البحر المحيط في التفسير - ج ١

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التفسير - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

أراده الله. والثاني : أن تكون ماذا كلها استفهاما ، وتركيب ذا مع ما ، وتكون مفعولا بإرادة التقدير ، أي شيء أراده الله ، وهذان الوجهان فصيحان. قال ابن عطية : واختلف النحويون في ماذا فقيل : هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله ، وقيل : ما اسم وذا اسم آخر بمعنى الذي ، فما في موضع رفع بالابتداء وذا خبره. انتهى كلام ابن عطية ، وظاهره اختلاف النحويين في ماذا هنا وليس كذلك ، إذ هما وجهان سائغان فصيحان في لسان العرب وليست مسألة خلاف عند النحويين ، بل كل من شدا طرفا من علم النحو يجوز هذين الوجهين في ماذا هنا ، وكذا كل من وقفنا على كلامه من المفسرين والمعربين ذكروا الوجهين في ماذا هنا. والإرادة بالتفسير اللغوي ، وهي ميل القلب إلى الشيء ، يستحيل نسبتها إلى الله تعالى. قال بعض المفسرين : الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته ولذته وألمه. وقال المتكلمون : إنها صفة تقتضي رجحان طرفي الجائز على الآخر في الإيقاع ، لا في الوقوع ، واحترز بهذا القيد الأخير من القدرة. وأهل السنة يعتقدون أن الله مريد بإرادة واحدة أزلية موجودة بذاته ، والقدرية المعتزلة والنجارية والجهمية وبعض الرافضة نفوا الصفات التي أثبتها أهل السنة ، والبهشمية والبصريون من المعتزلة يقولون بحدوث إرادة الله تعالى لا في محل ، والكرّامية تقول بحدوثها فيه تعالى ، وإنها إرادات كثيرة ، وأكثرهم زعموا مع القول بالحدوث أنه يستحيل فيها العدم ، ومنهم من قال يجوز عدمها ، وهذه المسألة يبحث فيها في أصول الدين. وانتصاب مثلا على التمييز عند البصريين ، أي من مثل ، وأجاز بعضهم نصبه على الحال من اسم الإشارة ، أي متمثلا به ، والعامل فيه اسم الإشارة ، وهو كقولك : لمن حمل سلاحا رديئا ، ماذا أردت بهذا سلاحا ، فنصبه من وجهين : التمييز والحال من اسم الإشارة. وأجاز بعضهم أن يكون حالا من الله تعالى ، أي متمثلا. وأجاز الكوفيون أن يكون منصوبا على القطع ، ومعنى هذا أنه كان يجوز أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله ، فإذا لم تتبعه في الإعراب وقطعته عنه نصب على القطع ، وجعلوا من ذلك.

وعالين قنوانا من البسر أحمرا

فأحمر عندهم من صفات البسر ، إلا أنه لما قطعته عن إعرابه نصبته على القطع وكان أصله من البسر الأحمر ، كذلك قالوا : ما أراد الله بهذا المثل. فلما لم يجر على إعراب هذا ، انتصب مثلا على القطع ، وإذا قلت : عبد الله في الحمام عريانا ، ويجيء زيد راكبا ، فهذا ونحوه منصوب على القطع عند الكسائي. وفرق الفراء فزعم أن ما كان فيما قبله دليل

٢٠١

عليه فهو المنصوب على القطع ، وما لا فمنصوب على الحال ، وهذا كله عند البصريين منصوب على الحال ، ولم يثبت البصريون النصب على القطع. والاستدلال على بطلان ما ذهب إليه الكوفيون مذكور في مبسوطات النحو ، والمختار انتصاب مثل على التمييز ، وجاء على معنى التوكيد لأنه من حيث أشير إليه علم أنه مثل ، فجاء التمييز بعده مؤكدا للاسم الذي أشير إليه.

(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) : جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بإما ، ووصف تعالى العالمين بأنه الحق ، والسائلين عنه سؤال استهزاء بالكثرة ، وإن كان قد قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١) ، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢) (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) ، فلا تنافي بينهما لأن الكثرة والقلة أمران نسبيان ، فالمهتدون في أنفسهم كثير ، وإذا وصفوا بالقلة فبالنسبة إلى أهل الضلال ، أو تكون الكثرة بالنسبة إلى الحقيقة ، والقلة بالنسبة إلى الأشخاص ، فسموا كثيرا ذهابا إلى الحقيقة ، كما قال الشاعر :

إن الكرام كثير في البلاد وإن

قلوا كما غيرهم قلوا وإن كثروا

واختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) في موضع الصفة لمثل ، وكان المعنى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) يفرق به الناس إلى ضلال وإلى هداية ، فعلى هذا يكون من كلام الذين كفروا. وهذا الوجه ليس بظاهر ، لأن الذي ذكر أنّ الله لا يستحيي منه هو ضرب مثل ما ، أي مثل : كان بعوضة ، أو ما فوقها ، والذين كفروا إنما سألوا سؤال استهزاء وليسوا معترفين بأن هذا المثل (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ، إلا أن ضمن معنى الكلام أن ذلك على حسب اعتقادكم وزعمكم أيها المؤمنون فيمكن ذلك ، ولكن كونه إخبارا من الله تعالى هو الظاهر ، وإسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد حقيقي كما أن إسناد الهداية كذلك ، فهو خالق الضلال والهداية ، وقد تؤول هنا الإضلال بالإضلال عن طريق الجنة ، والإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى تقبيح الدين وتركه ، وهو الإضلال المضاف إلى الشيطان ، والإضلال بهذا المعنى منتف عن الله بالإجماع. والزمخشري على طريقته الاعتزالية يقول : إسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد إلى السبب ، لأنه لما ضرب به المثل فضل به قوم واهتدى به قوم تسبب لضلالهم وهداهم.

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٣.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٢٧.

٢٠٢

وقيل : يضل بمعنى يعذب ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (١) ، قاله بعض المعتزلة ، وردّ القفال هذا وقال : بل المراد في الشاهد في ضلال عن الحق وجوز ابن عطية أن يكون قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) من كلام الكفار ، ويكون قوله : (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) إلى آخر الآية ، من كلام الله تعالى. وهذا الذي جوزه ليس بظاهر لأنه إلباس في التركيب ، لأن الكلام إما أن يجري على أنه من كلام الكفار ، أو يجرى على أنه من كلام الله. وأما أن يجري بعضه على أنه من كلام الكفار وبعضه من كلام الله تعالى من غير دليل على ذلك فإنه يكون إلباسا في التركيب ، وكتاب الله منزه عنه.

