تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٣

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٣

قلت : فإنّ إماما هلك ، ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه ، لم يسعه ذلك؟

قال : لا يسعه ، إنّ الإمام إذا هلك وقعت حجّة وصيه على من هو معه في البلد ، وحقّ النّفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم ، إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول (١) : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

قلت : فنفر قوم فهلك بعضهم قبل أن يصل فيعلم؟

قال : إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

والحديث طويل ، أخذت منه موضع الحاجة.

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى (٢) ، عن محمّد بن خالد ، عن النّضر بن سويد ، عن يحيى الحلبيّ ، عن بريد بن معاوية ، عن محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ : أصلحك الله ، بلغنا شكواك وأشفقنا ، فلو أعلمتنا أو علّمتنا من؟

فقال : إنّ عليّا ـ عليه السّلام ـ كان عالما والعلم يتوارث ، فلا يهلك عالم إلّا بقي من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء الله.

قلت : أفيسع النّاس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الّذي بعده؟

فقال : أمّا أهل هذه البلدة فلا ، يعني : المدينة. وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم ، إنّ الله يقول (٣) : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

قال : قلت : أرأيت من مات في ذلك؟ فقال : هو بمنزلة من خرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثمّ يدركه الموت ، فقد وقع أجره على الله].(٤).

وفي تفسير العيّاشي (٥) ، بإسناده ، عن محمّد بن أبي عمير (٦) قال : وجّه زرارة بن أعين (٧) ابنه عبيدا إلى المدينة يستخبر له خبر أبي الحسن موسى بن جعفر (٨) وعبد الله. فمات قبل أن يرجع إليه عبيد ابنه.

__________________

(١) التوبة / ١٢٢.

(٢) نفس المصدر ١ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ، ح ٣ وله ذيل.

(٣) التوبة / ١٢٢.

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٥) تفسير العياشي ١ / ٢٧٠ ، ح ٢٥٣.

(٦) المصدر : عن ابن أبي عمير.

(٧) «بن أعين» ليس في المصدر.

(٨) «موسى بن جعفر» ليس في المصدر.

٥٢١

قال محمّد بن أبي عمير : حدّثني محمّد بن حكيم قال : ذكرت (١) لأبي الحسن (٢) ـ عليه السّلام ـ زرارة وتوجيهه (٣) عبيدا إلى المدينة.

فقال (٤) : إنّي لأرجو أن يكون زرارة ممّن قال الله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) (الآية).

عن أبي الصّباح (٥) قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ : ما تقول في رجل دعي إلى هذا الأمر فعرفه وهو في أرض منقطعة إذ جاء موت الإمام ، فبينا هو ينتظر إذ جاءه الموت؟

فقال : هو والله بمنزلة من هاجر إلى الله ورسوله فمات ، فقد وقع أجره على الله.

وفي الكافي (٦) : عليّ بن محمّد بن بندار ، عن إبراهيم بن إسحاق ، عن محمّد بن سليمان الدّيلمي (٧) عن أبي حجر الأسلميّ ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : من أتى مكّة حاجّا ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة ، ومن أتاني زائرا وجبت له شفاعتي ، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنّة ، ومن مات في أحد الحرمين مكّة والمدينة لم يعرض ولم يحاسب ، ومن مات مهاجرا إلى الله ـ تعالى ـ حشره الله ـ تعالى (٨) ـ مع أصحاب بدر.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) : سافرتم.

(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) : بتنصيف الرّباعيّات.

و «من الصّلاة» صفة محذوف ، أي : شيئا من الصّلاة. عند سيبويه. ومفعول «تقصروا» بزيادة «من» عند الأخفش (٩). والقصر ، واجب. ونفي الجناح ، لأنّهم ألفوا التّمام وكان مظنّة لأن يخطر ببالهم أنّ عليهم نقصانا في التّقصير ، فرفع عنهم الجناح

__________________

(١) المصدر : قلت.

(٢) المصدر : لأبي الحسن الأوّل ـ عليه السّلام ـ فذكرت له.

(٣) المصدر : وتوجيه ابنه.

(٤) المصدر : فقال أبو الحسن.

(٥) نفس المصدر والموضع ، ح ٢٥٢.

(٦) الكافي ٤ / ٥٤٨ ، ح ٥.

(٧) هو محمد بن سليمان البصريّ الديلمي أبو عبد الله. وفي النسخ «المديني» بدل «الديلمي» وهي خطأ.

ر. تنقيح المقال ٣ / ١٢٢ ، رقم ١٠٧٨٩ ورقم ١٠٧٩٣.

(٨) ر : حشره الله تعالى يوم القيامة.

(٩) أنوار التنزيل ١ / ٢٤٠.

٥٢٢

لتطيب نفوسهم بالقصر ويطمئنّوا إليه.

وفي من لا يحضره الفقيه وتفسير العيّاشيّ (١) : روي عن زرارة ومحمّد بن مسلم أنّهما قالا : قلنا لأبي جعفر ـ عليه السّلام ـ : ما تقول في الصّلاة في السّفر ، كيف هي ، وكم هي؟

فقال : إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فصار التّقصير في السّفر واجبا كوجوب التّمام في الحضر.

قالا : قلنا : إنّما قال الله ـ تعالى ـ : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل : افعلوا.

كيف أوجب ذلك كما أوجب التّمام في الحضر؟

فقال ـ عليه السّلام ـ : أو ليس قد قال الله ـ عزّ وجلّ (٢) ـ : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ألا ترون أنّ الطّواف بهما واجب مفروض ، لأنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ ذكره في كتابه وصنعه (٣) نبيّه ـ عليه السّلام ـ وكذلك التّقصير في السّفر ، شيء صنعه النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ وذكره الله ـ تعالى ـ في كتابه.

