البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

وقيل : معناه التصقت بهم ، من ضربت الحائط بالطين : ألصقته به. وقيل : معناه جعلت من ضربت الطين خزفا ، أي جعلت عليهم الذلة والمسكنة. أما الذلة فقيل : هي هوانهم بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدّونها عن يد وهم صاغرون ، وقيل : هي ما ألزموا به من إظهار الزيّ ليعلم أنهم يهود ، ولا يلتبسوا بالمسلمين ، وقيل : فقر النفس وشحها ، فلا ترى ملة من الملل أذل وأحرص من اليهود. وأما المسكنة : فالخشوع ، فلا يرى يهودي إلا وهو بادي الخشوع ، أو الخراج ، وهو الجزية ، قاله الحسن وقتادة ، أو الفاقة والحاجة ، قاله أبو العالية ، أو ما يظهرونه من سوء حالهم مخافة أن تضاعف عليهم الجزية ، أو الضعف ، فتراه ساكن الحركات قليل النهوض. واستبعد صاحب المنتخب قول من فسر الذلة بالجزية ، لأن الجزية لم تكن مضروبة عليهم من أول أمرهم. وقيل : هو من المعجزات ، لأنه أخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فكان كما أخبر ، والمضروب عليهم الذلة والمسكنة اليهود المعاصرون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الجمهور ، أو الذين كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغير حق. والقائلون : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) (١) ، ومن تابعهم من أبنائهم أقوال ثلاثة.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) : تقدم تفسير باء ، فعلى من قال : باء : رجع ، تكون الباء للحال ، أي مصحوبين بغضب ، ومن قال : استحق ، فالباء صلة نحو : لا يقرأن بالسور : أي استحقوا غضبا ، ومن قال : نزل وتمكن أو تساووا ، والباء ظرفية ، فعلى القول الأول تتعلق بمحذوف ، وعلى الثاني لا تتعلق ، وعلى الثالث بنفس باء. وزعم الأخفش أن الباء في قوله بغضب للسبب ، فعلى هذا تتعلق بباء ، ويكون مفعول باء محذوفا ، أي استحقوا العذاب بسبب غضب الله عليهم. وباء يستعمل في الخير : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) (٢) ، (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) (٣) ، (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) (٤). وفي الشر : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) (٥) ، (أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) (٦) ، (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) (٧). وقد جاء استعمال المعنيين في الحديث : «أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي». وقال بعض الناس : باء لا تجيء إلا في الشر. والغضب هنا ما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا ، أو ما يحل بهم من العذاب في الآخرة. ويكون باؤوا في معنى يبوؤون ، نحو (أَزِفَتِ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٨ ـ ٧٠ ، وسورة الأعراف : ٧ / ١٣٤.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٥٨.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٩٣.

(٤) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢٩.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ١١٢.

(٦) سورة المائدة : ٥ / ٢٩.

(٧) سورة البقرة : ٢ / ٩٠.

٣٨١

الْآزِفَةُ) (١) ، (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) (٢). (مِنَ اللهِ) يحتمل أن يكون متعلقا بباءوا إذا كان باء بمعنى رجع ، وكأنهم كانوا مقبلين على الله تعالى ، فبعصيانهم رجعوا منه ، أي من عنده بغضب. ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف ويكون في موضع الصفة ، أي بغضب كائن من الله ، وهذا الوجه ظاهر إذا كان باء بمعنى استحق ، أو بمعنى نزل وتمكن ، ويبعد الوجه الأول ، وفي وصف الغضب بكونه من الله تعظيم للغضب ، وتفخيم لشأنه. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) الإشارة إلى المباءة بالغضب ، أو المباءة. والضرب وهو مبتدأ ، والجار والمجرور بعده خبر ، والباء للسبب ، أي ذلك كائن بكفرهم وقتلهم.

(كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) : الآيات المعجزات التسع وغيرها التي أتى بها موسى ، أو التوراة ، أو آيات منها ، كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو فيها الرّجم ، أو القرآن ، أو جميع آيات الله المنزلة على الرسل ، أقوال خمسة ، وإضافة الآيات إلى الله لأنها من عنده تعالى. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) : قتلوا يحيى وشعيا وزكريا. وروي عن ابن مسعود قتل بنو إسرائيل سبعين نبيا ، وفي رواية ثلاثمائة نبي في أول النهار ، وقامت سوق قتلهم في آخره. وعلى هذا يتوجه قراءة من قرأ : يقتلون بالتشديد لظهور المبالغة في القتل ، وهي قراءة علي. وقرأ الحسن : وتقتلون بالتاء ، فيكون ذلك من الالتفات. وروي عنه بالياء كالجماعة ، ولا فرق في الدلالة بين النبيين والأنبياء ، لأن الجمعين إذا دخلت عليهما أل تساويا بخلاف حالهما إذا كانا نكرتين ، لأن جمع السلامة إذ ذاك ظاهر في القلة ، وجمع التكسير على أفعلاء ظاهر في الكثرة. وقرأ نافع : بهمز النبيين والنبيء والأنبياء والنبوءة ، إلا أن قالون أبدل وأدغم في الأحزاب في : (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) (٣) إن أراد وفي (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ) (٤) ، في الوصل. وقرأ الجمهور بغير همز ، وقد تقدّم الكلام عليه في المفردات.

(بِغَيْرِ الْحَقِ) : متعلق بقوله : وتقتلون ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير في تقتلون ، أي تقتلونهم مبالغة. قيل : ويجوز أن تكون منعة لمصدر محذوف ، أي قتلا بغير حق. وعلى كلا الوجهين هو توكيد ، ولم يرد هذا على أن قتل النبيين ينقسم إلى قتل بحق وقتل بغير حق ، بل ما وقع من قتلهم إنما وقع بغير حق ، لأن النبي معصوم من أن يأتي أمرا يستحق عليه فيه القتل ، وإنما جاء هذا القيد على سبيل التشنيع لقتلهم ، والتقبيح

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٥٧.

(٢) سورة القمر : ٥٤ / ١.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٠.

(٤) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٣.

٣٨٢

لفعلهم مع أنبيائهم ، أي بغير الحق عندهم ، أي لم يدّعوا في قتلهم وجها يستحقون به القتل عندهم. وقيل : جاء ذلك على سبيل التأكيد كقوله : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (١) ، إذ لا يقع قتل نبي إلا بغير الحق ، ولم يأت نبي قط بما يوجب قتله ، وإنما قتل منهم من قتل كراهة له وزيادة في منزلته. قال ابن عباس وغيره : لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر. قيل : وعرّف الحق هنا لأنه أشير به إلى المعهود في قوله عليه‌السلام : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث. وأما المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك حق لا ما يعرفه المسلمون ولا غيره.

(ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ، ذلك : رد على الأول وتكرير له ، فأشير به لما أشير بذلك الأول ، ويجوز أن تكون إشارة إلى الكفر والقتل المذكورين ، فلا يكون تكريرا ولا توكيدا ، ومعناه : أن الذي حملهم على جحود آيات الله وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ، فجسرهم هذا على ذلك ، إذ المعاصي بريد الكفر. (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢) ، (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) (٣) ، وقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) (٤). وقد تقدّم تفسير العصيان والاعتداء لغة ، وقد فسر الاعتداء هنا أنه تجاوزهم ما حدّ الله لهم من الحق إلى الباطل. وقيل : التمادي على المخالفة وقتل الأنبياء. وقيل : العصيان بنقض العهد والاعتداء بكثرة قتل الأنبياء. وقيل : الاعتداء بسبب المخالفة والإقامة على ذلك الزمن الطويل أثر عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسائة سنة حين كثير فيهم أولاد السبايا ، واختلفوا بعد عيسى بمائة سنة». وقيل : هو الاعتداء في السبت ، قال تعالى : (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) (٥). وما : في قوله (بِما عَصَوْا) مصدرية ، أي ذلك بعصيانهم ، ولم يعطف الاعتداء على العصيان لئلا يفوت تناسب مقاطع الآي ، وليدل على أن الاعتداء صار كالشيء الصادر منهم دائما. ولما ذكر تعالى حلول العقوبة بهم من ضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب ، بين علة ذلك ، فبدأ بأعظم الأسباب في ذلك ، وهو كفرهم بآيات الله. ثم ثنى بما يتلو ذلك في العظم وهو قتل الأنبياء ، ثم أعقب ذلك بما يكون من المعاصي ، وما يتعدى من الظلم. قال معنى هذا صاحب المنتخب ، ويظهر أن قوله ذلك

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٤٦.

(٢) سورة المطففين : ٨٣ / ١٤.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٨٨.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٥٥.

(٥) سورة النساء : ٤ / ١٥٤.

٣٨٣

بأنهم كانوا يكفرون ويقتلون ، تعليل لضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب ، وأن الإشارة بقوله (ذلِكَ بِما عَصَوْا) إشارة إلى الكفر والقتل ، وبما تعليل لهما فيعود العصيان إلى الكفر ، ويعود الاعتداء إلى القتل ، فيكون قد ذكر شيئين وقابلهما بشيئين. كما ذكر أولا شيئين وهما : الضرب والمباءة ، وقابلهما بشيئين وهما : الكفر والقتل ، فجاء هذا لفا ونشرا في المؤمنين ، وذلك من محاسن الكلام وجودة تركيبه ، ويخرج بذلك عن التأكيد الذي لا يصار إليه إلا عند الحاجة ، وذلك بأن يكون الكلام يبعد أن يحمل على التأسيس.

وقد تضمنت هذه الآيات من لطائف الامتنان وغرائب الإحسان لبني إسرائيل فصولا ، منها : أنهم أمروا بدخول القرية التي بها يتحصنون ، والأكل من ثمراتها ما يشتهون ، ثم كلفوا النزر من العمل والقول ، وهو دخول بابها ساجدين ، ونطقهم بلفظة واحدة تائبين ، ورتب على هذا النزر غفران جرائمهم العظيمة وخطاياهم الجسيمة ، فخالفوا في الأمرين فعلا وقولا ، جريا على عادتهم في عدم الامتثال ، فعاقبهم على ذلك بأشد النكال. ثم ذكر تعالى ما كان عليه موسى عليه‌السلام من العطف عليهم وسؤال الخير لهم ، وذلك بأن دعا الله لهم بالسقيا ، فأحاله على فعل نفسه بأن أنشأ لهم ، من قرع الصفا بالعصا ، عيونا يجري بها ما يكفيهم من الماء ، معينا على الوصف الذي ذكره تعالى من كون تلك العيون على عدد الأسباط ، حتى لا يقع منهم مشاحة ولا مغالبة ، وأعلمهم بأن ذلك منه رزق ، وأمروا بالأكل منه والشرب ، ثم نهوا عن الفساد ، إذ هو سبب لقطع الرزق. ثم ذكر تعالى تبرمهم من الرزق الذي امتن به عليهم ، فلجوا في طلب ما كان مألوفهم إلى نبيهم فقالوا : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) ، وذلك جري على عادته معهم ، إذ كان يناجي ربه فيما كان عائدا عليهم بصلاح دينهم ودنياهم ، وذكر توبيخه لهم على ما سألوه من استبدال الخسيس بالنفيس ، وبما لا نصب في اكتسابه ما فيه العناء الشاق ، إذ ما طلبوه يحتاج إلى استفراغ أوقاتهم المعدة لعبادة ربهم في تحصيله ، ومع ذلك فصارت أغذية مضرة مؤذية جالبة أخلاطا رديئة ، ينشأ عنها طمس أنوار الأبصار والبصائر ، بخلاف ما رزقهم الله ، إذ هو شيء واحد جيد ، ينشأ عنه صحة البدن وجودة الإدراك.

كان الخليل بن أحمد ، رحمه‌الله ، يستف دقيق الشعير ، ويشرب عليه الماء العذب ، وكان ذهنه أشرق أذهان أهل زمانه ، وكان قوي البدن يغزو سنة ويحج أخرى. ثم أمروا بالحلول فيما فيه مطلبهم والهبوط إلى معدن ما سألوه ، ثم أخبر تعالى بما عاقبهم به من جعلهم أذلاء مساكين ومبائتهم بغضبه ، وإن ذلك متسبب عن كفرهم بالآيات التي هي سبب

٣٨٤

الإيمان ، لما احتوت عليه من الخوارق التي أعجزت الإنس والجان ، وعن قتلهم من كان سببا لهدايتهم ، وهم الأنبياء ، إذ باتباعهم يحصل العز في الدنيا والفوز في الأخرى ، وأن الذي جرّ الكفر والقتل إليهم هو العصيان والاعتداء اللذان كانا سبقا منهم قبل تعاطي الكفر والقتل.

إن الأمور صغيرها

مما يهيج له العظيم

وقال :

والشر تحقره وقد ينمى

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)

هاد : ألفه منقلبة عن واو ، والمضارع يهود ، ومعناه : تاب ، أو عن ياء والمضارع يهيد ، إذا تحرك. والأولى الأول لقوله تعالى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) (١). وسيأتي الكلام على لفظة اليهود حيث انتهينا إليها في القرآن ، إن شاء الله تعالى. والنصارى : جمع نصران ونصرانه ، مثل ندمان وندمانه. قال سيبويه وأنشد :

وكلتاهما خرت وأسجد رأسها

كما سجدت نصرانة لم تحنف

وأنشد الطبري :

يظل إذا دار العشي محنفا

ويضحى لديه وهو نصران شامس

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٦.