وقرأ زيد بن علي : يضلّ به كثير ويهدي به كثير وما يضل به إلا الفاسقون ، في الثلاثة على البناء للمفعول. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة ، في الثلاثة على البناء للفاعل الظاهر ، مفتوح حرف المضارعة. قال عثمان بن سعيد الصيرفي : هذه قراءة القدرية. وروي عن ابن مسعود أنه قرأ : يضلّ بضمّ الياء في الأول ، وما يضلّ به بفتح الياء ، والفاسقون بالواو ، وكذا أيضا في القراءتين السابقتين ، وهي قراءات متجهة إلى أنها مخالفة للمصحف المجمع عليه. والظاهر أن الضمير في به في الثلاثة عائد على مثلا ، وهو على حذف المضاف ، أي يضرب المثل. وقيل : الضمير في به من قوله : (يُضِلُّ بِهِ) ، أي بالتكذيب في به من قوله : (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ، أي بالتصديق. ودلّ على ذلك قوة الكلام في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ).

ومعنى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) ، أي : وما يكون ذلك سببا للضلالة إلا عند من خرج عن الحق. وقال بعض أهل العلم : معنى يضلّ ويهدي : الزيادة في الضلال والهدى ، لا أن ضرب المثل سبب للضلالة والهدى ، فعلى هذا يكون التقدير : نزيد من لم يصدق به وكفر ضلالا على ضلاله ، ومن آمن به وصدق إيمانا على إيمانه. والفاسقين : مفعول يضلّ لأنه استثناء مفرغ ، ومنع أبو البقاء أن يكون منصوبا على الاستثناء. ويكون مفعول يضل محذوفا تقديره : وما يضل به أحدا إلا الفاسقين ، وليس بممتنع ، وذلك أن الاسم بعد إلا : إما أن يفرغ له العامل ، فيكون على حسب العامل نحو : ما قام إلا زيد ، وما ضربت إلا زيدا ، وما مررت إلا بزيد ، إذا جعلت زيدا وبزيد معمولا للعامل قبل لا ، أو لا يفرغ. وإذا لم يفرغ ، فأما أن يكون العامل طالبا مرفوعا ، فلا يجوز إلا ذكره قبل إلا ، وإضماره إن كان مما يضمر ، أو منصوبا ، أو مجرورا ، فيجوز حذفه لأنه فضلة وإثباته. فإن حذفته كان الاسم

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ٤٧.

٢٠٣

الذي بعد إلا منصوبا على الاستثناء فتقول : ما ضربت إلا زيدا ، تريد ما ضربت أحدا إلا زيدا ، وما مررت إلا عمرا ، تريد ما ضربت أحدا إلا زيدا ، وما مررت إلا عمرا ، قال الشاعر :

نجا سالم والنفس منه بشدقه

ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

يريد ولم ينج بشيء إلا جفن سيف ، وإن أثبته ، ولم يحذفه ، فله أحكام مذكورة. فعلى هذا الذي قد قعده النحويون يجوز في الفاسقين أن يكون معمولا ليضل ، ويكون من الاستثناء المفرغ ، ويجوز أن يكون منصوبا على الاستثناء ، ويكون معمول يضل قد حذف لفهم المعنى ، والفاسق هو الخارج من طاعة الله تعالى. فتارة يكون ذلك بكفر وتارة يكون بعصيان غير الكفر.

قال الزمخشري : الفاسق في الشريعة : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وهو النازل بين المنزلتين ، أي بين منزلة المؤمن والكافر. وقالوا : إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء ، رضي‌الله‌عنه وعن أشياعه. وكونه بين بين ، أي حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ، ويوارث ، ويغسل ، ويصلى عليه ، ويدفن في مقابر المسلمين ، وهو كالكافر في الذم ، واللعن ، والبراءة منه ، واعتقاد عداوته ، وأن لا تقبل شهادته. ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزي خلفه ، ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة ، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) (١) ، يريد اللمز والتنابز ، (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٢) ، انتهى كلام الزمخشري. وهو جار على مذهبه الاعتزالي ، والذي عليه سلف هذه الأمة : أن من كان مؤمنا وفسق بمعصية دون الكفر ، فإنه فاسق بفسقه مؤمن بإيمانه ، وأنه لم يخرج بفسقه عن الإيمان ، ولا بلغ حد الكفر. وذهبت الخوارج إلى أن من عصى وأذنب ذنبا فقد كفر بعد إيمانه. ومنهم من قال : من أذنب بعد الإيمان فقد أشرك. ومنهم من قال : كل معصية نفاق ، وإن حكم القاضي بعد التصديق أنه منافق. وذهبت المعتزلة إلى ما ذكره الزمخشري ، وذكر أن لأصل هذه المسألة سموا معتزلة ، فإنهم اعتزلوا قول الأمة فيها ، فإن الأمة كانوا على قولين ، فأحدثوا قولا ثالثا فسموا معتزلة لذلك ، وهذه المسألة مقررة في أصول الدين.

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١١.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٦٧.

٢٠٤

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) : يحتمل النصب والرفع. فالنصب من وجهين : إما على الاتباع ، وإما على القطع ، أي أذم الذين. والرفع من وجهين : إما على القطع ، أي هم الذين ، وإما على الابتداء ، ويكون الخبر الجملة من قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). وعلى هذا الإعراب تكون هذه الجملة كأنها كلام مستأنف ، لا تعلق لها بما قبلها إلا على بعد ، فالأولى من هذا الإعراب الأعاريب التي ذكرناها وأولاها الاتباع ، وتكون هذه الصفة صفة ذم ، وهي لازمة ، إذ كل فاسق ينقض العهد ويقطع ما أمر الله بوصله. واختلفوا في تفسير العهد على أقوال : أحدها : أنه وصية الله إلى خلقه ، وأمره لهم بطاعته ، ونهيه لهم عن معصيته في كتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه المرسلة ، ونقضهم له تركهم العمل به. الثاني : أنه العهد الذي أخذه الله عليهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) (١) الآية ، ونقضهم له كفر ، بعضهم بربوبيته ، وبعضهم بحقوق نعمته. الثالث : ما أخذه الله عليهم في الكتب المنزلة من الإقرار بتوحيده والاعتراف بنعمه والتصديق لأنبيائه ورسله ، وبما جاؤوا به في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (٢) الآية ، ونقضهم له نبذه وراء ظهورهم ، وتبديل ما في كتبهم من وصفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. الرابع : ما أخذه الله تعالى على الأنبياء ومتبعيهم أن لا يكفروا بالله ولا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن ينصروه ويعظموه في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ) (٣) الآية ، ونقضهم له إنكارهم لنبوته وتغييرهم لصفته. الخامس : إيمانهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته قبل بعثه ونقضهم له جحدهم لنبوته ولصفته. السادس : ما جعله في عقولهم من الحجة على توحيده وتصديق رسوله ، بالنظر في المعجزات الدالة على إعجاز القرآن وصدقه ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونقضهم هو تركهم النظر في ذلك وتقليدهم لآبائهم. السابع : الأمانة المعروضة على السموات والأرض التي حملها الإنسان ، ونقضهم تركهم القيام بحقوقها. الثامن : ما أخذه عليهم من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، ونقضهم عودهم إلى ما نهوا عنه ، وهذا القول يدل على أن المخاطب بذلك بنو إسرائيل. التاسع : هو الإيمان والتزام الشرائع ، ونقضه كفره بعد الإيمان.