قالا : قلنا : فمن صلّى في السّفر أربعا أيعيد أم لا؟

قال : إن كان قد قرئت عليه آية التّقصير وفسّرت له وصلّى أربعا أعاد. وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه. والصّلاة كلّها في السّفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة إلّا المغرب. فإنّها ثلاث. ليس فيها تقصير. وتركها رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في السّفر والحضر ثلاث ركعات.

وزاد في الفقيه : وقد سافر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إلى ذي خشب ، وهي مسيرة يوم من المدينة ، يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا. فقصّر وأفطر فصارت سنّة. وقد سمّى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قوما صاموا حين أفطر : العصاة. قال : فهم العصاة إلى يوم القيامة ، وإنّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا.

وفي عيون الأخبار (٤) ، في باب العلل الّتي ذكر الفضل بن شاذان أنّه سمعها من

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ، ح ١٢٦٦ وتفسير العياشي ١ / ٢٧١ ، ح ٢٥٤.

(٢) البقرة / ١٥٨.

(٣) أ : وضعه.

(٤) عيون أخبار الرضا ـ عليه السّلام ـ ٢ / ١١١ ، ح ١.

٥٢٣

الرّضا ـ عليه السّلام ـ : فإن قال : فلم قصرت الصّلاة في السّفر؟ قيل : لأنّ الصّلاة المفروضة أوّلا إنّما هي عشر ركعات ، والسّبع إنّما زيدت فيما بعد. فخفّف عنه تلك الزّيادة لموضع سفره وتعبه ونصبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته لئلّا يشتغل عمّا لا بدّ له من معيشته ، رحمة من الله ـ تعالى ـ وتعطّفا عليه ، إلّا صلاة المغرب. فإنّها لم تقصر.

لأنّها صلاة مقصرة في الأصل.

فإن قال : فلم وجب التّقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؟

قيل : لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامّة والقوافل والأثقال. فوجب التّقصير في مسيرة يوم. فإن قال : فلم وجب التّقصير في مسيرة يوم؟

قيل : لأنّه لو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة سنة. وذلك أنّ كلّ يوم يكون بعد هذا اليوم فإنّما هو نظير هذا اليوم. فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره إذا كان نظيره مثله لا فرق بينهما.

وفي الكافي (١) : عليّ بن محمّد ، عن بعض أصحابنا ، عن عليّ بن الحكم ، عن ربيع بن محمّد المسلي (٢) ، عن عبد الله بن سليمان العامريّ ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : لمّا عرج برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ نزل بالصّلاة عشر ركعات ، ركعتين ركعتين. فلمّا ولد الحسن ـ عليه السّلام ـ والحسين زاد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ سبع ركعات شكرا لله. فأجاز الله ذلك. وترك الفجر. ولم يزد فيها شيئا لضيق وقتها. لأنّه يحضرها ملائكة اللّيل وملائكة النّهار. فلمّا أمره الله بالتّقصير في السّفر وضع عن أمّته ستّ ركعات وترك المغرب لم ينقص منها شيئا.

وفي كتاب علل الشّرائع (٣) ، بإسناده إلى أبي محمّد العلويّ الدّينوريّ ، بإسناده رفع الحديث إلى الصّادق ـ عليه السّلام ـ قال : قلت : لم صارت المغرب ثلاث ركعات وأربعا بعدها ليس فيها تقصير في حضر ولا في سفر؟

فقال : إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ أنزل على نبيّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ كلّ صلاة

__________________

(١) الكافي ٣ / ٤٨٧ ، ح ٢.

(٢) النسخ : «المسلميّ». وهي خطأ. ر. تنقيح المقال ١ / ٤٢٧ ، رقم ٤٠٢٠. وهو الربيع بن محمد بن عمر بن حسّان الأصم المسلّميّ الكوفي.

(٣) علل الشرائع ٢ / ٣٢٤ ، ح ١.

٥٢٤

ركعتين في الحضر. فأضاف إليها رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لكلّ صلاة ركعتين في الحضر وقصّر فيها في السّفر إلّا المغرب. فلمّا صلّى المغرب بلغه مولد فاطمة ـ عليهما السّلام ـ فأضاف إليها ركعة شكرا لله ـ عزّ وجلّ ـ. فلمّا أن ولد الحسن ـ عليه السّلام ـ أضاف إليها ركعتين شكرا لله ـ عزّ وجلّ ـ. فلمّا أن ولد الحسين ـ عليه السّلام ـ أضاف إليها ركعتين شكرا لله ـ عزّ وجلّ ـ. فقال (١) : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). فتركها على حالها في الحضر والسّفر.

وعن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله (٢) ـ : فرض المسافر ركعتان غير قصر.

أي (٣) : ثوابه تمام. وفي كلّ الأسفار المشروعة القصر واجب إلّا في أربعة مواضع : مكّة ، والمدينة ، ومسجد الكوفة ، وحرم الحسين ـ عليه السّلام ـ. فإنّ المسافر فيها مخيّر بين القصر والإتمام. والإتمام أفضل.

ففي الكافي (٤) : محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عليّ بن الحكم ، عن الحسين بن المختار ، عن أبي إبراهيم ـ عليه السّلام ـ قال : قلت له : إنّا إذا دخلنا مكّة والمدينة أنتمّ (٥) أم نقصر؟

قال : قصرت فذاك. فإن أتممت فهو خير تزداد.

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد (٦) ، عن الحسين بن سعيد ، عن عبد الملك القمّيّ ، عن إسماعيل بن جابر ، عن عبد الحميد خادم إسماعيل بن جعفر ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : تتمّ الصّلاة في أربعة مواطن : المسجد الحرام ، ومسجد الرّسول ـ عليه السّلام ـ ومسجد الكوفة ، وحرم الحسين ـ عليه السّلام ـ.

والأخبار في معانيه كثيرة. وفي بعضها قال أبو إبراهيم ـ عليه السّلام ـ (٧) وقد ذكر الحرمين : كان أبي يقول : إنّ الإتمام فيهما من الأمر المذخور.

(إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) (١٠١) : شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت. ولذلك لم يعتبر مفهومها. وقد

__________________

(١) النساء / ١٧٦.

(٢) تفسير الصافي ١ / ٤٥٦.

(٣) يوجد في أقبل هذه العبارة : ومعنى قوله غير قصر.

(٤) الكافي ٤ / ٥٢٤ ، ح ٦.

(٥) هكذا في أ. وفي سائر النسخ : نتمّ.

(٦) نفس المصدر ٤ / ٥٨٧ ، ح ٥.

(٧) نفس المصدر ٤ / ٥٢٤ ، ح ٧.

٥٢٥

تظاهرت الأخبار على وجوبه ـ أيضا ـ في حال الأمن. ويحتمل أن يكون المراد ـ والله أعلم ـ : أنّه لا جناح عليكم في القصر في صورة الأمن في السّفر ، فيقصر أربع ركعات إلى ركعتين. وأمّا مع الخوف فقصر الرّكعتين إلى ركعة واحدة ، بمعنى : كون إحدى الرّكعتين مع الجماعة والأخرى بدونها. أو كونهما بإيماء ونقص كيفيّة تعدّ الرّكعتان معها بركعة واحدة.

وعلى هذا المعنى يحمل ما رواه في الكافي (١) : عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه وأحمد بن إدريس ومحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد جميعا ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : في الرّكعتين تنقص منها واحدة.

وقرئ : «من الصّلاة أن يفتنكم» بغير «إن خفتم» ، بمعنى : كراهة أن يفتنكم. وهو القتال ، والتّعرّض بما يكره (٢).

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) : الخطاب وإن تعلّق بالنّبيّ والأئمّة والمقصود عمومه ، لإجماع الطّائفة المحقّة وغيرهم على عدم الاختصاص بحضرة النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

(فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) : وتقوم الطّائفة الأخرى اتّجاه العدوّ.

(وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) ، أي : المصلّون حزما.

وقيل (٣) : الضّمير للطّائفة الأخرى ، وذكر الطّائفة الأولى يدلّ عليهم. وسياق الآية يدلّ على الأوّل.

(فَإِذا سَجَدُوا) ، يعني : المصلّين.

(فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) : يحرسونكم ، يعني : النّبيّ ومن يصلّي معه. فغلب المخاطب على الغائب.

(وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) : لاشتغالهم بالحراسة.

(فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) : والآية مطلقة ، في أنّ الإمام يصلّي مرّتين بكلّ طائفة

__________________

(١) نفس المصدر ٣ / ٤٥٨ ، ح ٤.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٢٤٠.

(٣) نفس المصدر والموضع.

٥٢٦

وكانت الثّانية نفلا له ، كما فعله رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ببطن النّخل. وفي أن يصلّي بكلّ فرقة ركعة إن كانت الصّلاة ركعتين. وفي أنّ يصلّي مع الفرقة الأولى ركعة ومع الثّانية ركعتين ، أو بالعكس إذا كانت ثلاثيّة.

وفي الكافي (١) : محمّد بن يحيى ، عن عبد الله بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن الحكم ، عن أبان ، عن عبد الرّحمن بن أبي عبد الله ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : صلّى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بأصحابه في غزوة ذات الرّقاع صلاة الخوف.

ففرّق أصحابه فرقتين ، أقام فرقة بإزاء العدوّ وفرقة خلفه. فكبّر وكبّروا. فقرأ وأنصتوا.

وركع فركعوا. وسجد وسجدوا. ثمّ استمرّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قائما وصلّوا لأنفسهم ركعة. ثمّ سلّم بعضهم على بعض. ثمّ خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدوّ. وجاء أصحابهم. فقاموا خلف رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ. فصلّى بهم ركعة ، ثمّ تشهّد وسلّم عليهم. فقاموا وصلّوا لأنفسهم ركعة. ثمّ سلّم بعضهم على بعض.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه (٢) ، عن ابن عمير ، عن حمّاد ، عن الحلبيّ قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن صلاة الخوف؟ قال : يقوم الإمام. وتجيء طائفة من أصحابه. فيقومون خلفه وطائفة بإزاء العدوّ. فيصلّي بهم الإمام ركعة. ثمّ يقوم ويقومون معه. فيمثل قائما ويصلّون الرّكعة. [الثّانية. ثمّ يسلّم بعضهم على بعض. ثمّ ينصرفون فيقومون في مقام أصحابهم. ويجيء الآخرون فيقومون خلف الإمام. فيصلي بهم الركعة الثانية] (٣) ثمّ يجلس الإمام فيقومون هم فيصلّون ركعة أخرى. ثمّ يسلّم عليهم فينصرفون بتسليمه.

قال : وفي المغرب مثل ذلك ، يقوم الإمام. وتجيء طائفة فيقومون خلفه. ثمّ يصلّي بهم ركعة. ثمّ يقوم ويقومون. فيمثل الإمام قائما. فيصلّون ركعتين. فيتشهّدون.

ويسلّم بعضهم على بعض. ثمّ ينصرفون فيقومون في موقف أصحابهم. ويجيء الآخرون.

ويقومون في موقف أصحابهم خلف الإمام. فيصلّي بهم ركعة يقرأ فيها. ثمّ يجلس فيتشهّد. ثمّ يقوم ويقومون معه ويصلّي بهم ركعة أخرى. ثمّ يجلس ويقومون هم فيتمّون ركعة أخرى. ثمّ يسلّم عليهم.

__________________

(١) الكافي ٣ / ٤٥٦ ، ح ٢.

(٢) نفس المصدر ٣ / ٤٥٥ ، ح ١.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٥٢٧

(وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) : جعل الحذر آلة يتحصّن بها الغازي.

فجمع بينه وبين الأسلحة في وجوب الأخذ. ونظيره قوله ـ تعالى (١) ـ : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ).

