البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

يقتضي التنزيه والبراءة من الأشياء التي لا تجوز على الله تعالى ، قبل أن يضرب عن مقالتهم ويستدل على بطلان دعواهم. وكان ذكر التنزيه أسبق ، لأن فيه ردعا لمدعي ذلك ، وأنهم ادعوا أمرا تنزه الله عنه وتقدس ، ثم أخذ في إبطال تلك المقالة فقال : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي جميع ذلك مملوك له ، ومن جملتهم من ادعوا أنه ولد الله. والولادة تنافي الملكية ، لأن الوالد لا يملك ولده. وقد ذكر بعض المفسرين هنا مسألة من اشترى والده أو ولده أو أحدا من ذوي رحمه ، وموضوعها علم الفقه. ولما ذكر أن الكل مملوك لله تعالى ، ذكر أنهم كلهم قانتون له ، أي مطيعون خاضعون له. وهذه عادة المملوك ، أن يكون طائعا لمالكه ، ممتثلا لما يريده منه. واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية. ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الوالد ، إذ الولد يكون من جنس الوالد. وأتى بلفظ ما في قوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وإن كانت لما لا يعقل ، لأن ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل جاز أن يعبر عن الجميع بما. ولذلك قال سيبويه : وأما ما ، فإنها مبهمة تقع على كل شيء ، ويدل على اندراج من يعقل تحت مدلول ما جمع الخبر بالواو والنون ، التي هي حقيقة فيما يعقل ، واندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل. فحين ذكر الملك ، أتى بلفظة ما ، وحين ذكر القنوت ، أتى بجمع ما يعقل ، فدل على أن ذلك شامل لمن يعقل وما لا يعقل. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاء بما الذي لغير أولي العلم مع قوله قانتون؟ قلت : هو كقوله : سبحان ما سخركن لنا ، وكأنه جاء بما دون من ، تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم ، كقوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (١). انتهى كلامه ، وهو جنوح منه إلى أن ما وقعت على من يعلم ، ولذلك جعله كقوله : ما سخركنّ لنا. يريد أن المعنى : سبحان من سخركن لنا ، لأنها يراد بها الله تعالى. وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل ، إلا إذا اختلط بمن يعقل ، فيقع عليهما ، كما ذكرناه ، أو كان واقعا على صفات من يعقل ، فيعبر عنها بما. وأما أن يقع لمن يعقل ، خاصة حالة إفراده أو غير إفراده ، فلا. وقد أجاز ذلك بعض النحويين ، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل ، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل ، وقد يؤول ، فيؤول قوله : سبحان ما سخركن ، على أن سبحان غير مضاف ، وأنه علم لمعنى التسبيح ، فهو كقوله :

سبحان من علقمة الفاخر

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٥٨.

٥٨١

وما : ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا. والفاعل يسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام ، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى. وقول الزمخشري : وكأنه جاء بما دون من ، تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم ، ليست ما هنا مختصة بمن يعقل ، فتقول عبر عنهم بما التي لما لا يعقل تحقيرا لهم ، وإنما هي عامة لمن يعقل ولما لا يعقل. ومعنى قانتون : قائمون بالشهادة ، قاله الحسن ، أو في القيامة للعرض ، قاله الربيع ، أو مطيعون ، قاله قتادة ؛ أو مقرّون بالعبودية ، قاله عكرمة. وقيل : قائمون بالله. وأورد على من يقول القنوت : القيام لله بالشهادة والعبودية ، أنه : كيف عم بهذا القول وكثير ليس بمطيع؟ وأجيب : أن ظاهره العموم ، والمعنى الخصوص ، أي أهل كل طاعة له قانتون ، وبأن الكفار يسجد ضلالهم ، وبظهور أثر الصنعة فيه ، وجرى أحكام الله عليه ، وذلك دليل على تذلله لله تعالى ، ذكره ابن الأنباري.

و (كُلٌّ لَهُ) : مرفوع بالابتداء ، والمضاف إليه محذوف ، وهو عبارة عن من في السموات والأرض ، أي كل من في السموات والأرض ، وهو المحكوم عليهم بالملكية. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولدا ، وهذا بعيد جدا ، لأن المجعول لله ولدا لم يجر ذكره ، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولدا وغيره. و (قانِتُونَ) : خبر عن كل ، وجمع حملا على المعنى. وكلّ ، إذا حذف ما تضاف إليه ، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع ، ومراعاة اللفظ فتفرد. وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا ، لأنها فاصلة رأس آية ، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن. قال تعالى : (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) (١) ، (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٢) ، و (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣). وقد جاء إفراد الخبر كقوله : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (٤) ، وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : لما ذكر أنه مالك لجميع من في السموات والأرض ، وأنهم كلّ قانتون له ، وهم المظروف للسموات والأرض ، ذكر الظرفين وخصهما بالبداعة ، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات. وارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل. فالمجرور مشبه بالمفعول ، وأصله الأول بديع سمواته ، ثم شبه الوصف فأضمر فيه ، فنصب السموات ، ثم جر من نصب. وفيه أيضا ضمير يعود

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٥٤.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٨٧.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٣.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٤.

٥٨٢

على الله تعالى ، ويكون المعنى في الأصل أنه تعالى بدعت سمواته ، أي جاءت في الخلق على شكل مبتدع لم يسبق نظيره. وهذا الوجه ابتدأ به الزمخشري ، إلا أنه قال : وبديع السموات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهذا ليس عندنا. كذلك بل من إضافة الصفة المشبهة إلى منصوبها. والصفة عندنا لا تكون مشبهة حتى تنصب أو تخفض ، وأما إذا رفعت ما بعدها فليس عندنا صفة مشبهة ، لأن عمل الرفع في الفاعل يستوي فيه الصفات المتعدية وغير المتعدية. فإذا قلنا : زيد قائم أبوه ، فقائم رافع للأب على حدّ رفع ضارب له. إذا قلت : زيد ضارب أبوه عمرا ، لا تقول : إن قائما هنا من حيث عمل الرفع شبه بضارب ، وإذا كان كذلك ، فإضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه لا يجوز لما تقرّر في علم العربية ، إلا إن أخذنا كلام الزمخشري على التجوّز فيمكن ، ويكون المعنى من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلا بها قبل أن يشبه. وحكى الزمخشري وجها ثانيا قال : وقيل البديع بمعنى المبدع ، كما أن السميع في قول عمرو :

أمن ريحانة الداعي السميع

بمعنى : المسمع : وفيه نظر. انتهى كلامه. وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره ، قال : وبديع مصروف من مبدع ، كبصير من مبصر ، ومنه قول عمرو بن معدي كرب :

أمن ريحانة الداعي السمي

ع يؤرّقني وأصحابي هجوع

يريد : المسمع والمبدع والمنشئ ، ومنه أصحاب البدع ، ومنه قول عمر بن الخطاب في صلاة رمضان : نعمت البدعة هذه ، انتهى. والنظر الذي ذكر الزمخشري ، والله أعلم ، أن فعيلا بمعنى مفعل لا ينقاس مع أن بيت عمرو محتمل للتأويل. وعلى هذا الوجه يكون من باب إضافة اسم الفاعل لمفعوله. وقرأ المنصور : بديع بالنصب على المدح ، وقرىء بالجرّ على أنه بدل من الضمير في له.

(وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) : لما ذكر ما دل على الاختراع ، ذكر ما يدل على طواعية المخترع وسرعة تكوينه. ومعنى قضى هنا : أراد ، أي إذا أراد إنشاء أمر واختراعه. قال ابن عطية : وقضى : معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى : أمضى. ويتجه في هذه الآية المعنيان. فعلى مذهب أهل السنة : قدر في الأزل وأمضى فيه ، وعلى مذهب المعتزلة : أمضى عند الخلق والإيجاد. والأمر : واحد الأمور ، وليس هنا مصدر أمر يأمر. والمعتقد في هذه الآية أن الله لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها ، قادرا مع تأخر

٥٨٣

المقدورات ، عالما مع تأخر وقوع المعلومات. وكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن ، وكلّ ما استند إلى الله من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل. انتهى ما نقلناه هنا من كلامه. وقال المهدوي : (وَإِذا قَضى أَمْراً) ، أي أتقنه وأحكمه وفرغ منه. ومعنى : فإنما يقول له كن فيكون ، يقول من أجله. وقيل : قال له كن ، وهو معدوم ، لأنه بمنزلة الموجود ، إذ هو عنده معلوم. قال الطبري : أمره للشيء بكن لا يتقدّم الوجود ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلا وهو موجود بالأمر ، ولا موجودا بالأمر إلا وهو مأمور بالوجود. قال : ونظيره قيام الأموات من قبورهم لا يتقدّم دعاء الله ولا يتأخر عنه ، كما قال : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (١). فالهاء في له تعود على الأمر ، أو على القضاء الذي دلّ عليه قضى ، أو على المراد الذي دلّ عليه الكلام. انتهى ما نقلناه من كتابه. وقال مكي : معنى الآية أنه عالم بما سيكون وما هو كائن ، فقوله : كن ، إنما هو للموجود في علمه ليخرجه إلى العيان لنا. انتهى كلامه. وقال الزمخشري : كن فيكون ، من كان التامة ، أي أحدث فيحدث ، وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ، ثم كما لا قول في قوله :

إذ قالت الأنساع للبطن الحق

وإنما المعنى : ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فإنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف. كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ، لا يتوقف ولا يمتنع ، ولا يكون منه الإباء. أكد بهذا استبعاد الولادة ، لأن من كان بهذه الصفة من القدرة ، كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها. انتهى كلامه. وقال السجاوندي : كن على التمثيل لنفاذ الأمر ، قال :

فقالت له العينان سمعا وطاعة

وإلا فالمعدوم كيف يخاطب

أو علامة للملائكة بحدوث الموجود ، أو على تقدير ما تصوّر كونه في علمه ، أو مخصوص في تحويل الموجود من حال إلى حال ، ولو كان كن مخلوقا ، لاحتاج إلى أخرى ولا يتناهى ، فدلّ على أن القرآن غير مخلوق. انتهى كلامه. قال المهدوي : وفي هذه الآية دليل على أن كلام الله غير مخلوق ، لأنه لو كان مخلوقا لكان قائلا له : كن ، ولكان قائلا : لكن كن ، حتى ينتهي ذلك إلى ما لا يتناهى ، وذلك مستحيل ما ما يؤدّي إليه ذلك

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٢٥.

٥٨٤

من أنه لا يوجد من الله فعل البتة ، إذ لا بد أن يوجد قبله أفعال ، هي أقاويل لا غاية لها ، وذلك مستحيل. ولا يجوز أن يحمل على المجاز ، إذ ذلك إنما يكون في الجمادات ، ولا يكون فيمن يصح منه القول إلا بدليل. ويقوي ذلك أن المصدر فيه الذي هو قولنا من قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ، وكد بمصدر آخر ، وهو أن نقول ، وأهل العربية مجمعون ، على أنهم إذا أكدوا الفعل بالمصدر كان حقيقة ، ولذلك جاء قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (٢) ، إذ كان الله تعالى متولي تكليمه. وقد قيل : إن معنى فإنما يقول له كن فيكون بكونه. انتهى كلام المهدوي. وقال في المنتخب : كن فيكون ليس المراد أنه تعالى يقول كن ، فحينئذ يكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد من وجوه ، فلا بد من تأويله ، وفيه وجوه : الأول : وهو الأقوى ، أن المراد نفاذ سرعة قدرة الله في تكوين الأشياء ، وإنما يخلقها لا لفكرة ، ونظيره (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٣). الثاني : أنها علامة يعقلها الملائكة ، إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا ، قاله أبو الهذيل. الثالث : أنه جاء للموجودين الذين قال لهم : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٤) ، ومن جرى مجراهم ، وهو قول الأصم. الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة ، والكل ضعيف ، والقوي هو الأول. انتهى كلامه.

هذا ما نقلناه من كلام أهل التفسير في الآية. وظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : كن ، تبينه الآية الأخرى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥) ، وقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٦). لكن دليل العقل صد عن اعتقاد مخاطبة المعدوم ، وصد عن أن يكون الله تعالى محلا للحوادث ، لأن لفظة كن محدثة ، ومن يعقل مدلول اللفظ. وكونه يسبق بعض حروفه بعضا ، لم يدخله شك في حدوثه ، وإذا كان كذلك ، فلا خطاب ولا قول لفظيا ، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياضه ، فهو من مجاز التمثيل ، وكأنه قدر أن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة ، بحيث لا يتأخر عن امتثال ما أمر به. وقرأ الجمهور : فيكون بالرفع ، ووجه على أنه على الاستئناف ، أي فهو يكون ، وعزى إلى سيبويه. وقال غيره : فيكون عطف على يقول ، واختاره الطبري وقرّره. قال ابن عطية : وهو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٤٠.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦٤.

(٣) سورة فصلت : ٤١ / ١١.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٦٥.

(٥) سورة النحل : ١٦ / ٤٠.

(٦) سورة القمر : ٥٤ / ٥٠.

