تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٣

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٣

كنّ فيه استكمل خصال الإيمان : من صبر على الظّلم وكظم غيظه واحتسب وعفا وغفر ، كان ممّن يدخله الله ـ تعالى ـ الجنّة بغير حساب ، ويشفّعه في مثل ربيعة ومضر.

عن زرارة (١) قال : سمعت أبا جعفر ـ عليه السّلام (٢) ـ يقول : إنّا أهل بيت ، مروءتنا العفو عمّن ظلمنا.

عن أبي حمزة الثّماليّ (٣) ، عن عليّ بن الحسين ـ عليهما السّلام ـ [قال : ما أحبّ أنّ لي بذلّ نفسي حمر النّعم ، و] (٤) ما تجرّعت جرعة أحبّ إليّ من جرعة غيظه (٥) لا أكافئ [بها] (٦) صاحبها.

(وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) : التّاركين عقوبة من استحقّوا مؤاخذته.

وفي الكافي (٧) : عن الصّادق ـ عليه السّلام ـ قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : عليكم بالعفو ، فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عزّا ، فتعافوا يعزّكم الله.

وفي مجمع البيان (٨) : روي أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال : انّ هؤلاء في أمّتي قليل إلّا من عصمه (٩) الله ، وقد كانوا كثيرا في الأمم الماضيه (١٠).

(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣٤) :

يحتمل الجنس ، ويدخل تحته هؤلاء. والعهد ، فتكون الإشارة إليهم.

وفي مجمع البيان (١١) : روي أنّ جارية لعليّ بن الحسين ـ عليهما السّلام ـ جعلت تسكب عليه الماء ليتهيّأ للصّلاة ، فسقط الإبريق من يدها فشجّه ، فرفع رأسه إليها.

فقال له الجارية : إنّ الله ـ تعالى ـ يقول : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ).

فقال لها : قد كظمت غيظي.

قالت : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ). قال : قد عفا الله عنك.

قالت (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

__________________

(١) نفس المصدر / ١٠ ، ح ٣٣.

(٢) المصدر : أبا عبد الله ـ عليه السّلام.

(٣) نفس المصدر / ٢٣ ، ح ٨١.

(٤) من المصدر.

(٥) المصدر : غيظ.

(٦) من المصدر.

(٧) الكافي ٢ / ١٠٨ ، ح ٥.

(٨) مجمع البيان ١ / ٥٠٥.

(٩) المصدر : عصم.

(١٠) المصدر : «الّتي مضت» بدل «الماضية».

(١١) نفس المصدر ١ / ٥٠٥.

٢٢١

قال : اذهبي فأنت حرّة لوجه الله.

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) : فعلة بالغة في القبح ، كالزّنا.

(أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) : بأن أذنبوا أيّ ذنب كان.

وقيل (١) : الفاحشة الكبيرة ، وظلم النّفس الصّغيرة. ولعلّ الفاحشة ما يتعدّى ، وظلم النّفس ما ليس كذلك.

(ذَكَرُوا اللهَ) : تذكّروا وعيده ، أو حكمه ، أو حقّه العظيم.

(فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) : بالنّدم والتّوبة.

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) : استفهام بمعنى النّفي ، معترض بين المعطوفين. والمراد به وصفه ـ تعالى ـ بسعة الرّحمة ، وعموم المغفرة ، والحثّ على الاستغفار ، والوعد (٢) بقبول التّوبة.

(وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) ، أي : لم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين.

وفي أصول الكافي (٣) : أبو عليّ الأشعريّ ، عن محمّد بن سالم ، عن أحمد بن النّضر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في هذه الآية قال : الإصرار ، أن يذنب الذّنب فلا يستغفر الله ولا يحدّث نفسه بتوبة ، فذلك الإصرار.

عليّ بن إبراهيم (٤) ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن منصور بن يونس ، عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ يقول : لا والله ، لا يقبل الله شيئا من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه.

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد (٥) بن خالد ، عن عبد الله بن محمّد النّهيكيّ (٦) ، عن عمّار بن مروان القنديّ ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار.

محمّد بن يحيى ، عن أحمد (٧) بن محمّد ، عن محمّد بن سنان ، عن معاويه بن عمّار

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ١٨٢.

(٢) أ : الوعيد.

(٣) الكافي ٢ / ٢٨٨ ، ح ٢.

(٤) نفس المصدر والموضع ، ح ٣.

(٥) نفس المصدر والموضع ، ح ١.

(٦) ر : «محمد بن عبد الله بن محمد النّهيكيّ». وهو وهم. ر. رجال النجاشي / ٢٢٩ ، رقم ٦٠٥.

(٧) نفس المصدر ٢ / ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ، ح ٤.

٢٢٢

قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ يقول : إنّه والله ما خرج عبد من ذنب بإصرار ، وما خرج عبد من ذنب إلّا بإقرار.

محمّد بن يحيى (١) ، عن عليّ بن الحسين الدّقّاق (٢) ، عن عبد الله بن محمّد ، عن أحمد بن عمر ، عن زيد القتات ، عن أبان بن تغلب قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ يقول : ما من عبد أذنب ذنبا فندم عليه إلّا غفر الله له قبل أن يستغفر ، وما من عبد أنعم الله عليه نعمة فعرف أنّها من عند الله إلّا غفر الله له قبل أن يحمده.

وفي مجمع البيان (٣) : وقد روي عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال : لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار.

وروي عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله (٤) ـ : ما اصرّ من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرّة.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٣٥) : حال من فاعل «يصرّوا» أي ، ولم يصرّوا على قبيح فعلهم عالمين به.

وفي أمالي الصّدوق (٥) ـ رحمه الله ـ : بإسناده إلى الصّادق جعفر بن محمّد ـ عليهما السّلام ـ قال : لما نزلت هذه الآية [(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)] (٦) صعد إبليس جبلا بمكّة يقال له : ثور ، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا : يا سيّدنا لم دعوتنا؟

قال : نزلت هذه الآية فمن لها؟

فقام عفريت من الشّياطين فقال : أنا لها بكذا وكذا.