وهذه الأقوال التسعة منها ما يدل على العموم في كل ناقض للعهد ، ومنها ما يدل على أن المخاطب قوم مخصوصون ، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف الذي وقع في

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٢.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٧.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٨١.

٢٠٥

سبب النزول ، والعموم هو الظاهر. فكل من نقض عهد الله من مسلم وكافر ومنافق أو مشرك أو كتابي تناوله هذا الذم ، ومن متعلقة بقوله ينقضون ، وهي لابتداء الغاية ، ويدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل بينهما ، وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالعهد ، فإثر ما استوثق الله منهم نقضوه. وقيل : من زائدة وهو بعيد ، والميثاق مفعول من الوثاقة ، وهو الشدّ في العقد ، وقد ذكرنا أنه العهد المؤكد باليمين. وليس المعنى هنا على ذلك ، وإنما كنى به عن الالتزام والقبول. قال أبو محمد بن عطية : هو اسم في موضع المصدر ، كما قال عمرو بن شييم :

أكفرا بعد رد الموت عني

وبعد عطائك المائة الرتاعا

أراد بعد إعطائك ، انتهى كلامه. ولا يتعين ما ذكر ، بل قد أجاز الزمخشري أن يكون بعد التوثقة ، كما أن الميعاد بمعنى الوعد ، والميلاد بمعنى الولادة ، وظاهر كلام الزمخشري أن يكون مصدرا ، والأصل في مفعال أن يكون وصفا نحو : مطعام ومسقام ومذكار. وقد طالعت كلام أبي العباس بن الحاج ، وكلام أبي عبد الله بن مالك ، وهما من أوعب الناس لأبنية المصادر ، فلم يذكرا مفعالا في أبنية المصادر. والضمير في ميثاقه عائد على العهد لأنه المحدث عنه ، وأجيز أن يكون عائدا على الله تعالى ، أي من توثيقه عليهم ، أو من بعد ما وثق به عهده على اختلاف التأويلين في الميثاق. قال أبو البقاء : إن أعدت الهاء على اسم الله كان المصدر مضافا إلى الفاعل ، وإن أعدتها إلى العهد كان مضافا إلى المفعول ، وهذا يدل على أن الميثاق عنده مصدر.

(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) : وما موصولة بمعنى الذي ، وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قطعوه بالتكذيب والعصيان ، قاله الحسن وفيه ضعف ، إذ لو كان كما قال لكان من مكان ما. الثاني : القول : أمر الله أن يوصل بالعمل فقطعوا بينهما ، قالوا : ولم يعملوا ، يشير إلى أنها نزلت في المنافقين (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (١). الثالث : التصديق بالأنبياء ، أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض. الرابع : الرحم والقرابة ، قاله قتادة ، وهذا يدل على أنه أراد كفار قريش ومن أشبههم. الخامس : أنه على العموم في كل ما أمر الله به أن يوصل ، وهذا هو الأوجه ، لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ، ولا دليل واضح على الخصوص.

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ١١.

٢٠٦

وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة ، وقد بينا ضعف القول بأن ما تكون موصوفة خصوصا هنا ، إذ يصير المعنى : ويقطعون شيئا أمر الله به أن يوصل ، فهو مطلق ولا يقع الذم البليغ والحكم بالفسق والخسران بفعل مطلق ما ، والأمر هو استدعاء الأعلى الفعل من الأدنى ، قال الزمخشري : وبعثه عليه ، وهي نكتة اعتزالية لطيفة ، قال : وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور ، لأن الداعي الذي يدعو إليه من لا يتولاه شبه بآمر يأمره به ، فقيل له : أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به ، كما قيل له : شأن ، والشأن الطلب والقصد ، يقال شأنت شأنه ، أي قصدت قصده ، وأمر يتعدى إلى اثنين ، والأول محذوف لفهم المعنى ، أي ما أمر الله به ، وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير في به تقديره به وصله ، أي ما أمرهم الله بوصله ، نحو قال الشاعر :

أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص

فتقصر عنها حقبة وتبوص

أي أمن ذكر سلمى نأيها.

وأجاز المهدوي وابن عطية وأبو البقاء أن تكون أن يوصل في موضع نصب بدلا من ما ، أي وصله ، والتقدير : ويقطعون وصل ما أمر الله به. وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون في موضع نصب مفعولا من أجله ، وقدره المهدوي كراهية أن يوصل ، فيكون الحامل على القطع لما أمر الله كراهية أن يوصل. وحكى أبو البقاء وجه المفعول من أجله وقدره لئلا ، وأجاز أبو البقاء أن يكون أن يوصل في موضع رفع ، أي هو أن يوصل. وهذه الأعاريب كلها ضعيفة ، ولو لا شهرة قائلها لضربت عن ذكرها صفحا. والأول الذي اخترناه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الله وسواه من الأعاريب ، بعيد عن فصيح الكلام بله أفصح الكلام وهو كلام الله.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ، فيه أربعة أقوال : أحدها : استدعاؤهم إلى الكفر ، والترغيب فيه ، وحمل الناس عليه. الثاني : إخافتهم السبيل ، وقطعهم الطريق على من هاجر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم. الثالث : نقض العهد. الرابع : كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها. وقال ابن عطية : يعبدون غير الله ، ويجوزون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، وهذا قريب من القول الرابع. وقد تقدّم ما معنى في الأرض ، والتنبيه على ذكر الأرض ، عند الكلام على قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) (١) ، فأغنى عن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١١.

٢٠٧

إعادته هنا. وقد تضمنت هذه الآية الكبيرة نوعا من البديع يسميه أرباب البيان : بالطباق. وقد تقدّم شيء منه ، وهو أن تأتي بالشيء وضدّه ، ووقع هنا في قوله تعالى : (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) ، فإنهما دليلان على الحقير والكبير ، وفي قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) ، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وفي قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ، وفي قوله : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ، وفي قوله : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ). وجاء في هذه الثلاثة الأخيرة مناسبة الطباق ، وهو أن كل أول منها كائن بعد مقابله ، فالضلال بعد الهداية لقوله : كل مولود يولد على الفطرة ، ولدخول أولاد الذين كفروا الجنة إذا ماتوا قبل البلوغ ، والنقض بعد التوثقة ، والقطع بعد الوصل. فهذه ثلاثة تناسبت في الطباق. وفي وصل الذين بالمضارع وعطف المضارعين عليه دليل على تجدد النقض والقطع والإفساد ، وإشعار أيضا بالديمومة ، وهو أبلغ في الذم ، وبناء يوصل للمفعول هو أبلغ من بنائه للفاعل ، لأنه يشتمل ما أمر الله بأن يصلوه أو يصله غيرهم.