٥٨٥

مع التكوين حادث ، وقد انتهى ما رده به ابن عطية. ومعنى رده : أن الأمر عنده قد تم ، والتكوين حادث ، وقد نسق عليه بالفاء ، فهو معه ، أي يعتقبه ، فلا يصح ذلك ، لأن القديم لا يعتقبه الحادث. وتقرير الطبري له هو ما تقدم في أوائل الكلام على هذه المسألة ، من أن الأمر لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه. وما رده به ابن عطية لا يتم إلا بأن تحمل الآية على أن ثم قولا وأمرا قديما. أما إذا كان ذلك على جهة المجاز ، ومن باب التمثيل ، فيجوز أن يعطف على تقول. وقرأ ابن عامر : فيكون بالنصب ، وفي آل عمران : (كُنْ فَيَكُونُ) (١) ونعلمه ، وفي النحل ، وفي مريم ، وفي يس ، وفي المؤمن. ووافقه الكسائي في النحل ويس ، ولم يختلف في (كُنْ فَيَكُونُ) الحق في آل عمران. و (كُنْ فَيَكُونُ) (٢) قوله الحق في الأنعام أنه بالرفع ، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن ، لأنه جاء بلفظ الأمر ، فشبه بالأمر الحقيقي. ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي ، لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحو : ائتني فأكرمك ، إذ المعنى : أن تأتني أكرمك. وهنا لا ينتظم ذلك ، إذ يصير المعنى : إن يكن يكن ، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء ، إما بالنسبة إلى الفاعل ، وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه ، أو في شيء من متعلقاته. وحكى ابن عطية ، عن أحمد بن موسى ، في قراءة ابن عامر : أنها لحن ، وهذا قول خطأ ، لأن هذه القراءة في السبعة ، فهي قراءة متواترة ، ثم هي بعد قراءة ابن عامر ، وهو رجل عربي ، لم يكن ليلحن. وقراءة الكسائي في بعض المواضع ، وهو إمام الكوفيين في علم العربية ، فالقول بأنها لحن ، من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر ، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) : قال ابن عباس ، والحسن ، والربيع ، والسدي : نزلت في كفار العرب حين ، طلب عبد الله بن أمية وغيره ذلك. وقال مجاهد : في النصارى ، ورجحه الطبري لأنهم المذكورون في الآية أولا. وقال ابن عباس أيضا : اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال رافع بن خزيمة ، من اليهود : إن كنت رسولا من عند الله ، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله الآية. وقال قتادة : مشركو مكة. وقيل : الإشارة بقوله : (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) إلى جميع هذه الطوائف ، لأنهم كلهم قالوا هذه المقالة ، واختلافهم في الموصول مبني على اختلافهم في السبب. فإن كان الموصول الجهلة من العرب ، فنفى عنهم العلم ، لأنهم لم يكن لهم كتاب ، ولا هم أتباع نبوّة ، وإن

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٤٧.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٧٣.

٥٨٦

كان الموصول اليهود والنصارى ، فنفى عنهم العلم ، لانتفاء ثمرته ، وهو الاتباع له والعمل بمقتضاه. وحذف مفعول العلم هنا اقتصارا ، لأن المقصود إنما هو نفي نسبة العلم إليهم ، لا نفي علمهم بشيء مخصوص ، فكأنه قيل : وقال الذين ليسوا ممن له سجية في العلم لفرط غباوته ، فهي مقالة صدرت ممن لا يتصف بتمييز ولا إدراك. ومعمول القول ، الجملة التحضيضية وهي : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) ؛ كما يكلم الملائكة ، وكما كلم موسى عليه‌السلام ، قالوا ذلك على طريقة الاستكبار والعتو ، (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) ، أي هلا يكون أحد هذين ، إما التكلم ، وإما إتيان آية؟ قالوا ذلك جحودا لأن يكون ما أتاهم آية واستهانة بها. ولما حكى عنهم نسبة الولد إلى الله تعالى ، أعقب ذلك بمقالة أخرى لهم تدل على تعنتهم وجهلهم بما يجب لله تعالى من التعظيم وعدم الاقتراح على أنبيائه.

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) : تقدم الكلام في إعراب كذلك ، وفي تبيين وقوع من قبلهم صلة للذين في قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١) والذين من قبلهم. إن فسر الموصول في الذين لا يعلمون بكفار العرب ، أو مشركي مكة ، فالذين من قبلهم هم الأمم المكذبة من أسلافهم وغيرهم. وإن فسر باليهود أو النصارى ، فالذين من قبلهم أسلافهم ، وانتصاب مثل قولهم على البدل من موضع الكاف. ولا تدل المثلية على التماثل في نفس المقول ، يل يحتمل أن من قبلهم اقترحوا غير ذلك ، وأن المثلية وقعت في اقتراح ما لا يليق سؤاله ، وإن لم تكن نفس تلك المقالة ، إذ المثلية تصدق بهذا المعنى. (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) : الضمير عائد على (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). لما ذكر تماثل المقالات ، وهي صادرة عن الأهواء والقلوب ، ذكر تماثل قلوبهم في العمى والجهل ، كقوله تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ) (٢). قيل : تشابهت قلوبهم في الكفر. وقيل : في القسوة. وقيل : في التعنت والاقتراح. وقيل : في المحال. وقرأ ابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة : تشابهت ، بتشديد الشين. وقال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز ، لأنه فعل ماض ، يعني أن اجتماع التاءين المزيدتين لا يكون في الماضي ، إنما يكون في المضارع نحو : تتشابه ، وحينئذ يجوز فيه الإدغام. أما الماضي فليس أصله تتشابه. وقد مر نظير هذه القراءة في قوله : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) (٣) ، وخرجنا ذلك على تأويل لا يمكن هنا ، فيتطلب هنا تأويل لهذه القراءة.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١.

(٢) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٧٠.

٥٨٧

(قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) : أي أوضحنا الآيات ، فاقتراح آية مع تقدم مجيء آيات وإيضاحها ، إنما هو على سبيل التعنت. هذا ، وهي آيات مبينات ، لا لبس فيها ، ولا شبهة ، لشدة إيضاحها. لكن لا يظهر كونها آيات إلا لمن كان موقنا ، أما من كان في ارتياب ، أو شك ، أو تغافل ، أو جهل ، فلا ينفع فيه الآيات ، ولو كانت في غاية الوضوح. ألا ترى إلى قولهم : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١)؟ وقول أبي جهل ، وقد سأل أهل البوادي الوافدين إلى مكة عن انشقاق القمر ، فأخبروه به ، فقال بعد ذلك : هذا سحر مستمر. ولما ذكر أن اقتراح ما تقدم إنما هو من أهواء الذين لا يعلمون ، قال في آخرها : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). والإيقان : وصف في العلم يبلغ به نهاية الوثاقة في العلم ، أي من كان موقنا ، فقد أوضحنا له الآيات ، فآمن بها ، ووضحت عنده ، وقامت به الحجة على غيره. وفي جمع الآيات رد على من اقترح آية ، إذ الآيات قد بينت ، فلم يكن آية واحدة ، فيمكن أن يدعي الالتباس فيها ، بل ذلك جمع آيات بينات ، لكن لا ينتفع بها إلا من كان من أهل العلم والتبصر واليقين.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) : بشيرا لمن آمن ، ونذيرا لمن كفر. وهذه الآية تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه كان يضيق صدره لتماديهم على ضلالهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما ذكر أنه بين الآيات ، ذكر من بينت على يديه ، فأقبل عليه وخاطبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعلم أنه هو صاحب الآيات فقال : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) ، أي بالآيات الواضحة ، وفسر الحق هنا بالصدق وبالقرآن وبالإسلام. وبالحق في موضع الحال ، أي أرسلناك ومعك الحق لا يزايلك. وانتصاب بشيرا ونذيرا على الحال من الكاف ، ويحتمل أن يكون حالا من الحق ، لأن ما جاء به من الحق يتصف أيضا بالبشارة والنذارة. والأظهر الأول. وعدل إلى فعيل للمبالغة ، لأن فعيلا من صفات السجايا ، والعدل في بشير للمبالغة ، مقيس عند سيبويه ، إذا جعلناه من بشر لأنهم قالوا بشر مخففا ، وليس مقيسا في نذير لأنه من أنذر ، ولعل محسن العدل فيه كونه معطوفا على ما يجوز ذلك فيه ، لأنه قد يسوغ في الكلمة مع الاجتماع مع ما يقابلها ما لا يسوغ فيها لو انفردت ، كما قالوا : أخذه ما قدم وما حدث وشبهه.

(وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) : قراءة الجمهور : بضم التاء واللام. وقرأ أبي :

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ١٥.

٥٨٨

وما تسأل. وقرأ ابن مسعود : ولن تسأل ، وهذا كله خبر. فالقراءة الأولى ، وقراءة أبي يحتمل أن تكون الجملة مستأنفة ، وهو الأظهر ، ويحتمل أن تكون في موضع الحال. وأما قراءة ابن مسعود فيتعين فيها الاستئناف ، والمعنى على الاستئناف أنك لا تسأل عن الكفار ما لهم لم يؤمنوا ، لأن ذلك ليس إليك ، (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (١) ، (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (٢) ، (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) (٣). وفي ذلك تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتخفيف ما كان يجده من عنادهم ، فكأنه قيل : لست مسؤولا عنهم ، فلا يحزنك كفرهم. وفي ذلك دليل على أن أحدا لا يسأل عن ذنب أحد ، (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٤). وأما الحال فعطف على ما قبلها من الحال ، أي وغير مسؤول عن الكفار ما لهم لا يؤمنون ، فيكون قيدا في الإرسال ، بخلاف الاستئناف. وقرأ نافع ويعقوب : ولا تسأل ، بفتح التاء وجزم اللام ، وذلك على النهي ، وظاهره : أنه نهى حقيقة ، نهي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل عن أحوال الكفار. قال محمد بن كعب القرظي : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليت شعري ما فعل أبواي» ، فنزلت ، واستبعد في المنتخب هذا ، لأنه عالم بما آل إليه أمرهما. وقد ذكر عياض أنهما أحييا له فأسلما. وقد صح أن الله أذن له في زيارتهما ، واستبعد أيضا ذلك ، لأن سياق الكلام يدل على أن ذلك عائد على اليهود والنصارى ومشركي العرب ، الذين جحدوا نبوّته ، وكفروا عنادا ، وأصروا على كفرهم. وكذلك جاء بعده : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) إلا إن كان ذلك على سبيل الانقطاع من الكلام الأول ، ويكون من تلوين الخطاب وهو بعيد. وقيل : يحتمل أن لا يكون نهيا حقيقة ، بل جاء ذلك على سبيل تعظيم ما وقع فيه أهل الكفر من العذاب ، كما تقول : كيف حال فلان ، إذا كان قد وقع في بلية ، فيقال لك : لا تسأل عنه. ووجه التعظيم : أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما ذلك الشخص فيه لفظاعته ، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره ، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره ، فلا تسأل ، فيكون معنى التعظيم : إما بالنسبة إلى المجيب ، وإما بالنسبة إلى المجاب ، ولا يراد بذلك حقيقة النهي.

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) : روي أن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الهدنة ، ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعا منهم ، فأطلعه الله على سر خداعهم ، فنزلت نفي الله رضاهم عنه إلا بمتابعته دينهم ، وذلك بيان أنهم

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٨.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٥٦.

(٣) سورة الرعد : ١٣ / ٧.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٤.

٥٨٩

أصحاب الجحيم الذين هم أصحابها ، لا يطمع في إسلامهم. والظاهر أن قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، علق رضاهم عنه بأمر مستحيل الوقوع منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو اتباع ملتهم. والمعلق بالمستحيل مستحيل ، سواء فسرنا الملة بالشريعة ، أو فسرناها بالقبلة ، أو فسرناها بالقرآن. وقيل : هو خطاب له ، وهو تأديب لأمته ، فإنهم يعلمون قدره عند ربه ، وإنما ذلك ليتأدب به المؤمنون ، فلا يوالون الكافرين ، فإنهم لا يرضيهم منهم إلا اتباع دينهم. وقيل : هو خطاب له ، والمراد أمته ، لأن المخاطب لا يمكن ما خوطب به أن يقع منه ، فيصرف ذلك إلى من يمكن ذلك منه ، مثل قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١) ، ويكون تنبيها من الله على أن اليهود والنصارى يخادعونكم بما يظهرون من الميل وطلب المهادنة والوعد بالموافقة ، ولا يقع رضاهم إلا باتباع ملتهم. ووحدت الملة ، وإن كان لهم ملتان ، لأنهما يجمعهما الكفر ، فهي واحدة بهذا الاعتبار ، أو للإيجاز فيكون من باب الجمع في الضمير ، نظير : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) (٢) ، لأن المعلوم أن النصارى لن ترضى حتى تتبع ملتهم ، واليهود لن ترضى حتى تتبع ملتهم. وقد اختلف العلماء في الكفر ، أهو ملة واحدة أو ملل؟ وثمرة الخلاف تظهر في الارتداد من ملة إلى ملة ، وفي الميراث ، وذلك مذكور في الفقه.

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) : أمره أن يخاطبهم بأن هدى الله ، أي الذي هو مضاف إلى الله ، وهو الإسلام الذي أنت عليه ، هو الهدى ، أي النافع التام الذي لا هدى وراءه ، وما أمرتم باتباعه هو هوى لا هدى ، (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) (٣). وأكد الجملة بأن وبالفصل الذي قبل ، فدل على الاختصاص والحصر ، وجاء الهدى معرّفا بالألف واللام ، وهو مما قيل : إن ذلك يدل على الحصر ، فإذا قلت : زيد العالم ، فكأنه قيل : هو المخصوص بالعلم والمحصور فيه ذلك. ثم ذكر تعالى أن ما هم عليه إنما هي أهواء وضلالات ناشئة عن شهواتهم وميولهم ، فقال : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) : وهو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأقوال التي في قوله : (وَلَنْ تَرْضى). واللام في لئن تسمى الموطئة والمؤذنة ، وهي تشعر بقسم مقدر قبلها ، ولذلك يبنى ما بعد الشرط على القسم

__________________

(١) سورة الزمر (٣٩) ، آية رقم : ٦٥.

(٢) سورة البقرة (٢) آية رقم : ١٣٥.