قال : لست لها.

فقام (٧) آخر فقال مثل ذلك.

__________________

(١) نفس المصدر ٢ / ٤٢٧ ، ح ٨.

(٢) أ : محمد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن علي بن الحسين الدقّاق.

(٣) مجمع البيان ١ / ٥٠٦.

(٤) أنوار التنزيل ١ / ١٨٢.

(٥) أمالي الصدوق / ٣٧٦ ، ح ٥.

(٦) من المصدر.

(٧) هكذا في المصدر ور. وفي أو الأصل : فقال.

٢٢٣

فقال : لست لها.

فقال الوسواس الخنّاس : أنا لها.

قال : بماذا؟

قال : أعدهم وأمنّيهم حتى يواقعوا الخطيئة ، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم (١) الاستغفار.

فقال : أنت لها. فوكّله بها إلى يوم القيامة.

وفي تفسير العيّاشيّ (٢) : عن أبي عمرو الزّبيريّ ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : رحم الله عبدا لم يرض من نفسه أن يكون إبليس نظيرا له في دينه. وفي كتاب الله نجاة من الرّدى وبصيرة من العمى ودليل إلى الهدى وشفاء لما في الصّدور فيما أمركم الله به من الاستغفار مع التّوبة.

قال الله : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [قال :] (٣) ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما.

فهذا ما أمر الله به من الاستغفار ، واشترط معه التّوبة (٤) ، والإقلاع عمّا حرّم الله ، فإنّه يقول (٥) : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ). فهذه الآية تدلّ على أنّ الاستغفار لا يرفعه إلى الله إلّا العمل الصّالح والتّوبة.

[وفي روضة الكافي (٦) : بإسناده إلى أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : وإيّاكم والإصرار على شيء ممّا حرّم الله في ظهر القرآن وبطنه وقد قال الله ـ تعالى ـ : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)].(٧)

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) : خبر «للّذين» إن ابتدئ به. وجملة مستأنفة مبنيّة لما قبلها إن عطفت على «المتّقين» أو على «الّذين ينفقون.»

__________________

(١) هكذا في المصدر. وفي النسخ : أنسيهم.

(٢) تفسير العياشي ١ / ١٩٨ ، ح ١٤٣.

(٣) من المصدر.

(٤) المصدر : بالتوبة.

(٥) فاطر / ١٠.

(٦) الكافي ٨ / ١٠.

(٧) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٢٢٤

وتنكير «جنّات» على الأوّل ، يدلّ على أنّ ما لهم أدون ممّا للمتّقين الموصوفين بتلك الصّفات المذكورة في الآية المتقدّمة. وكفاك فارقا بين القبيلين أنّه فصل آيتهم ، بأن بيّن أنّهم محسنون مستوجبون لمحبّة الله ـ تعالى ـ وذلك لأنّهم حافظوا على حدود الشّرع وتخطّوا إلى التّخصيص بمكارمه. وفصل آية هؤلاء بقوله : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١٣٦) : لأنّ المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيل ما فوّت على نفسه. وكم بين المحسن والمتدارك والمحبوب والأجير ، ولعلّ تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النّكتة. والمخصوص بالمدح محذوف ، تقديره ، ونعم أجر العاملين تلك ، يعني ، المغفرة والجنّات.

وفي أمالي الصّدوق ـ رحمه الله (١) ـ : محمّد بن إبراهيم بن إسحاق ـ رحمه الله ـ قال : حدّثنا أحمد بن محمّد الهمدانيّ قال : أخبرنا محمّد بن صالح بن سعد التّميميّ قال : حدّثنا موسى بن داود قال : حدّثنا الوليد بن هشام قال : حدّثنا هشام بن حسّان ، عن الحسن بن أبي الحسن البصريّ ، عن عبد الرّحمان بن غنم الدّوسى (٢) قال : دخل معاذ بن جبل على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ باكيا فسلّم ، فردّ عليه السّلام ، ثمّ قال : ما يبكيك يا معاذ؟

فقال : يا رسول الله ، إنّ بالباب شابّا طريّ الجسد ، نقيّ اللّون ، حسن الصّورة ، يبكي على شبابه بكاء الثّكلى على ولدها ، يريد الدّخول عليك.

فقال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : أدخل عليّ الشّابّ ، يا معاذ. فأدخله عليه فسلّم ، فرد عليه السّلام ، ثمّ قال : ما يبكيك ، يا شابّ؟

قال : كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا ، إن اخذني الله ـ عزّ وجلّ ـ ببعضها أدخلني نار جهنم ، ولا أراني إلّا سيأخذني بها ولا يغفر لي (٣) أبدا.

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : هل أشركت بالله شيئا؟

قال : أعوذ بالله أن أشرك بربّي شيئا.

__________________

(١) أمالي الصدوق / ٤٥ ، ٣.

(٢) هكذا في المصدر. وفي النسخ : «عبد الرحمان بن غنم الدواسيّ» والظاهر هي خطأ. ر. تنقيح المقال ، ج ٣ ، فصل الكنى ، ص ٥١. ولهذا الراويّ ترجمة في نفس المصدر ٢ / ١٤٧ ، رقم ٦٤٠٨ من دون ذكر لقبه.

(٣) هكذا في المصدر. وفي النسخ : لا يغفرني.

٢٢٥

قال : أقتلت النّفس الّتي حرّم الله؟

قال : لا.

فقال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرّواسي.

قال الشّابّ : فإنّها أعظم من الجبال الرّواسي.

فقال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : يغفر الله ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السّبع. وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق.

[قال : فإنّها أعظم من الأرضين السّبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق].(١) فقال : النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السّماوات ونجومها ومثل العرش والكرسيّ.

قال : فإنّها أعظم من ذلك.