٣٨٥

منع نصرانا الصرف ضرورة ، وهو مصروف لأن مؤنثه على نصرانه. قال سيبويه : إلا أنه لا يستعمل في الكلام إلا بياء النسب ، فيكون : كلحيان ولحياني وكأحمري. وقال الخليل : واحد النصارى نصرى ، كمهرى ومهاري. قيل : وهو منسوب إلى نصرة ، قرية نزل بها عيسى. وقال قتادة : نسبوا إلى ناصرة ، وهي قرية نزلوها. فعلى هذا يكون من تغييرات النسب. والصابئين : الصائبون ، قيل : الخارجون من دين مشهور إلى غيره ، من صبوء السن والنجم ، يقال : صبأت النجوم : طلعت ، وصبأت ثنية الغلام : خرجت ، وصبأت على القوم بمعنى : طرأت ، قال :

إذا صبأت هوادي الخيل عنا

حسبت بنحرها شرق البعير

ومن قرأ بغير همز فسنتكلم على قراءته. قال الحسن والسدي : هم بين اليهود والمجوس. وقال قتادة والكلبي : هم بين اليهود والنصارى ، يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم. وقال الخليل : هم أشباه النصارى ، قبلتهم مهب الجنوب ، يقرون بنوح ، ويقرؤون الزبور ، ويعبدون الملائكة. وقال عبد العزيز بن يحيى : لا عين منهم ولا أثر. وقال المغربي ، عن الصابي صاحب الرسائل : هم قريب من المعتزلة ، يقولون بتدبير الكواكب. وقال مجاهد : هم قوم لا دين لهم ، ليسوا بيهود ولا نصارى. قال ابن أبي نجيح : قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية ، لا تؤكل ذبائحهم. وقال ابن زيد : قوم يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ، كانوا بالجزيرة والموصل. وروي عن الحسن وقتادة أيضا أنهم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون الخمس للقبلة ، ويقرؤون الزبور ، رآهم زياد بن أبي سفيان ، فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة. وقال ابن عباس : هم قوم من اليهود والنصارى ، لا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبائحهم. وقال أبو العالية : قوم من أهل الكتاب ، ذبائحهم كذبائح أهل الكتاب ، يقرؤون الزبور ، ويخالفونهم في بقية أفعالهم. وقال الحسن والحكم : قوم كالمجوس. وقيل : قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ، وأنها فعالة. وأفتى أبو سعيد الأصطخري القادر بالله حين سأله عنهم بكفرهم. وقيل : قوم يعبدون الكواكب ، ثم لهم قولان : أحدهما : أن خالق العالم هو الله ، إلا أنه أمر بتعظيم الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والتعظيم والدعاء. الثاني : أنه تعالى خالق الأفلاك والكواكب ، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض ، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ، ثم إنها تعبد الله ، وهذا المذهب هو المنسوب للذين جاءهم إبراهيم عليه‌السلام رادا عليهم.

٣٨٦

الأجر : مصدر أجر يأجر ، ويطلق على المأجور به ، وهو الثواب. والأجور : جبر كسر معوج ، والأجار : السطح ، قال الشاعر :

تبدو هواديها من الغبار

كالجيش الصف على الأجار

الرفع : معروف ، وهو أعلى الشيء ، والفعل منه رفع يرفع ، الطور : اسم لكل جبل ، قال مجاهد وعكرمة وقتادة. أو الجبل المنبت دون غير المنبت ، قاله ابن عباس والضحاك ، أو الجبل الذي ناجى الله عليه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقال العجاج :

دانى جناحيه من الطور فر

تقضي البازي إذا البازي كسر

وقال آخر :

وإن تر سلمى الجن يستأنسوا بها

وإن ير سلمى صاحب الطور ينزل

وأصله الناحية ، ومنه طوار الدار. وقال مجاهد : هو جنس الجبل بالسريانية. القوة : الشدّة ، وهي مصدر قوي يقوى ، وطيء تقول : قوي ، يفتحون العين والتاء مفتوحة فتنقلب ألفا ، يقولون في بقي : بقي ، وفي زهي : زها ، وقد يوجد ذلك في لغة غيرهم. قال علقمة بن عبدة التميمي :

زها الشوق حتى ظل إنسان عينه

يفيض بمغمور من الدمع متأف

وهذه المادة قليلة ، وهي أن تكون العين واللام واوين. التولي : الإعراض بعد الإقبال. لولا : للتحضيض بمنزلة هلا ، فيليها الفعل ظاهرا أو مضمرا ، وحرف امتناع لوجود فيكون لها جواب ، ويجيء بعدها اسم مرفوع بها عند الفراء ، وبفعل محذوف عند الكسائي ، وبالابتداء عند البصريين ، والخبر محذوف عند جمهورهم ، وعند بعضهم فيه تفصيل ذكرناه في (منهج السالك) من تأليفنا ، وليست جملة الجواب الخبر ، خلافا لأبي الحسين بن الطراوة ، وإن وقع بعدها مضمر فيكون ضمير رفع مبتدأ عند البصريين ، ويجوز أن يقع بعدها ضمير الجرّ فتقول : لولاني ولولاك ولولاه ، إلى آخرها ، وهو في موضع جر بلو لا عند سيبويه ، وفي موضع رفع عند الأخفش ، استعير ضمير الجر للرفع ، كما استعاروا ضمير الرفع للجر في قولهم : ما أنا كانت ، ولا أنت كانا. والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. ومن ذهب إلى أن لولا نافية ، وجعل من ذلك (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) (١) ،

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٩٨.

٣٨٧

فبعيد قوله عن الصواب. السبت : اسم ليوم معلوم ، وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع ، أو من السبات ، وهو الدعة والراحة ، وقال أبو الفرج بن الجوزي : هذا خطأ لا يعرف في كلام العرب سبت بمعنى استراح ، والسبت : الحلق والسير ، قال الشاعر :

بمقوّرة الألياط أمّا نهارها

فسبت وأمّا ليلها فذميل

والسبت : النعل ، لأنه يقطع كالطحن والرعي. قال ابن جريج : سمي يوم السبت لأنه قطعة زمان ، قال لبيد :

