البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

العبادة المشروعة؟ وقال القفال : دعاهم إلى أن لا يتحرّوا في أعمالهم غير وجه الله تعالى ، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام ، وإنما خاف عليهم أن تشغلهم دنياهم. وفي ذلك دليل على أن شفقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أولادهم كانت في باب الدين ، وهمتهم مصروفة إليهم. من بعدي : يريد من بعد موتي ، وحكي أن يعقوب عليه‌السلام حين خير ، كما يخير الأنبياء ، اختار الموت وقال : أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي ، فجمعهم وقال لهم هذا القول.

(قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) : هذه قراءة الجمهور. وقرأ أبي : وإله إبراهيم ، بإسقاط آبائك. وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وابن يعمر ، والجحدري ، وأبو رجاء : وإله أبيك. فأما على قراءة الجمهور ، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك ، أو عطف بيان. وإذا كان بدلا ، فهو من البدل التفصيلي ، ولو قرىء فيه بالقطع ، لكان ذلك جائزا. وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوبا على إضمار ، أعني : وفيه دلالة على أن العم يطلق عليه أب. وقد جاء في العباس : هذا بقية آبائي ، وردّوا عليّ أبي ، وأنا ابن الذبيحين ، على القول الشهير : أن الذبيح هو إسحاق ، وفيه دلالة على أن الجدّ يسمى أبا لقوله : (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ) ، وإبراهيم جدّ ليعقوب. وقد استدل ابن عباس بذلك وبقوله : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) (١) على توريث الجدّ دون الإخوة ، وإنزاله منزلة الأب في الميراث ، عند فقد الأب ، وأن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث ، إذا لم يكن أب ، وهو مذهب الصديق وجماعة من الصحابة ، رضوان الله عليهم أجمعين ، وهو قول أبي حنيفة. وقال زيد بن ثابت : هو بمنزلة الإخوة ، ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث ، فيعطى الثلث ، ولم ينقص منه شيئا ، وبه قال مالك وأبو يوسف والشافعي. وقال علي : هو بمنزلة أحد الإخوة ، ما لم تنقصه المقاسمة من السدس ، فيعطى السدس ، ولم ينقص منه شيئا ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه. وأما قراءة أبيّ فظاهرة ، وأما على قراءة ابن عباس ، ومن ذكر معه ، فالظاهر أن لفظ أبيك أريد به الإفراد ويكون إبراهيم بدلا منه ، أو عطف بيان. وقيل : هو جمع سقطت منه النون للإضافة ، فقد جمع أب على أبين نصبا وجرا ، وأبون رفعا ، حكى ذلك سيبويه ، وقال الشاعر :

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٣٨.

٦٤١

فلما تبين أصواتنا

بكين وفدّيننا بالأبينا

وعلى هذا الوجه يكون إعراب إبراهيم مثل إعرابه حين كان جمع تكسير. وفي إجابتهم له بإظهار الفعل تأكيد لما أجابوه به ، إذ كان يجوز أن يقال : قالوا إلهك ، فتصريحهم بالفعل تأكيد في الجواب أنه مطابق للسؤال ، أعني في العامل الملفوظ به في السؤال. وإضافة الإله إلى يعقوب فيه دليل على اتحاد معبود السائل والمجيب لفظا. وفي قوله : وإله آبائك دليل على اتحاد المعبود أيضا من حيث اللفظ ، وإنما كرر لفظ وإله ، لأنه لا يصح العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة جارّه ، إلا في الشعر ، أو على مذهب من يرى ذلك ، وهو عنده قليل. فلو كان المعطوف عليه ظاهرا ، لكان حذف الجار ، إذا كان اسما ، أولى من إثباته ، لما يوهم إثباته من المغايرة. فإن حذفه يدل على الاتحاد. وبدأ أولا بإضافة الإله إلى يعقوب ، لأنه هو السائل ، وقدم إبراهيم ، لأنه الأصل ، وقدم إسماعيل على إسحاق ، لأنه أسنّ أو أفضل ، لكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذريته ، وهو في عمود نسبه. واقتصر على هؤلاء ، لأنهم كانوا خير الناس في أزمانهم ، ولم يعم ، لأن الناس كان لهم معبودون كثيرون دون الله.

(إِلهاً واحِداً) : يجوز أن يكون بدلا ، وهو بدل نكرة موصوفة من معرفة ، ويجوز أن يكون حالا ، ويكون حالا موطئة نحو : رأيتك رجلا صالحا. فالمقصود إنما هو الوصف ، وجيء باسم الذات توطئة للوصف. وجوّز الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص ، أي يريد بإلهك إلها واحدا. وقد نص النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهما. وفائدة هذه الحال ، أو البدل ، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد ، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف ، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام. (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) : أي منقادون لما ذكر الجواب بالفعل الذي هو نعبد ، لأن العبادة متجددة دائما. ذكر هذه الجملة الاسمية المخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الدال على الثبوت ، لأن الانقياد لا ينفكون عنه دائما ، وعنه تكون العبادة ، فيكون قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أحد جملتي الجواب. فأجابوه بشيئين : أحدهما : الذي سأل عنه ، والثاني : مؤكد لما أجابوا به ، فيكون من باب الجواب المربي على السؤال. وأجاز بعضهم أن تكون الجملة حالية من الضمير في نعبد ، والأول أبلغ ، وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله : (نَعْبُدُ) ، فيكون أحد شقي الجواب. وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أي : ومن حالنا أنا نحن له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون.

٦٤٢

والذي ذكره النحويون أن جملة الاعتراض هي الجملة التي تفيد تقوية بين جزأي موصول وصلة ، نحو قوله :

ماذا ولا عتب في المقدور رمت

إما تخطيك بالنجح أو خسر وتضليل

وقال :

ذاك الذي وأبيك يعرف مالكا

والحق يدفع ترهات الباطل

أو بين جزأي إسناد ، نحو قوله :

وقد أدركتني والحوادث جمة

أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل

أو بين فعل شرط وجزائه ، أو بين قسم وجوابه ، أو بين منعوت ونعته ، أو ما أشبه ذلك مما بينهما تلازم ما. وهذه الجملة التي هي قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ليست من هذا الباب ، لأن قبلها كلاما مستقلا ، وبعدها كلام مستقل ، وهو قوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ). لا يقال : إن بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازم يصح به أن تكون الجملة معترضة ، لأن ما قبلها من كلام بني يعقوب ، حكاه الله عنهم ، وما بعدها من كلام الله تعالى ، أخبر عنهم بما أخبر تعالى. والجملة الاعتراضية الواقعة بين متلازمين لا تكون إلا من الناطق بالمتلازمين ، يؤكد بها ويقوي ما تضمن كلامه. فتبين بهذا كله أن قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ليس جملة اعتراضية. وقال ابن عطية : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ابتداء وخبر ، أي : كذلك كنا ونحن نكون. ويحتمل أن يكون في موضع الحال. والعامل نعبد والتأويل الأول أمدح. انتهى كلامه. ويظهر منه أنه جعل الجملة معطوفة على جملة محذوفة ، وهي قوله : كذلك كنا ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار ، لأنه يصح عطفها على نعبد إلهك ، كما ذكرناه وقررناه قبل. ومتى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ، مع صحة المعنى ، كان أولى من حمله على الإضمار.