(٣) سورة القصص (٢٨) ، آية رقم : ٥٠.

٥٩٠

لا على الشرط ، إذ لو بنى على الشرط لدخلت الفاء في قوله : (ما لَكَ). والأهواء : جمع هوى ، وكان الجمع دليلا على كثرة اختلافهم ، إذ لو كانوا على حق لكان طريقا واحدا ، (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١). وأضاف الأهواء إليهم لأنها بدعهم وضلالاتهم ، ولذلك سمى أصحاب البدع : أرباب الأهواء. (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) : أي من الدين وجعله علما ، لأنه معلوم بالبراهين الصحيحة ، قالوا : وتدل هذه الآية على أمور منها : أن من علم الله منه أنه لا يفعل الشيء ، يجوز أن يخاطب بالوعيد لاحتمال أن يكون الصارف له ذلك الوعيد ، أو يكون ذلك الوعيد أحد الصوارف ، ونظيره : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). ومنها ، إن قوله : (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) يدل على أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد المعذرة أولا ، فيبطل بذلك تكليف ما لا يطاق. ومنها : أن اتباع الهوى باطل ، فيدل على بطلان التقليد. وقد فسر العلم هنا بالقرآن ، وبالعلم بضلال القوم ، وبالبيان بأن دين الله هو الإسلام ، وبالتحول إلى الكعبة ، قاله ابن عباس. وفي قوله : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ، قطع لأطماعهم أن تتبع أهواؤهم ، لأن من علم أنه لا ولي له ولا نصير ينفعه إذا ارتكب شيئا كان أبعد في أن لا يرتكبه ، وذلك إياس لهم في أن يتبع أهواءهم أحد ، وقد تقدّم الكلام في الوليّ والنصير ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ، قال ابن عباس : نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب ، وكانوا اثنين وثلاثين من أهل الحبشة ، وثمانية من رهبان الشام. وقيل : كان بعضهم من أهل نجران ، وبعضهم من أهل الحبشة ، ومن الروم ، وثمانية ملاحون أصحاب السفينة أقبلوا مع جعفر. وقال الضحاك : هم من آمن من اليهود ، كابن سلام ، وابن صوريا ، وابن يامين ، وغيرهم. وقيل : في علماء اليهود وأحبار النصارى. وقال ابن كيسان : الأنبياء والمرسلون. وقيل : المؤمنون. وقيل : الصحابة ، قاله عكرمة وقتادة. وعلى هذا الاختلاف ، يتنزل الاختلاف في الكتاب ، أهو التوراة أو الإنجيل؟ أو هما والقرآن؟ أو الجنس؟ فيكون يعني به المكتوب ، فيشمل الكتب المتقدمة. (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) : أي يقرأونه ويرتلونه بإعرابه. وقال عكرمة : يتبعون أحكامه. وقال الحسن : يعملون بمحكمه ويكلون متشابهه إلى الله. وقال عمر : يسألون من رحمته ويستعيذون من عذابه. وقال الزمخشري : لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والذين : مبتدأ ، فإن أريد به الخصوص في من اهتدى ، صح أن يكون

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٨٢.

٥٩١

يتلونه خبرا عنه ، وصح أن يكون حالا مقدرة إما من ضمير المفعول ، وإما من الكتاب ، لأنهم وقت الإيتاء لم يكونوا تالين له ، ولا كان هو متلوا لهم ، ويكون الخبر إذ ذاك في الجملة من قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ). وجوز الحوفي أن يكون يتلونه خبرا ، وأولئك وما بعده خبر بعد خبر. قال مثل قولهم : هذا حلو حامض ، وهذا مبني على أنه هل يقتضي المبتدأ الواحد خبرين؟ ألم لا يقتضي إلا إذا كان في معنى خبر واحد كقولهم : هذا حلو حامض ، أي مز ، وفي ذلك خلاف. وإن أريد بالذين آتيناهم الكتاب العموم ، كان الخبر أولئك يؤمنون به ، قالوا ، ومنهم ابن عطية : ويتلونه حال لا يستغنى عنها ، وفيها الفائدة ، ولا يجوز أن يكون خبرا ، لأنه كان يكون كل مؤمن يتلو الكتاب ، وليس كذلك بأي تفسير فسرت التلاوة. ونقول : ما لزم في الامتناع من جعلها خبرا ، يلزم في الحال ، لأنه ليس كل مؤمن يكون على حالة التلاوة بأي تفسير فسرتها. وانتصب حق تلاوته على المصدر ، كما تقول : ضربت زيدا حق ضربه ، وأصله تلاوة حقا. ثم قدّم الوصف ، وأضيف إلى المصدر ، وصار نظير : ضربت شديد الضرب ، إذ أصله : ضربا شديدا. وجوزوا أن يكون وصفا لمصدر محذوف ، وأن يكون منصوبا على الحال من الفاعل ، أي يتلونه محقين. وقال ابن عطية : وحق مصدر والعامل فيه فعل مضمر ، وهو بمعنى ، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرّف ، وإنما جازت عنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرّف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم : رجل واحد أمه ، ونسيج وحده. انتهى كلامه. وأولئك يؤمنون به : ظاهره أن الضمير في به يعود إلى ما يعود عليه الضمير في يتلونه ، وهو الكتاب ، على اختلاف الناس في الكتاب. وقيل : يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : وإن لم يتقدّم له ذكر ، لكن دلت قوة الكلام عليه ، وليس كذلك ، بل قد تقدم ذكره في قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) ، لكن صار ذلك التفاتا وخروجا من خطاب إلى غيبة. وقيل : يعود على الله تعالى ، ويكون التفاتا أيضا وخروجا من ضمير المتكلم المعظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد. قال ابن عطية : ويحتمل عندي أن يعود الضمير على الهدى الذي تقدّم ، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في الآية ، وحذر رسوله من اتباع أهوائهم ، وأعلمه بأن هدى الله هو الهدى الذي أعطاه وبعثه به. ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذلك الهدى المقتدون بأنواره. انتهى كلامه ، وهو محتمل لما ذكر. لكن الظاهر أن يعود على الكتاب لتتناسب الضمائر ولا تختلف ، فيحصل التعقيد في اللفظ ، والإلباس في المعنى ، لأنه إذا كان جعل الضمائر المتناسبة عائدة على واحد ، والمعنى فيها جيد صحيح الإسناد ، كان