وغنيت سبتا قبل مجرى داحس

لو كان للنفس اللحوح خلود

القرد : معروف ، ويجمع فعل الاسم قياسا على فعول نحو : قرد وقرود ، وجسم وجسوم ، وقليلا على فعلة نحو : قرد وقردة ، وحسل وحسلة. الخسء : الصغار والطرد ، والفعل : خسأ ، ويكون لازما ومتعدّيا ، يقال : خسأ الكلب خسوا : ذل وبعد ، وخسأته : طردته وأبعدته ، خسأ : كرجع رجوعا ، ورجعته رجعا. النكال : العبرة ، وأصله المنع ، والنكل : القيد. وقال مقاتل : النكال : العقوبة. اليد : عضو معروف أصله يدي ، وقد صرّح بهذا الأصل ، وقد أبدلوا ياءه همزة قالوا : قطع الله أديه : يريدون يديه ، وجمعت على أفعل ، قالوا : أيد ، أصله : أيدي ، وقد استعملت للنعمة والإحسان. وأما الأيادي فهو في الحقيقة جمع جمع ، واستعماله في النعمة أكثر من استعماله للجارحة ، كما أن استعمال الأيدي في الجارحة أكثر منه في النعمة. خلف : ظرف مكان مبهم ، وهو متوسط التصرف ، ويكون أيضا وصفا ، يقال رجل خلف : بمعنى رديء ، وسكت ألفا ونطق خلفا : أي نطقا رديئا. موعظة : مفعلة ، من الوعظ ، والوعظ : الإذكار بالخير بما يرق له القلب ، وكسر عين الكلمة فيما كان على هذا الوزن وعلى مفعل هو القياس ، وقد شذ : موءلة وكلم ، ذكرها النحويون جاءت مفتوحة العين.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) الآية. نزلت في أصحاب سلمان ، وذلك أنه صحب عبادا من النصارى ، فقال له أحدهم : إن زمان نبي قد أظل ، فإن لحقته فآمن به. ورأى منهم عبادة عظيمة ، فلما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر له خبرهم وسأله عنهم ، فنزلت هذه الآية ، حكى هذه القصة مطوّلة ابن إسحاق والطبري والبيهقي. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في أوّل الإسلام ، وقدر الله بها أن من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته ، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، فله أجره ، ثم نسخ ما قدر من ذلك

٣٨٨

بقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (١). وردّت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال غير ابن عباس : ليست بمنسوخة ، وهي فيمن ثبت على إيمانه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى الواحدي ، بإسناد متصل إلى مجاهد ، قال : لما قص سلمان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصة أصحابه ، وقال له هم في النار ، قال سلمان : فأظلمت عليّ الأرض ، فنزلت إلى (يَحْزَنُونَ) ، قال : فكأنما كشف عني جبل.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما ذكر الكفرة من أهل الكتاب ، وما حل بهم من العقوبة ، أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم ، دالا على أنه يجزي كلا بفعله ، والذين آمنوا منافقو هذه الأمّة ، أي آمنوا ظاهرا ، ولهذا قرنهم بمن ذكر بعدهم ، ثم بين حكم من آمن ظاهرا وباطنا ، قاله سفيان الثوري أو المؤمنون بالرسول. ومن آمن : معناه من دوام على إيمانه ، وفي سائر الفرق : من دخل فيه ، أو الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول : كزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، ومن لحقه : كأبي ذر ، وسلمان ، وبحيرا. ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون المبعث ، فمنهم من أدرك وتابع ، ومنهم من لم يدركه ، والذين هادوا كذلك ، ممن لم يلحق إلا من كفر بعيسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، والنصارى كذلك ، والصابئين كذلك ، قاله السدّي أو أصحاب سلمان ، وقد سبق حديثهم ، أو المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول ، قاله ابن عباس ، أو المؤمنون بموسى ، وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى فآمنوا به وعملوا بشريعته ، إلى أن جاء محمد ، قاله السدي عن أشياخه ، أو مؤمنو الأمم الخالية ، أو المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله من سائر الأمم. فهذه ثمانية أقوال في المعنى بالذين آمنوا والذين هادوا وهم اليهود.

وقرأ الجمهور : هادوا بضم الدال. وقرأ أبو السماك العدوي : بفتحها من المهاداة ، قيل : أي مال بعضهم إلى بعض ، فالقراءة الأولى مادتها هاء وواو ودال ، أو هاء وياء ودال ، والقراءة الثانية مادتها هاء ودال وياء ، ويكون فاعل من الهداية ، وجاء فيه فاعل موافقة فعل ، كأنه قيل : والذين هدوا ، أي هدوا أنفسهم نحو : جاوزت الشيء بمعنى جزته. (وَالنَّصارى) : الألف للتأنيث ، ولذلك منع الصرف في قوله : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) (٢) ، وهذا البناء ، أعني فعالى ، جاء مقصورا جمعا ، وجاء ممدودا مفردا ، وألفه للتأنيث أيضا نحو : براكاء : وقرأ الجمهور : والصابئين مهموزا ، وكذا والصابئون ، وتقدم

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٨٥.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١٤.

٣٨٩

معنى صبأ المهموز. وقرأ نافع : بغير همز ، فيحتمل وجهين أظهرهما أن يكون من صبأ : بمعنى مال ، ومنه قول الشاعر :

إلى هند صبا قلبي

وهند مثلها يصبي

والوجه الآخر يكون أصله الهمز ، فسهل بقلب الهمز ألفا في الفعل وياء في الاسم ، كما قال الشاعر :

إن السباع لتهدي في مرابضها

والناس ليس بهاد شرهم أبدا

وقال الآخر :

وكنت أذل من وتد بقاع

يشجج رأسه بالفهرواج

وقال آخر :

فارعى فزارة لا هناك المرتع

إلا أن قلب الهمزة ألفا يحفظ ولا يقاس عليه. وأما قلب الهمزة ياء فبابه الشعر ، فلذلك كان الوجه الأول أظهر. وذكر بعض المفسرين مسائل من أحكام اليهود والنصارى. (وَالصَّابِئِينَ) : لا يدل عليها لفظ القرآن هنا ، فلم يذكرها ، وموضعها كتب الفقه.

(مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، من : مبتدأة ، ويحتمل أن تكون شرطية ، فالخبر الفعل بعدها ، وإذا كانت موصولة ، فالخبر قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) ، ودخلت الفاء في الخبر ، لأن المبتدأ الموصول قد استوفى شروط جواز دخول الفاء في الخبر ، وقد تقدم ذكرها. واتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله : (مَنْ آمَنَ) في موضع خبر إن إذا كان من مبتدأ ، وإن الرابط محذوف تقديره : من آمن منهم ، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير الإيمانين ، أعني : الذي هو صلة الذين ، والذي هو صلة من ، إما في التعليق ، أو في الزمان ، أو في الإنشاء والاستدامة. وأما إذا لم يتغايرا ، فلا يتم ذلك ، لأنه يصير المعنى : إن الذين آمنوا : من آمن منهم ، ومن كانوا مؤمنين ، لا يقال : من آمن منهم إلا على التغاير بين الإيمانين. وذهب بعض الناس إلى أن ذلك على الحذف ، وأن التقدير : إن الذين آمنوا لهم أجرهم عند ربهم ، (وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ) منهم ، أي من الأصناف الثلاثة ، فلهم أجرهم ، وذلك لما لم يصلح أن يكون عنده من آمن خبرا عن الذين آمنوا ، ومن بعدهم. ومن أعرب من مبتدأ ، فإنما جعلها شرطية. وقد ذكرنا جواز كونها موصولة ، وأعربوا أيضا من بدلا ، فتكون منصوبة موصولة. قالوا : وهي بدل من اسم إن وما بعده ، ولا