وفي المنتخب ما ملخصه تمسك بهذه الآية المقلدة ، وقالوا : إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد ، ولم ينكره هو عليهم ، فدل على أن التقليد كاف ، واستدل بها التعليمية ، قالوا : لا طريق لمعرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام ، فإنهم لم يقولوا : نعبد الإله الذي دل عليه العقل ، بل قالوا : لا نعبد إلا الذي أنت تعبده وآباؤك تعبده ، وهذا يدل على أن طريقة المعرفة التعلم. وما ذهبوا إليه لا دليل في الآية عليه ، لأن الآية لم تتضمن إلا الإقرار بعبادة الإله. والإقرار بالعبادة لله لا تدل على أن ذلك ناشىء عن تقليد ، ولا تعليم ، ولا أنه أيضا

٦٤٣

ناشىء عن استدلال بالعقل ، فبطل تمسكهم بالآية. وإنما لم تتعرض الآية للاستدلال العقلي ، لأنها لم تجىء في معرض ذلك ، لأنه إنما سألهم عما يعبدونه من بعد موته ، فأحالوه على معبوده ومعبود آبائه ، وهو الله تعالى ، وكان ذلك أخصر في القول من شرح صفاته تعالى من الوحدانية والعلم والقدرة وغير ذلك من صفاته ، وأقرب إلى سكون نفس يعقوب ، فكأنهم قالوا : لسنا نجري إلا على طريقتك. وقد يقال : إن في قوله : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) إشارة إلى الاستدلال العقلي على وجود الصانع ، لأنه قد تقدّم في أول السورة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١) ، فمرادهم هنا بقولهم : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) الإله الذي دل عليه وجود آبائك ، وهذا إشارة إلى الاستدلال.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ، تلك : إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وأبنائهما. ومعنى خلت : ماتت وانقضت وصارت إلى الخلاء ، وهو الأرض الذي لا أنيس به. والمخاطب هم اليهود والنصارى الذين ادّعوا لإبراهيم وبنيه اليهودية والنصرانية. والجملة من قوله : قد خلت ، صفة لأمّة. (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) : أي تلك الأمّة مختصة بجزاء ما كسبت ، كما أنكم كذلك مختصون بجزاء ما كسبتم من خير وشرّ ، فلا ينفع أحدا كسب غيره. وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد ، أي لها ما كسبته. وجوّزوا أن تكون ما مصدرية ، أي لها كسبها ، وكذلك ما في قوله : (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ). ويجوز أن تكون الجملة من قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) استئنافا ، ويجوز أن تكون جملة خالية من الضمير في خلت ، أي انقضت مستقرا ثابتا ، لها ما كسبت. والأظهر الأول ، لعطف قوله : (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) على قوله : (لَها ما كَسَبَتْ). ولا يصح أن يكون (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) عطفا على جملة الحال قبلها ، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها. وزمان استقرار كسب المخاطبين ، وعطف الحال على الحال ، يوجب اتحاد الزمان. افتخروا بأسلافهم ، فأخبروا أن أحدا لا ينفع أحدا ، متقدّما كان أو متأخرا. وروي : يا بني هاشم! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم! با فاطمة ، لا أغني عنك من الله شيئا! قال ابن عطية : وفي هذه الآية ردّ على الجبرية القائلين : لا اكتساب للعبد. انتهى.

وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الدين ، وهي من المسائل المعضلة ، ومذاهب أهل

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١.

٦٤٤

الإسلام فيها أربعة. أحدها : قول الجبرية ، وهو أن العبد مجبور على فعله ، وأنه لا اختيار له في ذلك ، بل هو ملجأ إليه ، وأن نسبة الفعل إليه كنسبة حركة الغصن إليه ، إذا حركه محرك. والثاني : قول القدرية ، وهو أنهم ليسوا مجبورين على الفعل ، بل لهم قدرة على إيجاد الفعل. والثالث : قول المعتزلة ، أن العبد له قدرة يخلقها الله له قبل الفعل ، وهو متمكن من إيقاعه وعدم إيقاعه. والرابع : مذهب أهل السنة والجماعة : أن الله يخلق للعبد تمكينا وقدرة مع الفعل يفعل بها الخير والشر ، لا على سبيل الاضطرار والإلجاء ، وهذا التمكين هو مناط التكليف الذي يترتب عليه العقاب والثواب. ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل ، اختلفوا في تفسيره على ثلاثة تفاسير : أحدها : قول أبي الحسن : أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير في المقدور ، بل القدرة والمقدور حصلا بخلق الله ، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله ، وهو متعلق القدرة الحادثة ، هو الكسب. والثاني : قول الباقلاني : أن ذات الفعل لم تحصل له صفة ، كونه طاعة ومعصية ، بل هذه الصفة حصلت له بالقدرة الحادثة. والثالث : قول أبي إسحاق الأسفرائني : أن القدرتين ، القديمة والحديثة ، إذا تعلقتا بمقدور وقع بهما ، فكان فعل العبد يوقع بإعانة ، فهذا هو الكسب.

(وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) : جملة توكيدية لما قبلها ، لأنه قد أخبر بأن كل أحد مختص بكسبه من خير ، وإذا كان كذلك ، فلا يسأل أحد عن عمل أحد. فكما أنه لا ينفعكم حسناتهم ، فكذلك لا تسألون ولا تؤاخذون بسيئات من اكتسبها. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) ، كل شاة برجلها تناط. قالوا : وفي هذه الآية ، وما قبلها ، دليل على أن للإنسان أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله ، إفحاما له ، وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه ، لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج على نبوّته بأمثال هذه الكلمات ، بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة. لكنه لما أقام الحجة بها وأزاح العلة ، وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم. فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه ، فقال : إن كان الدين بالاتباع ، فالمتفق عليه أولى. وفي قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) إلى آخره ، دلالة على بطلان قول من يقول بجواز تعذيب أولاد المشركين بذنوب آبائهم. وفي الآية قبلها دلالة على أن الأبناء يثابون على طاعة الآباء.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) : الضمير عائد في قالوا على رؤساء اليهود

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٤ ، وسورة الإسراء : ١٧ / ١٥ ، وسورة فاطر : ٣٥ / ١٨ ، وسورة الزمر : ٣٩ / ٧.