(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) : تمنّوا أن ينالوا منكم غرّة في صلاتكم ، فيشدّون عليكم شدّة واحدة. وهو بيان ما لأجله أمروا بأخذ السّلاح.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) : رخصة لهم في وضعها إذا ثقل عليهم أخذها ، بسبب مطر أو مرض. وهذا ممّا يشعر ، بأنّ الأمر بأخذ السّلاح ، للوجوب.

(وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) : كيلا يهجم عليكم العدوّ.

(إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٠٢) : وعد للمؤمنين بالنّصر على الكفّار ، بعد الأمر بالحزم ، لتقوى قلوبهم ، وليعلموا أنّ الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوّهم ، بل لأنّ الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التّيقّظ والتّدبّر ، فيتوكّلوا على الله.

في تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : هذه الآية نزلت لمّا خرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إلى الحديبية يريد مكّة. فلمّا وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مأتي فارس يستقبل رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فكان يعارض رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ على الجبال. فلمّا كان في بعض الطّريق وحضرت صلاة الظّهر ، أذّن بلال وصلّى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

فقال خالد بن الوليد : لو كنّا حملنا عليهم وهم في الصّلاة ، لأصبناهم فإنّهم لا يقطعون الصّلاة. ولكن تجيء لهم الآن صلاة أخرى هي أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم. فإذا دخلوا فيها حملنا عليهم. فنزل جبرئيل ـ عليه السّلام ـ بصلاة الخوف بهذه الآية. ففرّق رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أصحابه فرقتين. فوقف بعضهم تجاه العدوّ وقد أخذوا سلاحهم. وفرقة صلّوا مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قائما ومرّوا فوقفوا موقف أصحابهم. وجاء أولئك الّذين لم يصلّوا. فصلّى بهم رسول الله

__________________

(١) الحشر / ٩.

(٢) تفسير القمي ١ / ١٥٠.

٥٢٨

ـ صلّى الله عليه وآله ـ الرّكعة الثّانية ولهم الأولى. وقعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وقام أصحابه فصلّوا هم الرّكعة الثّانية وسلّم عليهم.

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) : أدّيتم وفرغتم منها. أو إذا أردتم الصّلاة واشتدّ الخوف.

(فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) : فدوموا على الذّكر في جميع الأحوال. أو فصلّوا كيف ما أمكن ، قياما مسايفين ومقارعين ، وقعودا مرامين ، وعلى جنوبكم مثخنين.

[وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : قوله : (فَإِذا) (٢) (قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) قال : الصّحيح يصلّي قائما ، والعليل يصلّي قاعدا ، ومن لم يقدر (٣) فمضطجعا يومئ إيماء.

وفي من لا يحضره الفقيه (٤) : وقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : المريض يصلّي قائما ، فإن لم يستطع صلّى جالسا. فإن لم يستطع صلّى على جنبه الأيمن. فإن لم يستطع صلّى على جنبه الأيسر. فإن لم يستطع استلقى وأومأ إيماء وجعل وجهه نحو القبلة وجعل سجوده أخفض من ركوعه.

وقال الصّادق ـ عليه السّلام ـ (٥) : المريض يصلّي قائما. فإن لم يقدر على ذلك صلّى جالسا. فإن لم يقدر أن يصلّي جالسا صلّى مستلقيا ، يكبّر ثمّ يقرأ. فإذا أراد الرّكوع غمض عينيه ثمّ سبحّ. فإذا سبّح فتح عينيه فيكون فتح عينيه رفع رأسه من الرّكوع. فإذا أراد أن يسجد غمض عينيه ثمّ سبّح. فإذا سبّح فتح عينيه فيكون فتح عينيه رفع رأسه من السّجود. ثمّ يتشهّد وينصرف].(٦).

(فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) : سكنت قلوبكم من الخوف ، واستقررتم في أمصاركم.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) : فعدّلوا واحفظوا أركانها وشرائطها ، وأتوا بها تامّة.

(إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣) ، أي ثابتا موجوبا مفروضا.

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١٥٠.

(٢) المصدر : وإذا.

(٣) المصدر : يصلى جالسا فمن لم يقدر.

(٤) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٣٦ ، ح ١٠٣٧.

(٥) نفس المصدر ١ / ٢٣٥ ، ح ١٠٣٣.

(٦) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٥٢٩

في الكافي (١) : محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة بن أيّوب ، عن داود بن فرقد قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ : قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً).

قال : كتابا ثابتا ، وليس ان عجّلت قليلا أو أخّرت قليلا بالّذي يضرّك ما لم تضع تلك الإضاعة. فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ (٢) يقول لقوم : (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا).

عن حمّاد (٣) ، عن حريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ : (مَوْقُوتاً) ، أي : موجوبا.

عليّ بن إبراهيم عن أبيه ، عن ابن عمير ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة والفضيل ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ : (كِتاباً مَوْقُوتاً) ، أي : مفروضا. وليس يعنى : وقت فوتها إذا جاز ذلك الوقت ثمّ صلاها لم تكن صلاته هذه مؤدّاة. ولو كان كذلك لهلك سليمان بن داود حين صلاها لغير وقتها. ولكن متى ذكرها صلاها.

والحديث طويل ، أخذت منه موضع الحاجة.

[وفي من لا يحضره الفقيه (٤) : قال الصّادق ـ عليه السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) قال : مفروضا.

وفي كتاب علل الشّرائع (٥) : حدّثنا محمّد بن الحسن ـ رحمه الله ـ قال : حدّثنا الحسين بن الحسن بن أبان ، عن الحسين بن سعيد ، عن النّضر بن سويد ، عن موسى بن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) ، قال : موجبا. إنّما يعني بذلك : وجوبها على المؤمنين.

ولو كانت كما يقولون لهلك سليمان بن داود حين أخّر الصّلاة حتّى توارت بالحجاب.