قال : فنظر النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله (٢) ـ كهيئة الغضبان ، ثمّ قال : ويحك يا شابّ ذنوبك أعظم أم ربّك؟

فخرّ الشّابّ لوجهه وهو يقول : سبحان [الله] (٣) ربّي ، ما من شيء أعظم من ربّي ، ربّي أعظم ـ يا نبيّ الله ـ من كلّ عظيم.

فقال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : فهل يغفر الذّنب العظيم إلّا الرّبّ العظيم؟

قال : الشّابّ : لا والله يا رسول الله ، ثمّ سكت الشّابّ.

فقال له (٤) النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ويحك يا شابّ ، ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك.

قال : بلى أخبرك ، إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين ، أخرج الأموات وأنزع الأكفان ، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار ، فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنّ عليهم اللّيل أتيت قبرها فنبشتها ، ثمّ استخرجتها ، ونزعت ما كان عليها من أكفانها ، وتركتها مجردة (٥) على شفير قبرها ، ومضيت منصرفا ، فأتاني الشّيطان ،

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في المصدر.

(٢) الظاهر كلمة «إليه» ساقط بعد هذه العبارة.

(٣) من المصدر.

(٤) ليس في المصدر.

(٥) المصدر : متجرّدة.

٢٢٦

فأقبل يزيّنها لي ويقول : أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وركيها؟ فلم يزل يقول لي هذا ، حتّى رجعت إليها ولم أملك نفسي حتّى جامعتها وتركتها مكانها ، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول : يا شابّ ، ويل لك من ديّان يوم الدّين ، يوم يقفني وإيّاك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى ، ونزعتني من حفرتي ، وسلبتني أكفاني ، وتركتني أقوم جنبه إلى حسابي ، فويل لشبابك من النّار. فما أظنّ أنّي أشمّ ريح الجنّة أبدا ، فما ترى لي يا رسول الله؟

فقال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : تنحّ عنّي يا فاسق ، إنّي أخاف أن أحترق بنارك ، فما أقربك من النّار.

ثم لم يزل ـ عليه السّلام ـ يقول ويشير إليه حتّى أمعن من بين يديه ، فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ، ثمّ أتى بعض جبالها فتعبّد فيها ولبس مسحا وغلّ يديه جميعا إلى عنقه (١) ، ونادى : يا ربّ ، هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول ، يا ربّ أنت الّذي تعرفني وزل منّي ما تعلم ، يا سيّدي يا ربّ إنّي أصبحت من النّادمين ، وأتيت نبيّك تائبا فطردني وزادني خوفا ، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة (٢) سلطانك أن لا تخيّب رجائي سيّدي ولا تبطل دعائي ولا تقنطني من رحمتك.

فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما وليلة ، تبكي له السّباع والوحوش ، فلمّا تمّت له أربعون يوما وليلة ، رفع يديه إلى السّماء وقال : اللهمّ ، ما فعلت في حاجتي ، إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيّك ، وإن لم تستجب [لي] (٣) دعائي ولم تغفر [لي] (٤) خطيئتي وأردت عقوبتي فعجّل بنار تحرقني أو عقوبة في الدّنيا تهلكني وخلّصني من فضيحة يوم القيامة.

فأنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ على نبيّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) ، يعني : الزّنا (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ، يعني : بارتكاب ذنب أعظم من الزّنا ، وهو (٥) نبش القبر وأخذ الأكفان (ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا) (٦) (لِذُنُوبِهِمْ) يقول : خافوا الله فعجّلوا التّوبة. (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) يقول ـ عزّ وجلّ ـ : أتاك عبدي ـ يا محمّد ـ تائبا فطردته ، فأين يذهب وإلى من يقصد ومن يسأل أن يغفر له ذنبه (٧) غيري؟ ثمّ قال ـ عزّ و

__________________

(١) هكذا في المصدر. وفي النسخ : حلقه.

(٢) هكذا في المصدر. وفي النسخ : عظم.

(٣ و ٤) من المصدر.

(٥) ليس في المصدر.

(٦) المصدر : واستغفروا.

(٧) المصدر : ذنبا.

٢٢٧

جلّ ـ (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يقول : لم يقيموا على الزّنا ونبش القبور وأخذ الأكفان. (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ).

فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ خرج ، وهو يتلوها ويتبسّم (١) ، فقال لأصحابه : من يدلّني على ذلك الشّابّ التّائب؟

فقال معاذ : يا رسول الله ، بلغنا أنّه في موضع كذا وكذا.

فمضى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بأصحابه (٢) حتّى انتهوا إلى ذلك الجبل ، فصعدوا إليه يطلبون الشّابّ ، فإذا هم بالشّابّ قائم بين صخرتين مغلولة يداه إلى عنقه ، قد اسودّ وجهه وتساقطت أشفار عينيه من البكاء ، وهو يقول : سيّدي قد أحسنت خلقي وأحسنت صورتي ، فليت شعري ما ذا تريد بي ، أفي النّار تحرقني أو في جوارك تسكنني؟

اللهمّ ، إنّك قد أكثرت الإحسان إليّ فأنعمت عليّ ، فليت شعري ما ذا يكون آخر أمري ، إلى الجنّة تزفّني أم إلى النّار تسوقني؟ اللهمّ ، إنّ خطيئتي أعظم من السّموات والأرض ومن كرسيّك الواسع وعرشك العظيم ، فليت شعري تغفر خطيئتي أم تفضحني بها يوم القيامة؟

فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثوا التّراب على رأسه ، وقد أحاطت به السّباع ، وصفّت فوقه الطّير ، وهم يبكون لبكائه.

فدنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فأطلق يديه من عنقه ، ونفض التّراب عن رأسه ، وقال : يا بهلول ، أبشر فإنّك عتيق الله من النّار.

ثمّ قال ـ صلّى الله عليه وآله ـ لأصحابه : هكذا تداركوا الذّنوب كما تداركها بهلول (٣) ، ثمّ تلا عليه ما أنزل الله ـ عزّ وجلّ ـ فيه وبشّره بالجنّة.