وترتيب هذه الصلات في غاية من الحسن ، لأنه قد بدأ أولا بنقض العهد ، وهو أخص هذه الثلاث ، ثم ثنى بقطع ما أمر الله بوصله ، وهو أعم من نقض العهد وغيره ، ثم أتى ثالثا بالإفساد الذي هو أعم من القطع ، وكلها ثمرات الفسق ، وأتى باسم الفاعل صلة للألف واللام ليدل على ثبوتهم في هذه الصفة ، فيكون وصف الفسق لهم ثابتا ، وتكون النتائج عنه متجدّدة متكررة ، فيكون الذم لهم أبلغ لجمعهم بين ثبوت الأصل وتجدّد فروعه ونتائجه ، ولما ذكر أوصاف الفاسقين أشار إليهم بقوله : (أُولئِكَ) ، أي : أولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة من النقض والقطع والإفساد.

(هُمُ الْخاسِرُونَ) : وفسر الخاسرون بالناقصين حظوظهم وشرفهم ، وبالهالكين ، وسبب خسرانهم استبدالهم النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والإفساد بالإصلاح ، وعقابها بالثواب ، وقيل : الخاسرون المغبونون بفوت المثوبة ولزوم العقوبة وقيل : خسروا نعيم الآخرة ، وقيل : خسروا حسناتهم التي عملوها ، أحبطوها بكفرهم. والآية في اليهود ، ولهم أعمال في شريعتهم وفي المنافقين ، وهم يعملون في الظاهر عمل المخلصين. قال القفال : الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملا يجزى عليه. (كَيْفَ) : قد تقدم أنه اسم استفهام عن حال ، وصحبه معنى التقرير والتوبيخ ، فخرج عن حقيقة الاستفهام. وقيل : صحبه الإنكار والتعجب ، أي أن من كان بهذه المثابة من القدرة الباهرة والتصرف التام والمرجع إليه آخرا فيثيب ويعاقب ، لا يليق أن يكفر به. والإنكار بالهمزة إنكار لذات

٢٠٨

الفعل ، وبكيف إنكار لحاله ؛ وإنكار حاله إنكار لذاته ، لأن ذاته لا تخلو من حال يقع فيها ، فاستلزم إنكار الحال إنكار الذات ضرورة ، وهو أبلغ ، إذ يصير ذلك من باب الكناية حيث قصد إنكار الحال ، والمقصود إنكار وقوع ذات الكفر. قال الزمخشري : وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها ، وقد علم أن كل موجود لا ينفك من حال وصفة عند وجوده ، ومحال أن يوجد تغير صفة من الصفات ، كان إنكارا لوجوده على الطريق البرهاني ، انتهى كلامه.

وهذا الخطاب فيه التفات ، لأن الكلام قبل كان بصورة الغيبة ، ألا ترى إلى قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخره؟ وفائدة هذا الالتفات أن الإنكار إذا توجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجهه إلى الغائب لجواز أن لا يصله الإنكار ، بخلاف من كان مخاطبا ، فإن الإنكار عليه أردع له عن أن يقع فيما أنكر عليه. والناصب ل (كَيْفَ تَكْفُرُونَ). وأتى بصيغة تكفرون مضارعا ولم يأت به ماضيا وإن كان الكفر قد وقع منهم ، لأن الذي أنكر أو تعجب منه الدوام على ذلك ، والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون ذلك توبيخا لمن وقع منه الكفر ثم آمن ، إذ لو جاء كيف كفرتم (بِاللهِ) لاندرج في ذلك من كفرتم آمن كأكثر الصحابة رضي‌الله‌عنهم. والواو في قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) : واو الحال ، نحو قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (١) ، (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) (٢). قال الزمخشري : فإن قلت فكيف صح أن يكون حالا ، وهو ماض؟ ولا يقال : جئت وقام الأسير ، ولكن : وقد قام ، إلا أن يضمر قد. قلت : لم تدخل الواو على كنتم أمواتا وحده ، ولكن على جملة قوله : كنتم أمواتا إلى ترجعون ، كأنه قيل : كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء؟ (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد هذه الحياة؟ (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد الموت ثم يحاسبكم؟ انتهى كلامه. ونحن نقول : إنه على إضمار قد ، كما ذهب إليه أكثر الناس ، أي وقد كنتم أمواتا فأحياكم. والجملة الحالية عندنا فعلية. وأما أن نتكلف ونجعل تلك الجملة اسمية حتى نفر من إضمار قد ، فلا نذهب إلى ذلك ، وإنما حمل الزمخشري على ذلك اعتقاده أن جميع الجمل مندرجة في الحال ، ولذلك قال : فإن قلت ، بعض القصة ماض وبعضها مستقبل ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه ، فما الحاضر الذي

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٤٥.

(٢) سورة هود : ١١ / ٤٢.

٢٠٩

وقع حالا؟ قلت : هو العلم بالقصة ، كأنه قيل : كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة ، وبأولها وبآخرها؟ انتهى كلامه.

ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجة في الحال ، إذ يحتمل أن يكون الحال قوله : وكنتم أمواتا فأحياكم ، ويكون المعنى كيف تكفرون بالله وقد خلقكم فعبر عن الخلق بقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) ، ونظيره قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» أي أن من أوجدك بعد العدم الصرف حر أن لا تكفر به ، لأنه لا نعمة أعظم من نعمة الاختراع ، ثم نعمة الاصطناع ، وقد شمل النعمتين قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) لأن بالإحياء حصلتا. ألا ترى أنها تضمنت الجملة الإيجاد والإحسان إليك بالتربية والنعم إلى زمان أن توجه عليك إنكار الكفر؟ ولما كان مركوزا في الطباع ومخلوقا في العقول أن لا خالق إلا الله ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (١) ، كانت حالا تقتضي أن لا تجامع الكفر ، فلا يحتاج إلى تكلف. إن الحال هو العلم بهذه الجملة.

وعلى هذا الذي شرحناه يكون قوله تعالى : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) جملا أخبر الله تعالى بها مستأنفة لا داخلة تحت الحال ، ولذلك غاير فيها بحرف العطف وبصيغة الفعل عما قبلها من الحرف والصيغة. ومن جعل العلم بمضمون هذه الجمل هو الحال ، جعل تمكنهم من العلم بالإحياء الثاني والرجوع لما نصب على ذلك من الدلائل التي توصل إليه بمنزلة حصول العلم. فحصوله بالإماتتين والإحياء الأول ، وكثير من الناس علموا ثم عاندوا ، وفي ترتيب هاتين الموتتين والحياتين اللاتي ذكر الله تعالى وامتن عليهم بها أقوال : الأول : أن الموت الأول : العدم السابق قبل الخلق ، والإحياء الأول : الخلق ، والموت الثاني : المعهود في دار الدنيا ، والحياة الثانية : البعث للقيامة ، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد. الثاني : أن الموت الأول : المعهود في الدنيا ، والإحياء الأول : هو في القبر للمسألة ، والموت الثاني : في القبر بعد المسألة ، والإحياء الثاني : البعث ، قاله ابن عباس وأبو صالح. الثالث : أن الموت الأول : كونهم في أصلاب آبائهم ، والإحياء الأول : الإخراج من بطون الأمهات ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث ، قاله قتادة. الرابع : أن الموت الأول : هو الذي اعتقب إخراجهم من صلب آدم نسما كالذر ، والإحياء الأول : إخراجهم من بطون أمهاتهم ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء : البعث ، قاله ابن زيد. الخامس : أن الموت الأول : مفارقة نطفة الرجل إلى

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٩.