٦٤٥

الذين كانوا بالمدينة ، وعلى نصارى نجران ، وفيهم نزلت. كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب ، وأبيّ بن ياس بن أخطب ، والسيد ، والعاقب وأصحابهما خاصموا المسلمين في الدين ، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها ، فأخبر الله عنهم وردّ عليهم. وأو هنا للتفصيل ، كأو في قوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (١). والمعنى : وقالت اليهود كونوا هودا ، وقالت النصارى : كونوا نصارى ، فالمجموع قالوا للمجموع ، لا أن كل فرد فرد أمر باتباع أي الملتين. وقد تقدّم إيضاح ذلك وإشباع الكلام فيه في قوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ). (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) : قرأ الجمهور : بنصب ملة بإضمار فعل. أما على المفعول ، أي بل نتبع ملة ، لأن معنى قوله : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) : اتبعوا اليهودية أو النصرانية. وأما على أنه خبر كان ، أي بل تكون ملة إبراهيم ، أي أهل ملة إبراهيم ، كما قال عدي بن حاتم ، إني من دين ، أي من أهل دين ، قاله الزجاج. وأما على أنه منصوب على الإعراء ، أي الزموا ملة إبراهيم ، قاله أبو عبيد. وأما على أنه منصوب على إسقاط الخافض ، أي نقتدي ملة ، أي بملة ، وهو يحتمل أن يكون خطابا للكفار ، فيكون المضمر اتبعوا ، أو كونوا. ويحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ، فيقدر بنتبع ، أو تكون ، أو نقتدي على ما تقدم تقديره. وقرأ ابن هرمز الأعرج ، وابن أبي عبلة : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، برفع ملة ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي بل الهدى ملة ، أو أمرنا ملته ، أو نحن ملته ، أي أهل ملته ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي بل ملة إبراهيم حنيفا ملتنا.

(حَنِيفاً) : ذكروا أنه منصوب على الحال من إبراهيم ، أي في حال حنيفيته ، قاله المهدوي وابن عطية والزمخشري وغيرهم. قال الزمخشري : كقولك رأيت وجه هند قائمة ، وأنه منصوب بإضمار فعل ، حكاه ابن عطية. وقال : لأن الحال تعلق من المضاف إليه. انتهى. وتقدير الفعل نتبع حنيفا ، وأنه منصوب على القطع ، حكاه السجاوندي ، وهو تخريج كوفي ، لأن النصب على القطع إنما هو مذهب الكوفيين. وقد تقدم لنا الكلام فيه ، واختلاف الفراء والكسائي ، فكان التقدير : بل ملة إبراهيم الحنيف ، فلما نكره ، لم يمكن اتباعه إياه ، فنصبه على القطع. أما الحال من المضاف إليه ، إذا كان المضاف غير عامل في المضاف إليه قبل الإضافة ، فنحن لا نجيزه ، سواء كان جزءا مما أضيف إليه ، أو كالجزء ، أو غير ذلك. وقد أمعنا الكلام على ذلك في (كتاب منهج المسالك) من تأليفنا.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١١١.

٦٤٦

وأما النصب على القطع ، فقد ردّ هذا الأصل البصريون. وأما إضمار الفعل فهو قريب ، ويمكن أن يكون منصوبا على الحال من المضاف ، وذكر حنيفا ولم يؤنث لتأنيث ملة ، لأنه حمل على المعنى ، لأن الملة هي الدين ، فكأنه قيل : نتبع دين إبراهيم حنيفا. وعلى هذا خرجه هبة الله بن الشجري في المجلس الثالث من أماليه. قال : قيل إن حنيفا حال من إبراهيم ، وأوجه من ذلك عندي أن يجعله حالا من الملة ، وإن خالفها بالتذكير ، لأن الملة في معنى الدين. ألا ترى أنها قد أبدلت من الدين في قوله جل وعز : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) (١)؟ فإذا جعلت حنيفا حالا من الملة ، فالناصب له هو الناصب للملة ، وتقديره : بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا ، وإنما ضعف الحال من المضاف إليه ، لأن العامل في الحال ينبغي أن يكون هو العامل في ذي الحال. انتهى كلامه. وتكون حالا لازمة ، لأن دين إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية ، وكذلك يلزم من جعل حنيفا حالا من إبراهيم أن يكون حالا لازمة ، لأن إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية. والحنيف : هو المائل عن الأديان كلها ، قاله ابن عباس ؛ أو المائل عما عليه العامّة ، قاله الزجاج ، أو المستقيم ، قاله ابن قتيبة ؛ أو الحاج ، قاله ابن عباس أيضا ؛ وابن الحنفية ، أو المتبع ، قاله مجاهد ؛ أو المخلص ، قاله السدّي ؛ أو المخالف للكل ، قاله ابن بحر ؛ أو المسلم ، قاله الضحاك ، قال : فإذا جمع الحنيف مع المسلم فهو الحاج ، أو المختتن. أو الحنف : هو الاختتان ، وإقامة المناسك ، وتحريم الأمّهات والبنات والأخوات والعمات والخالات ، عشرة أقوال متقاربة في المعنى. وإنما خص إبراهيم دون غيره من الأنبياء ، وإن كانوا كلهم مائلين إلى الحق ، مستقيمي الطريقة حنفاء ، لأن الله اختص إبراهيم بالإمامة ، لما سنه من مناسك الحج والختان ، وغير ذلك من شرائع الإسلام ، مما يقتدى به إلى قيام الساعة. وصارت الحنيفية علما مميزا بين المؤمن والكافر. وسمي بالحنيف : من اتبعه واستقام على هديه ، وسمي المنكث عن ملته بسائر أسماء الملل ، فقيل : يهودي ونصراني ومجوسي ، وغير ذلك من ضروب النحل.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : أخبر الله تعالى أنه لم يكن يعبد وثنا ، ولا شمسا ، ولا قمرا ، ولا كوكبا ، ولا شيئا غير الله تعالى. وكان في قوله : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) دليل على أن ملته مخالفة لملة اليهود والنصارى ، ولذلك أضرب ببل عنهما ، فثبت أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا. وكانت العرب ممن تدين بأشياء من دين إبراهيم ، ثم كانت تشرك ، فنفى الله عن إبراهيم أن يكون من المشركين. وقيل : في الآية تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، لأن

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٦١.

٦٤٧

كلا منهم يدعي اتباع إبراهيم ، وهو على الشرك ، قاله الزمخشري. فإشراك اليهود بقولهم : عزير ابن الله ، وإشراك النصارى بقولهم : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) ، وإشراك غيرهما بعبادة الأوثان وغيرها.

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) الآية ، خرج البخاري ، عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، ولكن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية ، فإن كان حقا لم تكذبوه وإن كان كذبا لم تصدّقوه». والضمير في قوله : (قُولُوا) ، عائد على الذين قالوا : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى). أمروا بأن يكونوا على الحق ، ويصرحوا به. ويجوز أن يعود على المؤمنين ، وهو أظهر. وارتبطت هذه الآية بما قبلها ، لأنه لما ذكر في قوله : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، جوابا إلزاميا ، وهو أنهم : وما أمروا باتباع اليهودية والنصرانية ، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد. هذا ، وكل طائفة منهما تكفر الأخرى ، أجيبوا بأن الأولى في التقليد اتباع ابراهيم ، لأنهم ، أعني الطائفتين المختلفتين ، قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم. والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، إن كان الدين بالتقليد. فلما ذكر هنا جوابا إلزاميا ، ذكر بعده برهانا في هذه الآية ، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات. وقد ظهرت على يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجب الإيمان بنبوّته. فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالرّدّ ، يوجب التناقض في الدليل ، وهو ممتنع عقلا.

(وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) : إن كان الضمير في قولوا للمؤمنين ، فالمنزل إليهم هو القرآن ، وصح نسبة إنزاله إليهم ، لأنهم فيه هم المخاطبون بتكاليفه من الأمر والنهي وغير ذلك ، وتعدية أنزل بإلى ، دليل على انتهاء المنزل إليهم. وإن كان الضمير في قولوا عائدا على اليهود والنصارى ، فالمنزل إلى اليهود : التوراة ، والمنزل إلى النصارى : الإنجيل ، ويلزم من الإيمان بهما ، الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويصح أن يراد بالمنزل إليهم : القرآن ، لأنهم أمروا باتباعه ، وبالإيمان به ، وبمن جاء على يديه.

(وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ) : الذي أنزل على إبراهيم عشر صحائف. قال : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١) ، وكرر الموصول ، لأن المنزل إلينا ، وهو القرآن ، غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم. فلو حذف الموصول ، لأوهم

__________________

(١) سورة الأعلى : ٨٧ / ١٨ ـ ١٩.

٦٤٨

أن المنزل إلينا هو المنزل إلى ابراهيم ، قالوا : ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وعطفوا على إبراهيم ، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه ، فأضيف الإنزال إليهم ، كما أضيف في قوله : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا). والأسباط هم أولاد يعقوب ، وهم اثنا عشر سبطا. قال الشريف أبو البركات الجوّاني النسابة : وولد يعقوب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يوسف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صاحب مصر وعزيزها ، وهو السبط الأول من أسباط يعقوب عليه‌السلام الاثني عشر ، والأسباط سوى يوسف : كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ويفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشيرخا من يهوذا بن يعقوب ، وسليمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وجاء من سليمان عليه‌السلام النبي : مريم ابنة عمران ، أمّ المسيح عليهما‌السلام. وجاء من لاوي بن يعقوب : موسى كليم الله وهارون أخوه عليهما‌السلام. انتهى كلامه. وقال ابن عطية : والأسباط هم ولد يعقوب. وهم : روبيل ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ورفالون ، وبشجر ، وذينة بنته ، وأمّهم لياثم. خلف على أختها راحيل ، فولدت له : يوسف ، وبنيامين. وولد له من سريتين : داني ، ونفتالي ، وجاد ، وآشر. انتهى كلامه ، وهو مخالف لكلام الجواني في بعض الأسماء. وقيل : روبيل أكبر ولده. وقال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني : روبيل أصح وأثبت ، يعني باللام ، قال : وقبره في قرافة مصر ، في لحف الجبل ، في تربة أليسع عليهما‌السلام.

(وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) : أي : وآمنا بالذي أوتي موسى من التوراة والآيات ، وعيسى من الإنجيل والآيات. وموسى هنا : هو موسى بن عمران ، كليم الله. وقال الحسين بن أحمد البيساني : وفي ولد ميشا بن يوسف ، يعني الصديق : موسى بن ميشا بن يوسف. وزعم أهل التوراة أن الله نبأه ، وأنه صاحب الخضر. وذكر المؤرّخون أنه لما مات يعقوب ، فشا في الأسباط الكهانة ، فبعث الله موسى بن ميشا يدعوهم إلى عبادة الله ، وهو قبل موسى بن عمران بمائة سنة ، والله أعلم بصحة ذلك. انتهى كلامه ، ونص على موسى وعيسى ، لأنهما متبوعا اليهود والنصارى بزعمهم ، والكلام معهم ، ولم يكرر الموصول في عيسى ، لأن عيسى إنما جاء مصدقا لما في التوراة ، لم ينسخ منها إلا نزرا يسيرا. فالذي أوتيه عيسى هو ما أوتيه موسى ، وإن كان قد خالف في نزر يسير. وجاء : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) ، وجاء : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) ، تنويعا في الكلام وتصرفا في ألفاظه ، وإن كان المعنى واحدا ، إذ لو كان كله بلفظ الإيتاء ، أو بلفظ الإنزال ، لما كان فيه حلاوة التنوع في الألفاظ. ألا تراهم لم يستحسنوا قول أبي الطيب :

٦٤٩

ونهب نفوس أهل النهب أولى

بأهل النهب من نهب القماش

ولما ذكر في الإنزال أوّلا خاصا ، عطف عليه جمعا. كذلك لما ذكر في الإيتاء خاصا ، عطف عليه جمعا. ولما أظهر الموصول في الإنزال في العطف ، أظهره في الإيتاء فقال : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) ، وهو تعميم بعد تخصيص. وظاهر قوله : (وَما أُوتِيَ) يقتضي التعميم في الكتب والشرائع. وفي حديث لأبي سعيد الخدري ، قلت : يا رسول الله ، كم أنزل الله؟ قال : «مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة ، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف ، ثم أنزل التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان. وأما عدد الأنبياء ، فروي عن ابن عباس ووهب بن منبه : أنهم مائة ألف نبي ، ومائة وعشرون ألف نبي ، كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرين ألف نبي. وعدد الرسل : ثلاثمائة وثلاثة عشر ، كلهم من ولد يعقوب ، إلا عشرين رسولا ، ذكر منهم في القرآن خمسة وعشرين ، نص على أسمائهم وهم : آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وأليسع ، وإلياس ، ويونس ، وأيوب ، وداود ، وسليمان ، وزكريا ، وعزير ، ويحيى ، وعيسى ، ومحمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي رواية عن ابن عباس : أن الأنبياء كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرة : نوحا ، وهودا ، وشعيبا ، وصالحا ، ولوطا ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، ومحمدا ، صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وابتدئ أولا بالإيمان بالله ، لأن ذلك أصل الشرائع ، وقدم (ما أُنْزِلَ إِلَيْنا) ، وإن كان متأخرا في الإنزال عن ما بعده ، لأنه أولى بالذكر ، لأن الناس ، بعد بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مدعوّون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملة وتفصيلا. وقدم (ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ) على (ما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) ، للتقدّم في الزمان ، أو لأن المنزل على موسى ، ومن ذكر معه ، هو المنزل إلى إبراهيم ، إذ هم داخلون تحت شريعته. (وَما أُوتِيَ مُوسى) : ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان ، وجوّزوا أن يكون : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) في موضع رفع بالابتداء ، وما أوتي الثانية عطف على ما أوتي ، فيكون في موضع رفع. والخبر في قوله (مِنْ رَبِّهِمْ) ، أو لا نفرق ، أو يكون : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) معطوفا على المجرور قبله ، (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) رفع على الابتداء ، و (مِنْ رَبِّهِمْ) الخبر ، أو لا نفرق هو الخبر. والظاهر أن من ربهم في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية ، فتتعلق بما أوتي الثانية ، أو بما أوتي الأولى ،

٦٥٠

وتكون الثانية توكيدا. ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) (١)؟ ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول ، فتتعلق بمحذوف ، أي وما أوتيه النبيون كائنا من ربهم.