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) : وقائع ، سنّها الله في الأمم المكذّبة.

وقيل (٤) : أمم. قال :

ما عاين الناس من فضل كفضلكم

ولا أرى مثله في سالف السنن

__________________

(١) هكذا في المصدر. وفي النسخ : هو يتبسّم.

(٢) هكذا في المصدر. وفي النسخ : وأصحابه.

(٣) يوجد في المصدر بعد هذه العبارة : «أبشر فانّك عتيق الله من النار» وقد سبق مجيئها. فلا داعى لها.

(٤) أنوار التنزيل ١ / ١٨٣.

٢٢٨

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١٣٧) : لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم.

وفي الكافي (١) : عن الصّادق ـ عليه السّلام ـ في قوله ـ تعالى ـ : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من قبلكم (٢).

قال : عنى بذلك [، أي :] (٣) انظروا في القرآن واعلموا كيف كان عاقبة الّذين من قبلكم ، وما أخبركم عنه.

(هذا) : اى ، القرآن (بَيانٌ لِلنَّاسِ) : عامّة.

(وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٨) : خاصّة.

وقيل (٤) : «هذا» إشارة إلى قوله : «قد خلت». أو مفهوم قوله : «فانظروا» ، أي ، أنّه مع كونه بيانا للمكذّبين ، فهو زيادة بصيرة وموعظة للمتّقين. أو إلى ما لخّص من أمر المتّقين والتّائبين. وقوله : «قد خلت» جملة معترضة (٥) للبعث على الإيمان والتّوبة.

(وَلا تَهِنُوا) : ولا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم يوم أحد.

(وَلا تَحْزَنُوا) : على من قتل منكم ، تسلية لهم عمّا أصابهم.

(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) : والحال أنّكم أعلى شأنا فإنّكم على الحقّ وإنّهم على الباطل ، وقتالكم لله وقتالهم للشّيطان ، وقتلاكم في الجنّة وقتلاهم في النّار. أو لأنّكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر ممّا أصابوا منكم اليوم. أو أنتم الأعلون في العاقبة ، فيكون بشارة لهم بالنّصر والغلبة.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣٩) : متعلّق بالنّهي ، أي : لا تهنوا إن صحّ إيمانكم ، فإنّه يقتضي قوّة القلب بالوثوق على الله. أو «بالأعلون».

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) :

__________________

(١) الكافي ٨ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ، ضمن حديث ٣٤٩.

(٢) المصدر : قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم. وما أثبتناه في المتن موافق النسخ.

(٣) من المصدر.

(٤) أنوار التنزيل ١ / ١٨٣.

(٥) هكذا في المصدر. وفي النسخ : «اعتراض» بدل «جملة معترضة».

٢٢٩

قيل (١) : يعني : إن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم يوم بدر مثله ، ثمّ أنّهم لم يضعفوا ولم يجبنوا ، فأنتم أولى بأن لا تضعفوا فإنّكم ترجون من الله ما لا يرجون.

وقيل (٢) : كلا المسّين كان يوم أحد ، فإنّ المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر الرّسول.

قرأ حمزة والكسائيّ وابن عيّاش عن عاصم ، بضمّ القاف. والباقون ، بالفتح. وهما لغتان (٣).

وقيل (٤) : هو بالفتح «الجراح» وبالضّمّ «ألمها».

(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) : نصرفها ، نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى.

والمداولة ، كالمعاورة. يقال : داولت الشيء بينهم ، فتداولوه.

و «الأيّام» يحتمل الوصف ، والبدل ، وعطف البيان ، والخبر. و «نداولها» الخبر على الاحتمالات الثّلاث الأوّل ، والحال على الاحتمال الأخير. والمراد بها ، أوقات النّصر والغلبة.

في تفسير العيّاشيّ (٥) : عن زرارة ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام (٦) ـ في قول الله ـ تعالى ـ : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) قال : ما زال منذ خلق الله آدم دولة لله ودولة لإبليس ، فأين دولة الله أما (٧) هو إلّا قائم (٨) واحد.

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) : عطف على علّة محذوفة ، أي : نداولها ليكون كيت وكيت. و (لِيَعْلَمَ اللهُ) إيذانا بأنّ العلّة فيه غير واحدة ، وأنّ ما يصيب المؤمن فيه من المصالح ما لا يعلم.

أو الفعل المعلّل به محذوف ، تقديره : وليتميّز الثّابتون على الإيمان من الّذين على حرف فعلنا ذلك. والقصد في أمثاله ليس إلى إثبات علمه ـ تعالى ـ بل إلى إثبات المعلوم على طريقة البرهان.

وقيل (٩) : معناه : ليعلمهم علما يتعلّق به الجزاء وهو العلم بالشّيء موجودا ، وهو تكلّف.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) نفس المصدر والموضع.

(٥) تفسير العياشي ١ / ١٩٩ ، ح ١٤٥.

(٦) المصدر : عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام.

(٧) هكذا في المصدر. وفي النسخ : ما.

(٨) هكذا في المصدر. وفي النسخ : مع قائم.

(٩) أنوار التنزيل ١ / ١٨٤.

٢٣٠

(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) : ويكرم منكم بالشّهادة ، يريد شهداء أحد. أو يتّخذ منكم شهودا معدلين ، بما صودف منهم من الثّبات والصّبر على الشّدائد. أو شهودا وعلماء ، بما ينعم على المؤمنين ويمددهم.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (١٤٠) : الّذين يضمرون خلاف ما يظهرون. أو الكافرين ، وهو اعتراض. وفيه تنبيه على أنّه ـ تعالى ـ لا ينصر الكافرين على الحقيقة ، وإنّما يديل لهم أحيانا استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين.

[وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : أنّ النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ لمّا رجع من أحد فلمّا دخل المدينة نزل عليه جبرئيل ـ عليه السّلام ـ فقال : يا محمّد ، إنّ الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ، ولا تخرج معك إلّا من به جراحة.

فأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ مناديا ينادي : يا معشر المهاجرين والأنصار ، من كانت به جراحة فليخرج ، ومن لم يكن به جراحة فليقم. فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها (٢) ، فأنزل الله على نبيّه : ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون.

وقال ـ عزّ وجلّ ـ : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ). فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح].(٣)

(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) : ليطهّرهم ويصفّيهم من الذّنوب إن كانت الدّولة عليهم.

(وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) (١٤١) : ويهلكهم إن كانت عليهم.

والمحق ، نقض الشيء قليلا قليلا.

وفي كتاب كمال الدّين (٤) وتمام النّعمة : بإسناده إلى ابن عبّاس قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : إنّ عليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام ـ إمام أمّتي وخليفتي عليها من بعدي ، ومن ولده القائم المنتظر الّذي يملأ الله به الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما ، والذي بعثني بالحقّ بشيرا ونذيرا إنّ الثّابتين على القول به [في زمان غيبته] (٥) لأعزّ

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) هكذا في المصدر. وفي النسخ : يشدونها.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٤) كمال الدين وتمام النعمة / ٢٨٧ ـ ٢٨٨ ، ح ٧.

(٥) ليس في ر.

٢٣١

من الكبريت الأحمر.

فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاريّ ، فقال : يا رسول الله ، للقائم من ولدك غيبة؟

قال : إي وربّي ، (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) ، يا جابر إنّ هذا الأمر من الله (١) وسرّ من سرّ الله مطويّ عن عباد الله ، فإيّاك والشّكّ فيه ، فإنّ الشّك في أمر الله ـ عزّ وجلّ ـ كفر.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) : بل أحسبتم.

ومعناه ، الإنكار ، أي : لا تحسبوا أن تدخلوها ولمّا يعلم الله المجاهدين منكم ، ولمّا يجاهد بعضكم. وفيه دلالة ، على أنّ الجهاد فرض على الكفاية. والفرق بين «لمّا ، ولم» أنّ فيها توقّعا في المستقبل بخلاف لم.

وقرئ : «يعلم» بفتح الميم ، على أنّ أصله «يعلمن» فحذف النّون (٢).

(وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢) : نصب بإضمار «أن» على أنّ الواو للجمع.

وقرئ ، بالرّفع ، على أنّ الواو للحال ، كأنّه قال : ولمّا تجاهدوا وأنتم صابرون (٣).

وفي تفسير العيّاشيّ (٤) : عن داود الرّقيّ قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله ـ تعالى ـ : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ).

قال : إنّ الله هو أعلم بما هو مكوّنه قبل أن يكوّنه وهم ذرّ ، وعلم من يجاهد ممّن لا يجاهد ، كما (٥) أنّه يميت خلقه قبل أن يميتهم ولم يرهم موتهم وهم أحياء.

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) : بالشّهادة أو الحرب ، فإنّها من أسباب الموت.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) : من قبل أن تشاهدوه ، وتعرفوا ثبوته.

(فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣) ، أي : رأيتموه معاينين له حين قتل دونكم

__________________

(١) المصدر : «إن هذا الأمر [أمر] من أمر الله» بدل «إن هذا الأمر من الله».

(٢) أنوار التنزيل ١ / ١٨٤.

(٣) نفس الموضع والمصدر.

(٤) تفسير العياشي ١ / ١٩٩ ، ح ١٤٧.

(٥) المصدر : كما علم.

٢٣٢

من قتل من إخوانكم. وهو توبيخ لهم على أنّهم تمنّوا وتسيّبوا لها ، ثمّ جبنوا وانهزموا عنها.

أو على تمنّي الشّهادة ، فإنّ في تمنّيها تمنّي غلبة الكفّار.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : وفي رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في هذه (٢) الآية : أنّ المؤمنين لمّا أخبرهم الله ـ تعالى ـ بالّذي فعل بشهدائهم يوم بدر ومنازلهم في (٣) الجنّة ، رغبوا في ذلك ، فقالوا : اللهمّ ، أرنا قتالا (٤) نستشهد فيه. فأراهم الله إياه يوم أحد ، فلم يثبتوا إلّا من (٥) شاء الله منهم ، فذلك قوله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) (الآية) (٦) [(مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ)].(٧)

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) : فسيخلو كما خلوا بالموت ، أو القتل.

(أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) : إنكار لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدّين ، لخلوّه بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل (٨) قبله ، وبقاء دينهم متمسّكا به.

وقيل (٩) : «الفاء» للسّببيّة و «الهمزة» لإنكار أن يجعلوا خلوّ الرّسل قبله ، سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته.

وفي روضة الكافي (١٠) : حنّان ، عن أبيه ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : كان النّاس أهل ردّة بعد النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ الّا ثلاثة.

قلت : ومن الثّلاثة؟

فقال : المقداد بن الأسود ، وأبو ذرّ الغفاريّ ، وسلمان الفارسيّ ـ رحمة الله وبركاته عليهم ـ ثمّ عرف أناس بعد يسير.

وقال : هؤلاء الّذين دارت عليهم الرّحا ، وأبوا أن يبايعوا حتّى جاؤوا بأمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ مكرها فبايع ، وذلك قول الله ـ عزّ وجلّ ـ :

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ١١٩.

(٢) ذكر الآية في المصدر بدل «هذه».

(٣) المصدر : من.

(٤) المصدر : القتال.

(٥) هكذا في المصدر. وفي النسخ : ما.

(٦) ليس في المصدر.

(٧) من المصدر.

(٨) أ : الرسول.

(٩) أنوار التنزيل ١ / ١٨٤.

(١٠) الكافي ٨ / ٢٤٥ ، ح ٣٤١.

٢٣٣

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ).

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد (١) بن عيسى ، عن عليّ بن الحكم ، عن الحسين بن أبي العلاء الخفّاف ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : لمّا انهزم النّاس يوم أحد عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ انصرف إليهم بوجهه ، وهو يقول : أنا محمّد ، أنا رسول الله لم أقتل ولم أمت. فالتفت إليه فلان وفلان فقالا : الآن يسخر بنا ـ أيضا ـ وقد هزمنا.