لأنّه لو صلاها قبل أن تغيب كانت وقتا ، وليس صلاة أطول وقتا من العصر].(٦).

(وَلا تَهِنُوا) ، أي : لا تضعفوا.

(فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) : في طلب الكفّار ، الّذين هم أعداء الله وأعداؤكم.

__________________

(١) الكافي ٣ / ٢٧٠ ، ح ١٣.

(٢) مريم / ٥٩.

(٣) نفس المصدر ٣ / ٢٧٢ ، ح ٤.

(٤) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٢٥ ، ح ٦٠١.

(٥) علل الشرائع / ٦٠٥ ، ح ٧٩.

(٦) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٥٣٠

(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) : ممّا ينالكم من الجراح منهم.

(فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ) : أيضا ممّا ينالهم من ذلك.

(كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) : من إظهار الدّين ، واستحقاق الثّواب. فأنتم أحرى وأولى على حربهم منهم على قتالكم. وهذا إلزام على المؤمنين وتقريع على التّواني فيه ، بأنّ الضّرر دائر بين الفريقين غير مختصّ بهم ، والنّفع مختصّ بهم.

وقرئ : «أن تكونوا» بالفتح ، أي : ولا تهنوا ، لأن تكونوا تألمون. ويكون قوله : (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ) علّة للنّهي عن الوهن لأجله (١).

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً) : بمصالح خلقه.

(حَكِيماً) (١٠٤) : في ما يأمر وينهى.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : أنّ النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ لمّا رجع من وقعة أحد ودخل المدينة نزل عليه جبرئيل ، فقال : يا محمّد ، إنّ الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ، ولا يخرج معك إلّا من به جراحة.

فأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ مناديا ينادي : يا معشر المهاجرين والأنصار ، من كانت به جراحة فليخرج ، ومن لم يكن به جراحة فليقم. فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها. فأنزل الله على نبيّه : (وَلا تَهِنُوا) (الآية.) وقال ـ عزّ وجلّ ـ (٣) : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) إلى قوله : (شُهَداءَ).

فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) : بما عرّفك ، وأوحى إليك. وليس من الرّؤية ، بمعنى : العلم. وإلّا لاستدعى ثلاثة مفاعيل.

في أصول الكافي (٤) : محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسن قال : وجدت في نوادر محمّد بن سنان ، عن محمّد بن سنان قال : قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ : والله ما فوّض الله إلى أحد من خلقه إلّا إلى رسول الله وإلى الأئمّة ـ عليهم السّلام ـ. قال الله ـ عزّ وجلّ ـ : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) وهي

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٢٤١.

(٢) تفسير القمي ١ / ١٢٤.

(٣) / ١٤٠.

(٤) الكافي ١ / ٢٦٧ ، ح ٨.

٥٣١

جارية في الأوصياء ـ عليهم السّلام ـ.

وفي كتاب الاحتجاج (١) ، للطّبرسي ـ رحمه الله ـ عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ حديث طويل ، يقول فيه ـ عليه السّلام ـ لأبي حنيفة : تزعم أنّك صاحب رأي.

وكان الرّأي من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ صوابا ومن دونه خطأ. لأنّ الله ـ تعالى ـ قال : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) ولم يقل ذلك لغيره.

وفي الجوامع (٢) : روي أنّ أبا طعمة من أبيرق (٣) سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النّعمان. ونقلها عند رجل من اليهود. فأخذ الدّرع من منزل اليهود [يّ] فقال : دفعها إليّ أبو طعمة. فجاء بنو أبيرق إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وكلّموا أن يجادل عن صاحبهم ، وقالوا : «إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهوديّ» فهمّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أن يفعل وأن يعاقب اليهوديّ ، فنزلت.

والظّاهر أنّ هذه الرّواية من العامّة. لأنّهم رووها مع زيادة ومنطبق على أصولهم. والصّحيح ما روى عليّ بن إبراهيم وصاحب مجمع البيان (٤). وسيأتي.

(وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) ، أي : لأجلهم والذّبّ عنهم.

(خَصِيماً) (١٠٥) : للبراء.

[وفي نهج البلاغة (٥) وقال ـ عليه السّلام ـ : من بالغ في الخصومة أثم. ومن قصّر فيها ظلم. ولا يستطيع أن يتّقي الله من خاصم] (٦).

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) : ممّا هممت به ، من عقاب اليهوديّ بالتماس بني أبيرق ـ كما نقل عن النّواصب ـ وممّا فعلت من معاتبة بني قتادة ، وصيرورتك سبب اغتمامه حين لم تطّلع على أنّه محقّ ، على ما سيجيء.

__________________

(١) الاحتجاج ٢ / ١١٧.

(٢) تفسير جوامع الجامع / ٩٦. وتوجد الرواية بطولها وبعبارات أخرى في أنوار التنزيل ١ / ٢٤٢.

(٣) أ : «أبا طعمة بن أبيرق.» وهو صواب ، أيضا.

(٤) هكذا في أ. وفي سائر النسخ : «والصحيح ما روي عن عليّ بن إبراهيم في مجمع البيان» وهي خطأ لأنّه لم تنقل الرواية في مجمع البيان عن عليّ بن إبراهيم ، كما سيأتي عنهما كلّ على حدّة قريبا. وإمّا الرواية موجودة في مجمع البيان ٢ / ١٠٥ وفي تفسير القمي ١ / ١٥٠ ـ ١٥١.

(٥) نهج البلاغة / ٥٢٨ ، حكمة ٢٩٨.

(٦) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٥٣٢

(إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٦) : لمن يستغفره.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : كان سبب نزولها ، أنّ قوما من الأنصار من بني أبيرق إخوة ثلاثة ، كانوا منافقين ، بشير ومبشر وبشر. فنقبوا على عمّ قتادة بن النّعمان ، وكان قتادة بدريّا ، وأخرجوا طعاما كان أعدّه لعياله وسيفا ودرعا. فشكى قتادة ذلك إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ. فقال : يا رسول الله ، إنّ قوما نقبوا على عمّي ، وأخذوا طعاما كان أعدّه لعياله وسيفا ودرعا ، وهم أهل بيت سوء. وكان معهم في الرّأي رجل مؤمن يقال له : لبيد بن سهل.

