تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٣

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٣

وفي كتاب علل الشّرائع (١) ، بإسناده إلى محمّد بن يعقوب ، عن عليّ بن محمّد بإسناده رفعه. قال : قال أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ لبعض اليهود وقد سأله مسائل : وإنّما سمّيت الدّنيا دنيا ، لأنّها أدنى من كلّ شيء. وسمّيت الآخرة آخرة ، لأنّ فيها الجزاء والثّواب.

وبإسناده إلى عبد الله بن يزيد بن سلام (٢) أنّه سأل رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال : له أخبرني عن الدّنيا لم سمّيت الدّنيا؟

قال : لأنّ الدّنيا دنيّة خلقت من دون الآخرة. ولو خلقت مع الآخرة لم يفن أهلها كما لا يفنى أهل الآخرة.

قال : فأخبرني لم سمّيت الآخرة آخرة؟

قال : لأنّها متأخّرة تجيء من بعد الدّنيا ، لا توصف سنينها ولا تحصى أيّامها ولا يموت سكّانها.

قال : صدقت يا محمّد.

والحديثان طويلان ، أخذت منهما موضع الحاجة.

[(وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (١٣٤) : عارفا بالأعراض فيجازى كلا بحسب قصده].(٣).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) : مواظبين على العدل ، مجتهدين في إقامته.

(شُهَداءَ لِلَّهِ) : بالحقّ ، تقيمون شهاداتكم لوجه الله. وهو خبر ثان. أو حال.

(وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) : ولو كانت الشّهادة على أنفسكم. بأن تقرّوا عليها. لأنّ الشّهادة بيان للحقّ ، سواء كان عليه أو على غيره.

(أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ، أي : ولو على والديكم وأقربيكم.

في تفسير عليّ بن إبراهيم (٤) : قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ : إنّ للمؤمن على المؤمن سبع حقوق. فأوجبها أن يقول الرّجل حقّا وإن كان على نفسه أو على والديه. فلا يميل لهم عن الحقّ.

__________________

(١) علل الشّرائع ١ / ٢ ، ح ١.

(٢) نفس المصدر ٢ / ٤٧٠.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٤) تفسير القمي ١ / ١٥٦.

٥٦١

وفي كتاب الخصال (١) : عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله ـ تعالى ـ يوم القيامة حتّى يفرغ من الحساب : رجل لم تدعه قدرته في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يديه. ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة (٢). ورجل قال الحقّ فيما له وعليه.

عن محمّد بن قيس (٣) ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : إنّ لله ـ تعالى ـ جنّة لا يدخلها إلّا ثلاثة : رجل حكم في نفسه بالحقّ.

(الحديث).

(إِنْ يَكُنْ) ، أي : المشهود عليه. أو كلّ واحد من المشهود عليه. ومن المشهود له.

(غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) : فلا تمتنعوا عن إقامة الشّهادة. أو لا تجوروا فيها ميلا ، أو ترحمّا.

(فَاللهُ أَوْلى بِهِما) : بالغنيّ والفقير ، وبالنّظر لهما. فلو لم تكن الشّهادة عليهما أو لهما صلاحا ، لما شرّعها. وهو علّة الجواب أقيمت مقامه. والضّمير في «بهما» راجع إلى ما دلّ عليه المذكور ، وهو جنسا الغنيّ والفقير لا إليه ، وإلّا لوحّد للتّرديد فيه بأو «ويشهد عليه أن قرئ : فالله أولى بهم (٤)».

(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) : لأن تعدلوا عن الحقّ. من العدول. أو كراهة أن تعدلوا. من العدل.

(وَإِنْ تَلْوُوا) : ألسنتكم عن شهادة الحقّ.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ بإسكان اللّام ، وبعدها واوان الأولى مضمومة والثّانية ساكنة (٥).

وقرئ : وإن تلوا ، بمعنى : إن وليتم إقامة الشّهادة (٦).

(أَوْ تُعْرِضُوا) : عن أدائها.

وفي مجمع البيان (٧) : عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ : إن تلووا ، أي : تبدّلوا الشّهادة. أو تعرضوا ، أي : تكتموها.

__________________

(١) الخصال ١ / ٨١ ، ح ٥.

(٢) هكذا في المصدر والنسخ. ولعل الصواب : شعرة.

(٣) نفس المصدر ١ / ١٣١ ، ح ١٣٦.

(٤) أنوار التنزيل ١ / ٢٤٩.

(٥ و ٦) نفس المصدر والموضع.

(٧) مجمع البيان ٢ / ١٢٤.

٥٦٢

وفي أصول الكافي (١) : الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن عليّ بن أسباط ، عن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) فقال : إن تلووا الأمر ، أو تعرضوا عمّا أمرتم به (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) والحديث طويل ، أخذت منه موضع الحاجة.

(فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٣٥) : فيجازيكم عليه.

وفي أصول الكافي (٢) : الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد. عن عليّ بن أسباط ، عن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في هذه الآية أنّه قال : وإن تلووا الأمر ، أو تعرضوا عمّا أمرتم به في ولاية عليّ (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : بألسنتهم وظاهرهم.

(آمَنُوا) : بقلوبكم وباطنكم.

وقيل (٣) : خطاب لمؤمني أهل الكتاب ، إذ روي أنّ ابن سلام وأصحابه قالوا : يا رسول الله ، إنّا نؤمن بك وبموسى والتّوراة وعزير ونكفر بما سواه. فنزلت. فعلى هذا معنى آمنوا : آمنوا إيمانا عامّا ، يعمّ الكتب والرّسل.

وقيل (٤) : خطاب للمسلمين ، أي : اثبتوا على الإيمان بذلك ، ودوموا على الإيمان.

(بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) : والكتاب الأوّل ، القرآن. والثّاني ، الجنس.

وقرأ نافع والكسائيّ : «الّذي نزّل ، والّذي أنزل» بفتح النّون والهمزة والزّاي.

والباقون ، بضمّ النّون والهمزة وكسر الزّاي (٥).

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، أي : من يكفر بشيء من ذلك.

(فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١٣٦) : عن المقصد ، بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه.

__________________

(١) الكافي ١ / ٤٢١ ، ح ٤٥.

(٢) نفس المصدر ١ / ٤٢١ ، ح ٤٥.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٢٥٠.

(٤) نفس المصدر والموضع.

(٥) نفس المصدر والموضع.

٥٦٣

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) : كاليهود ، آمنوا بموسى.

(ثُمَّ كَفَرُوا) : حين عبدوا العجل.

(ثُمَّ آمَنُوا) : حين رجع إليهم.

(ثُمَّ كَفَرُوا) : بعيسى.

(ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) : بمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : نزلت في الّذين آمنوا برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إقرارا لا تصديقا ، ثمّ كفروا لمّا كتبوا الكتاب فيما بينهم ، أن لا يردّوا الأمر في أهل بيته أبدا. فلمّا نزلت الولاية (٢) وأخذ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ الميثاق عليهم لأمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ آمنوا إقرارا لا تصديقا ، فلمّا مضى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ كفروا وازدادوا كفرا.

وفي أصول الكافي (٣) : الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن محمّد بن أورمة وعليّ بن عبد الله ، عن عليّ بن حسّان ، عن عبد الرّحمن بن كثير ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في هذه الآية قال : نزلت في فلان وفلان وفلان ، آمنوا بالنّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ في أوّل الأمر ، وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية حين قال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : من كنت مولاه. ثمّ آمنوا بالولاية لأمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ ثمّ كفروا حيث مضى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فلم يقرّوا بالبيعة ، ثمّ ازدادوا كفرا بأخذهم من تابعه بالبيعة لهم ، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء.

وفي تفسير العيّاشي (٤) : عن جابر قال : قلت لمحمّد بن عليّ ـ عليهما السّلام ـ : قول الله في كتابه : (الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا).

قال : هما والثّالث والرّابع وعبد الرّحمن وطلحة ، وكانوا سبعة عشر رجلا. قال : لمّا وجّه النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ عليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام ـ وعمّار بن ياسر ـ رحمه الله ـ إلى أهل مكّة قالوا : بعث هذا الصّبيّ ، ولو بعث غيره ـ يا حذيفة ـ إلى أهل مكّة وفي مكّة صناديدها. وكانوا [في مكّة] (٥) يسمّون عليّا : الصّبيّ. لأنّه كان اسمه

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١٥٦.

(٢) أ : الآية.

(٣) الكافي ١ / ٤٢٠ ، ح ٤٢.

(٤) تفسير العياشي ١ / ٢٧٩ ، ح ٢٨٦.

(٥) ليس في المصدر.

٥٦٤

في كتاب الله الصّبيّ ، لقول الله ـ عزّ وجلّ ـ : ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وهو صبي وقال إنني من المسلمين والله الكفر بنا أولى ممّا نحن فيه. فساروا فقالوا لهما وخوّفوهما بأهل مكّة ، فعرضوا لهما وخوّفوهما وغلّظوا عليهما الأمر.

فقال عليّ ـ عليه السّلام ـ : حسبنا الله ونعم الوكيل. ومضى. فلمّا دخلا مكّة أخبر الله نبيّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ بقولهم لعليّ وبقول عليّ لهم. فأنزل الله بأسمائهم في كتابه. وذلك قول الله (١) : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) إلى قوله : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ). وإنّما نزلت «ألم تر» إلى فلان وفلان لقوا عليّا وعمّارا فقالا : إنّ أبا سفيان وعبد الله بن عامر وأهل مكّة قد جمعوا لكم فاخشوهم. فقالوا : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ..

وهما اللّذان قال الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) إلى آخر الآية ، فهذا أوّل كفرهم. والكفر الثّاني ، قول النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : يطلع عليكم من هذا الشّعب رجل فيطلع عليكم بوجهه فمثله عند الله كمثل عيسى. لم يبق منهم أحد إلّا تمنّى أن يكون بعض أهله. فإذا بعليّ قد خرج وطلع بوجهه ، قال : هو هذا. فخرجوا غضبانا وقالوا : ما بقي إلّا أن يجعله نبيّا. والله الرّجوع إلى آلهتنا خير ممّا نسمع منه في ابن عمّه وليصدّنا على أنّه دام هذا. فأنزل الله (٢) : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) إلى آخر الآية. فهذا الكفر الثّاني.

وزادوا الكفر حين قال الله (٣) : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). فقال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : يا عليّ ، أصبحت وأمسيت خير البريّة.

فقال له ناس : هو خير من نوح وإبراهيم ومن الأنبياء؟ فأنزل الله (٤) : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ) ـ إلى ـ (سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

قالوا : فهو خير منك يا محمّد؟

قال : قال الله (٥) : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً). ولكنّه خير

__________________

(١) / ١٧٣.

(٢) الزخرف / ٥٧.

(٣) البيّنة / ٧.

(٤) / ٣٣.

(٥) الأعراف / ١٥٨.

٥٦٥

منكم ، وذرّيّته خير من ذرّيّتكم ، ومن اتّبعه خير ممّن اتّبعكم. فقاموا غضبانا وقالوا زيادة : الرّجوع إلى الكفر أهون علينا ممّا يقول في ابن عمّه. وذلك قول الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) ..

عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم (١) ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما السّلام ـ في هذه الآية [قال : نزلت في عبد الله بن أبي سرح الّذي بعثه عثمان إلى مصر. قال : و (ازْدادُوا كُفْراً) حتّى لم يبق فيه من الإيمان شيء.

عن أبي بصير (٢) قال : سمعته يقول فيه هذه الآية :] (٣) من زعم أنّ الخمر حرام ثمّ شربها ، ومن زعم أنّ الزّنا حرام ثمّ زنى ، ومن زعم أنّ الزّكاة حقّ ولم يؤدّها.

(لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (١٣٧) : إذ يستبعد منهم أن يتولّوا عن الكفر ويثبتوا على الإيمان. فإنّ قلوبهم ضربت بالكفر وبصائرهم عميت. لا أنّهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم. وخبر «كان» في أمثال ذلك محذوف. وتعلّق به اللّام ، مثل : لم يكن الله مريدا ليغفر لهم.

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٣٨) : وضع «بشّر» موضع «أنذر» تهكّم بهم.

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) : في محلّ النّصب ، أو الرّفع على الذّمّ ، يعني : أريد الّذين ، أو هم الّذين.

(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) : أيتعزّزون بموالاتهم.

(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (١٣٩) : لا يتعزّز إلّا من أعزّه ، وقد كتب العزّة لأوليائه وقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) لا يؤبه بعزّ غيرهم بالإضافة إليهم.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٤) : نزلت في بني أميّة ، حيث حالفوهم على أن لا يردّوا الأمر في بني هاشم.

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) ، يعني : القرآن.

وقرأ غير عاصم : «نزل» والقائم مقام فاعله (٥).

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ٢٨٠ ، ح ٢٨٧.

(٢) نفس المصدر ١ / ٢٨١ ، ح ٢٨٨.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في ر.

(٤) تفسير القمي ١ / ١٥٦.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٢٥٠.

٥٦٦

(أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ) : وهي المخفّفة ، والمعنى : أنّه إذا سمعتم.

(يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) : حالان من «الآيات» جيء بهما لتقييد النّهي من المجالسة في قوله : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) : الّذي هو جزاء الشّرط ، بما إذا كان من يجالسه هازئا معاندا غير مرجوّ ، ويؤيّده الغاية. وهذا تذكار ما نزل عليهم بمكّة من قوله (١) : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا). (الآية) والضّمير في «معهم» للكفرة المدلول عليهم بقوله : (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها).

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : (آياتِ اللهِ) هم الأئمّة ـ عليهم السّلام ـ.

وفي تفسير العيّاشي (٣) : عن محمّد بن الفضل ، عن أبي الحسن الرّضا ـ عليه السّلام ـ في تفسيرها : إذا سمعت الرّجل يجحد الحقّ ويكذب به ويقع في أهله ، فقم من عنده ولا تقاعده.

وفي أصول الكافي (٤) : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القسم بن يزيد قال : حدّثنا أبو عمرو الزّبيريّ ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ أنّه قال في حديث طويل : إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها. وفرض على السّمع ان يتنزّه عن الاستماع إلى ما حرّم الله وأن يعرض عمّا لا يحلّ له ممّا نهى الله ـ عزّ وجلّ ـ عنه والإصغاء إلى ما أسخط الله ـ عزّ وجلّ ـ فقال في ذلك : (وَقَدْ نَزَّلَ) إلى قوله : (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ). ثمّ استثنى الله ـ عزّ وجلّ ـ موضع النّسيان فقال : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد (٥) ، عن شعيب العقرقوفيّ قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) إلى آخر الآية.

فقال : إنّما عنى بهذا الرّجل يجحد الحقّ ويكذب به ويقع في الأئمّة ، فقم من

__________________

(١) الأنعام / ٦٨.

(٢) تفسير القمي ١ / ١٥٦.

(٣) تفسير العياشي ١ / ٢٨١ ، ح ٢٩٠.

(٤) الكافي ٢ / ٣٤ ـ ٣٥ ، ح ١.

(٥) نفس المصدر ٢ / ٣٧٧ ، ح ٨.

٥٦٧

عنده ولا تقاعده كائنا من كان.

(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) : في الكفر إن رضيتم به ، وإلّا ففي الإثم لقدرتكم على الإنكار والإعراض.

وفي من لا يحضره الفقيه (١) : قال أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ في وصيّته لابنه محمّد بن الحنفيّة : ففرض على السّمع أن لا تصغي به إلى المعاصي ، فقال ـ عزّ وجلّ ـ : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ).

والحديث طويل ، أخذت منه موضع الحاجة.

(إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠) : فإذا كان القاعد معهم مثلهم والله جامعهم في جهنّم ، فيجمع القاعد معهم فيها.

وقيل (٢) : إنّ هذا يؤيّد أن يكون المراد بالقاعدين قوما من المنافقين. فعلى هذا يكون معناه : إنّ الله يجمع المنافقين ، أي : القاعدين. والكافرين ، أي : المقعود معهم في جهنّم جميعا. وعلى هذا يلزم أن يكون قوله : «إذا» استدراكا ، لأنّ المنافقين مثل الكافرين قعدوا معهم أم لم يقعدوا. «إذا» ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر. ولذلك لم يذكر بعدها الفعل. وإفراد «مثلهم» لأنّه كالمصدر. أو بالاستغناء بالإضافة إلى الجمع.

وقرئ ، بالفتح ، على البناء لإضافته إلى مبنيّ. كقوله : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٣).

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) : ينتظرون وقوع أمر بكم. وهو بدل من «الّذين يتّخذون». أو صفة «للمنافقين والكافرين». أو ذمّ مرفوع ، أو منصوب. أو مبتدأ ، خبره.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) : مظاهرين لكم ، فأسهموا لنا فيما غنمتم.

(وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) : من الحرب. فإنّها سجال.

(قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) ، أي : ألم نغلبكم ونتمكّن من قتلكم ، فأبقينا

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٣٨٢ ، ح ١.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٢٥١.

(٣) نفس المصدر والموضع.

٥٦٨

عليكم؟

و «الاستحواذ» ، الاستيلاء. وكان القياس ، استحاذ يستحيذ استحاذة.

فجاءت على الأصل.

(وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : بأن خذلناهم عنكم بتخييل ما ضعفت به قلوبهم ، وتوانينا في مظاهرتهم ، فأشركونا فيما أصبتم. سمّى ظفر المسلمين «فتحا» وظفر الكافرين «نصيبا» لخسّة نصيبهم. فإنّه مقصور على أمر دنيويّ سريع الزّوال.

(فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) : يفصل بينكم بالحقّ.

(وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (١٤١) : بالحجّة ، وإن جاز أن يغلبوهم بالقوّة.

وفي عيون الأخبار (١) : حدّثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي ـ رضي الله عنه ـ قال : حدّثني أبي قال : حدّثني أحمد بن عليّ الأنصاريّ ، عن أبي الصّلت الهرويّ قال : قلت للرّضا ـ عليه السّلام ـ : يا بن رسول الله ، إنّ في سواد الكوفة قوما يزعمون أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لم يقع عليه السّهو في صلاته.

فقال : كذبوا ـ لعنهم الله ـ إنّ الّذي لا يسهو هو الله لا إله إلّا هو.

قال : قلت : يا بن رسول الله ، وفيهم قوم يزعمون أنّ الحسين بن عليّ ـ عليهما السّلام ـ لم يقتل ، وأنّه ألقى شبهه على حنظلة بن أسعد الشّاميّ ، وأنّه رفع إلى السّماء كما رفع عيسى بن مريم ـ عليهما السّلام ـ ويحتجّون بهذه الآية (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

فقال : كذبوا ـ عليهم غضب الله ولعنته ـ وكفروا بتكذيبهم لنبيّ الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في أخباره بأنّ الحسين ـ عليه السّلام ـ سيقتل. والله لقد قتل الحسين وقتل من كان خيرا من الحسين أمير المؤمنين والحسن بن عليّ ـ عليهم السّلام ـ وما منّا إلّا مقتول ، وإنّي والله لمقتول بالسّمّ باغتيال من يغتالني ، أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أخبره به جبرئيل عن ربّ العالمين ـ عزّ وجلّ ـ.

فأمّا قوله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) فإنّه يقول : لن يجعل الله لهم على أنبيائه ـ عليهم السّلام ـ سبيلا من طريق الحجّة.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ـ عليه السّلام ـ ٢ / ٢٠٣ ، ح ٥.

٥٦٩

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) : سبق في سورة البقرة.

(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) : متثاقلين ، على نحو المكره على الفعل.

وقرئ : «كسالى» بالفتح. وهما جمع ، كسلان (١).

في الكافي (٢) : سهل ، عن ابن محبوب ، عن سعد بن أبي خلف ، عن أبي الحسن موسى ـ عليه السّلام ـ قال : قال أبي لبعض ولده : إيّاك والكسل والضّجر ، فإنّهما يمنعانك من حظّك من الدّنيا والآخرة.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه (٣) ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن زرارة ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : من كسل عن طهوره وصلاته ، فليس فيه خير لأمر آخرته. ومن كسل عمّا يصلح به أمر معيشته ، فليس فيه خير لأمر دنياه.

عليّ بن محمّد رفعه (٤) قال : قال أمير المؤمنين عليّ ـ صلوات الله عليه ـ : إنّ الأشياء لمّا ازدوجت ازدوج الكسل والضّجر ، فنتجا بينهما الفقر.

(يُراؤُنَ النَّاسَ) : ليخالوهم مؤمنين. والمراءاة ، المفاعلة ، بمعنى : التّفضيل.

كنعم ، وناعم. أو للمقابلة. فإنّ المرائي يرى من يرائيه عمله ، وهو يريد استحسانه.

(وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٤٢) : إذ المرائي لا يفعل إلّا بحضرة من يرائيه ، وهو أقلّ أحواله. أو لأنّ ذكره باللّسان قليل بالإضافة إلى الذّكر بالقلب. ولا يذكرونه بالقلب. وإنّما يذكرونه باللّسان فقط للمراءاة. أو لأن ذكرهم الله بالقلب قليل ، بالقياس إلى ما يخطر ببالهم من مراءاة من يراؤونه.

وقيل (٥) : المراد بالذّكر ، الصّلاة.

وقيل (٦) : الذّكر فيها ، فإنّهم لا يذكرون فيها غير التّكبير.

وفي كتاب الخصال (٧) : عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : قال لقمان لابنه : يا بنيّ لكلّ شيء علامة يعرف بها ويشهد عليها ـ إلى قوله ـ : وللمنافق ثلاث

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٢٥١.

(٢) الكافي ٥ / ٨٥ ، ح ٢.

(٣) نفس المصدر والموضع ، ح ٣.

(٤) نفس المصدر ٥ / ٨٦ ، ح ٨.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٢٥١.

(٦) نفس المصدر والموضع.

(٧) الخصال ١ / ١٢١ ، ح ١١٣.

٥٧٠

علامات : يخالف لسانه قلبه ، وفعله قوله ، وعلانيته سريرته. وللكسلان ثلاث علامات : يتوانى حتّى يفرّط ، ويفرّط حتّى يضيّع ، ويضيّع حتّى يأثم. وللمرائي ثلاث علامات : يكسل إذا كان وحده ، وينشط إذا كان النّاس عنده ، ويتعرّض في كلّ أمر للمحمدة.