٣٩٠

يتم ذلك أيضا إلا على تقدير تغاير الإيمانين ، كما ذكرنا ، إذا كانت مبتدأة. والذي نختاره أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن ، فيصح إذ ذاك المعنى ، وكأنه قيل : إن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة ، ومن آمن من الأصناف الثلاثة ، فلهم أجرهم. ودخلت الفاء في الخبر ، لأن الموصول ضمن معنى الشرط ، ولم يعتد بدخول إن على الموصول ، وذلك جائز في كلام العرب ، ولا مبالاة بمن خالف في ذلك. ومن زعم أن من آمن معطوف على ما قبله ، وحذف منه حرف العطف ، التقدير : ومن آمن بالله فقوله بعيد عن الصواب ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، وقد اندرج في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالرسل ، إذ البعث لا يعرف إلا من جهة الرسل.

(وَعَمِلَ صالِحاً) : هو عام في جميع أفعال الصلاح وأقوالها وأداء الفرائض ، أو التصديق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوال. الثاني : يروى عن ابن عباس ، وقد حمل الصلة أو فعل الشرط والمعطوف على لفظ من ، فأفرد الضمير في آمن وعمل ثم قال : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) إلى آخر الآية ، فجمع حملا على المعنى. وهذان الحملان لا يتمان إلا بإعراب من مبتدأ ، وأما على إعراب من بدلا ، فليس فيه إلا حمل على اللفظ فقط. وللحمل على اللفظ والمعنى قيود ذكرت في النحو. قال أبو محمد بن عطية : وإذا جرى ما بعد من على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى ، وإذا جرى ما بعدها على المعنى ، لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ ، لأن الإلباس يدخل في الكلام. انتهى كلامه. وليس كما ذكر ، بل يجوز إذا راعيت المعنى أن تراعي اللفظ بعد ذلك. لكنّ الكوفيين يشترطون الفصل في الجمع بين هذه الحملين فيقولون : من يقومون في غير شيء ، وينظر في أمورنا قومك والبصريون لا يشترطون ذلك ، وهذا على ما قرر في علم العربية :

تروى الأحاديث عن كل مسامحة

وإنما لمعانيها معانيها

وأجرهم : مرفوع بالابتداء ، ولهم في موضع الخبر. وعند الأخفش والكوفيين : إن أجرهم مرفوع بالجار والمجرور. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) : ظرف يعمل فيه الاستقرار الذي هو عامل في لهم ، ويحتمل أن ينتصب على الحال ، والعامل فيه محذوف تقديره : كائنا عند ربهم. وقرأ الجمهور : (وَلا خَوْفٌ) ، بالرفع والتنوين. وقرأ الحسن : ولا خوف ، من غير تنوين. وقد تقدم الكلام على قوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١) في آخر قصة آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، فأغنى عن إعادته هنا.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٢ و ٢٧٤ و ٢٧٧.

٣٩١

ومناسبة ختم هذه الآية بها ظاهره ، لأن من استقر أجره عند ربه لا يلحقه حزن على ما مضى ، ولا خوف على ما يستقبل. قال القشيري : اختلاف الطرق مع اتحاد الأصل لا يمنع من حسن القبول ، فمن صدق الله تعالى في إيمانه ، وآمن بما أخبر به من حقه وصفاته ، فاختلاف وقوع الاسم غير قادح في استحقاق الرضوان.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) : هذا هو الإنعام العاشر ، لأنه إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم ، وتقدّم الكلام في لفظة الميثاق في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) (١). والميثاق : ما أودعه الله تعالى العقول من الدلائل على وجوده وقدرته وحكمته وصدق أنبيائه ورسله ، أو المأخوذ على ذرية آدم في قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٢) ، أو إلزام الناس متابعة الأنبياء ، أو الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو العهد منهم ليعملنّ بما في التوراة ، فلما جاء موسى قرأوا ما فيها من التثقيل فامتنعوا من أخذها ، أو قوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) (٣) ، أقوال ستة. قال القفال : قال ميثاقكم ولم يقل مواثيقكم ، لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم ، كقوله : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) (٤) ، أو لأن ما أخذه على واحد منهم ، أخذه على غيره ، فكان ميثاقا واحدا ، ولو جمع لاحتمل التغاير. انتهى كلامه ملخصا.

(وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) : سبب رفعه امتناعهم من دخول الأرض المقدّسة ، أو من السجود ، أو من أخذ التوراة والتزامها. أقوال ثلاثة. روي أن موسى لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا ، إلا أن يكلمنا الله بها ، كما كلمك ، فصعقوا ثم أحيوا. فقال لهم : خذوها ، فقالوا : لا. فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم ، وأضرم نارا بين أيديهم ، فاحتاط بهم غضبه ، فقيل لهم : خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، وغرقكم البحر ، وأحرقتكم النار ، فسجدوا توبة لله ، وأخذوا التوراة بالميثاق ، وسجدوا على شق لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا. فلما رحمهم‌الله قالوا : لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها ، فأمروا سجودهم على شق واحد. وذكر الثعلبي أن ارتفاع الجبل فوق رؤوسهم كان مقدار قامة الرجل ، ولم تدل الآية على هذا السجود الذي ذكر في هذه القصة. والواو في قوله : ورفعنا ، واو العطف : على تفسير ابن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٨٣.

(٤) سورة غافر : ٤٠ / ٦٧.

٣٩٢

عباس ، لأن أخذ الميثاق كان متقدّما ، فلما نقضوه بالامتناع من قبول الكتاب رفع عليهم الطور. وأما على تفسير أبي مسلم : فإنها واو الحال ، أي إن أخذ الميثاق كان في حال رفع الطور فوقهم ، نحو قوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) (١) ، أي وقد كان في معزل.

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) : هو على إضمار القول ، أي : وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم. وقال بعض الكوفيين : لا يحتاج إلى إضمار قول ، لأن أخذ الميثاق هو قول ، والمعنى : وإذ أخذنا ميثاقكم بأن خذوا ما آتيناكم ، وما موصول ، والعائد عليه محذوف ، أي : ما آتيناكموه ، ويعني به الكتاب. يدل على ذلك قوله : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ، وقرىء : ما آتيتكم ، وهو شبه التفات ، لأنه خرج من ضمير المعظم نفسه إلى غيره. ومعنى قوله : (بِقُوَّةٍ) بجدّ واجتهاد ، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي ، أو بعمل ، قاله مجاهد ؛ أو بصدق وحق ، قاله ابن زيد ؛ أو بقبول ، قاله ابن بحر ؛ أو بطاعة ، قاله أبو العالية والربيع ؛ أو بنية وإخلاص ، أو بكثرة درس ودراية ؛ أو بجدّ وعزيمة ورغبة وعمل ؛ أو بقدرة. والقوة : القدرة والاستطاعة. وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى ، والباء للحال أو الاستعانة.