وبقي معه عليّ ـ عليه السّلام ـ وسماك بن خرشة أبو دجانة (٢) ـ رحمه الله ـ فدعاه النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال يا أبا دجانة انصرف وأنت في حلّ من بيعتك ، فأمّا علىّ فهو أنا وأنا هو (٣).

فتحوّل وجلس بين يديّ النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ وبكى ، وقال : لا والله ـ ورفع رأسه إلى السّماء وقال ـ : لا والله ، لا جعلت نفسي في حلّ من بيعتي ، إنّي بايعتك ، فإلى من أنصرف يا رسول الله؟ إلى زوجة تموت أو ولد يموت أو دار تخرب أو (٤) مال يفنى وأجل قد اقترب. فرقّ له النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فلم يزل يقاتل حتّى أثخنته الجراحة ـ وهو في وجه وعليّ ـ عليه السّلام ـ في وجه ـ. فلمّا سقط (٥) احتمله عليّ ـ عليه السّلام ـ فجاء به إلى النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فوضعه عنده.

فقال : يا رسول الله أوفيت ببيعتي؟

قال : نعم ، وقال له النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ خيرا.

وكان النّاس يحملون على النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ الميمنة فيكشفهم عليّ ـ عليه السّلام ـ فإذا كشفهم أقبلت الميسرة إلى النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فلم يزل كذلك حتّى تقطّع سيفه بثلاث قطع ، فجاء إلى النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فطرحه بين يديه وقال (٦) : هذا سيفي قد تقطّع. فيومئذ أعطاه النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ ذا الفقار.

__________________

(١) نفس المصدر ٨ / ٣١٨ ، ح ٥٠٢.

(٢) هكذا في المصدر. وفي النسخ : «شمال بن خرشة أبو دجانة» وهي خطأ. ر. تنقيح المقال ٢ / ٦٨ ، رقم ٥٢٧٤ وفصل الكنى ٣ / ١٥ ـ ١٦.

(٣) هكذا في النسخ وفي المصدر : «وأمّا عليّ فأنا هو وهو أنا» بدل «فأمّا عليّ فهو أنا وأنا هو».

(٤) المصدر : و.

(٥) المصدر : أسقط.

(٦) هكذا في المصدر. وفي النسخ : فقال.

٢٣٤

ولمّا رأى النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ اختلاج ساقيه من كثرة القتال رفع رأسه إلى السّماء ـ وهو يبكي ـ وقال : يا ربّ ، وعدتني أن تظهر دينك وإن شئت لم يعيك.

فأقبل عليّ ـ عليه السّلام ـ إلى النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال : يا رسول الله ، أسمع دويّا شديدا ، وأسمع أقدم حيزوم ، وما أهمّ أضرب أحدا إلّا سقط ميّتا قبل أن أضربه.

فقال : هذا جبرئيل ـ عليه السّلام ـ وميكائيل وإسرافيل في الملائكة.

ثمّ جاءه جبرئيل ـ عليه السّلام ـ فوقف إلى جنب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال : يا محمّد ، إنّ هذه لهي المواساة.

فقال ـ صلّى الله عليه وآله ـ : إنّ عليّا منّي وأنا منه.

فقال جبرئيل ـ عليه السّلام ـ : وأنا منكما.

ثمّ انهزم النّاس فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لعليّ ـ عليه السّلام ـ : يا عليّ ، امض بسيفك حتّى تعارضهم ، فإن رأيتهم قد ركبوا القلاص وجنّبوا الخيل فإنّهم يريدون مكّة ، وإن رأيتهم قد ركبوا الخيل وهم يجنّبون القلاص فإنّهم يريدون المدينة.

فأتاهم عليّ ـ عليه السّلام ـ فكانوا على القلاص ، فقال أبو سفيان لعليّ ـ عليه السّلام ـ : [يا عليّ ،] (١) ما تريد هو ذا نحن ذاهبون إلى مكّة ، فانصرف إلى صاحبك. فاتّبعهم جبرئيل ـ عليه السّلام ـ فكلّما سمعوا وقع حافر فرسه جدّوا في السّير ، وكان (٢) يتلوهم فإذا ارتحلوا قالوا : هو ذا عسكر محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد أقبل.

فدخل أبو سفيان مكّة فأخبرهم الخبر ، وجاء الرّعاة (٣) والحطّابون فدخلوا مكّة ، فقالوا : رأينا عسكر محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ كلّما رحل أبو سفيان نزلوا ، يقدمهم فارس على فرس أشقر يطلب آثارهم. فأقبل (٤) أهل مكّة (٥) على أبي سفيان يوبّخونه.

ورحل النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ والرّاية مع عليّ ـ عليه السّلام ـ وهو بين

__________________

(١) من المصدر.

(٢) ر : كانوا.

(٣) هكذا في المصدر. وفي النسخ : «فجاء الرعاء» بدل «وجاء الرعاة».

(٤) ر : فاقبلوا.

(٥) أ : إلى أهل مكّة.

٢٣٥

يديه ، فلمّا أن أشرف بالرّاية من العقبة ورآه النّاس نادى عليّ ـ عليه السّلام ـ : أيّها النّاس ، هذا محمّد لم يمت ولم يقتل. فقال صاحب الكلام ـ الّذي قال : الآن يسخر بنا وقد هزمنا ـ : هذا عليّ والرّاية بيده. حتّى هجم عليهم النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ ونساء الأنصار في أفنيتهم على أبواب دورهم ، وخرج الرّجال إليه يلوذون به ويتوبون (١) إليه ، والنّساء ـ نساء الأنصار ـ قد خدشن الوجوه ونشرن الشّعور وجززن النّواصي وخرقن الجيوب وحرمن البطون على النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فلمّا رأينه قال لهنّ خيرا ، وأمرهنّ أن يستترن ويدخلن منازلهنّ وقال : إنّ الله ـ تعالى ـ وعدني أن يظهر دينه على الأديان كلّها. وأنزل الله على محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ [مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً)].(٢) (الآية).