٢١٠

الرحم فهي ميتة إلى نفخ الروح فيحييها بالنفخ ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث. السادس : أن الموت الأول هو الخمول ، والإحياء الأول : الذكر والشرف بهذا الدين والنبي الذي جاءكم ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث ، قاله ابن عباس. السابع : أن الموت الأول : كون آدم من طين ، والإحياء الأول : نفخ الروح فيه فحييتم بحياته ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث.

واختار ابن عطية القول الأول وقال : هو أولى الأقوال ، لأنه لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه ، ثم إن قوله : وكنتم أمواتا ، وإسناده آخرا الإماتة إليه ، مما يقوي ذلك القول ، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين ثم للإحياء في الدّنيا ثم للإماتة فيها ، قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها. انتهى كلامه ، وهو كلام حسن.

وللمنسوبين إلى علم الحقائق أقوال تخالف ما تقدم : أحدها : أمواتا بالشرك فأحياكم بالتوحيد. الثاني : أمواتا بالجهل فأحياكم بالعلم. الثالث : أمواتا بالاختلاف فأحياكم بالائتلاف. الرابع : أمواتا بحياة نفوسكم وإماتتكم بإماتة نفوسكم وإحياء قلوبكم. الخامس : أمواتا عنه فأحياكم به ، قاله الشبلي. السادس : أمواتا بالظواهر فأحياكم بمكاشفة السرائر ، قاله ابن عطاء. السابع : أمواتا بشهودكم فأحياكم بمشاهدته ثم يميتكم عن شواهدكم ثم يحييكم بقيام الحق عنه ثم إليه ترجعون من جميع ما لكم ، قاله فارس.

واختار الزمخشري : أن الموت الأول كونهم نطفا في أصلاب آبائهم فجعلهم أحياء ، ثم يميتهم بعد هذه الحياة ، ثم يحييهم بعد الموت ، ثم يحاسبهم. وجوز أيضا أن يكون المراد بالإحياء الثاني : الإحياء في القبر ، وبالرجوع : النشور ، وأن يراد بالإحياء الثاني أيضا النشور ، وبالرجوع : المصير إلى الجزاء. وهذا الذي جوز أن يراد به الإحياء في القبر لا يفهم منه أنه يحيا للمسألة في القبر ، ولا لأن ينعم فيه أو يعذب لأنه ليس مذهبه ، لأن المعتزلة وأتباعهم أنكروا عذاب القبر ، وأهل السنة والكرامية أثبتوه بلا خلاف بينهم ، إلا أن أهل السنة يقولون : يحيا الميت الكافر فيعذب في قبره ، والفاسق يجوز أن يعذب في قبره ، والكرامية تقول : يعذب وهو ميت. والأحاديث الصحيحة قد استفاضت بعذاب القبر ، فوجب القول به واعتقاده.

واختار صاحب المنتخب أن المراد بقوله : أمواتا أي ترابا ونطفا ، لأن ابتداء خلق آدم

٢١١

من التراب ، وخلق سائر المكلفين من أولاده ، إلا عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، من النطف. قال : واختلفوا ، فالأكثرون على أن إطلاق اسم الميت على الجماد مجاز ، لأن الميت من يحله الموت ، ولا بد أن يكون بصفة من يجوز أن يكون حيا في العادة ، والقول بأنه حقيقة في الجماد مروي عن قتادة ، انتهى كلامه. وتفسيره الأموات بالتراب والنطف لا يظهر ذلك في التراب ، لأن المخلوق من التراب لم يتصف بالصفة التي أنكرت أو تعجب منها وقتا قط ، فكيف يندرج في قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً)؟ والذي نختاره أن كونهم أمواتا ، من وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها ، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار من النطفة والعلقة والمضغة واكتساء العظام لحما. والإماتة الثانية هي المعهودة ، والإحياء هو البعث بعد الموت. ويكون الإحياء الأول والموت الأول ، والإحياء الثاني حقيقة ، وأما كونهم أمواتا ، فمن ذهب إلى أن الجماد يوصف بالموت حقيقة فيكون إذ ذاك حقيقة ، ومن ذهب إلى المجاز فهو مجاز سائغ قريب ، لأنه على كل حال موجود ، فقرب اتصافه بالموت ، بخلاف من زعم أنه أريد به كونه معدوما وكونه في الصلب. أو حين كان آدم طينا ، فإن المجاز في ذلك بعيد لأن ذلك عدم صرف ، والعدم الذي لم يسبقه وجود يبعد فيه أن يسمى موتا ، ألا ترى ما أطلق عليه في اللغة لفظ الموت مما لا تحله الحياة كيف يكون موجودا لا عدما صرفا؟ (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) (١) ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (٢) ، (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) (٣) ، (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٤) ، وتقول العرب : أرض موات. وأما قول من ذهب إلى أن الموت الأول : هو الخمول ، والإحياء الأول : هو التنويه والذكر ، فمجاز بعيد هنا ، لأنه متى أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز القريب كان أولى.

وقد أمكن ذلك بما ذكرناه ، ثم أكثر تلك الأقاويل يبعد فيها التعقيب بالفاء في قوله : فأحياكم ، لأن بين ذاك الموت والإحياء مدة طويلة ، وعلى ما اخترناه تكون الفاء دالة على معناها من التعقيب. ومن قال : إن الموت الأول : هو المعهود ، والإحياء الأول هو للمسألة ، فيكون فيه الماضي قد وضع موضع المستقبل مجاز التحقق وقوعه ، أي وتكونون أمواتا فيحييكم ، كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ). وقد استدل بهذه الآية قوم على نفي عذاب القبر ، لأنه ذكر تعالى موتتين وحياتين ، ولم يذكر حياة بين إحيائهم في الدنيا وإحيائهم في الآخرة.

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٣.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٣٩.

(٣) سورة فصلت : ٤١ / ٣٩.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٠.

٢١٢

قالوا : ولا يجوز أن يستدل بقوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (١) ، لأنه من كلام الكفار ، ولأن كثيرا من الناس أثبتوا حياة الذر في صلب آدم. والجواب : أنه لا يلزم من عدم ذكر هذه الحياة للمسألة عدمها قبل ، وأيضا ، فيمكن أن يكون قوله : ثم يحييكم هو للمسألة ، ولذلك قال : ثم إليه ترجعون ، فعطف بثم التي تقتضي التراخي في الزمان. والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة التي للبعث ، فدل ذلك على أن تلك الحياة المذكورة هي للمسألة.