٥٩٢

أولى من جعلها متنافرة ، ولا نعدل إلى ذلك إلا بصارف عن الوجه الأول ، إمّا لفظي ، وإمّا معنوي ، وإلى عوده على الكتاب ذهب الزمخشري.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) : الضمير في به في هذه الجملة فيه من الخلاف ما فيه في الجملة السابقة ، والظاهر كما قلناه ، إنه عائد على الكتاب ، ولم يعادل بين الجملتين في التركيب الخبري غير الشرطي أو الشرطي. بل قصد في الأولى إلى ذكر الحكم من غير تعليق عليه ، ودل مقابلة الخسران على ربح من آمن به وفوزه ووفور حظه عند الله ، فاكتفى بثبوت السبب عن ذكر المسبب عنه. وقصد في الجملة الثانية إلى ذكر المسبب على تقدير حصول السبب ، فكان في ذلك تنفير عن تعاطي السبب لما يترتب عليه من المسبب الذي هو الخسران ونقص الحظ ، وأخرج ذلك في جملة شرطية حمل فيها الشرط على لفظ من ، والجزاء على معناها. وهم : محتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون فصلا. وعلى كلا التقديرين يكون في ذلك توكيد. وفي المنتخب الذي يليق به هذا الوصف ، هو القرآن. وأولئك : الأولى عائدة على المؤمنين ، والثانية عائدة على الكفار. والدليل عليه ، أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب ، فلما ذم طريقتهم وحكى سوء أفعالهم ، أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم ، بأن تأمل التوراة وترك تحريفها ، وعرف منها صحة نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى. والتلاوة لها معنيان : القراءة لفظا ، والاتباع فعلا. وقد تقدم ما نقل في تفسير التلاوة هنا ، والأولى أن يحمل على كل تلك الوجوه ، لأنها مشتركة في المفهوم ، وهو أن بينها كلها قدرا مشتركا ، فينبغي أن يحمل عليه لكثرة الفوائد. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ، وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) : كرر نداء بني إسرائيل هنا ، وذكرهم بنعمه على سبيل التوكيد ، إذ أعقب ذلك النداء ذكر نداء ثان يلي ذكر الطائفتين متبعي الهدى والكافرين المكذبين بالآيات. وهذا النداء أعقب ذكر تينك الطائفتين من المؤمنين والكافرين. وكان ما بين النداءين قصص بني إسرائيل ، وما أنعم الله به عليهم ، وما صدر منهم ، من أفعالهم التي لا تليق بمن أنعم الله عليه ، من المخالفات والكذب والتعنتات ، وما جوزوا به في الدنيا على ذلك ، وما أعدّ لهم في الآخرة محشوا بين التذكيرين ومجعولا بين الوعظين والتخويفين ليوم القيامة. ونظير ذلك في الكلام أن تأمر شخصا بشيء على جهة الإجمال ، ثم تفصل له ذلك الشيء إلى أشياء كثيرة عديدة ، وأنت تسردها له سردا ، وكل واحدة منها هي مندرجة تحت ذلك الأمر السابق. ويطول بك الكلام

٥٩٣

حتى تكاد تتناسى ما سبق من ذلك الأمر ، فتعيده ثانية ، لتتذكر ذلك الأمر ، وتصير تلك التفصيلات محفوفة بالأمرين المذكورين بهما. ولم تختلف هذه الآية مع تلك السابقة إلا في قوله هناك : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) (١) ، وقال هنا : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ). وقد ذكرنا هناك ما ناسب تقديم الشفاعة هناك على العدل ، وتأخيرها هنا عنه ، ونسبة القبول هناك للشفاعة ، والنفع هنا لها ، فيطالع هناك.

وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة الإخبار عن مجاوزة الحد في الظلم ممن عطل بيوت الله من الذكر وسعى في خرابها ، مع أنها من حيث هي منسوبة إلى الله ، وهي محالّ ذكره وإيواء عباده الصالحين ، كان ينبغي أن لا يدخلوها إلا وهم وجلون خائفون ، متذكرون لمن بنيت ، ولما يذكر فيها. ثم أخبر أن لأولئك الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة. ثم ذكر أن له تعالى المشرق والمغرب ، فيندرج في ذلك المساجد ، وأي جهة قصدتموها فالله تعالى حاويها ومالكها ، فليس مختصا بحيز ولا مكان. وختم هذه الجملة بالوسع المنافي لوسع المقادير ، وبالعلم الذي هو دليل الإحاطة.

ثم أخبر عنهم بأفظع مقالة ، وهي نسبة الولد إلى الله تعالى ، ونزه ذاته المقدسة عن ذلك ، وأخبر أن جميع من في السموات والأرض ملك له ، خاضعون طائعون. ثم ذكر بداعة السموات والأرض ، وأنها مخلوقة على غير مثال ، فكما أنه لا مثال لهما ، فكذلك الفاعل لهما ، لا مثال له. ففي ذلك إشارة إلى أنه يمتنع الولد ، إذ لو كان له ولد لكان من جنسه ، والبارئ لا شيء يشبهه ، فلا ولد له ، ثم ذكر أنه متى تعلقت إرادته بما يريد أن يحدثه ، فلا تأخر له ، وفيه إشارة أيضا إلى نفي الولد ، لأنه لا يكون إلا عن توالد ، ويقتضي إلى تعاقب أزمان ، تعالى الله عن ذلك ، ثم ذكر نوعا من مقالاتهم التي تعنتوا بها أنبياء الله ، من طلب كلامه ومشافهته إياهم ، أو نزول آية. وقد نزلت آيات كثيرة ، فلم يصغوا إليها ، وأن هذه المقالة اقتفوا بها آثار من تقدمهم ، وأن أهواءهم متماثلة في تعنت الأنبياء ، وأنه تعالى قد بين الآيات وأوضحها ، لكن لمن له فكر فهو يوقن بصحتها ويؤمن بها. ثم ذكر تعالى أنه أرسله بشيرا لمن آمن بالنعيم في الآخرة والظفر في الدنيا ، ونذيرا لمن كفر بعكس ذلك ، وأن لا تهتم بمن ختم له بالشقاوة ، فكان من أهل النار ، ولا تغتم بعدم إيمانه ، فقد أبلغت وأعذرت. ثم ذكر ما عليه اليهود والنصارى من شدة تعاميهم عن الحق ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٤٨.

٥٩٤

بأنهم لا يرضون عنك حتى تخالف ما جاءك من الهدى الذي هو هدى الله ، إلى ما هم عليه من ملة الكفر واتباع الأهواء. ثم أخبر أن متبع أهوائهم بعد وضوح ما وافاه من الدين والإسلام ، لا أحد ينصره ولا يمنعه من عذاب الله. وأن الذين آتاهم الكتاب واصطفاهم له يتبعون الكتاب ، ويتتبعون معانيه ، فهم مصدقون بما تضمنه مما غاب عنهم علمه ، ولم يحصل لهم استفادته إلا منه ، من خبر ماض أو آت ، ووعد ووعيد ، وثواب وعقاب ، وأن من كفر به حق عليه الخسران.