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) : ظاهره الاستئناف. والمعنى : أنا نؤمن بالجميع ، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كما فعلت اليهود والنصارى. فإن اليهود آمنوا بالأنبياء كلهم ، وكفروا بمحمد وعيسى ، صلوات الله على الجميع. والنصارى آمنوا بالأنبياء ، وكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : معناه لا نقول إنهم يتفرقون في أصول الديانات. وقيل : معناه لا نشق عصاهم ، كما يقال شق عصا المسلمين ، إذا فارق جماعتهم. وأحد هنا ، قيل : هو المستعمل في النفي ، فأصوله : الهمزة والحاء والدال ، وهو للعموم ، فلذلك لم يفتقر بين إلى معطوف عليه ، إذ هو اسم عام تحته أفراد ، فيصح دخول بين عليه ، كما تدخل على المجموع فتقول : المال بين الزيدين ، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه. وقيل : أحد هنا بمعنى : واحد ، والهمزة بدل من الواو ، إذ أصله : وحد ، وحذف المعطوف لفهم السامع ، والتقدير : بين أحد منهم وبين نظيره ، فاختصر ، أو بين أحد منهم والآخر ، ويكون نظير قول الشاعر :

فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلا ليال قلائل

يريد : بين الخير وبيني ، فحذف لدلالة المعنى عليه ، إذ قد علم أن بين لا بد أن تدخل بين شيئين ، كما حذف المعطوف في قوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٢). ومعلوم أن ما وقي الحر وقي البرد ، فحذف والبرد لفهم المعنى. ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه. وذكر الوجهين غير الزمخشري وابن عطية ، والوجه الأول أرجح ، لأنه لا حذف فيه. (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) : هذا كله مندرج تحت قوله : (قُولُوا). ولما ذكر أولا الإيمان ، وهو التصديق ، وهو متعلق بالقلب ، ختم بذكر الإسلام ، وهو الانقياد الناشئ عن الإيمان الظاهر عن الجوارح. فجمع بين الإيمان والإسلام ، ليجتمع الأصل والناشئ عن الأصل. وقد فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان والإسلام حين سئل عنهما ، وذلك في حديث جبريل عليه‌السلام. وقد فسروا قوله : (مُسْلِمُونَ) بأقوال متقاربة في المعنى ، فقيل : خاضعون ، وقيل : مطيعون ، وقيل : مذعنون للعبودية ، وقيل : مذعنون لأمره ونهيه عقلا

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٨٤.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٨١.

٦٥١

وفعلا ، وقيل : داخلون في حكم الإسلام ، وقيل : منقادون ، وقيل : مخلصون. وله متعلق بمسلمون ، وتأخر عنه العامل لأجل الفواصل ، أو تقدّم له للاعتناء بالعائد على الله تعالى لما نزل قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) الآية ، قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اليهود والنصارى وقال : «الله أمرني بهذا». فلما سمعوا بذكر عيسى أنكروا وكفروا. وقالت النصارى : إن عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء ، ولكنه ابن الله تعالى ، فأنزل الله : (فَإِنْ آمَنُوا) الآية. والضمير في آمنوا عائد على من عاد عليه في قوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى). ويجوز أن يكون الخطاب خاصا ، والمراد به العموم ، ويجوز أن يكون عائدا على كل كافر ، فيفسره المعنى.

وقرأ الجمهور : (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ). وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس : بما آمنتم به. وقرأ أبيّ : بالذي آمنتم به ، وقال ابن عباس : ليس لله مثل. وهذا يدل على إقرار الباء على حالها في آمنت بالله ، وإطلاق ما على الله تعالى. كما ذهب إليه بعضهم في قوله : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) (١) ، يريد ومن بناها على قوله. وقراءة أبيّ ظاهرة ، ويشمل جميع ما آمن به المؤمنون. وأما قراءة الجمهور ، فخرجت الباء على الزيادة ، والتقدير : إيمانا مثل إيمانكم ، كما زيدت في قوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) (٢).

وسود المحاجر لا يقرأن بالسور

(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٣) ، وتكون ما مصدرية. وقيل : ليست بزائدة ، وهي بمعنى على ، أي فإن آمنوا على مثل ما آمنتم به ، وكون الباء بمعنى على ، قد قيل به ، وممن قال به ابن مالك ، قال ذلك في قوله تعالى : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) (٤) ، أي على قنطار. وقيل : هي للاستعانة ، كقولك : عملت بالقدوم ، وكتبت بالقلم ، أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم ، وذلك فرار من زيادة الباء ، لأنه ليس من أماكن زيادة الباء قياسا. والمؤمن به على هذه الأوجه الثلاثة محذوف ، التقدير : فإن آمنوا بالله ، ويكون الضمير في به عائدا على ما عاد عليه قوله : (وَنَحْنُ لَهُ) ، وهو الله تعالى. وقيل : يعود على ما ، وتكون إذ ذاك موصولة. وأما مثل ، فقيل : زائدة ، والتقدير : فإن آمنوا بما آمنتم به ، قالوا : كهي في قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٥) ، أي ليس كهو شيء ، وكقوله :

__________________

(١) سورة الشمس : ٩١ / ٥.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٢٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٩٥.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٧٥.

(٥) سورة الشورى : ٤٢ / ١١.

٦٥٢

فصيروا مثل كعصف مأكول وكقوله :

يا عاذلي دعني من عذلكا

مثلي لا يقبل من مثلكا

وقيل : ليست بزائدة. والمثلية هنا متعلقة بالاعتقاد ، أي فإن اعتقدوا مثل اعتقادكم ، أو متعلقة بالكتاب ، أي فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به. والمعنى : فإن آمنوا بكتابكم المماثل لكتابهم ، أي فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل ، وعلى هذا التأويل ، لا تكون الباء زائدة ، بل هي مثلها في قوله : آمنت بالكتاب. وقالت فرقة : هذا من مجاز الكلام ، يقول : هذا أمر لا يفعله مثلك ، أي لا تفعله أنت. والمعنى : فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، وهذا يؤول إلى إلغاء مثل ، وزيادتها من حيث المعنى. وقال الزمخشري : بمثل ما آمنتم به من باب التبكيت ، لأن دين الحق واحد ، لا مثل له ، وهو دين الإسلام. (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (١) ، فلا يوجد إذا دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقا ، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له ، كانوا مهتدين ، فقيل : فإن آمنوا بكلمة الشك ، على سبيل العرض ، والتقدير : أي فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم ، مساويا له في الصحة والسداد.