وعن أبي الحسن الأوّل ـ عليه السّلام ـ (١) قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : أربع خصال يفسدن القلب وينبتن النّفاق في القلب كما ينبت الماء الشّجر : استماع اللهو ، والبذاء ، وإتيان باب السّلطان ، وطلب الصّيد.

وفي كتاب علل الشّرائع (٢) بإسناده إلى زرارة ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ حديث طويل ، بقوله فيه : ولا تقم إلى الصّلاة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا. فإنّها من خلال النّفاق. وقد نهي من خلال النّفاق. وقد نهى الله ـ عزّ وجلّ ـ أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى ، يعني : من النّوم. وقال للمنافقين : وإذا قاموا إلى الصّلاة قاموا كسالى يراؤون النّاس ولا يذكرون الله إلّا قليلا.

وفي كتاب معاني الأخبار (٣) : حدّثنا أبي ـ رضي الله عنه ـ قال : حدّثنا سعد بن عبد الله ، عن يعقوب بن يزيد ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن عبد الله بن سنان قال : كنّا جلوسا عند أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ إذا قال له رجل من الجلساء : جعلت فداك يا بن رسول الله ، أخاف على أن أكون منافقا.

فقال له : إذا خلوت في بيتك ليلا أو نهارا ، أليس تصلّي؟

فقال : بلى.

فقال : فلمن تصلّي؟

فقال : لله ـ عزّ وجلّ ـ.

فقال : فكيف تكون منافقا وأنت تصلّي لله ـ عزّ وجلّ ـ لا لغيره؟!

وفي أصول الكافي (٤) : عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن سيف بن عميرة ، عن سليمان بن عمرو عن أبي المغرا الخصّاف رفعه قال : قال أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ : من ذكر الله ـ عزّ وجلّ ـ في السّرّ ، فقد ذكر الله كثيرا. إنّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السّرّ ، فقال الله

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ٢٢٧ ، ح ٦٣.

(٢) علل الشرائع ٢ / ٣٥٨ ، ح ١.

(٣) معاني الأخبار / ١٤٢.

(٤) الكافي ٢ / ٥٠١ ، ح ٢.

٥٧١

ـ عزّ وجلّ ـ : (يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً).

الحسين بن محمّد ، عن محمّد بن جمهور (١) ، عن عبد الله بن عبد الرّحمن الأصمّ ، عن الهيثم بن واقد ، عن محمّد بن مسلم ، عن ابن مسكان ، عن أبي حمزة ، عن عليّ بن الحسين ـ عليهما السّلام ـ قال : إنّ المنافق ينهى ولا ينتهي ، ويأمر بما لا يأتي ، وإذا قام إلى الصّلاة اعترض.

قلت : يا بن رسول الله ، وما الاعتراض؟

قال : الالتفات. وإذا ركع ربض. يمسي وهمّه العشاء وهو مفطر. ويصبح وهمّه النّوم ولم يسهر وإن حدّثك كذبك. وإن ائتمنته خانك. وإن غبت اغتابك. وإن وعدك أخلفك.

أبو عليّ الأشعريّ ، عن الحسين بن عليّ الكوفي (٢) ، عن عثمان بن عيسى ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : مثل المنافق ، مثل جذع أراد صاحبه أن ينتفع به في بعض بنيانه فلم يستقم له في الموضع الّذي أراد ، فحوّله في موضع آخر فلم يستقم ، فكان آخر ذلك أن أحرقه بالنّار.

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) : حال من واو «يراؤون» ، كقوله : ولا يذكرون ، أي : يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين. أو واو «يذكرون». أو منصوب على الذّمّ ، والمعنى : مردّدين بين الإيمان والكفر. من الذّبذبة ، وهو جعل الشّيء مضطربا. وأصله ، الذّبّ ، بمعنى : الطّرد.

وقرئ ، بكسر الذّال ، بمعنى : يذبذبون قلوبهم ، أو دينهم. أو يتذبذبون.

كقولهم : صلصل ، بمعنى : تصلصل (٣).

وقرئ ، بالدّال الغير المعجمة ، بمعنى : أخذوا تارة في دبّة وتارة في دبّة أخرى.

وهي الطّريقة (٤).

(لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) : لا يصيرون إلى المؤمنين بالكليّة ، ولا إلى الكافرين. كذلك يظهرون الإيمان كما يظهره المؤمنون ، ولكن لا يضمرونه كما

__________________

(١) نفس المصدر ٢ / ٣٩٦ ، ح ٥٣.

(٢) نفس المصدر والموضع ، ح ٥.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٢٥١.

(٤) نفس المصدر ١ / ٢٥١ ـ ٢٥٢.

٥٧٢

يضمرون. ويضمرون الكفر كما يضمره الكافرون ، ولكن لا يظهرونه كما يظهرون.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (١٤٣) : إلى الحقّ والصّواب. ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) : فإنّه صنيع المنافقين وديدنهم ، فلا تتشبّهوا بهم.

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (١٤٤) : حجّة بيّنة ، فإنّ موالاة الكافرين دليل على النّفاق. أو سلطانا يسلّط عليكم عقابه.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) : وهو الطّبقة الّتي في قعر جهنّم.

لأنّهم أخبث الكفرة ، إذ ضمّوا إلى الكفر استهزاءا بالإسلام وخداعا للمسلمين. وللنّار دركات ، وللجنّة درجات. وإنّما سمّيت طبقاتها دركات ، لأنّها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض.

وقرأ الكوفيّون ، بسكون الرّاء. وهو لغة ، كالسّطر والسّطر. والتّحريك أوجه ، لأنّه يجمع على أدراك (١).