فقال بنو أبيرق لقتادة : هذا عمل لبيد بن سهل. فبلغ ذلك لبيد. فأخذ سيفه.

وخرج عليهم. فقال : يا بني أبيرق ، أترمونني بالسّرق وأنتم أولى به منّي ، وأنتم المنافقون تهجون رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وتنسبونه إلى قريش ، لتبيّننّ ذلك أو لأملأنّ سيفي منكم. فداروه وقالوا له : ارجع رحمك الله. فإنّك بريء من ذلك.

فمشى بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له : أسيد بن عروة. وكان منطيقا بليغا. فمشى إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ. فقال : يا رسول الله ، إنّ قتادة بن النّعمان عمد إلى اهل بيت من أهل شرف وحسب ونسب. فرماهم بالسّرق. واتّهمهم بما ليس فيهم.

فاغتمّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ من ذلك. وجاء إليه قتادة. فأقبل عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال له : عمدت إلى أهل بيت شرف وحسب ونسب فرميتهم بالسّرقة. وعاتبه عتابا شديدا. فاغتمّ قتادة من ذلك. ورجع إلى عمّه. وقال : ليتني متّ ولم أكلّم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقد كلّمني بما كرهته.

فقال له عمّه : الله المستعان. فأنزل الله في ذلك على نبيّه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) (الآيات).

وفي مجمع البيان (٢) ما يقرب منه. قال : وكان بشير يكنّى أبا طعمة ، وكان يقول الشّعر ويهجو به أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ثمّ يقول : قاله فلان.

(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) : يخونونها. فإنّ وبال خيانتهم يعود إليها. أو جعل المعصية خيانة لها ، كما جعلت ظلما عليها.

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١٥٠ ـ ١٥١.

(٢) مجمع البيان ٢ / ١٠٥.

٥٣٣

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) : مبالغة في الخيانة ، مصرّا عليها.

(أَثِيماً) (١٠٧) : منهمكا فيه (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) : يستترون منهم ، حياء وخوفا.

(وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) : ولا يستحيون منه. وهو أحقّ بأن يستحيا ، ويخاف منه.

(وَهُوَ مَعَهُمْ) : لا يخفى عليه سرّهم. فلا طريق معه إلّا ترك ما يستقبحه ، ويؤاخذ عليه.

(إِذْ يُبَيِّتُونَ) : يدبّرون ويزوّرون.

(ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) : من رمي الغير ، والحلف الكاذب ، وشهادة الزّور (١).

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : يعني : الفعل. فوقع القول ، مقام الفعل.

(وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (١٠٨) : لا يفوت عنه شيء.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) : مبتدأ وخبر.

(جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : جملة مبنيّة لوقوع «أولاء» خبرا.

أوصلته ، عند من يجعله موصولا.

(فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (١٠٩) :

محاميا ، يحميهم من عذاب الله.

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) : قبيحا ، يسوء به غيره.

(أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) : بما يختصّ به ولا يتعدّاه.

وقيل (٣) : المراد بالسّوء ، ما دون الشّرك. وبالظّلم ، الشّرك.

وقيل (٤) : الصّغيرة والكبيرة.

(ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) : بالتّوبة.

(يَجِدِ اللهَ غَفُوراً) : لذنوبه.

(رَحِيماً) (١١٠) : متفضّلا عليه. وفيه حثّ لهم على التّوبة.

__________________

(١) النسخ : الشهادة الزور.

(٢) تفسير القمي ١ / ١٥١.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٢٤٢.

(٤) نفس المصدر والموضع.

٥٣٤

وفي نهج البلاغة (١) : من أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة ـ ثمّ تلا الآية ـ.

(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) : فلا يتعدّاه وباله.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١١١) : فهو عالم بفعله ، حكيم في مجازاته.

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) : صغيرة ، أو ما لا عمد فيه.

(أَوْ إِثْماً) : كبيرة ، أو ما كان عن عمد.

(ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) : كما رمى بشير لبيدا. ووحّد الضّمير لمكان «أو».

(فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (١١٢) : بسبب رمي البريء ، وتنزيه النّفس الخاطئة. ولذلك سوّى بينهما ، وإن كان مقترف أحدهما دون مقترف الآخر.

وفي تفسير العيّاشي (٢) : عن عبد الله بن حمّاد الأنصاريّ ، عن عبد الله بن سنان ، قال : قال لي أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ : الغيبة ، أن تقول في أخيك ما هو فيه ممّا قد ستره الله عليه. فأمّا إذا قلت ما ليس فيه ، فذاك قول الله : (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) : بإلهام ما همّ عليه بالوحي.

(لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) ، أي : أن يضلّوك عن القضاء بالحقّ ، مع علمهم بالحال.

والجملة جواب «لولا». وليس المراد نفي همّهم ، بل نفي تأثيره فيه.

(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) : لأنّه ما أزلّوك عن الحقّ ، وعاد وباله إليهم.

(وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) : فإنّ الله عاصمك وناصرك ومؤيّدك ، وما جرى عليك من معاتبة قتادة كان اعتمادا منك على ظاهر الأمر.

و «من شيء» في موضع النّصب على المصدر ، أي : شيئا من الضّرر.

(وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) : من خفيّات الأمور ، وأمور الدّين والأحكام.

(وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣) : إذ لا فضل أعظم من النّبوّة.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٣) : وفي رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر

__________________

(١) نهج البلاغة / ٤٩٤ ، حكمة ١٣٥.

(٢) تفسير العياشي ١ / ٢٧٥ ، ح ٢٧٠.