(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ). قرأ الجمهور : به أمرا من ذكر ، وقرأ أبيّ : واذكروا ما فيه : أمرا من اذكر ، وأصله : وإذ تكروا ، ثم أبدل من التاء دال ، ثم أدغم الذال في الدال ، إذ أكثر الإدغام يستحيل فيه الأول إلى الثاني ، ويجوز في هذا أن يستحيل الثاني إلى الأول ، ويدغم فيه الأول فيقال : اذكر ، ويجوز الإظهار فتقول : اذذكر. وقرأ ابن مسعود : تذكروا ، على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر الذي هو خذوا. فعلى القراءتين قيل : هذا يكون أمرا بالادكار ، وعلى هذه القراءة يكون الذكر مترتبا على حصول الأخذ بقوة ، أي أن تأخذوا بقوّة تذكروا ما فيه. وذكر الزمخشري أنه قرىء : وتذكروا أمرا من التذكر ، ولا يبعد عندي أن تكون هذه القراءة هي قراءة ابن مسعود ، ووهم الذي نقلناه من كتابه تذكروا في إسقاط الواو ، والذي فيه هو ما تضمنه من الثواب ، قاله ابن عباس ؛ أو احفظوا ما فيه ولا تنسوه وادرسوه ، قاله الزجاج ؛ أو ما فيه من أمر الله ونهيه وصفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو اتعظوا به لتنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى. والذكر : قد يكون باللسان ، وقد يكون بالقلب على ما سبق ، وقد يكون بهما. فباللسان معناه : ادرسوا ، وبالقلب معناه : تدبروا ، وبهما معناه :

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٤٢.

٣٩٣

ادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه. أو أريد بالذكر : ثمرته ، وهو العمل ، فمعناه : اعملوا بما فيه من الأحكام والشرائع. والضمير في فيه يعود على ما. وقال في المنتخب : لا يحمل على نفس الذكر ، لأن الذكر الذي هو ضدّ النسيان من فعل الله تعالى ، فكيف يجوز الأمر به؟ انتهى.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) : أي رجاء أن يحصل لكم التقوى بذكر ما فيه. وقيل : معناه لعلكم تنزعون عما أنتم فيه. والذي يفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وفعلوا مقتضاه ، يدل على ذلك : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ). فهذا يدل على القبول والالتزام لما أمروا به. وفي بعض القصص أنهم قالوا ، لما زال الجبل : يا موسى ، سمعنا وأطعنا ، ولو لا الجبل ما أطعناك. وفي بعض القصص : فآمنوا كرها ، وظاهر هذا الإلجاء. والمختار عند أهل العلم أن الله تعالى خلق لهم الإيمان والطاعة في قلوبهم وقت السجود ، حتى كان إيمانهم طوعا لا كرها.

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) : أي أعرضتم عن الميثاق والعمل بما فيه ، وأصل التولي : أن يكون بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات ، اتساعا ومجازا. ودخول ثم مشعر بالمهلة ، ومن تشعر بابتداء الغاية. لكن بين الجملتين كلام محذوف ، التقدير ، والله أعلم : فأخذتم ما آتيناكم ، وذكرتم ما فيه ، وعملتم بمقتضاه. فلا بد من ارتكاب مجاز في مدلول من ، وأنه لسرعة التولي منهم واجتماعهم عليه ، كأنه ما تخلل بين ما أمروا به وبين التولي شيء. وقد علم أنهم بعد ما قبلوا التوراة ، تولوا عنها بأمور ، فحرّفوها ، وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بالله ، وعصوا أمره. ومن ذلك ما اختص به بعضهم ، وما عمله أوائلهم ، وما عمله أواخرهم. ولم يزالوا في التيه ، مع مشاهدتهم الأعاجيب ، يخالفون موسى ، ويظاهرون بالمعاصي في عسكرهم ، حتى خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم ، وعوقبوا بالطاعون ، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأون بها ، ثم فعل ساحروهم ما لا خفاء به ، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله ، والقرآن ، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة. فالجملة معروفة ، وذلك إخبار من الله عن أسلافهم. فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحالهم في كتابه ما ذكر. والإشارة بذلك في قوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إلى قبول ما أوتوه ، أو إلى أخذ الميثاق والوفاء به ، ورفع الجبل ، أو خروج موسى من بينهم ، أو الإيمان ، أقوال.

٣٩٤

(فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) ، الفضل : الإسلام ، والرحمة : القرآن ، قاله أبو العالية. أو الفضل : قبول التوبة ، والرحمة : العفو عن الزلة ، أو الفضل : التوفيق للتوبة ، والرحمة : القبول. أو الفضل والرحمة ، فأخبر الله عنهم. أو الفضل والرحمة : بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإدراكهم لمدته. وعلى هذا القول يكون من تلوين الخطاب ، إذ صار هذا عائدا على الحاضرين. والأقوال قبله تدل على أن المخاطب به من سلف ، لأنه جاء في سياق قصتهم. وفضل الله على مذهب البصريين مرفوع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : موجود ، وما يشبهه مما يليق بالموضع. وعليكم : متعلق بفضل ، أو معمول له ، فلا يكون في موضع الخبر. والتقدير : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) موجودان ، (لَكُنْتُمْ) : جواب لولا. والأكثر أنه إذا كان مثبتا تدخله اللام ، ولم يجىء في القرآن مثبتا إلا باللام ، إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى : (وَهَمَّ بِها) (١) ، جواب : لولا قدم فإنه لا لام معه. وقد جاء في كلام العرب بغير لام ، وبعض النحويين يخص ذلك بالشعر ، قال الشاعر :

لولا الحياء ولولا الدين عبتكما

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

وقد جاء في كلامهم بعد اللام ، قد ، قال الشاعر :

لو لا الأمير ولولا حق طاعته

لقد شربت دما أحلى من العسل

وقد جاء في كلامهم أيضا حذف اللام وإبقاء قد نحو : لولا زيد قد أكرمتك. (مِنَ الْخاسِرِينَ) : تقدّم أن الخسران : هو النقصان ، ومعناه من الهالكين في الدنيا والأخرى. ويحتمل أن يكون كان هنا بمعنى : صار. قال القشيري : أخذ سبحانه ميثاق المكلفين ، ولكنّ قوما أجابوه طوعا ، لأنه تعرّف إليهم ، فوحدوه ، وقوما أجابوه كرها ، لأنه ستر عليهم ، فجحدوه. ولا حجة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور ، ولكن عدموا نور البصيرة ، فلم ينفعهم عيان البصر. قال تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ، أي رجعتم إلى العصيان ، بعد مشاهدتكم الإيمان بالعيان ، ولولا حكمه بإمهاله ، وحكمه بإفضاله ، لعاجلكم بالعقوبة ، ولحلّ بكم عظيم المصيبة.