وفي كتاب الاحتجاج (٢) ، عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ حديث طويل ، وفيه يقول ـ عليه السّلام ـ : معاشر النّاس ، سيكون من بعدي أئمّة يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا ينصرون. معاشر النّاس ، إنّ الله وأنا بريئان منهم. معاشر النّاس ، إنّهم وأنصارهم وأشياعهم وأتباعهم في الدّرك الأسفل من النّار ولبئس مثوى المتكبّرين.

(وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (١٤٥) : يخرجهم منه.

[وفي روضة الكافي (٣) بإسناده إلى أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ حديث طويل ، يقول فيه ـ عليه السّلام ـ : واعلم (٤) أنّ المنكرين هم المكذّبون ، وأنّ المكذّبين هم المنافقون ، وإنّ الله قال للمنافقين وقوله الحقّ : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً)] (٥).

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) : عن النّفاق.

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ٢٥٢.

(٢) الاحتجاج ١ / ٧٨.

(٣) الكافي ٨ / ١١ ، ضمن حديث ١.

(٤) المصدر : اعلموا.

(٥) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٥٧٣

(وَأَصْلَحُوا) : ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النّفاق.

(وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) : وثقوا به ، وتمسّكوا بدينه.

(وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) : لا يريدون بطاعتهم إلّا وجهه.

(فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) : ومن عدادهم في الدّارين.

(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) (١٤٦) : فيساهمونهم فيه.

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) ، أي : أيتشفّى (١) به غيظا ، أو يدفع به ضررا ، أو يستجلب به نفعا؟ سبحانه هو الغنيّ المتعالي عن النّفع والضّرر ، وإنّما يعاقب المصرّ على كفره. لأنّ إصراره عليه كسوء مزاج يؤدّي إلى مرض ، فإذا أزاله بالإيمان والشّكر ونقّى نفسه عنه تخلّص من تبعته. وإنّما قدّم الشّكر ، لأنّ النّاظر يدرك النّعمة أوّلا فيشكر شكرا مبهما ، ثمّ يمعن النّظر حتّى يعرف المنعم فيؤمن به.

(وَكانَ اللهُ شاكِراً) : مثيبا ، يقبل القليل ويعطي الجزيل.

(عَلِيماً) (١٤٧) : بحقّ شكركم وإيمانكم.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) : إلّا جهر من ظلم.

بالدّعاء على الظّالم ، أو التّظلّم منه.

في مجمع البيان (٢) : المرويّ عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ : لا يحبّ الله الشّتم في الانتصار إلّا من ظلم ، فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدّين.

وروي عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ (٣) : أنّه الضّيف ينزل بالرّجل فلا يحسن ضيافته ، فلا جناح عليه أن يذكره بسوء ما فعله.

وفي تفسير العيّاشي (٤) ، عنه ـ عليه السّلام ـ في هذه الآية : من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهي ممّن ظلم ، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه.

وعنه ـ عليه السّلام ـ (٥) : قال : (الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) أن يذكر الرّجل بما فيه.

__________________

(١) النسخ : «يتشفّى». وما أثبتناه في المتن موافق أنوار التنزيل وهو الأظهر.

(٢) مجمع البيان ٢ / ١٣١.

(٣) نفس المصدر والموضع.

(٤) تفسير العياشي ١ / ٢٨٣ ، ح ٢٩٦.

(٥) نفس المصدر والموضع ، ح ٢٩٧.

٥٧٤

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : بعد ما يقرب ممّا ذكر في المجمع أوّلا.

وفي حديث آخر في تفسير هذا (٢) : إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثّناء والعمل الصّالح ، فلا تقبله منه وكذّبه ، فقد ظلمك.

وقرئ : «إلّا من ظلم» على البناء للفاعل ، فيكون الاستثناء منقطعا ، أي : ولكنّ الظّالم يفعل ما لا يحبّه الله (٣).

(وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) : لما يجهر به من سوء القول.

(عَلِيماً) (١٤٨) : بصدق الصّادق وكذب الكاذب ، فيجازي كلا بعمله.

(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً) : طاعة وبرّا.

(أَوْ تُخْفُوهُ) : تفعلوه سرا.

(أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) : لكم المؤاخذة عليه. وهو المقصود. وذكر إبداء الخير وإخفائه تشبيب له ، ولذلك رتّب عليه قوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) (١٤٩) : أي : يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام ، فأنتم لعدم كمال قدرتكم أولى بذلك. وهو حثّ المظلوم على العفو ، بعد ما رخّص له في الانتصار ، حملا على مكارم الأخلاق.

وفي تقديم «العفوّ» على «القدير» إشارة لطيفة إلى أنّ المعافي من كمال عفوه أن لا يشعر بقدرته حين العفو ، ليتمّ إحسانه بالنسبة إلى المعفوّ عنه ، ولا يصير كالمنّ بعد الصّدقة.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) : بأن يؤمنوا بالله ، ويكفروا برسله.

(وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) : نؤمن ببعض الأنبياء ، ونكفر ببعض. كما فعلته اليهود ، صدّقوا بموسى ومن تقدّمه من الأنبياء ، وكذّبوا عيسى ومحمّدا ـ صلوات الله عليهما ـ. وكما فعلت النّصارى ، صدّقوا عيسى ومن تقدّمه ، وكذّبوا محمّدا ـ صلّى الله عليه وآله ـ. هكذا قيل (٤).

والأولى ، أن يفسّر التّفريق بالإيمان بالله والإيمان بالرّسل أو ببعضهم ، ويجعل

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١٥٧.

(٢) نفس المصدر والموضع.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٢٥٢.