ثم ختم هذه الآيات بأمر بني إسرائيل بذكر نعمه السابقة ، وتفضيلهم على عالمي زمانهم ، وكان ثالث نداء نودي به بنو إسرائيل ، بالإضافة إلى أبيهم الأعلى ، وتشريفهم بولادتهم منه. ثم أعرض في معظم القرآن عن ندائهم بهذا الاسم ، وطمس ما كان لهم من نور هذا الوسم ، والثلاث هي مبدأ الكثرة ، وقد اهتم بك من نبهك وناداك مرة ومرة ومرة :

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي

٥٩٥

الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١)

إبراهيم : اسم علم أعجمي. قيل : ومعناه بالسريانية قبل النقل إلى العلمية : أب رحيم ، وفيه لغى ست : إبراهيم بألف وياء وهي الشهيرة المتداولة ، وبألف مكان الياء ، وبإسقاط الياء مع كسر الهاء ، أو فتحها ، أو ضمها ، وبحذف الألف والياء وفتح الهاء ، قال عبد المطلب :

نحن آل الله في كعبته

لم نزل ذاك على عهد إبراهيم

وقال زيد بن عمرو بن نفيل :

عذت بما عاذ به إبرهم

إذ قال وجهي لك عان راغم

الإتمام : الإكمال ، والهمزة فيه للنقل. ثم الشيء يتم : كمل ، وهو ضد النقص. الإمام : القدوة الذي يؤتم به ، ومنه قيل لخيط البناء : إمام ، وللطريق : إمام ، وهو مفرد على فعال ، كالإزار للذي يؤتزر به ، ويكون جمع آم ، اسم فاعل من أم يؤم ، كجائع وجياع ، وقائم وقيام ، ونائم ونيام. الذرية : النسل ، مشتقة من ذروت ، أو ذريت ، أو ذرأ الله الخلق ، أو الذر. ويضم ذالها ، أو يكسر ، أو يفتح. فأما الضم فيجوز أن تكون ذرية ، فعلية من ذرأ الله الخلق ، وأصله ذريئة ، فخففت الهمزة بإبدالها ياء ، كما خففوا همزة النسيء فقالوا : النسيّ ، ثم أدغموا الياء التي هي لام الفعل التي هي للمد. ويجوز أن تكون فعولة من ذروت ، الأصل ذرووة ، أبدلت لام الفعل ياء. اجتمع لك واو وياء واو المد والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت واو المد ياء ، وأدغمت في الياء ، وكسر ما قبلها ، لأن الياء تطلب الكسر. ويجوز أن تكون فعلية من ذررت ، أصلها ذريوة ، اجتمعت ياء المد والواو التي هي لام الكلمة وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت ياء المد فيها. ويجوز أن تكون فعولة أو فعيلة من ذريت لغة في ذروت ، فأصلها أن تكون فعولة ذروية ، وإن كان فعيلة ذريية ، ثم أدغم. ويجوز أن تكون فعيلة من الذر منسوبة ، أو فعلية من الذر غير منسوبة ، أو فعلية ، كمريقة ، أو فعول ، كسبوح وقدوس ، أو فعلولة ، كقردودة الظهر ، فضم أولها إن كان اسما ، كقمرية ، وإن كانت منسوبة ، كما قالوا في النسب إلى الدهر : دهري ، وإلى السهل ، سهلي. وأصل فعلية من الذر : ذريرة ،

٥٩٦

وفعولة من الذر : ذرورة ، وكذلك فعلولة ، أبدلت الراء الآخرة في ذلك ياء كراهة التضعيف ، كما قالوا في تسررت ؛ تسريت. وأما من كسر ذال ذرية ، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ الله الخلق ، كبطيخة ، فأبدلت الهمزة ياء ، وأدغمت في ياء المد ، أو فعلية من الذر منسوبة على غير قياس ، أو فعيلة من الذر أصله ذريرة ، أو فعليل ، كحلتيت. ويحتمل أن تكون ذريوة من ذروت ، أو فعيلة ذريئة من ذريت. وأما من فتح ذال ذرية ، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ ، مثل سكينة ، أو فعولة من هذا أيضا ، كخروبة. فالأصل ذروءة ، فأبدلت الهمزة ياء بدلا مسموعا ، وقلبت الواو ياء وأدغمت. ويحتمل أن تكون فعلية من الذر غير منسوبة ، كبرنيه ، أو منسوبة إلى الذر ، أو فعولة ، كخروبه من الذر أصلها ذرورة ، ففعل بها ما تقدم ، أو فعلولة ، كبكولة ، فالأصل ذرورة أيضا ، أو فعيلة ، كسكينة ذريرة ، فقلبت الراء ياء في ذلك كله ، ويحتمل أن يكون من ذروت فعيلة ، كسكينة ، فالأصل ذريوة ، أو من ذريت ذريية ، أو فعولة من ذروت أو ذريت. وأما من بناها على فعلة ، كجفنة ، وقال ذرية ، فإنها من ذريت. النيل : الإدراك. نلت الشيء أناله نيلا ، والنيل : العطاء. البيت : معروف ، وصار علما بالغلبة على الكعبة ، كالنجم للثريا. الأمن : مصدر أمن يأمن ، إذا لم يخف واطمأنت نفسه. المقام : مفعل من القيام ، يحتمل المصدر والزمان والمكان. إسماعيل : اسم أعجمي علم ، ويقال إسماعيل باللام وإسماعين بالنون ، قال :

قال جواري الحي لما جينا

هذا ورب البيت اسماعينا

ومن غريب ما قيل في التسمية به أن إبراهيم كان يدعو أن يرزقه الله ولدا ويقول : اسمع ايل ، وايل هو الله تعالى. التطهير : مصدر طهر ، والتضعيف فيه للتعدية. يقال : طهر الشيء طهارة : نطف. الطائف : اسم فاعل من طاف به إذا دار به ، ويقال أطاف : بمعنى طاف ، قال :

أطافت به جيلان عند فطامه

والعاكف : اسم فاعل من عكف بالشيء : أقام به ولازمه ، قال :

عليه الطير ترقبه عكوفا

وقال يعكفون على أصنام لهم : أي يقيمون على عبادتها. البلد : معروف ، والبلد الصدر ، وبه سمي البلد لأنه صدر القرى. يقال : وضعت الناقة بلدتها إذا بركت. وقيل :

٥٩٧

سمي البلد بمعنى الأثر ، ومنه قيل بليد لتأثير الجهل فيه ، ومنه قيل البركة البعير بلدة لتأثيرها في الأرض إذا بركت ، قال :

أنيخت فألقت بلدة بعد بلدة

قليل بها الأصوات إلا بغامها

والبارك : البارك بالبلد. الاضطرار : هو الإلجاء إلى الشيء والإكراه عليه ، وهو افتعل من الضر ، أصله : اضترار ، أبدلت التاء طاء بدلا لازما ، وفعله متعد ، وعلى ذلك استعماله في القرآن ، وفي كلام العرب ، قال :

اضطرك الحرز من سلمى إلى أجأ

المصير : مفعل من صار يصير ، فيكون للزمان والمكان ، وأما المصدر فقياسه مفعل بفتح العين ، لأن ما كسرت عين مضارعه فقياسه ما ذكرناه ، لكنّ النحويين اختلفوا فيما كان عينه ياء من ذلك على ثلاثة مذاهب : أحدها : أنه كالصحيح ، فيفتح في المصدر ويكسر في الزمان والمكان. الثاني : أنه مخير فيه. الثالث : أنه يقتصر على السماع ، فما فتحت فيه العرب فتحنا ، وما كسرت كسرنا. وهذا هو الأولى. القواعد : قال الكسائي والفراء : هي الجدر ، وقال أبو عبيدة : الأساس ، قال :