وقال بعض أهل اللطائف : كانت نفوس بني إسرائيل ، من ظلمات عصيانها ، تخبط

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢٤.

٣٩٥

في عشواء حالكة الجلباب ، وتخطر ، من غلوائها وعلوّها ، في حلتي كبر وإعجاب. فلما أمروا بأخذ التوراة ، ورأوا ما فيها من أثقال التكاليف ، ثارت نفوسهم الآبية ، فرفع الله عليهم الجبل ، فوجدوه أثقل مما كلفوه ، فهان عليهم حمل التوراة مع ما فيها من التكليف والنصب ، إذ ذاك أهون من الهلاك ، قال الشاعر :

إلى الله يدعى بالبراهين من أبى

فإن لم يجب نادته بيض الصوارم

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) اللام في لقد : هي لام توكيد ، وتسمى : لام الابتداء في نحو : لزيد قائم. ومن أحكامها : أن ما كان في حيزها لا يتقدّم عليها ، إلا إذا دخلت على خبر إن على ما قرر في النحو. وقد صنف بعض النحويين كتابا في اللامات ذكرها فيه وأحكامها. ويحتمل أن تكون جوابا لقسم محذوف ، ولكنه جيء على سبيل التوكيد ، لأن مثل هذه القصة يمكن أن يبهتوا في إنكارها ، وذلك لما نال في عقبى أولئك المعتدين من مسخهم قردة ، فاحتيج في ذلك إلى توكيد ، وأنهم علموا ذلك حقيقة. وعلم هنا كعرف ، فلذلك تعدّت إلى واحد. وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين ، وقدّره بعضهم : علمتم أحكام الذين ، وقدّره بعضهم : اعتداء الذين. والاعتداء كان على ما نقل من أن موسى أمره الله بصوم يوم الجمعة ، وعرّفه فضله ، كما أمر به سائر الأنبياء ، فذكر ذلك لبني إسرائيل ، وأمرهم بالتشرّع فيه ، فأبوه وتعدّوه إلى يوم السبت ، فأوحى الله إلى موسى : أن دعهم وما اختاروه. وامتحنهم فيه ، بأن أمرهم بترك العمل ، وحرّم عليهم فيه صيد الحيتان. فكانت تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية ، قاله الحسن بن أبي الحسن ، وقيل : حتى تخرج خراطيمها من الماء ، وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر ، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان ، فلم يظهروا للسبت الآخر. فبقوا على ذلك زمانا حتى اشتهوا الحوت ، فعمد رجل يوم السبت ، فربط حوتا بخزمة ، وضرب له وتدا بالساحل. فلما ذهب السبت ، جاء فأخذه فسمع قوم بفعله ، فصنعوا مثل ما صنع ، وقيل : بل حفر رجل في غير السبت حفيرا يخرج إليه البحر ، فإذا كان يوم السبت ، خرج الحوت وحصل في الحفيرة ، فإذا جزر البحر ، ذهب الماء من طريق الحفيرة وبقي الحوت ، فجاء بعد السبت فأخذه. ففعل قوم مثل فعله. وكثر ذلك ، حتى صادوه يوم السبت علانية وباعوه في الأسواق. فكان هذا من أعظم الاعتداء. وقد رويت زيادات في كيفية الاعتداء ، الله أعلم بصحة ذلك. والذي يصح في ذلك هو ما ذكره الله في كتابه ، وما صح عن نبيه.

منكم : في موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف تقديره : كائنين منكم ، ومن : للتبعيض.

٣٩٦

في السبت : متعلق باعتدوا ، إما على إضمار يوم ، أو حكم. والحامل على الاعتداء قيل : الشيطان وسوس لهم وقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ، ولم تنهوا عن حبسها ، فأطاعوه ، ففعلوا ذلك. وقيل : لما فعل ذلك بعضهم ، ولم يجعل له عقوبة ، وتشبه به أناس منهم ، وفعلوا لفعله ، ظنوا أن السبت قد أبيح لهم ، فتمالأ على ذلك جمع كبير ، فأصابهم ما أصابهم. وقيل : أقدموا على ذلك متأولين ، لأنه أمرهم بترك العمل يوم السبت ، وقالوا : إنما نهانا الله عن أسباب الاكتساب التي تشغلنا عن العبادة ، ولم ينهنا عن العمل اليسير. وقيل : فعل ذلك أوباشهم تحريا وعصيانا ، فعم الله الجميع بالعذاب.

(فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا) : أمر من الكون وليس بأمر حقيقة ، لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم ، لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم قردة ، بل المراد منه سرعة الكون على هذا الوصف ، كقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ، ومجازه : أنه لما أراد منهم ذلك صاروا كذلك. وظاهر القرآن مسخهم قردة. وقيل : لم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم ، كما قال تعالى : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) (٢) ، قاله مجاهد. وقيل : مسخت قلوبهم حتى صارت كقلوب القردة ، لا تقبل وعظا ولا تعي زجرا ، وهو محكي عن مجاهد أيضا. والقول الأول هو قول الجمهور ، ويجوز أن يبقي الله لهم فهم الإنسانية بعد صيرورتهم قردة. وروي في بعض قصصهم : أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم فيقول له : ألم أنهك؟ فيقول له برأسه : بلى ، وتسيل دموعه على خده ، ولم يتعرض في هذا المسخ شيء منهم خنازير. وروي عن قتادة : أن الشباب صاروا قردة ، والشيوخ صاروا خنازير ، وما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم. وروي في قصصهم : أن الله تعالى مسخ العاصين قردة بالليل ، فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم ، فلم يروا أحدا من الهالكين ، فقالوا : إن للناس لشأنا ، ففتحوا عليهم الأبواب ، كما كانت مغلقة بالليل ، فوجدوهم قردة يعرفون الرجل والمرأة. وقيل : إن الناجين قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار تبريا منهم ، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين ، فتسوروا عليهم الجدار ، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض. قال قتادة : وصاروا قردة تعاوي ، لها أذناب ، بعد ما كانوا رجالا ونساء.

(قِرَدَةً خاسِئِينَ) : كلاهما خبر كان ، والمعنى : أنهم يكونون قد جمعوا بين القردة

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٤٠.

(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ٥.