(٣) تفسير القمي ١ / ١٥٢.

٥٣٥

ـ عليه السّلام ـ قال : إنّ أناسا من رهط بشير الأدنين قالوا : انطلقوا [بنا] (١) إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ نكلّمه (٢) في صاحبنا ونعذره. فإنّ صاحبنا بريء. فلمّا أنزل الله (٣) (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) إلى قوله : (وَكِيلاً) فأقبلت رهط بشير. فقالوا : يا بشير ، استغفر الله وتب من الذّنب.

فقال : والّذي أحلف به ما سرقها إلّا لبيد. فنزلت (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ثمّ أنّ بشيرا كفر ولحق بمكّة. وأنزل الله في النّفر الّذين أعذروا (٤) بشيرا وأتوا النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ ليعذروه (٥) (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) (٦) (الآية) ونزل في بشير وهو بمكّة (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٧).

وفي روضة الكافي (٨) : محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن سليمان الجعفريّ قال : سمعت أبا الحسن ـ عليه السّلام ـ يقول في قول الله ـ تعالى ـ : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) قال : يعني : فلانا وفلانا وأبا عبيدة بن الجرّاح.

وفي كتاب الاحتجاج (٩) ، للطّبرسي ـ رحمه الله ـ حديث طويل عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ وفيه يقول ـ عليه السّلام ـ : وقد بيّن الله قصص المغيرين بقوله (١٠) : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) بعد فقد الرّسول ، ممّا يقيمون به أود باطلهم ، حسب ما فعلته اليهود والنّصارى بعد فقد موسى وعيسى من تغيير التّوراة والإنجيل وتحريف الكلم عن مواضعه.

وفي تفسير العيّاشي (١١) : عن عامر بن كثير السّرّاج وكان داعية الحسين [صاحب الفخّ] (١٢) بن عليّ ، عن عطاء الهمدانيّ ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قوله :

__________________

(١) من أ.

(٢) هكذا في أ. وفي سائر النسخ : وقالوا نكلم.

(٣) النساء / ١٠٨.

(٤) أور : عذروا.

(٥) هكذا في أور. وفي سائر النسخ : ليعذره.

(٦) البقرة / ٦٤.

(٧) النساء / ١١٥.

(٨) الكافي ٨ / ٣٣٤ ، ح ٥٢٥.

(٩) الاحتجاج ١ / ٣٧٠ ـ ٣٧١.

(١٠) النساء / ١٠٨.

(١١) تفسير العياشي ١ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ، ح ٢٦٧.

(١٢) من المصدر. ويورد فيها بهذه الصورة.

٥٣٦

(إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) قال : فلان وفلان وفلان وأبو عبيدة بن الجرّاح.

وفي رواية عمر بن أبي سعيد (١) ، عن أبي الحسن ـ عليه السّلام ـ (٢) قال : هما وأبو عبيدة بن الجرّاح.

وفي رواية عمر بن صالح قال : الأوّل والثّاني وأبو عبيدة بن الجرّاح.

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) : من متناجيهم. أو من تناجيهم.

(إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) : فهو على التّقدير الثّاني على حذف مضاف ، أي : إلّا نجوى من أمر. أو على الانقطاع ، بمعنى : ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير.

(أَوْ مَعْرُوفٍ) : المعروف ، كلّ ما يستحسنه الشّرع ولا ينكره العقل. ويندرج فيه القرض ، وإعانة الملهوف ، وصدقة التّطوّع ، وسائر الخيرات.

وفي الكافي (٣) : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قوله ـ عزّ وجلّ ـ : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) قال : يعني بالمعروف : القرض.

[عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه (٤) ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس وعدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبيه جميعا ، عن يونس ، عن عبد الله بن سنان وابن مسكان ، عن أبي الجارود قال : قال أبو جعفر ـ عليه السّلام ـ : إذا حدّثتكم بشيء ، فاسألوني عن كتاب الله؟ ثمّ قال في حديثه : إنّ الله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السّؤال. فقالوا : يا بن رسول الله ، أين هذا من كتاب الله؟ قال : إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول في كتابه : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) (الآية.) وقال (٥) : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً). وقال (٦) : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)].(٧).

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٨) : حدّثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : إنّ الله فرض التّمحّل في القرآن.

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ٢٧٥ ، ح ٢٦٨.

(٢) نفس المصدر والموضع ، ح ٢٦٩.

(٣) الكافي ٤ / ٣٤ ، ح ٣.

(٤) نفس المصدر ٥ / ٣٠٠ ، ح ٢. وذكر فيه «عن أبيه» بين المعقوفتين.

(٥) النساء / ٥.

(٦) المائدة / ١٠١.

(٧) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٨) تفسير القمي ١ / ١٥٢.

٥٣٧

قلت : وما التّمحّل جعلت فداك؟

قال : أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتتمحّل له ، وهو قوله : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) ..

وحدّثني أبي (١) ، عن رجاله ، رفعه إلى أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ قال : إنّ الله فرض عليكم زكوات جاهكم ، كما فرض عليكم زكوات ما ملكت أيديكم.

(أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) ، أي : إصلاح ذات بين.

في أصول الكافي (٢) : محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن يحيى ، عن أبي يحيى الواسطي ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : الكلام ثلاثة : صدق ، وكذب ، وإصلاح بين النّاس.

قال : قلت : جعلت فداك ، ما الإصلاح بين النّاس؟

قال : تسمع من الرّجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه ، فتلقاه فتقول : سمعت من فلان فيك من كذا وكذا خلاف ما سمعت منه.