قال الحسن : ذكر الموت مرتين هذا لأكثر الناس ، وأما بعضهم فقد أماتهم ثلاث مرات ، (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) (٢) ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) (٣) ، (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) (٤) ، الآيات. وفي قوله تعالى : (فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) دليل على اختصاصه تعالى بذلك ، ودليل على النشر والحشر. والظاهر في قوله تعالى : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أن الهاء عائدة على الله سبحانه وتعالى ، لأن الضمائر السابقة عائدة عليه تعالى ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، أي إلى جزائه من ثواب أو عقاب. وقيل : عائدة على الجزاء على الأعمال. وقيل : عائدة على الموضع الذي يتولى الله الحكم بينكم فيه. وقيل : عائدة على الأحياء المدلول عليه بقوله : فأحياكم. وشرح هذا أنكم ترجعون بعد الحياة الثانية إلى الحال التي كنتم عليها في ابتداء الحياة الأولى ، من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئا. واستدلت المجسمة بقوله : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، على أنه تعالى في مكان ولا حجة لهم في ذلك.

وقرأ الجمهور : ترجعون مبنيا للمفعول من رجع المتعدي.

وقرأ مجاهد ، ويحيى بن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، والفياض بن غزوان ، وسلام ، ويعقوب : مبنيا للفاعل ، حيث وقع في القرآن من رجع اللازم ، لأن رجع يكون لازما ومتعديا. وقراءة الجمهور أفصح ، لأن الإسناد في الأفعال السابقة هو إلى الله تعالى ، (فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ، فكان سياق هذا الإسناد أن يكون الفعل في الرجوع مسندا إليه ، لكنه كان يفوت تناسب الفواصل والمقاطع ، إذ كان يكون الترتيب : (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) (٥) ، فحذف الفاعل للعلم به وبنى الفعل للمفعول حتى لا يفوت

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ١١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٩.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٣.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٠.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ٦٠.

٢١٣

التناسب اللفظي. وقد حصل التناسب المعنوي بحذف الفاعل ، إذ هو قبل البناء للمفعول مبني للفاعل. وأما قراءة مجاهد ، ومن ذكر معه ، فإنه يفوت التناسب المعنوي ، إذ لا يلزم من رجوع الشخص إلى شيء أن غيره رجعه إليه ، إذ قد يرجع بنفسه من غير رادّ. والمقصود هنا إظهار القدرة والتصرف التام بنسبة الإحياء والإماتة ، والإحياء والرجوع إليه تعالى ، وإن كنا نعلم أن الله تعالى هو فاعل الأشياء جميعها. وفي قوله تعالى : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) من الترهيب والترغيب ما يزيد المسيء خشية ويرده عن بعض ما يرتكبه ، ويزيد المحسن رغبة في الخير ويدعوه رجاؤه إلى الازدياد من الإحسان ، وفيها رد على الدهرية والمعطلة ومنكري البعث ، إذ هو بيده الإحياء والإماتة والبعث وإليه يرجع الأمر كله.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) : مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وهو أنه لما ذكر أن من كان منشئا لكم بعد العدم ومفنيا لكم بعد الوجود وموجدا لكم ثانية ، إما في جنة ، وإما إلى نار ، كان جديرا أن يعبد ولا يجحد ، ويشرك ولا يكفر. ثم أخذ يذكرهم عظيم إحسانه وجزيل امتنانه من خلق جميع ما في الأرض لهم ، وعظيم قدرته وتصرفه في العالم العلوي ، وأن العالم العلوي والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء ، وأنه عليم بكل شيء. ولفظة هو من المضمرات وضع للمفرد المذكر الغائب ، وهو كلي في الوضع كسائر المضمرات ، جرى في النسبة المخصوصة حالة الاستعمال ، فما من مفرد مذكر غائب إلا ويصح أن يطلق عليه هو ، لكن إذا أسند لهذا الاسم شيء تعين. ومشهور لغات العرب تخفيف الواو مفتوحة ، وشددتها همدان ، وسكنتها أسد وقيس ، وحذف الواو مختص بالشعر. ولهؤلاء المنسوبين إلى علم الحقائق وإلى التصوف كلام غريب بالنسبة لمعقولنا ، رأيت أن أذكره هنا ليقع الذكر فيه.

قالوا : أسماء الله تعالى على ثلاثة أقسام : مظهرات ، ومضمرات ، ومستترات. فالمظهرات : أسماء ذات ، وأسماء صفات ، وهذه كلها مشتقة ، وأسماء الذات مشتقة وهي كثيرة ، وغير المشتق واحد وهو الله. وقد قيل : إنه مشتق ، والذي ينبغي اعتقاده أنه غير مشتق ، بل اسم مرتجل دال على الذات. وأما المضمرات فأربعة : أنا في مثل : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) (١) ، وأنت في مثل : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) (٢) ، وهو في مثل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) (٣) ، ونحن في مثل : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) (٤). قالوا : فإذا تقرر هذا فالله أعظم

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٢.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٩.

(٤) سورة يوسف : ١٢ / ٣.

٢١٤

أسمائه المظهرات الدالة على الذات ، ولفظة هو من أعظم أسمائه المظهرات والمضمرات للدلالة على ذاته ، لأن أسماءه المشتقة كلها لفظها متضمن جواز الاشتراك لاجتماعها في الوصف الخاص ، ولا يمنع أن يكون أحد الوصفين حقيقة والآخر مجازا من الاشتراك ، وهو اسم من أسماء الله تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة من حيث هو هو. فلفظة هو توصلك إلى الحق وتقطعك عما سواه ، فإنك لا بد أن يشرك مع النظر في معرفة ما يدل عليه الاسم المشتق النظر في معرفة المعنى الذي يشتق منه ، وهذا الاسم لأجل دلالته على الذات ينقطع معه النظر إلى ما سواه ، اختاره الجلة من المقربين مدارا لذكرهم ومنارا لكل أمرهم فقالوا : يا هو ، لأن لفظة هو إشارة بعين المشار إليه بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد ، والمقربون لا يخطر في عقولهم وأرواحهم موجود آخر سوى الذي دلت عليه إشارته ، وهو اسم مركب من حرفين وهما : الهاء والواو ، والهاء أصل والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية ، والجمع في هما وهم ، والأصل حرف واحد يدل على الواحد الفرد. انتهى ما نقل عن بعض من عاصرناه في هو بالنسبة إلى الله تعالى مقررا لما ذكروه ومعتقدا لما خبروه. ولهم في لفظة أنا وأنت وهو كلام غريب جدا بعيد عما تكلم عليها به أهل اللغة والعربية ، وحديث هؤلاء المنتمين إلى هذه العلوم لم يفتح لي فيه ببارقة ، ولا ألممت فيه إلى الآن بغادية ولا طارقة ، نسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا بأنوار الهداية ، وأن يجنبنا مسالك الغواية ، وأن يلهمنا إلى طريق الصواب ، وأن يرزقنا اتباع الأمرين النيرين : السنة والكتاب.