٣٩٧

والخسوء. ويجوز أن يكون خاسئين صفة لقردة ، ويجوز أن يكون حالا من اسم كونوا. ومعنى خاسئين : مبعدين. وقال أبو روق : خاسرين ، كأنه فسر باللازم ، لأن من أبعده الله فقد خسر. وجمهور المفسرين : على أن الذين مسخهم الله لم يأكلوا ، ولم يشربوا ، ولم ينسلوا ، بل ماتوا جميعا ، وأنهم لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام. وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام ، وماتوا في اليوم الثامن ، وكان هذا في زمن داود ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، وكانوا في قرية يقال لها : أيلة ، وقيل : مدين. وروى مسلم ، عن عبد الله بن مسعود ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير : أهي مما مسخ؟ فقال : «الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا ، وأن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك». واختار القاضي أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا ، وأن القردة الموجودين الآن من نسلهم. (فَجَعَلْناها) : الضمير عائد على القرية أو على الأمة ، أو على الحالة ، أو على المسخة ، أو على الحيتان ، أو على العقوبة. والذي يظهر أن الضمير عائد على المصدر المفهوم من : كونوا ، أي فجعلنا كينونتهم قردة خاسئين. (نَكالاً) : أي عبرة ، وهو مفعول ثان لجعل.

(لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) : أي من القرى ، والضمير للقرية ، قاله عكرمة عن ابن عباس ، أو لمن بعدهم من الأمم. وما خلفها : أي الذين كانوا معهم باقين ، رواه الضحاك عن ابن عباس. أو ما بين يديها : أي ما دونها ، وما خلفها يعني : لمن يأتي بعدهم من الأمم. والضمير للأمة ، قاله السدي. أو ما بين يديها من ذنوب القوم ، وما خلفها للحيتان التي أصابوا ، قاله قتادة. أو لما بين يديها : ما مضى من خطاياهم التي أهلكوا بها ، قاله مجاهد. أو لما بين يديها ممن شاهدها ، وما خلفها ممن لم يشاهدها ، قاله قطرب. أو ما بين يديها من ذنوب القوم ، وما خلفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب. أو لما بين يديها : من حضرها من الناجين ، وما خلفها ممن يجيء بعدها. أو لما بين يديها من عقوبة الآخرة ، وما خلفها في دنياهم ، فيذكرون بها إلى قيام الساعة. أو لما بين يديها : لما حولها من القرى ، وما خلفها : وما يحدث بعدها من القرى التي لم تكن ، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين ، فاعتبروا بها ، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين. أو في الآية تقديم وتأخير ، أي فجعلناها وما خلفها مما أعد لهم في الآخرة من العذاب ، نكالا وجزاء ، لا لما بين يديها ، أي لما تقدّم من ذنوبهم لاعتدائهم في السبت. فهذه أحد عشر قولا. قال بعضهم : والأقرب للصواب قول من قال : ما بين يديها : من يأتي من الأمم بعدها. وما خلفها : من بقي منهم ومن غيرهم لم تنلهم العقوبة ، ومن قال الضمير عائد على القرية ، فالمراد أهلها.

٣٩٨

(وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) : خص المتقين لأنهم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير ، قال تعالى : (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (١) ، (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٢). وقيل : أراد نكالا لبني إسرائيل ، وموعظة للمتقين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قيل : المتقون أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله السدي عن أشياخه. وقيل : اللفظ عام في كل متق من كل أمة ، قاله ابن عباس. وقيل : الذين نهوا ونجوا.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة التسوية بين مؤمني اليهود والنصارى والصابئين ، ومؤمني غيرهم في كينونة الأجر لهم ، وأن ذلك عند من يراهم ، وأن إيمانهم في الدنيا أنتج لهم الأمن في الآخرة ، فلا خوف مما يستقبل ، ولا حزن على ما فات إذ من استقر له أجره عند ربه فقد بلغ الغاية القصوى من الكرامة. وقد أدخل هذه الآية بين قصص بني إسرائيل ليبين أن الفوز إنما هو لمن أطاع. وصارت هذه الآية بين آيتي عقاب : إحداهما تتضمن ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل ، والأخرى تتضمن ما عوقبوا به من نتق الجبل فوقهم ، وأخذ الميثاق ، ثم توليهم بعد ذلك. فأعلمت هذه الآية بحسن عاقبة من آمن ، حتى من هذا الجنس الذي عوقب بهاتين العقوبتين ، ترغيبا في الإيمان ، وتيسيرا للدخول في أشرف الأديان ، وتبيينا أن الإسلام يجبّ ما قبله ، وأن طاعة الله تجلب إحسانه وفضله.

وتضمن قوله (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) التذكير بالميثاق الذي أخذ عليهم ، وأنه كان يجب الوفاء به ، وأنه رفع الطور فوقهم لأن يتوبوا ويرجوا ، وأنهم مع مشاهدتهم هذا الخارق العظيم تولوا وأعرضوا عن قبول الحق ، وأنه لولا أن تداركهم بفضله ورحمته لخسروا. ثم أخذ يذكرهم ما هو في طي علمهم من عقوبة العاصين ، ومآل اعتداء المعتدين ، وأنه باستمرار العصيان والاعتداء في إباحة ما حظره الرحمن ، يعاقب بخروج العاصي من طور الإنسانية إلى طور القردية ، فبينا هو يفرح بجعله من ذوي الألباب ، ويمرح ملتذا بدلال الخطاب ، نسخ اسمه من ديوان الكمال ، ونسخ شكله إلى أقبح مثال ، هذا مع ما أعد له في الآخرة من النكال ، والعقوبات على الجرائم جارية على المقدار ، ناشئة عن إرادة الملك القهار ، ليست مما تدرك بالقياس ، فيخوض في تعيينها ألباب الناس ، ومثل هذه العقوبة تكون تنبيها للغافل ، عظة للعاقل.

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٥.

(٢) سورة النازعات : ٧٩ / ٤٥.

٣٩٩

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)

البقرة : الأنثى من هذا الحيوان المعروف ، وقد يقع على الذكر. والباقر والبقير والبيقور والباقور ، قالوا : وإنما سميت بقرة لأنها تبقر الأرض ، أي تشقها للحرث ، ومنه سمي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : الباقر. وكان هو وأخوه زيد بن علي من العلماء الفصحاء. العياذ والمعاذ : الاعتصام. الفعل منه : عاذ يعوذ. الجهل : معروف ، والفعل منه : جهل يجهل ، قيل : وقد جمع على أجهال ، وهو شاذ.

قال الشنفري :

ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى

سؤولا بأطراف الأقاويل أنمل

ويحتمل أن يكون جمع جاهل ، كأصحاب : جمع صاحب. الفارض : المسن التي انقطعت ولادتها من الكبر. يقال : فرضت وفرضت تفرض ، بفتح العين في الماضي وضمها ، والمصدر فروض ، والفرض : القطع ، قال الشاعر :

٤٠٠