وفي روضة الكافي (٣) : خطبة مسندة إلى أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ وهي خطبة الوسيلة ، يقول فيها ـ عليه السّلام ـ : حتّى إذا دعا الله ـ عزّ وجلّ ـ نبيّه ورفعه إليه ، لم يك ذلك بعده إلّا كلمحة من خفقة أو رميض من برقة إلى أن رجعوا على الأعقاب ، وانتكصوا على الأدبار ، وطلبوا بالأوتار ، وأظهروا الكتائب ، وردموا الباب ، وفلّوا الدّار (٤) ، وغيّروا آثار رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ورغبوا عن أحكامه ، وبعدوا من أنواره ، واستخلفوا (٥) بمستخلفه بديلا اتّخذوه وكانوا ظالمين ، وزعموا أنّ من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ممّن اختاره الرّسول (٦) ـ صلّى الله عليه وآله ـ لمقامه ، وأنّ مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجريّ (٧) الأنصاريّ الرّبّانيّ ، ناموس هاشم بن عبد مناف.

عليّ بن محمّد ، عن عليّ بن العبّاس (٨) ، عن عليّ بن حمّاد ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال (٩) : وقال لأعداء الله أولياء الشّيطان أهل

__________________

(١) المصدر : «يثوبون». وذكر فيه في الهامش أنّه في بعض نسخ «يتوبون».

(٢) من المصدر.

(٣) نفس المصدر ٨ / ٢٩ ، ضمن حديث ٤.

(٤) المصدر : الديار.

(٥) المصدر : استبدلوا.

(٦) اختار رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله.

(٧) هكذا في المصدر ، وفي النسخ : المهاجر.

(٨) نفس المصدر ٨ / ٣٧٩ ، ضمن حديث ٥٧٤.

(٩) ليس في المصدر.

٢٣٦

التّكذيب والإنكار : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) يقول : متكلّفا إن أسألكم ما لستم بأهله.

فقال المنافقون عند ذلك بعضهم لبعض : أما يكفي محمّدا أن يكون قهرنا عشرين سنة حتّى يريد أن يحمل أهل بيته على رقابنا ، فقالوا : ما أنزل الله هذا ، وما هو إلّا شيء يتقوله يريد أن يرفع أهل بيته على رقابنا ، ولئن قتل محمّد أو مات لننزعها من أهل بيته ثمّ لا نعيدها (١) فيهم أبدا.

واعلم أنّ فلانا وفلانا من أهل الانقلاب على الأعقاب بعد موت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله – لما رواه محمّد بن يعقوب ـ رحمه الله (٢) ـ عن حنان بن سدير ، عن أبيه قال : سألت أبا جعفر ـ عليه السّلام ـ عنهما.

فقال : يا أبا الفضل ، لا تسالني (٣) عنهما ، فو الله ما مات منّا ميّت [قطّ] (٤) إلّا ساخطا (٥) عليهما ، وما منّا اليوم إلّا ساخطا (٦) عليهما ، يوصي بذلك الكبير منّا الصّغير ، إنّهما ظلمانا (٧) حقّنا ومنعانا فيئنا (٨) ، وكانا أوّل من ركب أعناقنا ، وفتقا (٩) علينا فتقا (١٠) في الإسلام لا يسدّ (١١) أبدا حتّى يقوم قائمنا [أو يتكلّم متكلّمنا].(١٢) ثمّ قال : أما والله لو قد قام قائمنا (١٣) وتكلّم متكلّمنا لأبدا من أمورهما ما كان يكتم ولكتم (١٤) من أمورهما ما كان يظهر ، والله ما أسّست (١٥) من بليّة ولا قضيّة تجري علينا أهل البيت إلّا هما سبب (١٦) أوّلها ، فعليهما لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين.

وفي تفسير العيّاشيّ (١٧) : عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ أنّه سئل عمّن قتل أمات؟

__________________

(١) أور : تفيدها.

(٢) الكافي ٨ / ٢٤٥ ، ح ٣٤٠. وفيه : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حنان بن سدير ، ومحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن حنان بن سدير عن أبيه.

(٣) المصدر : ما تسألني.

(٤) من المصدر. ٥ و ٦ ـ هكذا في المصدر. وفي النسخ : ساخط.

(٧) أ : «لأنّهما ظلمنا» بدل «إنّهما ظلمانا».

(٨) ر : «ضيعانا ميتنا» بدل «ومنعانا فيئنا».

(٩ و ١٠) المصدر : بثقا.

(١١) المصدر : يسكر.

(١٢) من المصدر.

(١٣) المصدر : [أ] و.

(١٤) هكذا في المصدر. وفي النسخ : لكتما.

(١٥) هكذا في المصدر. وفي النسخ : أمست.

(١٦) المصدر : أسّسا.

(١٧) تفسير العياشي ١ / ٢٠٢ ، ح ١٦٠. وهذا الحديث هو نفس الحديث التالي ولكن أسقط منه اسم الرّاويّ مع اختلافات بسيطة جدّا. ولعل التكرار والسهو من الناسخ. والله العالم.

٢٣٧

قال : لا ، الموت موت والقتل قتل.

قيل : ما أحد يقتل إلّا وقد مات.

فقال : قول الله أصدق من قولك ، فرّق بينهما في القرآن قال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) وقال : (لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) وليس كما قلت : الموت والقتل قتل.

قيل : فإنّ الله يقول : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ).

قال : من قتل لم يذق الموت.

ثمّ قال : لا بدّ من أن يرجع حتّى يذوق الموت.

وعن زرارة (١) قال : كرهت أن أسال أبا جعفر ـ عليه السّلام ـ عن الرّجعة ، واستخفيت ذلك ، قلت : لأسألنّ مسألة لطيفة أبلغ فيها حاجتي ، فقلت : أخبرني عمّن قتل أمات؟

قال : لا ، الموت موت والقتل قتل.