ولكم : متعلق بخلق ، واللام فيه ، قيل : للسبب ، أي لأجلكم ولانتفاعكم ، وقدر بعضهم لاعتباركم. وقيل : للتمليك والإباحة ، فيكون التمليك خاصا ، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به وتدعو الضرورة إليه. وقيل : للاختصاص ، وهو أعم من التمليك ، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولا من أجله لأنه بما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي. فالديني : النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرة الصانع وحكمته ومن التذكير بالآخرة والجزاء ، وأما الدنيوي : فظاهر ، وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهية وغير ذلك. وقد استدل بقوله : (خَلَقَ لَكُمْ) ، من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة ، فلكل أحد أن ينتفع بها ، وإذا احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة ، لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه. وقد ذهب قوم إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر ، فلا يقدم

٢١٥

على شيء إلا بإذن. وذهب قوم إلى أن الوقف لنا تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة ، ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف. وحكى أبو بكر بن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، فلا نازلة إلا وفيها سمع ، أو لها تعلق به أثر لها حال تستصحب ، وإذا جعلنا اللام للسبب ، فليس المعنى أن الله فعل شيئا لسبب ، لكنه لما فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب أطلق عليه لفظ السبب واندرج تحت قوله : (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، جميع ما كانت الأرض مستقرا له من الحيوان والنبات والمعدن والجبال ، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور المستنبطة. واستدل بعضهم بذلك على تحريم الطين ، قال : لأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.

وقد تقدم قبل هذا الامتنان بجعل الأرض لنا فراشا ، وهنا امتن بخلق ما فيها لنا وانتصب جميعا على الحال من المخلوق ، وهي حال مؤكدة لأن لفظة ما في الأرض عام ، ومعنى جميعا العموم. فهو مرادف من حيث المعنى للفظة كل كأنه قيل : ما في الأرض كله ، ولا تدل على الاجتماع في الزمان ، وهذا هو الفارق بين معا وجميعا. وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على مع ، ومن زعم أن المعنى بقوله : ما في الأرض ، الأرض وما فيها ، فهو بعيد عن مدلول اللفظ ، لكنه تفسير معنى من هذا اللفظ ، ومن قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) (١) ، فانتظم من هذين الأرض وما فيها خلق الله ذلك لنا. وقال الزمخشري : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء ، كما تذكر السماء ، ويراد بها الجهات العلوية ، جاز ذلك ، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. وقال بعض المنسوبين للحقائق : خلق لكم ليعد نعمه عليكم ، فتقتضي الشكر من نفسك لتطلب المزيد منه. وقال أبو عثمان : وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء في المعاد ، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك ، فإنه قد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وقبل التوحيد. وقال ابن عطاء : خلق لكم ليكون الكون كله لك وتكون لله فلا تشتغل بما لك عما أنت له. وقال بعض البغداديين : أنعم عليك بها ، فإن الخلق عبدة النعم لاستيلاء النعم عليهم ، فمن ظهر للحضرة أسقط عنه المنعم رؤية النعم. وقال الثوري : أعلى مقامات أهل الحقائق الانقطاع عن العلائق (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) : والعطف بثم يقتضي التراخي في الزمان ، ولا زمان إذ ذاك ، فقيل : أشار بثم إلى التفاوت الحاصل بين خلق السماء والأرض في القدر ، وقيل :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢.

٢١٦

لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف بثم ، إذ بين خلق الأرض والاستواء تراخ يدل على ذلك : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) (١) ، الآية. استوى أهل الحجاز على الفتح ، ونجد على الإمالة. وقرىء في السبعة بهما ، وفي الاستواء هنا سبعة أقوال : أحدها : أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر ، وهو استعارة من قولهم : استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء ، قال معناه الفراء ، واختاره الزمخشري ، وبين ما الذي استعير منه. الثاني : علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد ، قاله الربيع بن أنس ، والتقدير : علا أمره وسلطانه ، واختاره الطبري. الثالث : أن يكون إلى بمعنى على ، أي استوى على السماء ، أي تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :

فلما علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

الرابع : أن المعنى تحول أمره إلى السماء واستقر فيها ، والاستواء هو الاستقرار ، فيكون ذلك على حذف مضاف ، أي ثم استوى أمره إلى السماء ، أي استقر لأن أوامره وقضاياه تنزل إلى الأرض من السماء ، قاله الحسن البصري. والخامس : أن المعنى استوى بخلقه واختراعه إلى السماء ، قاله ابن كيسان ، ويؤول المعنى إلى القول الأول. السادس : أن المعنى كمل صنعه فيها ، كما تقول : استوى الأمر ، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه. السابع : أن الضمير في استوى عائد على الدخان ، وهذا بعيد جدّا يبعده قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (٢) ، واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور ، ولا يفسره سياق الكلام.

وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى ، وأن يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث ، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش ، إن شاء الله تعالى. ومعنى التسوية : تعديل خلقهن وتقويمه وإحلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن وتكميله من قولهم : درهم

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٩.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ١١.

٢١٧

سواء ، أي وازن كامل تام ، أو جعلهن سواء من قوله : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١) أو تسوية سطوحها بالإملاس. والضمير في فسوّاهن عائد على السماء على أنها جمع سماوة ، أو على أنه اسم جنس فيصدق إطلاقه على الفرد والجمع ، ويكون مرادا به هنا الجمع. قال الزمخشري ، والضمير في فسواهن ضمير مبهم. و (سَبْعَ سَماواتٍ) تفسيره كقولهم : ربه رجلا ، انتهى كلامه. ومفهومه أنّ هذا الضمير يعود على ما بعده ، وهو مفسر به ، فهو عائد على غير متقدّم الذكر. وهذا الذي يفسره ما بعده : منه ما يفسر بجملة ، وهو ضمير الشأن أو القصة ، وشرطها عند البصريين أن يصرح بجزأيها ، ومنه ما يفسر بمفرد ، أي غير جملة ، وهو الضمير المرفوع بنعم وبئس وما جرى مجراهما. والضمير المجرور بربّ ، والضمير المرفوع بأول المتنازعين على مذهب البصريين ، والضمير المجعول خبره مفسرا له ، والضمير الذي أبدل منه مفسره في إثبات هذا القسم الأخير خلاف ، وذلك نحو : ضربتهم قومك ، وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحدا من هذه الضمائر التي سردناها ، إلا أن تخيل فيه أن يكون سبع سموات بدلا منه ومفسرا له ، وهو الذي يقتضيه تشبيه الزمخشري له بربه رجلا ، وأنه ضمير مبهم ليس عائدا على شيء قبله ، لكن هذا يضعف بكون هذا التقدير يجعله غير مرتبط بما قبله ارتباطا كليا ، إذ يكون الكلام قد تضمن أنه تعالى استوى على السماء ، وأنه سوى سبع سموات عقيب استوائه إلى السماء ، فيكون قد أخبر بإخبارين : أحدهما استواؤه إلى السماء والآخر : تسويته سبع سموات.