(٤) نفس المصدر ١ / ٢٥٣.

٥٧٥

قوله : «ويقولون» بيانا للتّفريق ، ليناسبه قوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١٥٠) : طريقا وسطا بين الإيمان والكفر ولا واسطة. إذ الحقّ لا يختلف. فإنّ الإيمان بالله إنّما يتمّ بالإيمان برسله وتصديقهم فيما بلّغوا عنه تفصيلا وإجمالا. فالكافر ببعض ذلك كالكافر بالكلّ في الضّلال ، كما قال : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ، أي : الكاملون في الكفر ، لا عبرة بإيمانهم هذا.

(حَقًّا) : مصدر مؤكّد لغيره. أو صفة لمصدر «الكافرين» ، يعني : هم الّذين كفروا كفرا حقّا ، أي : يقينا محقّقا.

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٥١) : يهينهم ويذلّهم.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : قال : هم الّذين أقرّوا برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وأنكروا أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ.

ومعناه : أنّ ذلك كفر ببعض الرّسل (٢) ، أي : بما جاء به من ولاية أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ. وكذلك الّذين أقرّوا برسول الله وأمير المؤمنين ، وأنكروا ما قرّراه من الشّرع الظّاهر ، وآمنوا بأمر آخر سمّوه : باطنا. وسمّوا الإيمان به : إيمانا حقيقيّا.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) : وآمنوا بجميعهم وجميع ما جاؤوا به. وإنّما دخل «بين» على «أحد» وهو يقتضي متعدّدا لعمومه ، من حيث أنّه وقع في سياق النّفي.

(أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) : الموعودة لهم. سمّي الثّواب أجرا ، للدّلالة على استحقاقهم لها. والتّصدير «بسوف» للدّلالة على أنّه كائن لا محالة وإن تأخّر.

وقرأ حفص عن عاصم ، وقالون عن يعقوب ، بالياء ، على تلوين الخطاب (٣).

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً) : لم يزل يغفر ما فرط منهم من المعاصي.

(رَحِيماً) (١٥٢) : يتفضّل عليهم بتضعيف الحسنات.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) :

في مجمع البيان (٤) : روي أنّ كعب بن الأشرف وجماعة من اليهود قالوا : إن كنت

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١٥٧.

(٢) كذا في النسخ ولعل الصواب : الرسالة.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٢٥٣.

(٤) مجمع البيان ٢ / ١٣٣.

٥٧٦

صادقا ، فأتنا بكتاب من السّماء جملة كما أتى موسى.

وقيل (١) : كتابا محرّرا بخطّ سماويّ على ألواح ، كما كانت التّوراة. أو كتابا نعاينه حين ينزل. أو كتابا إلينا بأعياننا ، بأنّك رسول الله.

(فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) : جواب شرط مقدّر ، أي : إن استكبرت ما سألوه منك ، فقد سألوا موسى أكبر منه.

وهذا السّؤال وإن كان من آبائهم أسند إليهم ، لأنّهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم.

والمعنى : أنّ عرقهم راسخ في ذلك ، وأنّ ما اقترحوه عليك ليس بأوّل جهالاتهم وخيالاتهم.

(فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) : عيانا ، أي : أرنا نره جهرة. أو مجاهرين ومعاينين.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) : نار جاءت من السّماء ، وأهلكتهم.

(بِظُلْمِهِمْ) : بسبب ظلمهم ، وتعنّتهم ، وسؤالهم ما يستحيل على الله ـ تعالى ـ.

(ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) : هذه الجناية الثّانية الّتي اقترفها ـ أيضا ـ أوائلهم.

و «البيّنات» المعجزات ولا يجوز حملها على التّوراة ، إذ لم تأتهم بعد.

(فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) : لسعة رحمتنا.

[(وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) (١٥٣) : حجّة بيّنة ، تبيّن صدقه.

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) : الجبل. (بِمِيثاقِهِمْ) : ليقبلوه] (٢).

(وَقُلْنا لَهُمُ) : على لسان موسى ، والجبل مظلّ عليهم.

(ادْخُلُوا الْبابَ) ، أي : باب حطّة.

(سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) :

قيل (٣) : على لسان داود. ويحتمل أن يراد على لسان موسى حين ظلّل الجبل عليهم ، فإنّه شرّع السّبت ولكن كان الاعتداء فيه والمسخ به في زمن داود.

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٢٥٣.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في ر.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٢٥٤.

٥٧٧

وقرأ ورش ، عن نافع «ولا تعدّوا» على أن أصله «لا تعتدوا» فأدغمت التّاء في الدّال (١).

وقرأ قالون ، بإخفاء حركة العين وتشديد الدّال والنّصّ عنه بالإسكان (٢).

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١٥٤) : على ذلك. وهو قولهم : سمعنا وأطعنا.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) ، أي : فخالفوا ونقضوا ، ففعلنا ما فعلنا بنقضهم.

و «ما» مزيدة للتّأكيد.

و «الباء» متعلّقة بالفعل المحذوف. ويجوز أن تتعلّق «بحرّمنا عليهم» المذكور الآتي. فيكون التّحريم بسبب النّقض ، و «ما» عطف عليه إلى قوله : «فبظلم» لا بما دلّ عليه قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) مثل «لا يؤمنون» لأنّه ردّ لقولهم : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فيكون من صلة قولهم المعطوف على المجرور ، فلا يتعلّق به جارّه.

(وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) : بالقرآن. أو بما في كتابهم.

(وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) :

في تفسير عليّ بن إبراهيم (٣) قال : هؤلاء لم يقتلوا الأنبياء وإنّما قتلهم أجدادهم ، فرضي هؤلاء بذلك ، فألزمهم الله القتل بفعل أجدادهم. وكذلك من رضى بفعل ، فقد لزمه وإن لم يفعله.

(وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) : أوعية للعلوم. أو في أكنّة. وقد مرّ تفسيره.

(بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) : فجعلها محجوبة عن العلم. أو خذلها ومنعها التّوفيق للتّدبّر في الآيات والتّذكير بالمواعظ.

وفي عيون الأخبار (٤) ، بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال : سألت أبا الحسن الرّضا ـ عليه السّلام ـ إلى أن قال : وسألته عن قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ).

قال : الختم ، هو الطّبع على قلوب الكفّار ، عقوبة على كفرهم. قال ـ عزّ وجلّ ـ : (بَلْ طَبَعَ اللهُ) إلى قوله : (بُهْتاناً عَظِيماً).

(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٥٥) : منهم ، كعبد الله بن سلام. أو إيمانا قليلا ،

__________________

(١ و ٢) نفس المصدر والموضع.

(٣) تفسير القمي ١ / ١٥٧.

(٤) عيون أخبار الرضا ـ عليه السّلام ـ ١ / ١٠١ ، ح ١٦.

٥٧٨

لا عبرة به لنقصانه.

(وَبِكُفْرِهِمْ) : بعيسى. وهو معطوف على «بكفرهم» ، لأنّه من أسباب الطّبع.

أو على قوله : «فبما نقضهم». ويجوز أن يعطف مجموع هذا وما عطف عليه ، على مجموع ما قبله. ويكون تكرير ذكر الكفر إيذانا بتكرير كفرهم ، فإنّهم كفروا بموسى ثمّ بعيسى ثمّ بمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

(وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) (١٥٦) ، يعني : نسبتها إلى الزّنا.

في أمالي الصّدوق ـ رحمه الله (١) ـ ، بإسناده إلى الصّادق ـ عليه السّلام ـ حديث طويل ، يقول فيه ـ عليه السّلام ـ لعلقمة : يا علقمة ، إنّ رضا النّاس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ، ألم ينسبوا مريم ابنة عمران ـ عليها السّلام ـ (٢) إلى أنّها حملت بعيسى ـ عليه السّلام ـ من رجل نجّار اسمه يوسف.

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) ، يعني : رسول الله بزعمهم.

ويحتمل أنّهم قالوه استهزاء ، ونظيره : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). وأن يكون استئنافا من الله بمدحه. أو وضعا للذّكر الحسن ، مكان ذكرهم القبيح.

(وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) : قد مضى ذكر هذه القصّة في سورة ، عند قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ).

قيل (٣) : إنّما ذمّهم الله بما دلّ عليه الكلام من جرأتهم على الله ، وقصدهم قتل نبيّه المؤيّد بالمعجزات القاهرة ، وتبجّحهم به ، لا لقولهم هذا على حسب حسبانهم.

والظّاهر ، أنّ ذمّهم لجرأتهم ، وقولهم كليهما.

و «شبّه» مسند إلى الجار والمجرور ، وكأنّه قيل : ولكن وقع لهم التّشبيه بين عيسى والمقتول. أو إلى الأمر. أو إلى ضمير المقتول ، لدلالة «إنّا قتلنا» على أنّ ثمّة مقتولا.

وفي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة (٤) ، بإسناده إلى سدير الصّيرفيّ ، عن أبي

__________________

(١) أمالي الصدوق / ٩١ و ٩٢ ، ضمن حديث ٣.

(٢) المصدر : مريم بنت عمران ـ عليها السّلام ـ.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٢٥٤.

(٤) كمال الدين وتمام النعمة / ٣٥٤ ، ح ٤٩.

٥٧٩

عبد الله ـ عليه السّلام ـ حديث طويل ، وفيه : وأمّا غيبة عيسى ـ عليه السّلام ـ فإنّ اليهود والنّصارى اتّفقت على أنّه قتل ، فكذّبهم الله ـ جل ذكره ـ بقوله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).

[وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : حدّثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن صالح ، عن حمران بن أعين ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : إنّ عيسى ـ عليه السّلام ـ وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه ، فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلا ، فأدخلهم بيتا ثمّ خرج عليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه من الماء.

فقال : إنّ الله أوحى إليّ أنّه رافعي إليه السّاعة ومطهّري من اليهود. فأيّكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي؟ فقال شابّ منهم : أنا يا روح الله.

فقال : فأنت هو ذا.

فقال لهم عيسى : أما إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة.

فقال له رجل منهم : أنا يا نبيّ الله. فقال عيسى : أتحسّ (٢) بذلك في نفسك ، فلتكن هو.

ثمّ قال لهم عيسى : أما إنّكم ستفترقون بعدي على ثلاث فرق ، فرقتين مفتريتين على الله في النّار وفرقة تتّبع شمعون صادقة على الله في الجنّة.

ثمّ قال (٣) رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه.

ثمّ قال أبو جعفر ـ عليه السّلام ـ : إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم ، فأخذوا الرّجل الّذي قال له عيسى : إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة. وأخذوا الشّابّ الّذي ألقي عليه شبح عيسى ـ عليه السّلام ـ فقتل وصلب ، وكفر الّذي قال له عيسى : تكفر قبل أن تصبح اثنتي عشرة كفرة] (٤).

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) : في شأن عيسى.

قال البيضاويّ (٥) : فإنّه لمّا وقعت تلك الواقعة اختلف النّاس. فقال بعض اليهود : إنّه كان كاذبا فقتلناه حقّا. وتردّد آخرون. فقال بعضهم : إن كان هذا عيسى

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١٠٣.

(٢) المصدر : أن تحسّ.

(٣) ليس في المصدر.

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٢٥٥.

٥٨٠