قلت : ما أحد يقتل إلّا وقد مات.

فقال : قول الله أصدق من قولك ، فرّق بينهما في القرآن فقال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) : وقال (٢) : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ). وليس كما قلت يا زرارة : الموت موت والقتل قتل.

قلت : فإن الله يقول (٣) : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ).

قال : من قتل لم يذق الموت. [ثم] (٤) قال : لا بدّ من أن يرجع حتّى يذوق الموت.

(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) : من الضّرر يسيرا بارتداده ، بل يضرّ نفسه.

(وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤) : كأمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ ومن يحذوا حذوه ، شكروا الله على نعمة الإسلام وثبتوا عليها.

في كتاب الاحتجاج للطّبرسيّ ـ رحمه الله (٥) ـ : بإسناده إلى الإمام محمّد بن عليّ

__________________

(١) نفس المصدر والموضع والرقم.

(٢) / ١٥٨.

(٣) / ١٨٥.

(٤) من المصدر.

(٥) الاحتجاج ١ / ٧٧.

٢٣٨

الباقر ـ عليه السّلام ـ عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ في حديث طويل ، وفيه خطبة الغدير ، وفيها : معاشر النّاس ، أنذركم إنّي رسول الله إليكم (١) ، قد خلت من قبلي الرّسل ، أفإن متّ أو قتلت انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزي الله الشّاكرين ، ألا وإنّ عليّا هو الموصوف بالصّبر والشّكر ، ثمّ من بعده ولدي من صلبه.

وفيه (٢) بإسناده قال عليّ ـ عليه السّلام ـ في خطبة له : إنّ الله ذا الجلال والإكرام ، لمّا خلق الخلق (٣) واختار خيرة من خلقه ، واصطفى صفوة من عباده ، وأرسل رسولا منهم ، وأنزل عليه كتابه ، وشرع له دينه ، وفرض فرائضه ، فكانت الجملة قول الله ـ جلّ ذكره ـ حيث أمر فقال : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فهو لنا أهل البيت خاصّة دون غيرنا ، فانقلبتم على أعقابكم ، وارتددتم ، ونقضتم الأمر ، ونكثتم العهد ، ولم تضرّوا الله شيئا.

وفي تفسير العيّاشيّ (٤) : عن عبد الصّمد بن بشير ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : أتدرون (٥) مات النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أو قتل؟ إنّ الله يقول : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ).

ثمّ قال (٦) : إنّهما سقتاه قبل الموت (٧)

: (يعني : الامرأتين) (٨) (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : إلّا بمشيئته ، أو بإذنه لملك الموت في قبض روحها ، لا يستأخر ساعة بالإحجام عن القتال ولا يستقدم بالإقدام عليه. وفيه

__________________

(١) ليس في المصدر.

(٢) نفس المصدر ١ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

(٣) «و» ليس في المصدر.

(٤) تفسير العياشي ١ / ٢٠٠ ، ح ١٥٢.

(٥) المصدر : تدرون.

(٦) المصدر : «فسمّ قبل الموت» بدل «ثمّ قال».

(٧) «قبل الموت» في المصدر ، بين المعقوفتين. وإذا كانت العبارات التالي كعبارات المصدر ، فلا داعي لتكرارها.

(٨) ما بين القوسين ليس في المصدر. والظاهر هو توضيح من المفسر.

٢٣٩

تحريض وتشجيع على القتال ، ووعد الرّسول بالحفظ وتأخير الأجل.

(كِتاباً) : مصدر ، يفيد النّوع. إذ المعنى ، كتب الموت كتابا.

(مُؤَجَّلاً) : صفة له ، أي : مؤقّت ، لا يتقدّم ولا يتأخّر.

(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) : تعريض بمن شغلته الغنائم يوم أحد.

(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (١٤٥) : الّذين شكروا نعمة الله ، فلم يشغلهم شيء عن الجهاد.

في مجمع البيان (١) : عن الباقر ـ عليه السّلام ـ : أنّه أصاب عليّا ـ عليه السّلام ـ يوم أحد ستّون جراحة ، وأنّ النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أمر أمّ سليم (٢) وأمّ عطيّة أن تداوياه ، فقالتا : إنّا لا نعالج منه مكانا إلّا انفتق مكان ، وقد خفنا (٣) عليه. فدخل رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة ، فجعل يمسحه بيده ويقول : إنّ رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر. فكان القرح الّذي يمسحه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يلتئم ، فقال عليّ ـ عليه السّلام ـ : الحمد لله إذ لم أفرّ ولم أولّ (٤) الدّبر. فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن ، وهو قوله : (سَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [من الرزق في الدنيا] (٥) (وَسَنَجْزِي) (٦) (الشَّاكِرِينَ).

(وَكَأَيِّنْ) قيل (٧) : «أيّ» دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى «كم» والنّون ، تنوين أثبت في الخطّ على غير قياس.

وقرأ ابن كثير «وكائن» ككاعن. ووجهه ، أنّه قلب الكلمة الواحدة ، كقولهم : رعملى ، في «لعمري» فصار كيأن ، ثم حذفت الياء الثّانية للتّخفيف ، ثمّ أبدلت الياء

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٥١٥.

(٢) النسخ : «أم سلمه» وهو وهم. وما أثبتناه في المتن مؤالف المصدر. و «أم سليم» بنت ملحان بن خالد.

اشتهرت بكنيتها واختلف في اسمها. فقيل : سهله ورملية ورمسة ومليكة والغميصاء والرميصاء. شهدت يوم أحد وسقت فيه العطشى وداوت الجرحى. ثم شهدت يوم حنين. ر. أعلام النساء لكحالة ٢ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٣) المصدر : حفنا.

(٤) المصدر : أولى.

(٥) من المصدر.

(٦) نفس المصدر : سيجزي.

(٧) أنوار التنزيل ١ / ١٨٥.

٢٤٠