وفي كتاب الخصال (٣) : عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن عليّ ـ عليهم السّلام ـ قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ثلاثة يحسن فيهنّ الكذب : المكيدة في الحرب ، وعدتك زوجتك ، والإصلاح بين النّاس.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١١٤) :

بني الكلام على الأمر ، ورتّب الجزاء على الفعل ، ليدلّ على أنّه لمّا دخل الآمر في زمرة الخيّرين كان الفاعل أدخل فيهم ، وأنّ العمدة والغرض هو الفعل واعتبار الأمر من حيث أنّه وصلة إليه. وقيّد الفعل بأن يكون لطلب مرضاة الله. لأنّ الأعمال بالنّيات. وأنّ من فعل خيرا رياء وسمعة لم يستحقّ به من الله أجرا. ووصف الأجر بالعظيم ، تنبيها على حقارة ما فات في جنبه من أغراض الدّنيا.

وقرأ حمزة وأبو عمرو : «يؤتيه» بالياء (٤).

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) : يخالفه. من الشّقّ ، فإنّ كلا من المتخالفين في شقّ غير شقّ الآخر.

__________________

(١) نفس المصدر والموضع.

(٢) الكافي ٢ / ٣٤١ ، ح ١٦.

(٣) الخصال ١ / ٨٧ ، ح ٢٠.

(٤) أنوار التنزيل ١ / ٢٤٣.

٥٣٨

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) : ظهر له الحقّ.

(وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) : غير ما هم عليه ، من اعتقاد وعمل.

(نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) : نجعله واليا لمن تولّى من الضّلال ، ونخلّي بينه وبين ما اختاره. (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) : وندخله فيها.

وقرئ ، بفتح النّون. من صلا. (١) (وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥) : جهنّم.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : أنّها نزلت في بشير ، كما مرّ.

قال البيضاويّ (٣) : والآية تدلّ على حرمة مخالفة الإجماع ، لأنّه ـ تعالى ـ رتّب الوعيد الشّديد على المشاقّة واتّباع غير سبيل المؤمنين. وذلك إمّا لحرمة كلّ واحد منهما ، أو أحدهما ، أو الجمع بينهما. والثّاني باطل إذ يقبح أن يقال : من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحدّ. وكذا الثّالث ، لأنّ المشاقّة محرمة ضمّ إليها غيرها أو لم يضمّ. وإذا كان اتّباع غير سبيلهم محرّما كان اتّباع سبيلهم واجبا ، لأنّ ترك اتّباع سبيلهم ممّن عرف سبيلهم اتّباع غير سبيلهم.

وفيه ، أنّه لا شكّ في حجّيّة إجماع جميع المسلمين باعتبار دخول المعصوم فيه ، ولا يلزم منه حجّيّة الإجماع الّذي هو مدعاه. فتأمّل.

وفي الكافي (٤) : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بعض أصحابه ، عن أبي حمزة ، عن عقيل الخزاعيّ : أنّ أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ كان إذا حضر الحرب يوصي المسلمين بكلمات فيقول : تعاهدوا الصّلاة إلى أن قال ـ عليه السّلام ـ : يقول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَمَنْ ... يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) من الأمانة (٥) ، فقد خسر من ليس من أهلها وضلّ عمله ، عرضت على السّموات المبنيّة والأرض المهاد والجبال

__________________

(١) نفس المصدر والموضع.

(٢) تفسير القمي ١ / ١٥٢.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٢٤٣.

(٤) الكافي ٥ / ٣٦ ، ح ١.

(٥) هكذا في جميع النسخ. ويورد في هامش المصدر : ... وقوله «من الأمانة» هكذا في النسخ. والصواب «ثم الأمانة» كما يظهر من النهج [ص ٧٥ ، خطبة ١٩٩]

فان فيه : «ثم أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها. أنّها عرضت على السماوات المبنيّة والأرضين المدحوّة والجبال ذات الطول المنصوبة الخ».

ولعل قوله : «من الأمانة» راجع إلى قوله : «والرغبة عما عليه صالحوا عباد الله» فهو أصوب.

٥٣٩

المنصوبة ، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم لو امتنعت من طول أو عرض أو عظم أو قوّة أو عزّة امتنعن ، ولكن أشفقن من العقوبة.

والحديث طويل ، أخذنا منه موضع الحاجة.

وفي نهج البلاغة (١) : قال ـ عليه السّلام ـ : إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه. فلم يكن للشّاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ.

وإنّما الشّورى للمهاجرين والأنصار. فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماما كان ذلك لله رضا. فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه. فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين وولّاه الله ما تولّى.

وفي تفسير العيّاشي (٢) : عن حريز عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما ـ عليهما السّلام ـ قال : كان أمير المؤمنين في الكوفة أتاه النّاس فقالوا : اجعل لنا إماما يؤمّنا في رمضان.

فقال : لا. ونهاهم أن يجتمعوا فيه. فلمّا أمسوا جعلوا يقولون : ابكوا في رمضان وا رمضانا. فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال : يا أمير المؤمنين ، ضجّوا النّاس وكرهوا قولك.

فقال عند ذلك : دعهم وما يريدون. ليصلّي بهم ما شاءوا. ثمّ قال : فمن يتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرا.

عن عمرو بن أبي المقدام (٣) ، عن أبيه ، عن رجل من الأنصار قال : خرجت أنا والأشعث الكنديّ وجرير البجليّ حتّى إذا كنّا بظهر الكوفة بالغرس مرّ بنا ضبّ. فقال الأشعث وجرير : «السّلام عليك يا أمير المؤمنين.» خلافا على عليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام ـ. فلمّا خرج الأنصاريّ قال لعليّ ـ عليه السّلام ـ. فقال عليّ ـ عليه السّلام ـ : دعهما فهو إمامهما يوم القيامة. أما تسمع إلى الله وهو يقول : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى).

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) : تكريره إمّا للتّأكيد ، أو لقصّة بشير.

__________________

(١) نهج البلاغة / ٣٦٦ ، رسالة ٦.

(٢) تفسير العياشي ١ / ٢٧٥ ، ح ٢٧٢.

(٣) نفس المصدر والموضع ، ح ٢٧٣.

٥٤٠