ذلك البصريون.

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) : نزلت في مالك بن الصيف ، قال : والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ميثاق. وقيل في اليهود : عاهدوا على أنه إن خرج لنؤمنن به ولنكوننّ معه على مشركي العرب ، فلما بعث كفروا به. وقال عطاء : هي العهود بينه وبين اليهود نقضوها ، كفعل قريظة والنضير. قال تعالى : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ) (١). وقرأ الجمهور : أو كلما ، بفتح الواو. واختلف في هذه الواو فقيل : هي زائدة ، قاله الأخفش. وقيل : هي أو الساكنة الواو ، حركت بالفتح ، وهي بمعنى بل ، قاله الكسائي. وكلا القولين ضعيف. وقيل : واو العطف ، وهو الصحيح. وقد تقدّم أن مذهب سيبويه والنحويين : أن الأصل تقديم هذه الواو ، والفاء ، وثم ، على همزة الاستفهام ، وإنما قدّمت الهمزة لأن لها صدر الكلام. وأن الزمخشري يذهب إلى أن ثم محذوفا معطوفا عليه ، مقدّرا بين الهمزة وحرف العطف ، ولذلك قدّره هنا أكفروا بالآيات البينات؟ (وَكُلَّما عاهَدُوا) (٢). وقد رجع الزمخشري عن اختياره إلى قول الجماعة. وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتابنا المسمى (بالتكميل لشرح التسهيل). والمراد بهذا الاستفهام : الإنكار ، وإعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها ، فصار ذلك عادة لهم وسجية. فينبغي أن لا يكترث بأمرهم ، وأن لا يصعب ذلك ، فهي تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ كفروا بما أنزل

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٥٦.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٠٠.

٥١٨

عليه ، لأن ما كان ديدنا للشخص وخلقا ، لا ينبغي أن يحتفل بأمره. وقرأ أبو السمال العدوي وغيره : أو كلما بسكون الواو ، وخرّج ذلك الزمخشري على أن يكون للعطف على الفاسقين ، وقدّره : وما يكفر بها إلا الذين فسقوا ، أو نقضوا عهد الله مرارا كثيرة. وخرجه المهدوي وغيره على أن أو للخروج من كلام إلى غيره ، بمنزلة أم المنقطعة ، فكأنه قال : بل كلما عاهدوا عهدا ، كقول الرجل للرجل ، لأعاقبنك ، فيقول له : أو يحسن الله رأيك ، أي بل يحسن الله رأيك ، وهذا التخريج هو على رأي الكوفيين ، إذ يكون أو عندهم بمنزلة بل. وأنشدوا شاهدا على هذه الدعوى قول الشاعر :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها أو أنت في العين أملح

وقد جاءت أو بمعنى الواو في قوله :

من بين ملجم مهره أو سافع

وقوله :

صدور رماح أشرعت أو سلاسل

يريد : وشافع وسلاسل.

وقد قيل في ذلك : في قوله خطيئة ، أو إثما ، أن المعنى : وإثما فيحتمل أن تخرّج هذه القراءة الشاذة على أن تكون أو بمعنى الواو ، كأنه قيل : وكلما عاهدوا عهدا. وقرأ الحسن وأبو رجاء : أو كلما عوهدوا على البناء للمفعول ، وهي قراءة تخالف رسم المصحف. وانتصاب عهدا على أنه مصدر على غير الصدر ، أي معاهدة ، أو على أنه مفعول على تضمين عاهد معنى : أعطى ، أي أعطوا عهدا. وقرىء : عهدوا ، فيكون عهدا مصدرا ، وقد تقدم. ما المراد بالعهد في سبب النزول ، فأغنى عن إعادته. (نَبَذَهُ) : طرحه ، أو نقضه ، أو ترك العمل به ، أو اعتزله ، أو رماه. أقوال خمسة ، وهي متقاربة المعنى. ونسبة النبذ إلى العهد مجاز ، لأن العهد معنى ، والنبذ حقيقة ، إنما هو في المتجسدات : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) (١) ، (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) (٢) ، فنبذ خاتمه ، فنبذ الناس خواتيمهم ، (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) (٣).

(فَرِيقٌ مِنْهُمْ) : الفريق اسم جنس لا واحد له ، يقع على القليل والكثير. وقرأ

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٤٠.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ١٦.

(٣) سورة القلم : ٦٨ / ٤٩.

٥١٩

عبد الله : نقضه فريق منهم ، وهي قراءة تخالف سواد المصحف ، فالأولى حملها على التفسير.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : يحتمل أن يكون من باب عطف الجمل ، وهو الظاهر ، فيكون أكثرهم مبتدأ ، ولا يؤمنون خبر عنه ، والضمير في أكثرهم عائد على من عاد عليه الضمير في عاهدوا ، وهم اليهود. ومعنى هذا الإضراب هو : انتقال من خبر إلى خبر ، ويكون الأكثر على هذا واقعا على ما لا يقع عليه الفريق ، كأنه أعم ، لأن من نبذ العهد مندرج تحت من لم يؤمن ، فكأنه قال : بل الفريق الذي نبذ العهد ، وغير ذلك الفريق ، محكوم عليه بأنه لا يؤمن. وقيل : يحتمل أن يكون من باب عطف المفردات ، ويكون أكثرهم معطوفا على فريق ، أي نبذه فريق منهم ، بل أكثرهم ، ويكون قوله : لا يؤمنون ، جملة حالية ، العامل فيها نبذه ، وصاحب الحال هو أكثرهم. ولما كان الفريق ينطلق على القليل والكثير ، وأسند النبذ إليه ، كان فيما يتبادر إليه الذهن أنه يحتمل أن يكون النابذون قليلا ، فبين أن النابذين هم الأكثر ، وصار ذكر الأكثر دليلا على أن الفريق هنا لا يراد به اليسير منهم ، فكان هذا إضرابا عما يحتمله لفظ الفريق من دلالته على القليل. والضمير في أكثرهم عائد على الفريق ، أو على جميع بني إسرائيل. وعلى كلا الاحتمالين ، ذكر الأكثر محكوما عليه بالنبذ ، أو بعدم الإيمان ، لأن بعضهم آمن ، ومن آمن فما نبذ العهد. وأجمع المسلمون على أن من كفر بآية من كتاب الله ، أو نقض عهد الله الذي أخذه على عباده في كتبه ، فهو كافر. (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ) : الضمير في جاءهم عائد على بني إسرائيل ، أو على علمائهم ، والرسول ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، أو معناه الرسالة ، فيكون مصدرا ، كما فسروا بذلك قوله :

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بليلى ولا أرسلتهم برسول

أي برسالة ، أقوال ثلاثة. والظاهر الأول ، لأن الكلام مع اليهود إنما سيق بالنسبة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ألا ترى إلى قوله : (قُلْ) قل ، و (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) ، (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) ، فصار ذلك كالالتفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى اسم غائب ، ووصف بقوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ) : تفخيما لشأنه ، إذ الرسول على قدر المرسل. ثم وصف أيضا بكونه مصدّقا لما معهم ، قالوا : وتصديقه أنه خلق على الوصف الذي ذكر في التوراة ، أو تصديقه على قواعد التوحيد وأصول الدين وأخبار الأمم والمواعظ والحكم ، أو تصديقه : إخباره بأن الذي معهم هو كلام الله ، وأنه المنزل على موسى ، أو تصديقه : إظهار ما سألوا عنه من غوامض

٥٢٠