(فَقَدِ اهْتَدَوْا) : وفيه أن دينهم الذي هم عليه ، وكل دين سواه مغاير له غير مماثل ، لأنه حق وهدى ، وما سواه باطل وضلال ، ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه : هذا هو الرأي الصواب ، فإن كان عندك رأي أصوب منه ، فاعمل به ، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه. انتهى كلامه ، وهو حسن. وجواب الشرط قوله : (فَقَدِ اهْتَدَوْا) ، وليس الجواب محذوفا ، كهو في قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ) (٢) لمعنى تكذيب الرسل قطعا ، واستقبال الهداية هنا ، لأنها معلقة على مستقبل ، ولم تكن واقعة قبل.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) : أي إن أعرضوا عن الدخول في الإيمان. (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) : أكد الجملة الواقعة شرطا بأن ، وتأكد معنى الخبر بحيث صار ظرفا لهم ، وهم مظروفون له. فالشقاق مستول عليهم من جميع جوانبهم ، ومحيط بهم إحاطة البيت بمن فيه. وهذه

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٨٥.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٤.

٦٥٣

مبالغة في الشقاق الحاصل لهم بالتولي ، وهذا كقوله : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١) ، (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) (٢) ، هو أبلغ من قولك : زيد مشاق لعمرو ، وزيد ضال ، وبكر سفيه. والشقاق هنا : الخلاف ، قاله ابن عباس ، أو العداوة ، أو الفراق ، أو المنازعة ، قاله زيد بن أسلم ، أو المجادلة ، أو الضلال والاختلاف ، أو خلع الطاعة ، قاله الكسائي ؛ أو البعاد والفراق إلى يوم القيامة. وهذه تفاسير للشقاق متقاربة المعنى. وقد ذكرنا مدار ذلك في المفردات على معنيين : إما من المشقة ، وإما أن يصير في شق وصاحبه في شق ، أي يقع بينهم خلاف. قال القاضي : ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق ، لأن الشقاق في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ، وهذا وعيد لهم. انتهى.

(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) : لما ذكر أن توليهم يترتب عليه الشقاق ، وهو العداوة العظيمة ، أخبر تعالى أن تلك العداوة لا يصلون إليك بشيء منها ، لأنه تعالى قد كفاه شرهم. وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله ، كفايته ومنعه منهم ، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه ، وغلبته إياهم ، لأن من كان مشاقا لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك ، إذا لم يتوصل إلى ذلك ، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوّة منعتك منه ، وهذا نظير قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٣). وكفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع ، والنفي في بني النضير ، والجزية في نصارى نجران. وعطف الجملة بالفاء مشعر بتعقب الكفاية عقيب شقاقهم ، والمجيء بالسين يدل على قرب الاستقبال ، إذ السين في وضعها أقرب في التنفيس من سوف ، والذوات ليست المكفية ، فهو على حذف مضاف ، أي فسيكفيك شقاقهم ، والمكفي به محذوف ، أي بمن يهديه الله من المؤمنين ، أو بتفريق كلمة المشاقين ، أو بإهلاك أعيانهم وإذلال باقيهم بالسبي والنفي والجزية ، كما بيناه.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، مناسبة هاتين الصفتين : أن كلا من الإيمان وضدّه مشتمل على أقوال وأفعال ، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال ، فناسب أن يختتم ذلك بهما ، أي وهو السميع لأقوالكم ، العليم بنياتكم واعتقادكم. ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن ، قدّمت صفة السميع على العليم ، ولأن العليم فاصلة أيضا. وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد ، لأن المعنى ، وهو السميع العليم ، فيجازيكم بما يصدر منكم.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٦٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٦٦.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٦٧.

٦٥٤

(صِبْغَةَ اللهِ) : أي دين الله ، قاله ابن عباس وسمي صبغة لظهور أثر الدين على صاحبه ، كظهور أثر الصبغ على الثوب ، ولأنه يلزمه ولا يفارقه ، كالصبغ في الثوب ، أو فطرة الله ، قاله مجاهد ومقاتل ؛ أو خلقة الله ، قاله الزجاج وأبو عبيد ؛ أو سنة الله ، قاله أبو عبيدة ؛ أو الإسلام ، قاله مجاهد أيضا ؛ أو جهة الله يعني القبلة ، قاله ابن كيسان ؛ أو حجة الله على عباده ، قاله الأصم : أو الختان ، لأنه يصبغ صاحبه بالدم. والنصارى إذا ولد لهم مولود غمسوه في السابع في ماء يقال له المعمودية ، فيتطهر عندهم ويصير نصرانيا. استغنوا به عن الختان ، فردّ الله عليهم بقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) ، أو الاغتسال للدّخول في الإسلام عوضا عن ماء المعمودية ، حكاه الماوردي ؛ أو القربة إلى الله ، حكاه ابن فارس في المجمل ؛ أو التلقين ، يقال : فلان يصبغ فلانا في الشيء ، أي يدخله فيه ويلزمه إياه ، كما يجعل الصبغ لازما للثوب. وهذه أقوال متقاربة ، والأقرب منها هو الدين والملة ، لأن قبله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) الآية. وقد تضمنت هذه الآية أصل الدين الحنيفي ، فكنى بالصبغة عنه ، ومجازه ظهور الأثر ، أو ملازمته لمن ينتحله. فهو كالصبغ في هذين الوصفين ، كما قال. وكذلك الإيمان ، حين تخالط بشاشة القلوب. والعرب تسمي ديانة الشخص لشيء ، واتصافه به صبغة. قال بعض شعراء ملوكهم :

وكل أناس لهم صبغة

وصبغة همدان خير الصبغ

صبغنا على ذاك أبناءنا

فأكرم بصبغتنا في الصبغ

وقد روي عن ابن عباس أن الأصل في تسمية الدين صبغة : أن عيسى حين قصد يحيى بن زكريا فقال : جئت لأصبغ منك ، وأغتسل في نهر الأردن. فلما خرج ، نزل عليه روح القدس ، فصارت النصارى يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم ، تشبيها بعيسى ، ويقولون : الآن صار نصرانيا حقا. وزعموا أن في الإنجيل ذكر عيسى بأنه الصابغ. ويسمون الماء الذي يغمسون فيه أولادهم : المعمودية ، بالدال ، ويقال : المعمورية بالراء. قال : ويسمون ذلك الفعل التغميس ، ومنهم من يسميه الصبغ ، فردّ الله ذلك بقوله : (صِبْغَةَ اللهِ). وقال الراغب : الصبغة إشارة إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها عن البهائم ، ورشحنا بها لمعرفته ومعرفة طلب الحق ، وهو المشار إليه بالفطرة. وسمي ذلك بالصبغة من حيث أن قوى الإنسان ، إذا اعتبرت ، جرت مجرى الصبغة في المصبوغ ، ولما كانت النصارى ، إذا لقنوا أولادهم النصرانية يقولون : نصرناه ، فقال : إن الإيمان بمثل ما آمنتم به صبغة الله.