في ذروة من بقاع أولهم

زانت عواليها قواعدها

وبالأساس فسرها ابن عطية أولا والزمخشري وقال : هي صفة غالبة ، ومعناها الثانية ، ومنه قعدك الله ، أي أسأل الله أن يقعدك ، أي يثبتك. انتهى كلامه. (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) جمع قاعد ، وهي التي قعدت عن الولد ، وسيأتي الكلام على كون قاعد لم تأت بالتاء في مكانه ، إن شاء الله تعالى. الأمة : الجماعة ، وهو لفظ مشترك ينطلق على الجماعة ، والواحد المعظم المتبوع ، والمنفرد في الأمر والدين والحين. والأم : هذه أمة زيد ، أي أمه ، والقامة والشجة التي تبلغ أم الدماغ ، وأتباع الرسل ، والطريقة المستقيمة ، والجيل. المناسك : جمع منسك ومنسك ، والكسر في سين منسك شاذ ، لأن اسم المصدر والزمان والمكان من يفعل بضم العين ، أو فتحها مفعل بفتح العين إلا ما شذ من ذلك ، والناسك : المتعبد. البعث : الإرسال ، والإحياء ، والهبوب من النوم. العزيز ، يقال : عز يعز بضم العين ، أي غلب ، ومنه : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) ، وعز يعز بفتحها ، أي اشتد ، ومنه : عز عليّ هذا الأمر ، أي شق ، وتعزز لحم الناقة : اشتد. وعز يعز من النفاسة ، أي لا نظير له ، أو قل نظيره. الرغبة عن الشيء : الزهادة فيه ، والرغبة فيه : الإيثار له والاختيار له ، وأصل الرغبة :

٥٩٨

الطلب. الاصطفاء : الانتجاب والاختيار ، وهو افتعال من الصفو ، وهو الخالص من الكدر والشوائب ، أبدلت من تائه طاء ، كان ثلاثية لازما. صفا الشيء يصفو ، وجاء الافتعال منه متعديا ، ومعنى الافتعال هنا : التخير ، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل.

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) : مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة ، وأن اليهود عيروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة وترك بيت المقدس ، كما قال : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) (١) ، ذكر حديث إبراهيم وما ابتلاه به الله ، واستطرد إلى ذكر البيت وكيفية بنائه ، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم ، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعا لشرعه ، واقتفاء لآثاره. فكان تعظيم البيت لازما لهم ، فنبه الله بذلك على سوء اعتمادهم ، وكثرة مخالفتهم ، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم ، وأنهم ، وإن كانوا من نسله ، لا ينالون لظلمهم شيئا من عهده ، وإذ العامل فيه على ما ذكروا محذوف ، وقد رواه : اذكر ، أي اذكرا إذ ابتلي إبراهيم ، فيكون مفعولا به ، أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) (٢) ، والاختيار أن يكون العامل فيه ملفوظا به ، وهو (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) (٣). والابتلاء : الاختبار ، ومعناه أنه كلفه بأوامر ونواه. والباري تعالى عالم بما يكون منه. وقيل : معناه أمر. قال الزمخشري : واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين : ما يريد الله ، وما يشتهيه العبد ، كأنه امتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. انتهى كلامه ، وفيه دسيسة الاعتزال. وفي ري الظمآن الابتلاء : إظهار الفعل ، والاختبار : طلب الخبر ، وهما متلازمان.

وابراهيم هنا ، وفي جميع القرآن هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو خليل الله ، ابن تارح بن ناجور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر ، وهو هود النبي عليه‌السلام ، ومولده بأرض الأهواز. وقيل : بكوثي ، وقيل : ببابل ، وقيل : بنجران ، ونقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان. وقد تقدّم ذكر اللغات الست في لفظه. وقرأ الجمهور : إبراهيم بالألف والياء. وقرأ ابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان في البقرة بألفين. زاد هشام أنه قرأ كذلك في : ابراهيم ، والنحل ، ومريم ، والشورى ، والذاريات ، والنجم ، والحديد ، وأول الممتحنة ، وثلاث آخر النساء ، وأخرى التوبة ، وآخر الأنعام ، والعنكبوت. وقرأ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٤.

٥٩٩

المفضل : ابراهام بألفين ، إلا في المودة والأعلى. وقرأ ابن الزبير : ابراهام ، وقرأ أبو بكرة : إبراهم بألف وحذف الياء وكسر الهاء. وقرأ الجمهور : بنصب إبراهيم ورفع ربه. وقرأ ابن عباس ، وأبو الشعثاء ، وأبو حنيفة : برفع إبراهيم ونصب ربه. فقراءة الجمهور على أن الفاعل هو الرب ، وتقدم معنى ابتلائه إياه. قال ابن عطية : وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء ، إذ معلوم أن الله تعالى هو المبتلي. وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول. انتهى كلامه ، وفيه بعض تلخيص. وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور. وقد جاء في كلام العرب مثل : ضرب غلامه زيدا ، وقال : وقاس عليه بعض النحويين وتأول بعضه الجمهور ، أو حمله على الشذوذ. وقد طول الزمخشري في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في الكشاف ، وليست من المسائل التي يطوّل فيها لشهرتها في العربية. وقرأ ابن عباس : معناها أنه دعا ربه بكلمات من الدعاء يتطلب فيها الإجابة ، فأطلق على ذلك ابتلاء على سبيل المجاز لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير على الإنسان.

والكلمات لم تبين في القرآن ما هي ، ولا في الحديث الصحيح ، وللمفسرين فيها أقوال : الأول : روى طاوس ، عن ابن عباس أنها العشرة التي من الفطرة : المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والفرق ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والاستطابة ، والختان ، وهذا قول قتادة. الثاني : عشر وهي : حلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، وغسل يوم الجمعة ، والطواف بالبيت ، والسعي ، ورمي الجمار ، والإفاضة. وروي هذا عن ابن عباس أيضا. الثالث : ثلاثون سهما في الإسلام ، لم يتم ذلك أحد إلا إبراهيم ، وهي عشر في براءة (التَّائِبُونَ) (١) الآية ، وعشر في الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ) (٢) الآية ، وعشر في (قَدْ أَفْلَحَ) وفي المعارج. وروي هذا عن ابن عباس أيضا. الرابع : هي الخصال الست التي امتحن بها الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان. وقيل : بدل الهجرة الذبح لولده ، قاله الحسن. الخامس : مناسك الحج ، رواه قتادة ، عن ابن عباس. السادس : كل مسألة سألها إبراهيم في القرآن مثل : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (٣) ، قاله مقاتل. السابع : هي قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١١٢.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٦.

٦٠٠