وظاهر الكلام أن الذي استوى إليه هو بعينه المستوي سبع سموات. وقد أعرب بعضهم سبع سموات بدلا من الضمير على أن الضمير عائد على ما قبله ، وهو إعراب صحيح ، نحو : أخوك مررت به زيد ، وأجازوا في سبع سموات أن يكون منصوبا على المفعول به ، والتقدير : فسوى منهن سبع سموات ، وهذا ليس بجيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى. أما من حيث اللفظ فإن سوى ليس من باب اختار ، فيجوز حذف حرف الجر منه في فصيح الكلام ، وأما من حيث المعنى فلأنه يدل على أن السموات كثيرة ، فسوى منهن سبعا ، والأمر ليس كذلك ، إذ المعلوم أن السموات سبع. وأجازوا أيضا أن يكون مفعولا ثانيا لسوى ، ويكون معنى سوى : صير ، وهذا ليس بجيد ، لأن تعدي سوى لواحد هو المعلوم في اللغة ، (فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (٢) ، (قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٣). وأما جعلها

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٩٨.

(٢) سورة الانفطار : ٨٢ / ٧.

(٣) سورة القيامة : ٧٥ / ٤.

٢١٨

بمعنى صير ، فغير معروف في اللغة. وأجازوا أيضا النصب على الحال ، فتلخص في نصب سموات أوجه البدل باعتبارين ، والمفعول به ، ومفعول ثان ، وحال ، والمختار البدل باعتبار عود الضمير على ما قبله والحال ، ويترجح البدل بعدم الاشتقاق.

وقد اختلف أهل العلم في أيهما خلق قبل ، فمنهم من قال : السماء خلقت قبل الأرض ، ومنهم من قال : الأرض خلقت قبل السماء ، وكل تعلق في الاستدلال بظواهر آيات يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعا لا غير ، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء ، وخلقت السماء بعدها ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء ، وبهذا يحصل الجمع بين الآيات. وقال بعضهم : وإنما خلق السموات سبعا ، لأن السبعة والسبعين فيه دلالة على تضاعيف القوة والشدة ، كأنه ضوعف سبع مرات. ومن شأن العرب أن يبالغوا بالسبعة والسبعين من العدد ، لما في ذكرها من دليل المضاعفة. قال تعالى : (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) (١) ، (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) (٢) ، والسبعة تذكر في جلائل الأمور : الأيام سبعة ، والسموات سبع ، والأرض سبع ، والنجوم التي هي أعلام يستدل بها سبعة : زحل ، والمشتري ، وعطارد ، والمريخ ، والزهرة ، والشمس ، والقمر ، والبحار سبعة ، وأبواب جهنم سبعة. وتسكين الهاء في هو وهي بعد الواو والفاء واللام وثم جائز ، وقل بعد كاف الجر وهمزة الاستفهام ، وندر بعد لكن ، في قراءة أبي حمدون ، لكن هو الله ربي ، وهو تشبيه بتسكين سبع وكرش ، شبه الكلمتان بالكلمة. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) : وقرأ بتسكين (وَهُوَ) أبو عمرو والكسائي وقالون ، وقرأ الباقون بضم الهاء على الأصل. ووقف يعقوب على وهو بالهاء نحو : وهوه (بِكُلِ) متعلق بقوله : (عَلِيمٌ) ، وكان القياس التعدي باللام حالة التقديم ، أو بنفسه. وأما حالة التأخير فبنفسه لأنه من فعل متعد ، وهو أحد الأمثلة الخمسة التي للمبالغة ، وقد حدث فيها بسبب المبالغة من الأحكام ما ليس في فعلها ولا في اسم الفاعل ، وذلك أن هذا المبني للمبالغة المتعدي ، إما أن يكون فعله متعديا بنفسه ، أو بحرف جر ، فإن كان متعديا بحرف جر تعدى المثال بحرف الجر نحو : زيد صبور على الأذى زهيد في الدنيا ، لأن صبر يتعدى بعلى ، وزهد يتعدى بفي ، وإن كان متعديا بنفسه ، فإما أن يكون ما يفهم علما وجهلا ، أو لا. إن كان مما يفهم علما أو جهلا تعدى المثال بالباء نحو : زيد عليم بكذا ، وجهول بكذا ، وخبير بذلك ، وإن كان لا يفهم علما ولا جهلا

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٣٢.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٨٠.

٢١٩

فيتعدى باللام نحو قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١) وفي تعديها لما بعدها بغير الحرف ونصبها له خلاف مذكور في النحو ، وإنما خالفت هذه الأمثلة التي للمبالغة أفعالها المتعدية بنفسها ، لأنها بما فيها من المبالغة أشبهت أفعل التفضيل ، وأفعل التفضيل حكمه هكذا. قال تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) (٢) ، وقال الشاعر :

أعطى لفارهة حلو مراتعها

وقال :

أكر وأحمى للحقيقة منهم

فإن جاء بعده ما ظاهره أنه منصوب به نحو قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُ) (٣) ، وقول الشاعر :

وأضرب منا بالسيوف القوانسا

أول بأنه معمول لفعل محذوف يدل عليه أفعل التفضيل.

(شَيْءٍ) : قد تقدم اختلاف الناس في مدلول شيء. فمن أطلقه على الموجود والمعدوم كان تعلق العلم بهما من هذه الآية ظاهرا ، ومن خصه بالموجود فقط كان تعلق علمه تعالى بالمعدوم مستفادا من دليل آخر غير هذه الآية. (عَلِيمٌ) ؛ قد ذكرنا أنه من أمثلة المبالغة ، وقد وصف تعالى نفسه بعالم وعليم وعلام ، وهذان للمبالغة. وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في علامة ، ولا يجوز وصفه به تعالى. والمبالغة بأحد أمرين : أما بالنسبة إلى تكرير وقوع الوصف سواء اتحد متعلقه أم تكثر ، وأما بالنسبة إلى تكثير المتعلق لا تكثير الوصف. ومن هذا الثاني المبالغة في صفات الله تعالى ، لأن علمه تعالى واحد لا تكثير فيه ، فلما تعلق علمه تعالى بالجميع كلية وجزئية دقيقة ، وجليلة معدومة وموجودة ، وصف نفسه تعالى بالصفة التي دلت على المبالغة ، وناسب مقطع هذه الآية بالوصف بمبالغة العلم ، لأنه تقدم ذكر خلق الأرض والسماء والتصرف في العالم العلوي والسفلي وغير ذلك من الإماتة والإحياء ، وكل ذلك يدل على صدور هذه الأشياء عن العلم الكامل التام المحيط بجميع الأشياء. وقال بعض الناس : العليم من كان علمه من ذاته ، والعالم من كان علمه متعديا من غيره ، وهذا ليس بجيد لأن الله تعالى قد وصف نفسه بالعالم ، ولم

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٠٧.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٥٤.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ١١٧.

٢٢٠