٦٥٥

وقرأ الجمهور : صبغة الله بالنصب ، ومن قرأ برفع ملة ، قرأ برفع صبغة ، قاله الطبري. وقد تقدّم أن تلك قراءة الأعرج وابن أبي عبلة. فأما النصب ، فوجه على أوجه ، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ). وقيل : عن قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). وقيل : عن قوله : (فَقَدِ اهْتَدَوْا) وقيل : هو نصب على الإغراء ، أي الزموا صبغة الله. وقيل : بدل من قوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) ، إلا إن قدر هناك قول ، وهو إضمار ، لا حاجة تدعو إليه ، ولا دليل من الكلام عليه. وأما البدل ، فهو بعيد ، وقد طال بين المبدل منه والبدل بجمل ، ومثل ذلك لا يجوز. والأحسن أن يكون منتصبا انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : (قُولُوا آمَنَّا) ، فإن كان الأمر للمؤمنين ، كان المعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة ، ولم يصبغ صبغتكم. وإن كان الأمر لليهود والنصارى ، فالمعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا ، وطهرنا به تطهيرا لا مثل تطهيرنا. ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (١) ، إذ قبله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (٢) ، معناه : صنع الله ذلك صنعه ، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة ، كما تقول لرجل يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، يريد رجلا يصطنع الكرم. وأما قراءة الرفع ، فذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك الإيمان صبغة الله.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) : هذا استفهام ومعناه : النفي ، أي ولا أحد أحسن من الله صبغة. وأحسن هنا لا يراد بها حقيقة التفضيل ، إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن ، أو يراد التفضيل ، باعتبار من يظن أن في صبغة غير الله حسنا ، لا أن ذلك بالنسبة إلى حقيقة الشيء. وانتصاب صبغة هنا على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ. وقد ذكرنا أن ذلك غريب ، أعني نص النحويين على أن من التمييز المنقول تمييزا نقل من المبتدأ ، والتقدير : ومن صبغته أحسن من صبغة الله. فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين ، لا بين الصابغين.

(وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) : متصل بقوله : (آمَنَّا بِاللهِ) ، ومعطوف عليه. قال الزمخشري : وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة ، أو نصب على الإغراء ، بمعنى : عليكم صبغة الله ، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٨٨.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٨٨.

٦٥٦

واتساقه. وانتصابها يعني : صبغة الله على أنها مصدر مؤكد ، هو الذي ذكره سيبويه ، والقول ما قالت حذام. انتهى. وتقديره : في الإغراء عليكم صبغة الله ليس بجيد ، لأن الإغراء ، إذا كان بالظرف والمجرور ، لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور ، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدرناه بألزموا صبغة الله. وتقدم الكلام على العبادة في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (١) ، وأما هنا فقيل : عابدون موحدون ، ومنه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢) ، أي ليوحدون. وقيل : مطيعون متبعون ملة إبراهيم وصبغة الله. وقيل : خاضعون مستكينون في اتباع ملة إبراهيم ، غير مستكبرين ، وهذه أقوال متقاربة.

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) : سبب النزول ، قيل : إن اليهود والنصارى قالوا : يا محمد! إن الأنبياء كانوا منا ، وعلى ديننا ، ولم تكن من العرب ، ولو كنت نبيا ، لكنت منا وعلى ديننا. وقيل : حاجوا المسلمين فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه وأصحاب الكتاب الأول ، وقبلتنا أقدم ، فنحن أولى بالله منكم ، فأنزلت. قرأ الجمهور : أتحاجوننا بنونين ، إحداهما نون الرفع ، والأخرى الضمير؟ وقرأ زيد بن ثابت ، والحسن ، والأعمش ، وابن محيصن : بإدغام النون في النون ، وأجاز بعضهم حذف النون. أما قراءة الجمهور فظاهرة ، وأما قراءة زيد ومن ذكر معه ، فوجهها أنه لما التقى مثلان ، وكان قبل الأول حرف مدّ ولين ، جاز الإدغام كقولك : هذه دار راشد ، لأن المد يقوم مقام الحركة في نحو : جعل لك. وأما جواز حذف النون الأولى ، فوجهه من أجاز ذلك على قراءة من قرأ : فبم تبشرون ، بكسر النون ، وأنشدوا :

تراه كالثغام يعل مسكا

يسوء الفاليات إذا قليني

يريد : قلينني. والخطاب بقوله : قل للرسول ، أو للسامع ، والهمزة للاستفهام مصحوبا بالإنكار عليهم ، والواو ضمير اليهود والنصارى. وقيل : مشركو العرب ، إذ قالوا : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. وقيل : ضمير اليهود والنصارى والمشركين. والمحاجة هنا : المجادلة. والمعنى : أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم ، وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا ، وترونكم أحق بالنبوّة منا؟ (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) : جملة حالية ، يعني أنه مالكهم كلهم ، فهم مشتركون في العبودية ، فله أن يخص من شاء بما شاء من الكرامة. والمعنى : أنه مع اعترافنا كلنا أنا مربوبون لرب

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٥.

(٢) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٦.

٦٥٧

واحد ، فلا يناسب الجدال فيما شاء من أفعاله ، وما خص به بعض مربوباته من الشرف والزلفى ، لأنه متصرف في كلهم تصرف المالك. وقيل المعنى : أتجادلوننا في دين الله ، وتقولون إن دينكم أفضل الأديان ، وكتابكم أفضل الكتب؟ والظاهر إنكار المجادلة في الله ، حيث زعمت النصارى أن الله هو المسيح ، وحيث زعم بعضهم أن الله ثالث ثلاثة ، وحيث زعمت اليهود أن الله له ولد ، وزعموا أنه شيخ أبيض الرأس واللحية ، إلى ما يدعونه فيه من سمات الحدوث والنقص ، تعالى الله عن ذلك ، فأنكر عليهم كيف يدعون ذلك ، والرب واحد لهم ، فوجب أن يكون الاعتقاد فيه واحدا ، وهو أن تثبت صفاته العلا ، وينزه عن الحدوث والنقص.

(وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) ، المعنى : ولنا جزاء أعمالنا ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. والمعنى : أن الرب واحد ، وهو المجازي على الأعمال ، فلا تنبغي المجادلة فيه ولا المنازعة. (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) : ولما بين القدر المشترك من الربوبية والجزاء ، ذكر ما يميز به المؤمنون من الإخلاص لله تعالى في العمل والاعتقاد ، وعدم الإشراك الذي هو موجود في النصارى وفي اليهود ، لأن من عبد موصوفا بصفات الحدوث والنقص ، فقد أشرك مع الله إلها آخر. والمعنى : أنا لم نشب عقائدنا وأفعالنا بشيء من الشرك ، كما ادعت اليهود في العجل ، والنصارى في عيسى. وهذه الجملة من باب التعريض بالذم ، لأن ذكر المختص بعد ذكر المشترك نفي لذلك المختص عمن شارك في المشترك ، ويناسب أن يكون استطرادا ، وهو أن يذكر معنى يقتضي أن يكون مدحا لفاعله وذما لتاركه ، نحو قوله :

وأنا لقوم ما نرى القتل سبة

إذا ما رأته عامر وسلول

وهي منبهة على أن من أخلص لله ، كان حقيقا أن يكون منهم الأنبياء وأهل الكرامة ، وقد كثرت أقوال أرباب المعاني في الإخلاص. فروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ فقال : سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو؟ فقال : سر من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي». وقال سعيد بن جبير : الإخلاص : أن لا يشرك في دينه ، ولا يرائي في عمله أحدا. وقال الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وقال ابن معاذ : تمييزا لعمل من الذنوب ، كتمييز اللبن من بين الفرث والدم. وقال البوشنجي : هو معنى لا يكتبه الملكان ، ولا يفسده الشيطان ، ولا يطلع عليه الإنسان ، أي لا يطلع عليه إلا الله.

٦٥٨

وقال رويم : هو ارتفاع عملك عن الرؤية. وقال حذيفة المرعشي : أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن. وقال أبو يعقوب المكفوف : أن يكتم العبد حسناته ، كما يكتم سيئاته. وقال سهل : هو الإفلاس ، ومعناه أن يرجع إلى احتقار العمل. وقال أبو سليمان الداراني : للمرائي ثلاث علامات : يكسل إذا كان وحده ، وينشط إذا كان في الناس ، ويزيد في العمل إذا أثني عليه. وهذا القول الذي أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله على وجه الشفقة والنصيحة في الدين ، لينبهوا على أن تلك المجادلة منكم ليست واقعة موقع الصحة ، ولا هي مما ينبغي أن تكون. وليس مقصودنا بهذا التنبيه دفع ضرر منكم ، وإنما مقصودنا نصحكم وإرشادكم إلى تخليص اعتقادكم من الشرك ، وأن تخلصوا كما أخلصنا ، فنكون سواء في ذلك.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) : قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : أم تقولون بالتاء ، وقرأ الباقون بالياء. فأما قراءة التاء ، فيحتمل أم فيه وجهين. أحدهما : أن تكون فيه أم متصلة ، فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين : المحاجة في الله ، والادعاء على إبراهيم ومن ذكر معه ، أنهم كانوا يهودا ونصارى ، وهو استفهام صحبه الإنكار والتقريع والتوبيخ ، لأن كلا من المستفهم عنه ليس بصحيح. الوجه الثاني : أن تكون أم فيه منقطعة ، فتقدّر ببل والهمزة ، التقدير : بل أتقولون ، فأضرب عن الجملة السابقة ، وانتقل إلى الاستفهام عن هذه الجملة اللاحقة ، على سبيل الإنكار أيضا ، أي أن نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه ، ليست بصحيحة ، بشهادة القول الصدق الذي أتى به الصادق من قوله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) (١) ، وبشهادة التوراة والإنجيل على أنهم كانوا على التوحيد والحنيفية ، وبشهادة أن اليهودية والنصرانية لمن اقتفى طريقة عيسى ، وبأن ما يدعونه من ذلك قول بلا برهان ، فهو باطل. وأما قراءة الياء ، فالظاهر أن أم فيها منقطعة. وحكى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، عن بعض النحاة : أنها ليست بمنقطعة ، لأنك إذا قلت : أتقوم أم يقوم عمرو؟ فالمعنى : أيكون هذا أم هذا؟ وقال ابن عطية : هذا المثال يعني : أتقوم أم يقوم عمرو؟ غير جيد ، لأن القائل فيه واحد ، والمخاطب واحد ، والقول في الآية من اثنين ، والمخاطب اثنان غير أن ، وإنما يتجه معادلة أم للألف على الحكم المعنوي ، كان معنى قل أتحاجوننا ، أيحاجون يا محمد ، أم يقولون؟ انتهى. ومعنى بقوله : لأن القائل فيه واحد ، يعني في المثال الذي هو : أيقوم أم يقوم عمرو؟ فالناطق بهاتين

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٦٧.

٦٥٩

الجملتين هو واحد ، وقوله والمخاطب واحد ، يعني الذي خوطب بهذا الكلام ، والمعادلة وقعت بين قيام المواجه بالخطاب وبين قيام عمرو وقوله. والقول في الآية من اثنين ، يعني أن أتحاجوننا من قول الرسول ، إذ أمر أن يخاطبهم بذلك ، وأ تقولون بالتاء من قول الله تعالى. وقوله والمخاطب اثنان غير أن ، أما الأول فقوله أتحاجوننا ، وأما الثاني فهو للرسول وأمته الذين خوطبوا بقوله : أم يقولون. وقال الزمخشري : وفيمن قرأ بالياء ، لا تكون إلا منقطعة. انتهى. ويمكن الاتصال فيها مع قراءة التاء ، ويكون ذلك من الالتفات ، إذ صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة ، والضمير لناس مخصوصين. والأحسن أن تكون أم في القراءتين معا منقطعة ، وكأنه أنكر عليهم محاجتهم في الله ونسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية ، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم. ألا ترى إلى قوله تعالى : قل (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) (١) الآيات. وإذا جعلناها متصلة ، كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين ، بل إحداهما ، وصار السؤال عن تعيين إحداهما ، وليس الأمر كذلك ، إذ وقعا معا. والقول في أو في قول : (هُوداً أَوْ نَصارى) ، قد تقدّم في قوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى). وقوله : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) ، وأنها للتفصيل ، أي قالت اليهود : هم يهود ، وقالت النصارى : هم نصارى.

(قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) : القول في القراءات في أأنتم ، كهو في قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) (٢) ، وقد توسط هنا المسئول عنه ، وهو أحسن من تقدمه وتأخره ، إذ يجوز في العربية أن يقول : أأعلم أنتم أم الله؟ ويجوز : أأنتم أم الله أعلم؟ ولا مشاركة بينهم وبين الله في العلم حتى يسأل : أهم أزيد علما أم الله؟ ولكن ذلك على سبيل التهكم بهم والاستهزاء ، وعلى تقدير أن يظن بهم علم ، وهذا نظير قول حسان :

فشركما لخيركما الفداء

وقد علم أن الذي هو خير كله ، هو الرسول عليه‌السلام ، وأن الذي هو شر كله ، هو هاجيه. وفي هذا ردّ على اليهود والنصارى ، لأن الله قد أخبر بقوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣) ، ولأن اليهودية والنصرانية إنما حدثتا بعد إبراهيم ، ولأنه أخبر في التوراة والإنجيل أنهم كانوا مسلمين مميزين عن

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٦٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٦.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٦٧.

٦٦٠